كيف تحكم الشعوب نفسها؟

جميل عودة/ مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

 عندما تطبق الشعوب مبادئ الديمقراطية تكون حاكمة ومتسيدة، وعندما تفقد الشعوب الديمقراطية تكون محكومة ومسودة. ولكن يبدو أن هذه المقولة السياسية التي آمنا بها ردحا من الزمن ليست مقولة صحيحة بالتمام والكمال... فربما يأتي اليوم الذي نقتنع به أن الديمقراطية لا تعني في كل الأحوال حكومة الشعوب...! ولكن كيف يكون ذلك؟

فحكومات الدول تقوم بطريقتين:

الأولى: حكومة بالفرض والقوة والعصا... وهي إما حكومة عسكرية تطيح بأخرى سبقتها، وإما حكومة ملكية يرث الابن عن أبيه أو أخيه الحكم والسلطة والسيادة... والحكومات الملكية قد تكون صاحبة السلطة والسيادة معا، وقد تكون صاحبة السيادة دون الحكم على طريقة الملك يسود ولا يحكم...

   والثانية: حكومة تختارها الشعوب من تلقاء نفسها: بطريقة الانتخابات أو بطريقة الاستفتاء... والرئيس فيها يُنتخب مباشرة بالاقتراع السري، وثانية بالنيابة بواسطة ممثلين الشعب المنتخبين... وهي الحكومات المسماة بالحكومات الديمقراطية.

    ففي الدول الديمقراطية أو الدول الزاحفة نحو الديمقراطية يكون المرشحون لحكومة الشعوب -رؤساء كانوا أو نواب- في ثلاثة اتجاهات: فإما أن يكونوا كلهم صالحين... فتكون مسؤولية الشعوب الناخبة هي اختيار الأصح. وإما أن يكون بعضهم صالحا والآخر غير صالح، فتكون مهمة الناخبين اختيار الصالح منهم. وإما أن يكونوا كلهم غير صالحين فمسؤولية الشعوب رفض الانتخابات أومقاطعتها..!

     ولكن ما معنى حاكمية الشعوب في الدول الديمقراطية؟

     حكومة الشعب تعني واحد من اثنين: الأول: أن الشعب يحكم نفسه بنفسه مباشرة، والثاني: أن ينوب مجموعة من الشعب عن الشعب لحكم الشعب.

 الأول وهو الحكم المباشر للشعب مفهوم غير قابل للتطبيق الآن، إذ كيف يمكن أن نتصور أن شعبا من الشعوب يحكم نفسه مباشرة، فالشعب ليس كيانا حقيقيا واحدا، بل هو مجموعة من الأفراد يعيشون في مكان ما من الأرض وهم مختلفون في الأشكال والأموال والأفكار والطاقات... ولكن تحكمهم قوانين وعادات وتقاليد... 

  والأفراد مقسمون على أسر وعشائر وقبائل ومناطق ونواحي واقضية وأقاليم أو ولايات، وكلما كثر الأفراد واتسعت الرقعة الجغرافية كلما احتاجوا إلى حاكم وحكومة... فإذا كان احتمال الفرد الواحد يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه ويستغني عن الآخرين مثلا، فان هذا الاحتمال يقل مع تعايش فردين، ويتضاءل مع العشرة، وينتفي على الإطلاق عندما تكون هناك دولة... لذا قال فقهاء القانون والسياسة إن السلطة هي العنصر الثالث لقيام الدولة بعد السكان والأرض.

    وأما الثاني: وهو النيابة عن الشعب في حكومة الشعب، فهذا يعني أن كل مجموعة من الشعب لابد أن يكون لها حاكم يدير شؤونها... ويرعى مصالحها... ويحفظ النظام ويطبق القانون... هذا الحاكم في الأسرة الواحدة يسمى "رب الأسرة" وفي العشيرة يسمى "شيخ" وفي الأرياف "العمدة أو الكبير" وفي النواحي "المدير"  وفي الاقضية "القائمقائم" وفي المحافظة أو الولاية "المحافظ أو الحاكم"  وفي الدولة "الرئيس"...إذا، يتعين أن يكون في البيت الواحد حاكم، وفي العشيرة والأرياف حاكم، وفي الاقضية والولايات حاكم وفي الدولة حاكم، وهذا لا مفر منه.

