مصطلحات اجتماعية: النظام الأبوي الرأسمالي

النظام الأبوي الرأسمالي: Capital Patriarchy

شبكة النبأ: يدور الجدل منذ وقت طويل بين النسوية الراديكالية والنسوية الماركسية حول ما إذا كان النظام الأبوي أو الرأسمالي هو السبب الأساسي في قمع المرأة. فيذهب تيار النسوية الراديكالية إلى القول بأن الأيديولوجية الأبوية موجودة بصورة منفصلة عن الهياكل الرأسمالية، وبأن تقويض أركان هذه الهياكل لن يؤثر إلا تأثيراً محدوداً على الأيديولوجية الأبوية، أما تيار النسوية الماركسية فيؤكد أن قمع المرأة له جذور ضاربة في النظام الطبقي، وأن المساواة الحقيقية لا يمكن تحقيقها في ظل النظام الرأسمالي، وهو الرأي الذي تلخصه ميشيل باريت في كتابها "قمع المرأة اليوم: بعض المشاكل في التحليل النسوي الماركسي" (1980) بقولها "إن قمع المرأة مترسخ في البنية الرأسمالية" ومن الأعلام في مجال تحليل العلاقة بين النظام الأبوي والرأسمالية الماركسية هايدي هارتمان النسوية الأمريكية، التي نشرت مقالاً بالغ التأثير بعنوان "الزواج التعس بين الماركسية والنسوية: نحو وحدة أكثر تقدمية" في عام 1979، ذهبت فيه إلى القول بأن النظام الأبوي يقوم أساساً على سيطرة الرجل على قدرة المرأة على العمل، وتتأكد هذه السيطرة من خلال مجموعة من المؤسسات المختلفة مثل الميل للجنس الآخر والزواج بزوج واحد والحمل وتربية الأطفال والأعباء المنزلية، وتدعو هارتمان إلى إستراتيجية للمقاومة ذات طابع اشتراكي ونسوي "تنظم طبيعة الجهود التي تناضل ضد النظام الأبوي، وضد  الرأسمالية في آن واحد.

الأبوية الجديدة

Neopartriarchy

تستمد مقولة الأبوية الجديدة Neopartriarchy دلالتها، في نظر الدكتور هشام شرابي، من جانبين: الجانب الأول، من اختلافها عن النظام الاجتماعي التقليدي الذي عرفته حضارة القرون الوسطى.

الجانب الثاني: من اختلافها عن نمط التطور الاجتماعي الذي ساد أوروبا بعد انتصار الثورة الفرنسية وصعود الطبقة البرجوازية.

إذن، فتعبير "الأبوية الجديدة يشير كما يبدو إلى شكل متميز من أشكال التنظيم الاجتماعي الذي شهدته منطقة المشرق العربي، عشية الاختراق الأوروبي، حيث أدت عملية التحديث modernisation التي فرضها الاستعمار الغربي في إطار المشروع الكولونيالي على هذه المنطقة إلى تهجين وتشويه البنى التقليدية، وبالتالي إلى إعادة إنتاج مجتمع غريب يمزقه تناحر ثنائية قاتلة بين ماض لم يأفل وحاضر لم يولد.

يقول هشام شرابي في شرح مضمون عبارة النظام الأبوي ما يلي: ينبثق مفهوم النظام الأبوي أو البنية الأبوية عن نموذج الأبوية كما عهدته – وتعهده – المجتمعات القديمة أو التقليدية السابقة لعصر الحداثة. في بُناه السياسية والاجتماعية والنفسية. ما يميز هذا المفهوم... هو ازدواجيته النظرية، إنه يشير إلى نظامين مترابطين لا إلى نظام واحد: النظام الأبوي التقليدي أو القديم، والنظام الأبوي الجديد أو المستحدث. والنظام القائم في المجتمع العربي اليوم ليس نظاماً تقليدياً بالمعنى التراثي، كما أنه ليس معاصراً بالمعنى الحداثوي، بل هو خليط غير متمازج من القديم والحديث، من التراثي والمعاصر، نظام غريب يختلف عن أي نظام آخر.

أما أهم السمات التي تميز هذا النظام الاجتماعي من وجهة نظر شرابي، فيمكن حصرها في ثلاثة عناصر هي:

1- استبعاد المرأة ونفي وجودها الاجتماعي كإنسان والوقوف بوجه كل محاولة لتحريرها حتى عندما رفع شعار تحرير المرأة في نهاية القرن التاسع عشر من قبل رواد النهضة العربية الحديثة ظل العداء لها مستمراً ذلك لأن المجتمع الأبوي لا يعرف كيف يعرف ذاته إلا بصيغة الذكورية وصفتها، إنه مجتمع ذكوري لا وظيفة فيه للأنوثة إلا تأكيد تفوق الذكر وتثبيت هيمنته، من هنا كانت العقبة المركزية في وجه التغيير الديمقراطي الصحيح في هذا المجتمع، ففي غياب المساواة بين الرجل والمرأة يغيب مبدأ المساواة في المجتمع ككل".

2- سيادة الروح السلطوية الشمولية المتمثلة في ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة التي ترفض النقد ولا تقبل الحوار إلا عندما تريد فرض سيطرتها ومن هذا المنطلق، فإن التفاعل والحوار بين الأفراد والجماعات لا يرمي إلى التوصل إلى تفاهم أو اتفاق بين وجهتي نظر، بل إلى إظهار الحقيقة الواحدة وتأكيد انتصارها على كل وجهات النظر الأخرى. لهذا فإن الذهنية الأبوية والأبوية المستحدثة علمانية كانت أم دينية، لا تستطيع تغيير موقفها لأنها لا تريد أن تعرف إلا حقيقتها، ولا تريد إلا فرضها على الآخرين، بالعنف والجبر إن لزم الأمر.

3- تتمثل إحدى أهم السمات الأساسية المميزة للمجتمع الأبوي بنوعيه التقليدي والمستحدث في هيمنة الأب. وليس المقصود بالأب هنا تلك العلاقة البيولوجية الوراثية.

وإنما المقصود هو كل ما يرمز للأب في المجتمع العربي من قيم اجتماعية وتصورات أنثروبولوجية ثاوية في اللاشعور الجمعي والتراث الثقافي والديني، إذ إنه – أي الأب – المركز الذي تنتظم حوله العائلة، بنمطيها المدني والطبيعي، وتبعاً لذلك، فإن العلاقات القائمة بين الحاكم والمحكوم، وبين الأب والأبن، هي علاقات عمودية: ففي كلتا الحالتين تتكشف إرادة الأب عن كونها الإرادة المطلقة، وتتجسد في المجتمع والعائلة إجماعاً مفروضاً يرتكز إلى العادة والإكراه.

ثم إن أكثر النواحي فعالية وتقدماً في الدولة ذات النظام الأبوي المستحدث في الأنظمة المحافظة و(التقدمية) على السواء هي جهاز الأمن الداخلي، أي المخابرات. ففي سائر الأنظمة ذات البنية الأبوية المستحدثة يهيمن جهازان متوازيان، عسكري – بيروقراطي وبوليسي سري، ويتحكم هذا الأخير بشؤون الحياة اليومية، فيقوم بضبط مجريات الأمور المدنية والسياسية. وتبعاً لذلك، فإن المواطنين العاديين ليسوا محرومين فعلياً من بعض حقوقهم الأساسية فحسب، بل إنهم أيضاً سجناء الدولة وعرضة لحكمها الطاغي وقهرها الدائم. الشيء الذي يغذي النزوع النفسي لدى الأفراد إلى العودة للمؤسسات الأولية المتمثلة في العائلة والقبيلة والطائفة، غير أنهم سرعان ما يكتشفون أن هذه المؤسسات جميعها تتبدى عن أشكال مماثلة من التسلط والقمع.

