الصراع الطائفي.. وتغيرات المواقف المطلوبة

عبد الكريم الجيزاني

لم تتغير قناعات الشيخ احمد عبد الغفور السامرائي رئيس الوقف السني العراقي بل تغيرت الظروف التي جعلته يصرح بكل ما كان مقتنعاً فيه وبعد ان اتضحت للعالم اجمع معالم الصورة التي كانت مضببة عن تنظيم القاعدة عند البعض في العراق وخارجه وما انطوت عليه هذه الصورة من معالم تخالف ابسط القوانين الشرعية والانسانية والعرقية ومع ذلك ظلت هيئة الضاري من اشد الداعمين لها والمتعاونين معها نهاراً جهاراً وليس ادل على هذا الدعم ما اعلنه الضاري من ان القاعدة "منه وهو منها". وهذا التصريح الخطير كان سبباً رئيسياً لتغيير مواقف الكثيرين من هيئة الضاري وفي مقدمتهم الدكتور السامرائي الذي اتهم هذه الهيئة بانها اصل "الفتنة الطائفية" لانها التزمت الصمت حيال جرائم تنظيم القاعدة، وقال بالحرف الواحد في بيان له: "ما دامت هيئة علماء المسلمين تلتزم الصمت عن جرائم القاعدة التي تقتل شيوخ العشائر وعلماء وعلية القوم وتثير الفتن الطائفية بين العراقيين، فإن ابناء الشعب العراقي يحملونها المسؤولية عن هذه الجرائم". مؤكداً في الوقت ذاته "ان الهيئة كانت عائقاً أمام دخول ابناء السنة في صفوف الجيش والشرطة كما انها تعارض خطوات العشائر الاخيرة في الحرب على تنظيم القاعدة".

هذه التغيرات في المواقف لم تأت من فراغ فقد سبقتها تصريحات اخرى من علماء الدين السنة نددوا بتنظيم القاعدة والداعمين له وحواضنه ومموليه.. إلاّ ان هذه الاصوات لم تأخذ مداها الاعلامي المطلوب لكي يقف العراقيون على هذه المواقف المشرفة التي تحاول وقف نزيف الدم العراقي الذي اوجدته القاعدة في العراق حتى ظهرت الى العلن مواقف العشائر الغيورة في محافظة الانبار واعلنت صحوتها وقادت حرباً ضروساً ضد هذا التنظيم بقيادة الشهيد الشيخ عبد الستار ابو ريشة واخوانه ممن تصدوا لهذا التنظيم الاجرامي ولاحقوا اتباعه فوقع الكثير منهم بين قتيل واسير.

ان وضع الشيخ عبد الغفور السامرائي النقاط على الحروف في خطبته يوم الجمعة الماضي في مسجد الإمام ابو حنيفة حيث اعلن عن اكتشاف مخطط لتنظيم القاعدة يستهدف تفجير مسجد وضريح الإمام ابي حنيفة النعمان في منطقة الاعظمية، داعياً المواطنين فيها الى التصدي لهذا التنظيم الاجرامي الذي يعتبر هذه المراقد بأنها (بدع) انما جاء لتوضيح النوايا الخبيثة التي كان يبيتها ـ التنظيم ـ لإشعال الفتنة الطائفية بين العراقيين وان القاعدة تريد قتالاً ـ حسب قول السامرائي ـ بين الشيعة والسنة والعرب والاكراد والتركمان بعد ان قتلت اكثر من (98) إماماً وخطيباً سنياً وهروب اكثر من(300) آخرين الى خارج العراق وقتلت اكثر من (50) رئيس عشيرة.

وعلى خلفية هذا التغيير في المواقف فقد دعا الشيخ السامرائي بكل جرأة وشهامة الى تشكيل مجلس صحوة الاعظمية من سكانها لحماية ارواحهم واحيائهم وممتلكاتهم من ارهاب القاعدة، مبدياً دعمه لهذه الصحوة مادياً ومعنوياً، مطالباً العراقيين الى التوحد والدفاع عن مناطقهم ضد هذا التنظيم وأمام الذين قتلوا بالظن واعدموا بالشبهات وسفكوا الدماء بالشكوك واسترخصوا دماء ابناء العراق.

المراقبون السياسيون يرون ان تصرفات الضاري ودعمه لتنظيم القاعدة خاصة وانه يعتبر نفسه الأمين العام لـ(هيئة علماء المسلمين) قد ادت الى انشقاقات داخل الجسد السني العراقي وتعددت المرجعيات الدينية والسياسية واصبح الامر أكثر انفلاتاً مما حدى بالشيخ السامرائي والذين معه من اخوانه الشرفاء الغيورين على مصلحة الشعب العراقي ان يعلنوا مواقفهم المطلوبة من هذا التنظيم والداعمين له، وهذا ما فرضه الذين تناوشته التجاذبات سوف يتعافى ـ ان شاء الله ـ بعد التخلص من هذه الاوبئة التي اجتاحت الجسد العراقي كله وعلى وجه الخصوص هذا المكون الشريف، وعلى هذا الاساس فإن البعض يعتقد ان الازمة السنية في تعقيداتها ترتبط في نطاقها الداخلي بتداخل الممثليات الدينية والعشائرية والسياسية وصعوبة الفصل بين حدود هذه المفاهيم الامر الذي يستدعي وقفة جادة وحازمة لرأب الصدع بما يعود بالنفع العام لكل العراقيين على مختلف اطيافهم ومذاهبهم وقومياتهم.