   ولكن كيف تختار هذه المجموعات البشرية المتسلسلة ممثليها أو حكامها؟

    في الأسرة يذهب الرجل في أكثر المجتمعات ويطلب المرأة للزواج، وهو بحكم رجولته وقدرته على توفير القوت والمال والدفاع عن العائلة يكون حاكما وقواما على المرأة وأطفاله... وهو صاحب الكلمة في المنزل وسواء رضيت الزوجة من نفسها أو لم ترض... وسواء قبل الأبناء واقع الأب أم لم يقبلوا فان خيارهم في الرفض خيار وهمي لا يتعدى تكرار الرفض أو الهروب من المنزل، ولكن يظلوا -وهم خارج المنزل- يحملون اسم أبيهم وأمهم حتى بعد مماتهم!!. فالرجل في الأسرة هو وجود طبيعي مفروض على المرأة الزوجة مادات تختار العيش في منزل الزوجية فضلا عن الأبناء...

    أما في القبيلة والعشيرة فالأمر يشبه إلى حد ما الرجل في الأسرة؛ ولكن بخيارات متعددة؛ فشيخ العشيرة في الغالب يرث أبيه في المشيخة وليس لإفراد العشيرة أن يختاروا بدلا عنه، إلا إذا كان الابن لا يصلح للمشيخة فيختاروا شيخا من أبناء الشيوخ، وقلما تختار العشيرة بمطلق إرادتها شيخا لم يكون من ذوي الحسب والنسب... وبالتالي، فان شيوخ العشائر هم الشيوخ رضيت العشيرة أم أبت،  ورغم ذلك يظل أبناء الشيوخ شيوخا حتى لو لم يحكموا العشيرة....

   أما بالنسبة للمدراء وللقائمقامين والمحافظين في النواحي والاقضية والمحافظات، وكذلك البرلمانيين والرؤساء في الدول الديمقراطية فان اختيارهم يرجع -في حقيقة الأمر-إلى قوة وجودهم العائلي والمالي والسياسي والحزبي... فكلما كانوا يجمعون هذه الصفات كلما كان حظهم أوفر في الفوز بالانتخابات...

   حيث تدفع العوائل الكبيرة أبناءها، والأحزاب السياسية أعضائها لخوض غمار الانتخابات، ويبذلون الغالي والنفيس.. ويدعون بالحق والباطل، ويعملون الخير والشر معا من اجل أن يحكموا... وبالطبع فان احتمال أن يكون المرشح حريصا على بلده أو أن الحزب وطني يريد أن يصلح ويطور ويقدم بلاده نحو الأفضل والأحسن احتمال قائم ولكنه يضعف كثيرا عندما ينفق المرشح والحزب الملايين من الدولارات من اجل خدمة شعبه، فمن أين وكيف يسترد تلك المبالغ الضخمة؟

المواطنون في الدول الديمقراطية يدركون جيدا أن المرشحين يعملون لمصالحهم أولا ولأحزابهم ثانيا، وان الأموال التي ينفقها المرشح باليمنى يأخذها بالشمال على شكل مشاريع وودائع وخزائن وقروض... لذا، فانهم يجدون أنفسهم أمام قوائم انتخابة خيارهم محدود بين أن يختاروا هذه القائمة أو تلك القائمة، أو هذا المرشح أو ذاك المرشح...فالحقيقة أن الشعوب في الدول الديمقراطية أو الزاحفة للديمقراطية ملزمة باختيار ممثل أو زعيم أو رئيس لها، وهي متأكدة –تماما- أنها تختلف عن المرأة في اختيارها لان المرأة تختار الرجل الأفضل لكل العمر، بينما الشعوب في الدول الديمقراطية تستبدل كل أربع سنوات غير صالحين بما تظنهم صالحين.. 

وفي النهاية... ولا نهاية للديمقراطية فأن الشعوب كما أنها لا تحكم نفسها بنفسها مباشرة، فأنها أيضا لا تحكم نفسها بالنيابة ولكنها ملزمة باختيار افضل السيئين.... !!

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 12 كانون الاول/2007 - 1/ذو الحجة/1428