ولذلك فمهما كانت المظاهر الخارجية – مادية، قانونية، جمالية، للعائلة الأبوية المستحدثة المعاصرة ومجتمعها "حديثة" فإن بُناها الداخلية تبقى مجذرة في القيم الأبوية وعلاقات القربى والعشيرة والطائفة والجماعة العرقية، المحصلة إذن فريدة في بنيتها المزدوجة: الحديث الأبوي متعايشان في إطار وحدة متناقضة.

موسوعة الثقافة السياسية الاجتماعية الاقتصادية العسكرية

عامر رشيد مبيّض

متعلقات

الابوية الجديدة

النقد النسوي بالضد من الثقافة الأبوية(1)

مقدمة

ظهرت في عام 1972 نسخة منقحة لقصة سندريلا كتبتها جودت فيورست وقامت فيورست بإعادة سبك سندريلا بطريقة ربما تجعلنا نبتسم أو نتساءل مالذي حصل لنسخة طفولتنا من هذه القصة التي أطـّلعنا عليها أما قراءة أو حكياً شفاهياً .فسندريلا في قصتنا التي نتذكرها هي تلك الفتاة الجميلة الفقيرة والتي تعاملها اخواتها القبيحات من ابيها بقسوة وكذلك تفعل زوجة أبيها المتعجرفة .

إن نسخة فيورست لهذه القصة تقدم سندريلا بشكل مختلف ، سندريلا في هذه النسخة لها موقف ورأي خاص بها فهي لاترى إن الأمير جذاب في النهار كما رأته في حفلة الليلة السابقة .وتعزيزاً لإستقلالها تتظاهر بأن الحذاء الزجاجي لايناسب قدمها وبالتالي فلن يكون هناك زواج وذلك لأن سندريلا نفسها قررت إنها لاتريد الزواج من الأمير.

هنا ترفض سندريلا أن تعرف بأنها ( الآخر غيرالمهم ) وخلافاً لسندريلا القديمة لاتسمح بأن تتتشكل من قبل مجتمعها، وتدرك أن ثقافتها قد قدمتها بشكل أنماط ثابتة.

ومثل سندريلا الجديدة ، على النساء أن يرفضن فكرة إنهن لايفكرن بشكل سليم ، ناحبات وسلبيات ، وينتظرن رجلاً ليأتي ويعطي معنى لحياتهن . وعلى النساء كما ترى سندريلا الجديدة أن يدركن انهن لايتحددن بجنسهن البيولوجي ، أي أن سندريلا الجديدة تعي أمراً لاتعيه سندريلا القديمة وهي أن الجنس محدد بيولوجياً في حين أن الجندر محدد ثقافياً ، لذا هناك دعوة إلى رفض المعايير الابوية للمجتمع وينبغي للمرأة أن تكون شخصاً مميزاً و ليس الآخر غير المهم . أن سندريلا في النسخة الجديدة تبلور الموضوعات المركزية للحركة النسوية وهي :

إن الرجل بوعي أو بغير وعي قد ظلم المرأة ولم يسمح لها بصوتٍ مؤثر في القضايا السياسية والإجتماعية والإقتصادية .

قمع الرجل النساء وآرائهن وكتاباتهن وحدد ماالذي يعنيه أن يكون المرء مؤنثاً وبالتالي أفرغ المرأة من صوتها وقيمتها ودفع بها إلى الهامش .

جعل الرجل المرأة الآخر غير المهم .

كان الهدف من الحركة النسوية هو تغيير هذه النظرة الدونية للمرأة حتى تدرك أنها ليست الآخر غير المهم بل هي شخص ذو قيمة يمتلك الإمتيازات والحقوق التي يمتلكها الرجل .

الحركة النسوية: التاريخ

قبل القرن العشرين

إن الإنحياز وهذا التمييز ضد المرأة ، إستناداً لكتابات النقد النسوي ، أمر مفصلي في الثقافة الغربية ويمكن أن يكون هذا التمييز على أساس النوع الإجتماعي قد بدأ مع القصص التوراتية التي تضع المرأة موضوعاً لـلّوم بما يخص سقوط الإنسان عن الجنة .وبشكل مشابه ، عزز الإغريق هذا التمييز حين قال أرسطو ( أن الذكر بطبيعته متفوق ، واللأنثى ناقصة ، والأول يَحكم والثاني يُحكم ) . بعدها أعلن توماس الإكويني والقديس أوغسطين أن النساء ( رجال]بشر[ غير كاملين ) . إن هذه المخلوقات غيرالكاملة والضعيفة روحياً تمتلك طبيعةً حسية تحرف الرجال عن الحقائق الروحية ومن ثم تمنع الذكور من إستغلال إمكانياتهم الروحية . واستمر بعد ذلك علماء اللاهود والفلاسفة والعلماء على هذا التمييز ضد المرأة . فعلى سبيل المثال أعلن دارون عام 1871 في كتابه سقوط الإنسان ( إن النساء سمة من سمات حالة الحضارة السابقة المتدنية ) وهن أقل شأناً من الرجال المتفوقين جسدياً وفكرياً وفنياً .

في خضم هذا كله ،برز صوت في أواخر القرن الثامن عشر وكأنه يصرخ في البرية معترضاً على هذه الآراء الأبوية ضد المرأة . وسرعان ما على هذا الصوت وبدأ الناس بسماعه . لقد كتبت ماري وولستون كرافت مؤلفاً بعنوان ( إثبات حقوق النساء عام 1792 وشددت على أن تدافع النساء عن حقوقهن وأن لايتركن المجتمع الذي يهيمن عليه الذكر يحدد ماذا يعني أن يكون المرء إمرأة وعليهن أن يرفضن الفرضية الأبوية القائلة أن النساء أقل شأناً من الرجال .

القرن العشرين

لقد وضعت فرجينيا وولف عام 1919 الساس النظري للنقد النسوي في مؤلفها الشهير (A Room of One’s Own ) . أعلنت وولف هنا أن فقدان الموهبة الفنية هو النتيجة المباشرة لموقف المجتمع السلبي من المرأة ودعت وولف إلى أن المرأة لابد وأن ترفض البناء الإجتماعي القائم وان تأسس لهويتها الخاصة بها . وعلى النساء ان يواجهن المفاهيم الثقافية الخاطئة السائدة حول هوية النوع الإجتماعي وان يطورن خطاباً نسوياً يصوروا بشكل دقيق علاقتهن بالعالم الواقعي وليس بعالم الرجال . لقد تأثرت جهود وآراء وولف بالزمة افقتصادية التي عزفت بأوربا أبان الثلاثينيات من القرن الماضي ومن ثم الحرب العالمية الثانية حيث ركز خلالها الفكر الإنساني على قضايا أخرى وتاخر تطور الأفكار النسوية .