 الحقيقة الواضحة انه لا يوجد صراع عقائدي بين مكونات الجسد السني في العراق وانما هذا التمزق والتشتت جاء على خلفية المواقف المتشردة لهيئة الضاري الذي تتهمه الاوساط الدينية والسياسية والعشائرية بأنه وهيئته وراء المجازر التي حدثت في العراق منذ تفجير مرقدي الإمامين العسكريين(ع) في سامراء العام الماضي التي كادت ان تتسبب في حرب طائفية لا يخرج منها احد رابحاً ابداً، لكن المواقف المشرفة للمرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف وعقلاء العراق شكلوا صمام أمام هذا التداعي الخطير وطوقوا الازمة وافشلوا مخططات الاعداء في اثارة الفتنة الطائفية. هذا الموقف المشرف والتاريخي انسحب على مجمل المواقف للاخوة السنة في العراق ليساهموا من طرفهم في وأد الفتنة، وهذا ما دعا الشرفاء من امثال الشهيد الشيخ ابو ريشة والشيخ عبد الغعفور السامرائي والمعتدلين السياسيين المؤمنين بوطنهم العراق وامتهم الاسلامية الوقوف بوجه الاشرار الذين امتهنوا الارهاب وسفك الدماء بعد وقوعهم في احابيل الشيطان.

 العراقيون استقبلوا هذه المواقف المشرفة بكل احترام وتقدير عالٍ بل ومساندة ودعم للداعين الى الاعتدال والتصرف الانساني لحقن الدماء واعادة بناء العراق على اسس قانونية ودستورية تحت خيمة العراق الكبيرة التي تسع الجميع بدون استثناء او اقصاء لأحد.

جنوب بغداد آمن  ولا توجد فيه مناطق ساخنة

عندما تختلط الاوراق وتنعدم الشفافية في التعاطي السياسي تبدأ محاولات تسطيح الوعي وتبسيط الامور ولا ينظر الى المشاكل والازمات إلاّ بعين واحدة، وهذا ما درجت عليه الازمات المفتعلة وخاصة عندما تهدأ الامور ويتعافى الأمن وينحسر الارهاب. اربعة اعوام ونصف مرت على العراقيين بعد سقوط النظام البائد وهذه الازمات ـ المفتعلة ـ لا تكاد تفارق ادمغة العاملين عليها والمأججين لها طالما ان العملية السياسية في تصاعد مستمر وان القادة السياسيين يسهرون عليها لنقلها بسلام الى الضفة الاخرى بعد ان دفع الجميع ثمناً باهظاً من الدماء البريئة في هذا الطريق الوطني.

الارهابيون الوافدون من خلف الحدود والمتحالفون معهم من بقايا النظام المقبور شكلوا فرقاً للقتل والتدمير اخذت حيزاً كبيراً من الزمن ومن المكان حتى قبل هذه المنطقة ساخنة وتلك هادئة وان عدد ضحايا الشهر الفلاني قد فاق الشهر الذي قبله والدوامة هي نفسها ولفت في اتونها كل المكونات دون استثناء وان كانت ضحايا طائفة اكبر واشمل من طائفة اخرى. كل ذلك جرى ويجري وسيل الدماء لم يجف بعد ودموع الثكالى واليتامى لم تنشف، فيما البعض كان غارقاً في اعداد اوراق المصالح الفئوية والشخصية لطرحها في كل مكان بعد ان يأسوا وتعبوا من استئصال الجذر العراقي الممتد في اعماق التاريخ.