مع صدور ( الجنس الثاني ) للفرنسية سيمون ديبفوار عام 1949 برزت مرة أخرى الإهتمامات النسوية حيث عد هذا العمل تأسيسياً للحركة النسوية للقرن العشرين وأعلن النص أن المجتمع الفرنسي شأنه شأن سائر الجتمعات الغربية هو مجتمع أبوي يسيطر عله الذكور ورأت بوفوار أنه طالما أن الأنثى ليست ذكراً تصبح هي الآخر المعرف والمؤول من قبل الذكر أي الموجود المهيمن في المجتمع .

وأصرت ديبوفوار على أن المرأة ينبغي أن تكسر قيود مجتمعها الأبوي وأن تعرف نفسها إن أرادت أن لاتكون هي الآخر . طرحت دبفوار أن على المرأة أن تسأل نفسها ( ماهي المرأة ؟ ) وأن لاتكون الإجابة (إنسان ) لأن مصطلح كهذا يسمح للرجل بتعريف المرأة . إن هذا الإسم النوعي لابد من رفضه لأنه يفترض أن الإنسان ذكر و إن الرجل يعرف المرأة ليس بذاتها بل بالنسبة إليه .

مع الستينيات وماشهدته من انشطة سياسية والإهتمامات الإجتماعية وجدت الموضوعات النسوية أصواتاً جديدة من أبرزها كيت ميلليت حيث أرخ كتابها الموسوم علم السياسة الجنسي عام 1966 بداية موجة جديدة من الحركة النسوية لقد ميلليت أن الأنثى مولودة والمرأة مخلوقة . وبعبارةأخرى يتحدد الجنس بالولادة أما النوع الإجتماعي غهو بناء إجتماعي تخلقه العادات والمثل الثقافية . والمرأة والرجل بوعي أو بغير وعييماشيان الأطر الثقافية التي يأسسها المجتمع وهذه الطر عادةً ما تنتقل عبر وسائل متعددة مثل الإعلام والسينما والأدب . وهذا التماشي مع الأدوار الجنسية المفروضة من المجتمع هو ما تدعوه ميلليت السياسة الجنسية وتطالب بثورة المرأة ضد مركز السلطة في ثقافتها ولهذا الغرض لابد للنساء مواضعات إجتماعية أنثوية من خلال إنشاء خطاب أنثوي ودراسات أدبية أنثوية ونظرية نسوية

الحركة النسوية : الجغرافية

تلعب الجغرافية دوراً مهماَ في تحديد الإهتمامات الرئيسية للأصوات لاالنسوية وذلك لأنه لاتوجد نظرية نقدية واحدة تهيمن على النقل النسوي . والقليل من المنظرين ، المنظرات يتفقن على مقاربة نسوية موحدة لتحليل النص . لذا ظهرت ثلاثة نماذج جغرافية للنقد النسوي هي النموذج المريكي والبرطاني والفرنسي . يعد النقد الأمريكي نقداً نصياً يؤكد على الذي تتعرض له المرأة في حين أن النقد البريطاني هو نقد ماركسي يؤكد الظلم الذي تتعرض إليه المرأة أما النقد النسوي الفرنسي فهو تحليل نفسي يؤكد القمع .

امريكا

من أهم خصائص النقد النسوي الامريكي هو إعادة إحياء كتابات المؤلفات لتساهم في تشكيل الشرعة الأدبية . إن الإعتقاد بأن التاريخ الأدبي هو قص بحد ذاته دفع الناقدة الأمريكية أنيت كولودني إلى أمنية إحياء تاريخ النساء كي يتمكن من كتابة قصتهن ومن أجل كتابة (قصتها) على المرأة ان تجد اولا و سيلة للحصول على صوت في خضم الاصوات المتددة – خصوصا اصوات الذكور.

ومثل كولودني ، اعلنت ساندرا غلبرت و سوزان كويار مؤلفتا ( المجنونة في العلّية: المرأة الكاتبة و الخيال الادبي للقرن التاسع عشر) الصادر عام 1979 اعلنتا ان صوت الرجل قد كان المهيمن ولأن الذكر كان يملك القلم و الاعلام فقد تمكن من خلق صورة المرأة في كتابات الرجل. كما طرحت غلبرت و كويار ان هذه السيطرة قد سببت ما يسمى بالخشية من التأليف و الابداع عند النساء مما ابعدهن عن الكتابة ذلك لأن الابداع الادبي سوف يبعدهن عن المجتمع و ربما يحطمهن. و كان الحل ان تطور المرأة ما يدعى (حكم المرأة) مما يشجع الاستقلالية الادبية. و بأبتكار مثل هذا الحكم يمكن للمرأة ان تحكم الرجل بالعزلة و الابتعاد عن الشرعة الادبية كما فعل هو طوال قرون . وبالنتيجة، من خلال تشكيل حكم المرأة، يمكن للكاتبات ان يحررن انفسهن من ان يقوم الرجل بتعريفهن.

بريطانيا

يؤكد النقد النسوي البريطاني على الظلم الذي تتعرض له المرأة حيث انه يرفض فصل الفن والادب عن الحياة. و من خلال انكار أي وجود روحي، ترى بعض الناقدات النسويات البريطانيات ان القراءة و الكتابة و النشر هي وجوه من الواقع المادي. و ما دام الادب جزء من العالم المادي فهو مثله مثل الفعاليات الاجتماعية للمرء جزء من كل اكبر ، كل جزء فيه يؤثر على الاخر. ففي الغرب لا تستغل المرأة في الادب فقط بل في الاوضاع الاقتصادية و الاجتماعية كذلك.ومن هذا المنظور ، تساعد بنية العائلة الغربية التقليدية على التفوق على المرأة وجعلها تابعة وغير مستقلة إقتصادياً . إن مثل هذه التبعية الإقتصادية لابد وأن ينعكس في الأدب ، إذن فإن عملالنقد النسوي كما تراه الحركة النسوية البريطانية هو تغيير الحالة المجحفة للمرأة غقتصادياً ةإجماعياً وكذلك في النصوص . وبالنسبة للناشطات البريطانية فإن الهدف من النقد هو تغيير الواقع وليس نقده فقط.

النسوية الفرنسية :

تقترن الحركة النسوية الفرنسية بالتطبيقات النظرية والعملية للتحليل النفسي.إن إقتران التحليل النفسي قد يبدو محيراً لأول وهلة ذلك إن فرويد ونظرياته الأبوية الباتراركية المعني على التحليل النفسي وهي التي ترى إن القضيب هو السلطة ، وإن المرآة هي ذكر غير كامل . وإن جميع النساء يحسدن الرجل على سلطته وقوته المتمثلة بالقضيب . لقد قاد هذا إلى مايدعى بحسد القضيب الذي تتمنى فيه المرأة الحصول على قضيب الرجل وبالتالي الحصول على السلطة والقوة .

لقد قام الفرنسي جاك لاكان بما يشبه عملية إنقاذ للتحليل النفسي من نظريات فرويد حيث يرى لاكان ان اللغة تشكل وتبني وعينا ولا وعينا وبالتالي فهي تشكل هوية ذاتنا وليس القضيب كما يرى فرويد . واللغة بهذا المعنى هي التي تجرد المرأة من السلطة أي سلطة اللغة ومن ثم تجردها من سلطة الأدب والكتابة .

يعتقد لاكان أن النفس الإنسانية تتالف من ثلاثة أجزاء أو ما أسماها ثلاثة أنساق : التخيلي والرمزي والواقعي . وكل من هذه الأنساق تتفاعلمع بعضها .

فالإنسان يشتغل من الولادة حتى عمر ست سنوات في النسق التخيلي وهي حالة ما قبل اللفظ والتي تشتمل على امنياتنا وخيالاتنا والصور الجسدية . وهنا يكون الإنسان بلا جنس ( sexless ) لأن الإنسان غير قادر على تمييز نفسه عن أمه . وبعد أن يمر الإنسان بنجاح من الأزمة الأودبية ، يمر من اللغة البايولوجية إلى لغة إجتماعية وبالتالي إلى النسق اللاكاني الثاني وهو النسق الرمزي . ولسوء حظ الأنثى يتم تطبع الذكر إجتماعياً على لغة تابعة وعند الدخول إلى هذا النسق يصبح الأب هو الصورة المهيمنة ( القانون ) ، وفي هذه المرحلة يخشى كل من الذكر والأنثى من الإخصاء بواسطة الأب . ويتجلى هذا عند الذكر بالطاعة والرغبة بأن يصبح مثل الأب وفي نفس الوقت يقمع النسق التخيلي المقترن بجسد الأنثى . ويصبح النسق التخيلي مع الرغبات الذكورية ما قبل الأوديبية تهديداً مباشراً للذكر في النسق الثالث ( النسق الواقعي ) أو العالم الفعلي كما يراه الفرد . أن الدخول في النسق الرمزي يعني بالنسبة للمرأة الخضوع لقانون الأب . وهذا الخضوع يعني الخضوع للذكر ، ومن خلال تطبعها باللغة التابعة تصبح الأنثى مواطن من الدرجة الثانية وطالما إن اللغة بالنسبة لجاك لاكان هي إنشاء نفسي وليس بايولوجي يمكن للنساء أن يتعلمن الخطاب المهيمن لكل من النسق الرمزي والنسق الواقعي ويصبحن أدوات للتغيير الإجتماعي .

طورت جوليا كرستيفا نظريات لاكان وطبقته في نموذجها من النقد النسوي ، فقد طرحت كرستيفا فكرة إن النسق التخيلي عند لاكان يتسم بتدفق متواصل من الإيقاع والتي أطلقت عليه مصطلح chora ، وعند الدخول إلى النسق الرمزي ينفصل الذكر والأنثى عن chora وتقمع مشاعر الإيقاع . و chora مثلها مثل الزلة عند فرويد حيث يقوم اللاوعي بكسر الحاجز والظهور في الوعي ، يمكن لها أن تظهر في النسق الواقعي وتربك الخطاب الذي يهمن عليه الذكر . أما هيلين سيشو فقد طرحت مصطلح الكتابة المؤنثة و تتسم هذه الكتابة بالإيقاع وهذا الخطاب المؤنث عند إستكشافه سيغير البنى الإجتماعية والثقافية داخل الأدب .

فضلاً عن هذا التوزيع الجغرافي للنقد النسوي ، هناك نقد نسوي يتجاوز الحدود الجغرافية . وبعض هذه التوجيهات النقدية ذات طابع فردي فهناك أليس وولكر ، وهي الناطقة بإسم الحركة النسوية للسود وهي ترفض أن تقرن بالنقد النسوي التقليدي وبمصطلح نسوي . وهي تفضل أن تدعى ( womanist ) ناشطة نسائية . وفي الجانب الآخر هناك الناشطة النسوية الفرنسية مونيك وتيغ وهي من المثليات حيث ترفض عنوان ( امرأة ) و ترى إن هذا المصطلح لايشمل المثليات وهي تفضل أن تدعى مثلية على أن تدعى امرأة لإعتقادها بأن هذا العنوان سيسمح للنساء بتسمية وإعادة تعريف ذواتهن .

عموما نلاحظ إن كل الناقدات النسويات يؤكدن وباختلاف التوجهات على إنهن في رحلة استكشاف للذات التي ستقودهن الى فهم أفضل لأنفسهن .

النقد النسوي :الفرضيات و المنهج

الاسئلة:

هناك مجموعة من الاسئلة التي لا بد من ان تطرح عند البدء بتحليل نصي نسوي مهما كان المنهج او الطريقة المتبعة في النقد:

هل المؤلف ذكر ام انثى؟(لاحظ ترتيب المفردات وجنس المفردة التي نسأل عنها-المؤلف-)

هل الراوي ذكر ام انثى؟(املاحظة ذاتها)

ما هي ادوار المرأة في النص؟

هل ان شخصيات الاناث في النص رئيسة ام ثانوية؟

هل يظهر في النص اي خصائص نمطية للمرأة؟

ما هي المواقف التي تتخذها الشخصيات الذكور تجاه المرأة؟

ما هو موقف المؤلف/المؤلفة تجاه المرأة في المجتمع؟

كيف تؤثر ثقافة المؤلف على موقفه/موقفها؟

هل يحتوي النص على صور مؤنثة؟ وان كان الامر كذلك ما اهمية مثل هذه الصور؟

هل تتكلم الشخصيات الاناث بشكل مختلف عن الشخصيات الذكور ؟ كيف؟ و ماهي النسب؟

الفرضيات العامة

قد يبدو النقد النسوي للبعض انه غير مترابط و منقسم و هنا يمكن القول ان هناك مجموعة منوعة من النظريات النسوية يطلق العض من الدارسين عليها مصطلح “نسويات” ، و خلف مثل هذا التنوع و الانقسام و الاصوات المتناقضة هناك مجموعة من المبادئ التي يمكن ان توحد هذا النقد:

ان البحث ذو طبيعة سياسية و ذلك لان التوجه هو لتغيير العالم الذي تعيش فيه المرأة.

محاولة تعريف المرأة نسبة الى الرجل هو اعلان من الثقافات الغربية و غيرها بعلو شأن الرجل، و بالتالي وقعت المرأة ضحية ظلم الرجل و الثقافة الابوية.

استقلالية المرأة بذاتها حيث لا يمكن للمرأة القبول بمجتمع يهيمن عليه الذكر.

مقاومة و تحليل الشرعة الادبية القائمة و التي ساعدت على تشكيل صور النقص عند المرأة و تبعيتها في ثقافتنا عموما.

منهجية النقد النسوي

كشف انماط المرأة في الحقب الادبية،فلا يمكن تصنيف المرأة كملاك او شيطان، قديسة او اثمة، زوجة او عانس. ان مثل هذه التصنيفات يجب مقاومتها و مثل هذا التصغير للمرأة من قبل المؤلفين الذكور ينبغي الاعتراف به كعملية مسخ واعية او غير واعية للمرأة.

بعد تحديد و تعريف التوصيف المناهض للمرأة الحاصل في الكثير من النصوص، تلتفت الناقدة الى الشرعة الادبية في محاولة للكشف عن الاعمال التي كتبتها النساء و التأكيد على اعادة استكشاف هذه الاعمال و اعادة نشرها و اعادة تقييمها، بعد هذا ستظهر مجموعة من الكاتبات اللواتي يملكن ثيمات و تواريخ و اساليب كتابة مشتركة.

اعادة قراءة الاعمال الادبية المؤسسة للمؤلفين الذكور من وجهة نظر المرأة و مثل هذه القراءة ممكنة من خلال تنمية وعي انثوي يستند الى تجربة و خبرة الانثى بدلا من الاعتماد على النظريات الذكورية التقليدية في القراءة و الكتابة و النقد. و تعرف هذه الدراسات gynocriticism و هو مصطلح صاغته الباحثة الين شوولتر و اصبح مرادفا لدراسة المرأة بوصفها كاتبة .