هذا البعض وبدلاً من ان ينظم بجهده الى الجهود الرامية لوأد الفتنة راح يحاول جاهداً اعادة المعادلة الظالمة التي عاشها العراقيون طيلة الفترة السابقة التي تلت سقوط النظام الصدامي من خلال محاولاتهم اليائسة ان يجعلوا من المناطق الآمنة وبالخصوص محافظات جنوب بغداد الى مناطق ساخنة والمناطق التي كانت ساخنة الى آمنة لتبقى دوامة العنف والارهاب دون توقف. هذه المحاولات المكشوفة انتبه لها العراقيون الشرفاء وخاصة في محافظات الانبار وصلاح الدين والموصل وديالى وشكلت العشائر العراقية الغيورة والشجاعة مجالس صحوتها بعد ان طالت ـ ممارسات العنف ـ الجميع بدون استثناء بتلاحم وطني اصيل دفاعاً عن الاهل وعن الوطن والاعراض والنواميس والقيم التي هددتها عصابات القاعدة والمتعاونين معها من ايتام النظام المقبور عندما كانت الاجهزة الأمنية الوطنية لم تكتمل بعد في العدة والعدد وبعدما كانت هذه المناطق تحت التهديد حواضن للارهاب ولم تستطع القوات العسكرية العراقية التي كانت تحت الاعداد من الوصول لمعالجة هذه الزمر الضالة والقضاء عليها ووقف عملياتها الاجرامية، وهذا الامر هو الذي دعا الحكومة العراقية الى مساندة رجال العشائر في هذه المناطق في المال والرجال للوقوف بوجه الارهاب الاعمى وتخليص هذه المناطق من رجس الشياطين بعد ان عاثوا الفساد فيها وبعد ان بثوا الاراجيف والاشاعات المغرضة لاشعال نار الفتنة الطائفية بين اكبر مكونين عراقيين هم ابناء الطائفة الشيعية والطائفة السنية اللتان لم تعرفا على مر التاريخ هذا التناحر والتقاتل إلا من خلال هذه الفتن العمياء. ولولا تدخل عقلاء القوم وخيارهم لوقعت الفتنة بين الاشقاء.

 العراقيون وعلى مختلف مكوناتهم وطوائفهم يتطلعون الى الاجهزة الامنية الوطنية ان تأخذ دورها في حفظ الأمن والاستقرار وفرض القانون وبسط الأمن بعد ان أدت هذه العشائر الغيورة دورها المشرف في انقاذ هذه المناطق من جرائم الزمر الضالة، وليس لأحد بعد ذلك ان يسمي هذه المناطق بـ(الساخنة) خاصة وان بناء القوات العسكرية العراقية قد وصل الى درجة التكامل في العدة والعدد وانخراط ابناء هذه العشائر فيها لقطع الطريق أمام من يحاول تمزيق التلاحم الوطني وفك عرى الاسنجام الكامل بين المكونات للطيف العراقي. هؤلاء الذين لا يريدون للعراق ان يستقر عليهم ان يعيدوا حساباتهم بدقة بعد ان وقفوا على حقيقة التلاحم المصيري بين ابناء الشعب العراقي وبعشائره الغيورة ووقوفهم بوجه الارهاب الدموي وافشال كل المؤامرات والدسائس التي حاولت تفريق الصف الوطني في الانبار والموصل وصلاح الدين وديالى وفي بعض المناطق القريبة من العاصمة بغداد او في داخلها، على هؤلاء ان لا يتورطوا مرة اخرى في المراهنة على تحويل محافظات الوسط والجنوب الى ساحات للفتن والاضطراب الأمني خاصة وان ابناء هذه المناطق لا يقلون نخوة واباءاً عن ابناء المناطق الغربية من العراق فضلاً عن تواجد قوات الجيش والشرطة بكثافة في هذه المناطق الآمنة ولا يمكن لاي بقعة في هذه المناطق ان تتحول الى ما كان يسمى بمثلث الموت او طريق الموت بفعل عصابات القتل على الهوية كما كانت تفعل ذلك العصابات التكفيرية المجرمة.

ان ابناء رجال ثورة العشرين هم الحماة الحقيقيون لمناطقهم الآمنة بل وللعراق كله وهم ليسوا بحاجة الى صحوة كما يعبر البعض بقدر حاجتهم للحفاظ على الود والمحبة والتلاحم المصيري وبسط سلطة القانون وبالتعاون الجاد والمثمر مع اجهزة الدولة الأمنية التي تسهر على تحقيق الأمن في هذه المناطق وقطع الطريق على عصابات الخطف والتسليب والسرقة التي يقوم بها بعض    ضعفاء النفوس. سكان هذه المناطق قد استفادوا بشكل كبير من التجارب المريرة التي مرت بها المناطق الغربية من العراق عندما اجتاحتها عصابات القاعدة وبقايا النظام البائد والتي راح ضحيتها آلاف الشهداء من الابرياء والتدمير الشبه الكامل للبنى التحتية وتخريب الاقتصاد وتعطيل الحياة اليومية وفقدان الأمن والاستقرار ولم يستعيدوا أمنهم واستقرارهم إلاّ بعد ان تعاونت العشائر الغيورة مع الاجهزة الامنية التابعة للدولة في وقف هذا النزيف المدمر وحفظ حقوق الانسان فيها. المواطنون في هذه المناطق لا يريدون ان يمروا بمثل هذه التجارب ويطالبون الحكومة بفرض هيبة القانون ومنع الانتهاكات والتدخل الخارجي في شؤونهم أياً كان ومن أي طرف فهم بأمس الحاجة لاعادة اعمار مناطقهم والحفاظ على حقوق الانسان بعد ان اهملها النظام المقبور طيلة عقود متعددة من تاريخ العراق بعد ان سطى المجرمون على السلطة فيه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 5 كلنون الاول/2007 - 24/ذوالقعدة/1428