النماذج

و هذا النوع من النقد يوفر اربعة نماذج حول طبيعة كتابة المرأة و التي تساعد على الاجابة عن اسئلة النقد النسوي:النموذج البايولوجي و النموذج اللساني و نموذج التحليل النفسي و النموذج الثقافي، و العلاقة بين هذه النماذج هي علاقة خطية حيث يفيد كل نموذج من النموذج السابق عليه.و تتمثل هذه النماذج بدراسة ما يلي:

ا. صور جسد المرأة في النص: و مثل هذه الدراسة التشريحية تبين كيف تصبح اجزاء جسد المرأة صورا مهمة في الاعمال التي تؤلفها النساء.

ب . لغة الانثى: ينصب الاهتمام على الاختلافات بين لغة الذكر و لغة الانثى. و طالما اننا نعيش في مجتمعات ابوية: هل يهيمن الرجل على اللغة و هل تكتب المرأة و تتكلم بشكل مختلف عن الرجل؟ و من هنا تدرس البنى النحوية و الموضوعات المتكررة و العناصر اللغوية الاخرى.

جـ . علاقة نفس المرأة بعملية الكتابة: يطبق تحليل مثل هذا افكار فرويد و لاكان في تحليل النص و يبين كيف ان التطور الجسدى و النفسي للانثى يظهر في عملية الكتابة عبر ما يدعى بحسد القضيب و عقدة اوديب و مراحل نفسية اخرى.

د.الثقافة:من خلال تحليل القوى الثقافية الفاعلة( مثل اهمية و قيمة ادوار المرأة في مجتمع معين) ،و يبحث في كيفية مساهمة المجتمع في تشكيل فهم المرأة لذاتها و مجتمعها و العالم.

 النظام الأبوي كبنية سوسيو-ثقافية(2)

تشكل موضوعة حقوق الانسان الحلقة الأضعف في سلسلة الحلم العربي وهو يتطلع الى الحرية والديموقراطية، منذ بدأ العرب يتحسسون ذاتهم وهويتهم بوصفها كينونة قومية متمايزة، بل ولقد غدت كينونة -لدى أكثرهم - متميزة ...!

وعلى اعتبار ان النظام العربي اليوم غدا منيعا ضد التغيير على المستوى الداخلي، عندما تمكن من ازدراد المجتمع المدني ازدرادا عاتيا، فإنه لم يعد يعبأ بتداول المفردات التي تتصل دلاليا ومعرفيا بالديمقراطية بعد أن شاعت إلى درجة الابتذال ككل المفاهيم الحديثة التي تسللت إلى مجتمعاتنا العتيقة فأنهكتها، حيث لم يعد هذا النظام معنيا سوى بموضوعة حقوق الانسان، وذلك لأن لهذه المفردات هيئات دولية تشخصها منظمات وجمعيات أهلية ومدنية مستقلة، لا تعبأ كثيرا بالديبلوماسية الخارجية البيرغماتية لدولها الغربية، التي لا تتحدث عن حقوق الانسان الا عند الطلب، طلب مزيد من التبعية والإلحاق لآباء النظام العربي البطركي الاستبدادي العتيد، ولتذكير الآباء العتاة العرب بأن عليهم أن يكونوا دائما "أولادا مهذبين" في حضرة الفحولة الاستعمارية الأبوية الاغتصابية الغربية، وذلك لتفريغ شحناتها (الليبدية) المكبوتة أو المتعثرة هنا أو هناك على حد تعبير بوش الأب، عندما يتحدث عن ولادة النظام العالمي الجديد عبر دفن عقد فيتنام في سواد العراق بكل ما يمتلك العراق من تاريخ شرقي استبدادي ذكوري وحاضر فحولي مدعى شعاريا في خطاب (قوموي) نغل: أبوه التراث التمجدي (العربو-اسلاموي) وأمه الفاشيات القومية الغربية التي أنجبت الحرب العالمية الثانية.

ان الاستقلالية النسبية للهيئات الدولية المدافعة عن حقوق الانسان، هي التي يخشاها النظام الأبوي العربي المستبد أكثر من أنظمتها الغربية الحاكمة، وذلك لأنه يستطيع أن يتكيف مع شروط النظام "العولمي الجديد" فيما يتعلق بمسألة التنازل عن السيادة القومية والوطنية لصالح الحرية المطلقة للسلعة، بينما يكون هذا النظام العربي عاجزا تكوينيا عن الاستجابة للوجه الآخر للعولمة الذي تعبر عنه حركية المجتمعات المدنية العالمية المتطلعة لعولمة قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان والمواطنة العالمية الجديدة، وذلك لأن قوة حركات المجتمعات المدنية الداعية للمواطنة العالمية وقيم حقوق الانسان هي القوة الوحيدة الموازية لتفلت السلعة من القيود الاجتماعية والإنسانية، وهي الوحيدة القادرة على لجم نزعات توحش رأس المال على حساب قيم الديموقراطية والعدالة، وهي الوحيدة التي تستطيع أن تمد يد العون والتضامن النسبي للأبناء الأشقياء والمشاغبين والمنشقين عن عائلة الأب الحاكم من مثقفي العالم العربي والعالم الثالث عموما، ولهذا فإن النظام العربي يجبر على غض الطرف عن بعض شغب مثقفيه تجنبا لهذه الهيئات المدنية العالمية المستقلة التي غدت الحصانة الوحيدة الممكنة للمثقف العربي الشقي المعلول والممرور بداء الحرية، بعد أن حول الآباء الحكام أوطانهم الى سجون ومقابر صامتة، حتى إذا رميت الإبرة فانك تسمع لها رنينا، وذلك بعد أن حازوا رضا المتروبول (الأب) وصمت مراكزه الاعلامية والسياسية بسبب إذعانهم وطاعتهم للأب الأكبر في المركز، لأن منظومة العلاقات الأبوية تنتج منظورا للعالم يقوم على القبول والرضا بهذه التراتبية السلطوية كقانون طبيعي

فالأب العربي الحاكم يعتقد أن له حقا مقدسا برقاب شعبه، بوصف هذا الشعب ابنا (قربانا) يمكن تقديمه على عتبات مقدساته السلطوية الوثنية في صيغة الافتداء بـ"الروح والدم" حتى ولو لم يكن يحمل إثم قتل الأب في الثقافة الاسلامية –باستثناء الشيعة- وذلك بالتمايز عن الانتربولوجيا الثقافية اليهودية والمسيحية كما كان قد أظهر فرويد، لأن الأب في الانثربولوجيا الثقافية العربية يحمل في ذاته استعدادا ثقافيا في بنيته اللاشعورية الجمعية لتقبل مجموعة من النماذج البدئية للأب الذي يقدم ابنه قربانا: من إبراهيم الخليل وصولا الى عبد المطلب جد النبي، تلك المنظومة الطقسية الميثية تتيح له بسيكولوجيا أن يتحول من ملك عضوض إلى كلب غير عضوض أمام المركز الأبوي العالمي الذي يصنع الحكام والأنظمة في عالم الفخر والسؤدد لأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة... كذاك الكلب الذي تحدث عنه تشيخوف وهو يصور حالة الخراب الروحي والدمار الأخلاقي الذي لحق بالشعب الروسي في ظروف الاستبداد القيصري الأبوي، حيث كلما تلقى الكلب ركلات صاحبه كلما هز ذنبه استعطافا، وأقعى عند قدميه راضيا صابرا يصدر أنينا مكبوتا.

المثاقفة / المجامعة

هذه الصورة لمنظومة العلاقات الأبوية الاستبدادية، وما تنتجه على مستوى البنية الثقافية والروحية الشعورية واللاشعورية في العلاقات الأبوية مع المتروبول الغربي الأوربي، ستشكل أحد المحاور المهمة في الرواية العربية في صورة المثاقفة المجازية بين الشرق والغرب التي تقصاها جورج طرابيشي في كتابه الريادي في موضوعه "شرق وغرب /رجولة وأنوثة " حيث المثاقفة تحيل إلى المجامعة بين الشرقي المهزوم حضاريا وثقافيا (استعماريا) والأنثى الغربية التي يقهرها بركوبها جنسيا، فينتصر ذكوريا على هزيمته الحضارية بانتصارات فحولية موحدا بين (قضيته وقضيبه)، ومماهيا بين الغرب وفرج الأنثى على اعتبار أن النكاح في الموروث الثقافي العربي هو نوع من الرق حسب الإمام الغزالي –كما سنرى- حيث تسترق فيه الذكورة الأنوثة بوطء الزوجة بوصفها حذاء موطوءة كالنعل -حسب الزبيدي- في تاج العروس كما سيأتي لاحقا، وبذلك يستعاض عن علاقة الاغتصاب والسيطرة الغربية الاستعمارية تجاه المستعمِر بانتصارات جنسية (ثأرية)، حيث الرد على الركوب الحضاري الاستعماري والطبقي لأوروبا، بركوب جنسي على حد تعبير بطل نجيب محفوظ في رواية "بداية ونهاية " المتطلع بهوس للصعود الاجتماعي ، فيتشهى فتاة ارستقراطية مستبطنا غحساسا مأزوما يعبر عنه بأنه "إذا ركبها فإنه سيركب طبقتها بأسرها"[1]لكن صورة الحاكم العربي بمثابته نموذجا نمطيا للأب: عائليا، قبليا، سياسيا، وهو يستشعر الضعف أمام الأبوية الغربية، يعبر عنها عبد الرحمن منيف بشكل مبدع في خماسيته الشهيرة "مدن الملح"، من خلال تناوله لعلاقة الملك خريبط الأب المؤسس، بالتاج البريطاني وذلك، في الجزء الثالث "تقاسيم الليل والنهار"[2]لعل نوعية العلاقة بين النظام الأبوي وحقوق الانسان تتكشف منذ الوهلة الأولى بوصفها علاقة تناقض وتضاد ببداهة دلالة الصياغة وإيحاءاتها، فالنظام الأبوي يحيل وعي المتلقي مباشرة تجاه منظومة من العلاقات الاجتماعية والثقافية التقليدية الموروثة، بينما مصفوفة بيان حقوق الانسان تومىء في صياغتها الى بداهة انتمائها للعصر الحديث، أي عصر الثورة القومية الليبرالية الديموقراطية الأوروبية، وبالتالي فان هذه العلاقة بين النظام الأبوي ومباديء حقوق الانسان، ستضعنا مباشرة أمام علاقة صراعية تنطوي على تناقض ( القديم / الجديد – التأخر / الحداثة ) بغض النظر عن الحمولات الدلالية المتصلة بعلم النفس التي ينطوي عليها اصطلاح النظام الأبوي.

ولهذا وجدنا ان البحث في هذه العلاقة تستوجب ضرورة تحديد المعنى الاصطلاحي، والسياق الدلالي (التاريخي – الثقافي ) لكلا المفهومين لنتبين شكل العلاقة التي حكمت تواصل وتفاصل بنية النظام الأبوي بمنظومة حقوق الانسان.

نشأة النظام الأبوي .

، وذلك لأن الذكر الشرقي يعتقد أنه في عملية المجامعة إنما هو الكاسب الوحيد،على اعتبار أن دور المرأة في عملية الوطء ليس سوى الرضوخ والاسترقاق والاستسلام والمعاناة في سبيل إرضاء نزوات وشهوات الذكر الفحل بعد أن تمت عملية التماهي التامة بين الثقافة والذكورة من جهة، والطبيعة (البِكر) والأنوثة من جهة أخرى، ليس على المستوى الثقافي العربي فحسب، بل وعلى المستوى الثقافي الذكوري العالمي، حيث سيصف فوكو هذه العلاقة –كما سنرى- بوصفها علاقة ولوج واختراق وسيطرة وفق مصفوفة الوعي الذكوري .

تتحدد نشأة النظام الأبوي تاريخيا بالضد من النظام الأمومي الذي كان طورا في تاريخ الاجتماع البشري، وقد كان نتاج الأسرة الواحدية الأبوية التي كان انتصارها النهائي من أمارات مطلع الحضارة الانسانية.

هذه الأسرة الواحدية الأبوية مبنية على سيطرة الرجل، وهدفها الصريح إنتاج أولاد لا يشك في صحة أبوتهم، هذه الأبوة التي لابد منها لكي يرث الأولاد- في يوم ما- ثروة أبيهم بوصفهم ورثته الطبيعيين[3]ويضيف انجلز ان الرابط في هذه الأسرة غدا أمتن، مع الاحتفاظ بحق الرجل في حل هذا الرباط وتسريح زوجته، الاحتفاظ بحق الخيانة الزوجية عرفا على الأقل (مجموعة قوانين نابليون تمنح الزوج هذا الحق بصراحة ما دام لا يحضر معشوقته إلى منزل الزوجية).

ويلاحظ ماركس ان انخفاض منزلة النساء بدأ مع العصر البطولي اليوناني، بعد أن كان لهن منزلة أوفر حظا من الاحترام والحرية، عندما كن يحضرن آلهات في الميثولوجيا، لكنهن مع العصر البطولي سيتغلب عليهن الرجال وتنافسهن الجواري، حيث يستطيع المرء أن يقرأ في الأوديسة كيف يوبخ تيلماك أمه ويأمرها بالسكوت، وفي هوميروس تصبح الأسيرات هدفا لشهوات الغالبين الجنسية، والإلياذة كلها تدور، كما هو معروف، حول النزاع بين آخيل وآغاممنون على واحدة من هؤلاء الأسيرات[4]وعلى هذا فالأسرة الأبوية كانت نتاج الزواج الأحادي، الذي ظهر كنتاج لتركز ثروات كبيرة في أيدي شخص واحد – أيدي الرجل – ومن الحاجة الى توريث هذه الثروة لأولاد هذا الرجل لا لأولاد شخص آخر، هذا المضمون الثاوي في تاريخية نشأة الزواج الأحادي سيظل مستمرا، رغم تفكك النظام الأبوي في المجتمع الغربي الذي دخل طور الحداثة مع التطور الصناعي الذي حققته الرأسمالية، والذي كان من شأنه ان يرغم المرأة على الخروج من المنزل والانخراط في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الرأسمالية التي تجاوزت النظام الأبوي، لم تستطع بحكم طبيعتها التكوينية أن تقوض مضمون الهيمنة في العلاقة الأسرية، فظل الرجل في الأسرة هو البورجوازي، والزوجة تمثل "البروليتاريا" وفق تاريخانية إنجلز الماركسية[5]وعلى هذا فإن العنصر الحاسم في صياغة مفهوم النظام الأبوي، كبنية سوسيو–ثقافية، إنما يتحدد من خلال "محورية الأب" في بنية الأسرة، التي تنتظم حوله بوصفه السيد المطاع، الذي يملك حق السيادة الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، بوصفه المالك الطبيعي للعائلة، حيث أحادية الزواج تسمح له بهذا الاعتقاد الراسخ بأبوته الطبيعية التي تتيح له وفق النماذج البدئية للوعي الميثي أن يذبح الابن قربانا وتقربا من الله، ويباطن هذا المفهوم العضوي للعلاقة بالابن، مفهوم عضوي يعطي الذكورة دلالة السيطرة والهيمنة والتفوق من خلال الفعل الجنسي، الذي يكتسب نموذجه البدئي في صيغته الميثية (الأسطورية)، في صورة الأكل، حيث المخيال الأسطوري يصوغ مجازاته الطبيعية في صورة الرجل الآكل والمرأة المأكولة، حيث العلاقة وثيقة بين الجنس والأكل، حسب ستروس[6]ذلك أن المرأة وفق هذه السلسلة من الاستحضارات الميثية في اللاشعور الجمعي، تحضر بوصفها امتدادا عضويا للطبيعة، ويحضر الرجل كممثل للثقافة والفعل في هذه الطبيعة.

وعلى هذا فان فوكو يستقرئ الفعل الجنسي، إذ تستعيده الثقافة الذكورية بعد أن تمؤسسه بوصفه فعل ولوج واختراق وسيطرة وتفوق[7]وهكذا تؤسس العلاقة الأبوية على مستوى الأسرة نوعا من التواشج العضوي الطبيعي، الذي ستصوغه لغة الاجتماع باسم "رابطة الدم".

هذه الرابطة الدموية، هي التي ستؤسس بدورها لنظام القرابة، لنظام من التراتبية التي تحكم علاقات التواصل الاجتماعي، حيث ستكون الأسرة حجر الزاوية في بنية المجتمع العشائري، وتركيب العائلة سيكون النواة، والنموذج للتشكيل الاجتماعي للعشيرة، فالقبيلة، فالمجتمع. في مجتمع تحكمه العلاقات الأبوية، فان رابطة الدم تغدو هي الرابطة الأساسية التي تميز طبيعته العضوانية، فالولاء للعائلة والجماعة الإثنية يحل محل الانتماء الى المجتمع، الوطن، الأرض، الطبقة، فكل هذه المفردات الأخيرة تبدو غريبة على الحقل الدلالي لنظام الكلام الأبوي. .

الابوية في الثقافة العراقية(3)

 إن الحديث عن سلطة الاب في الثقافة  ومنذ نشأتها يستدعي منا البحث في  مرجعيات صناعة الاب في الثقافة العربية عامة والثقافة العراقية بشكل خاص ، وهذا يضعنا امام صعوبات تأريخية تبحث عن إجابات كثيرة تبدأ من السلوك المفضي إلى الصناعة وتنتهي بسر القداسة التي يمنحها بعضهم للاب ، والإشارات الأولى  لمرجعيات هذه السلطة تبدأ من ملحمة كلكامش ومرورا بالحاكم بأمر الله وتنتهي بالقائد المهيب والضرورة فضلا عمّا تفرضه العشائريات  من سلوك  ، هذه المسميات وما تنطوي عليه من ثقافات أفضت إلى محاصر الثقافة العربية والعراقية  ضمن سلوك مرغوب به من قبل السلطان والوالي والحاكم بامر الله والقائد المقدام،  وابعدها عن ممارسة حقها في التفكير ضمن اطار ابداعي خلاق  ، وبهذا السلوك تحولت الثقافة إلى ان تكون  مقيدة وعاجزة عن اداء فعلها بالشكل الصحيح .

وبعد هذه  التوصيفات التي تبين خطورة سلطة الاب في الثقافة ، كان لي هذه  الأسئلة مع بعض مثقفي بلدي حول هذا الموضوع ، والذي يفترض زواله بعد هذا السقوط للنظام الشمولي ، ودخول الوطن في حراك  الديمقراطية …

فهل الثقافة العراقية ، في ظل هذه الظروف راهن  متحرر ام مقيد …؟

قال الناقد سعيد عبد الهادي: 

في ظل عدم وجود دولة قانون ، وشيوع الفساد الاجتماعي بصورة تفوق التصور ، ربما يكون السؤال سابق لأوانه ،  اليوم ليس من قيود تفرض على الثقافة العراقية ، فالامن الثقافي أصبح جزءا من تراث نحاول تجاوزه ، ولكن في ظل التشظي الراهن ، هل هناك انتاج ثقافي عراقي أصيل ؟

الثقافة وليدة الاستقرار الذي مازلنا بعيدين كل البعد عنه ، والحديث  عن القيود لا يكون الا بوجود دولة دستورية فيها تأخذ شبكة العلاقات القانونية شكلها الكامل ، وعلى الرغم من كل هذا فان سيادة المد الديني سواء كان شيعيا او سنيا  يظهر شكلا جديدا من القيود على الانتاج الثقافي ، فحين يتعرض طلبة أحدى الكليات  للجلد واطلاق النار ، لا لشيء سوى ذهابهم بسفرة ترفيهية او حين تتعرض صالونات الحلاقة ومحلات بيع الخمور للتفجير وقتل اصحابها ، هل لنا أن نتصور مصير المثقف العراقي  الذي يتعرض للدين بشخوصه الراهنين  او بحقائقه او تأويلاته ، علينا أن نعترف بصراحة أن اضعف العراقيين حالا في عراق اليوم هو المثقف .

ثم قلت بعد هذا للناقد عباس العامري ، وما هي الأسئلة الثقافية  التي لا بد من الاستفهام حولها ؟

قال : 

في كل مرة اسأل فيها عن الثقافة العراقية اجد نفسي مضطرا للاستفهام من السائل عن مقصده ، إذ غالبا ما يتم حصر المنجز الثقافي بالنصوص الإبداعية الادبية (قصيدة ، رواية ، مسرحية )وفي أحسن الأحوال تعطى مساحة هامشية ضيقة للفن التشكيلي ، في حين ان الثقافة هي ((كل مركب))ينفتح مفهومه ليشمل فضلا عما تقدم النظام القيمي ، والعادات ، والمعتقدات ، والابداع الشعبي ، ولا ينتهي بالرقص ، والطقوس الدينية .وهكذا فطقوس عاشوراء ثقافة ، والدبكة الكردية مثلها مثل (الجوبي)ثقافة ايضا ، ولنقل انها ثقافة عراقية بامتياز .

هل هناك ازمة حقا في الجسد الثقافي العراقي ، تمنع من الدفع تجاه فضاء التنوير ، وتعيق بقواها الضاغطة أي مسعى للتفتيش عن طرائق جديدة للوصول للحداثة ، تلك التي حلم بها مفكرون ومثقفون وادباء وساسة وطنيون وشاركتهم في الحلم قطاعات واسعة من العراقيين البسطاء طيلة قرن مضى .

مهما يكن من أمر ، فالحاجة ملحة للقيام بإعادة قراءة لمنجز الثقافة العراقية ، قراءة لا تحصر جهدها بين قوسي الحقبة التي تبدأ بظهور مشروع الدولة العراقية ، مع جلوس فيصل الاول على العرش ، وانما تتعداه بعيدا لتفهم ارهاصات لحظة التشكل ذاتها ، لحظة تشكل الشخصية العراقية بروافدها المتعددة (الرافدينية والاسلامية ووو)وتتبع التحولات في مسار ثقافتها.ولن تكتسب تلك المحاولة  شرط وجودها الواقعي الا بالنقد والتحليل العلمي ، وبتفكيك الكثير من المسلمات القارة في العقل العراقي ، وعلى نحو اخص في العقل العربي ،إذ غالبا ما نجد المثقفين العرب ،إن عنّ  لهم يوما أن يلتفتوا صوب الثقافة العراقية يقعون في شرك التناقض وسوء الفهم ، بسبب من عدم ادراكهم لخصوصية الثقافة العراقية وتنوعها الثري ، ولقفزهم على مفهوم النسبية الثقافية (cultural relativism)الذي يعني أن السعي لادراك قيم ثقافة ما ،إن لم يضع في حسابه زاوية نظر اصحاب تلك الثقافة للعالم ، وطبيعة رؤيتهم للاشياء ، فلن يغدو اكثر من رطانة متأنقة .

ورغم تلك الخصوصية المشار اليها ، ليست الثقافة العراقية بدعا بين ثقافات الامم ، فهي تحتفظ بفنارات ابداع لا حصر لها ، مثلما ان فيها ايضا نقاط عتمة .إن الهروب من هذه المسلمة ، وتغطية الحاجة للمراجعة وإعادة القراءة تؤشر حالة من حالات فقدان الثقة بالنفس ، وتؤدي الى اتساع مساحة التابو المعرفي ، بما لا يتيح لنا الخروج من أطر التعليل (لا اقول التفسير)الجاهز وبمعطيات مباشرة .

نعم رحلت التوتالتارية غير مأسوف عليها ، وبقيت لها ذيول هنا وهناك ، نتمنى أن تزول سريعا ، ولكن يتعين علينا أن نتقبل حقيقة انها ليست السبب الوحيد الذي يمكن أن يعترض طريق الحراك الفكري والثقافي ، فالمثقف نفسه الذي لا افهم له دورا غير خلخلة المراكز الساكنة ، يمكن أن يصبح احيانا عائقا اخر ، لنتذكر هنا وهم الثقافة  (culturalistic fallacy)حين ترمق النخب بيوتيبية آلية ما ينبغي أن يكون ، متعامية عما هو  كائن فعلا ، ولنتذكر ايضا ما اصطلح عليه بالضبط الاجتماعي ، فدون شك ثمة تأثيرات للمجتمع تلقي بظلالها على كل الافراد ، ومن بينهم المثقف .

أنا في غاية التفاؤل ، وفي تصوري ان اعادة قراءة الثقافة العراقية مهمة شاقة ، سيتفرغ لحملها جيل جديد من المثقفين العراقيين ، جبل من الشباب بدأ بشق طريقه الخاص عنوة ، فهل سينجح هذا الجيل في تجلية صورة الثقافة العراقية ؟ من هم ابرز ممثليه ؟

متى سيجني ثمار مشاريعهم ؟

اسئلة واسئلة ..، وانا على يقين انها لن تكون اسئلة مرحلة وحسب ، ستكون المرحلة برمتها مرحلة اسئلة ، فثمة بوادر عديدة تشير الى ان المثقف العراقي بدأ يدرك نفسه ، وموقعه من العالم ، والاهم انه بدأ يعي اهمية فك الاشتباك بين ماهو ايديولوجي ضيق ، وماهو معرفي رحب .

وعندما قلت للجميع :

- موضوع الثقافة بين الحرية والتقييد فيه من الصعوبة الشيء الكثير ..

اجاب الشاعر قاسم زهيرالسنجري:

قد يكون طرح هذا العنوان قبل سنة ونصف من الآن مجازفة حقيقية يتداعى أمامها الفكر الحر، ولكن بعد سقوط الشمولية الديكتاتورية أصبح لزاماً على المثقف العراقي أن يطرح هذه القضية للنقاش بعد زوال العارض المانع للتفكير بصوت مرتفع، والابتعاد عن وأد الفكرة في مهدها.

بعد سقوط النظام الشمولي في بغداد، كان متوافراً في الذهن الثقافي العام إمكانية رسم صورة مستقبلية للثقافة العراقية، وكيفية إعادة تأهيلها بعيداً عن الصراعات السياسية وصرعات الأدلجة والتسييس، ولكن بعد عودة الأحزاب السياسية إلى الساحة العراقية بعد غياب تجاوز الثلاثة عقود بدأت التأثير بشكل وبآخر على مسرى الثقافة العراقي، هذه الثقافة التي عانت من هزال متعمد بسبب سياسات كان الغرض منها إجهاض الفكرة أو منعها قبل ولادتها.

بعد فترة الانقطاع والخمول السياسي الذي شهدته الحياة العراقية، كان لها الأثر البالغ في كيفية صياغة ثقافة حرة مبتعدة عن التأثيرات السياسية التي ترافق انطلاق روح الثقافة الحرة، ولا ننكر ان النضج السياسي متأتي من نضج الثقافة وما تمنحه الثقافة من معطيات تجعل من البنية السياسية بنية رصينة سليمة، اضاقة الى ان (الثقافة)في اتجاهها الاستيعابي لكل منطلقات التجديد والتحديث تقدمت على السياسة بارتفاعات شاهقة بينما بقيت السياسية تغوص في منطقة ضحلة ونستدل على على ذلك من خلال تعريف بإنها فن الممكن الذي يجسد اجترار الافكار التقليدية ذاتها من عصر الامبراطوريات القديمة حتى ظهور الدول الحديثة وان تم بطريقة او بأخرى تنظيم بعض التحالفات الاقليمية والدولية كالجامعة العربية او الاتحاد الاوربي والامم المتحدة.والسياسة في كل الاحوال حاولت تهميش الثقافة وقمع المثقف او تحويله الى أداة حزبية,قناة اعلامية تنادي برفعة وسمو مباديء هذا الحزب وتدحض افكار الحزب الآخر الذي هو بطبيعة الحال منافس يجب التغلب عليه.

ولكن اذا ما حاولت السياسة استيعاب الثقافة ماذا يحدث؟، الذي يحدث تحول الأهتمام بقضايا الأدب والثقافة لدى المثقف بشكل عام إلى عملية (قسرنة)باتجاه مصالح حزبية واتجاهات عرقية أو طائفية، وإن ما أقدمت عليه الأحزاب الكبيرة من عملية استقطاب أسماء ثقافية في مختلف المجالات في محاولة منها لتقوية البنية العقائدية لأحزابهم، وهذا إن دلَّ على شيء فأنه يدل على ضعف في المستوى الإطاري لثقافة الحزب وتأصيله العقائدي وهشاشة في المتن السياسي للحياة السياسية في العراق مما جعل هذه الأحزاب تعمد إلى تقوية هذا المتن بإضافة الهوامش التي كانت إلى الأمس القريب هوامش غير منظورة وغير معلّمة.ومن هذه الأحزاب التي سارعت إلى إظهار الهامش وتعزيز متنها السياسي بها هو الحزب الشيوعي العراقي بمختلف تنوعاته وانقساماته محاولاً تغطية العجز الثقافي وردم هوة الانقطاع عن الشارع السياسي عن طريق سحب واستدراج أسماء له موقعها ضمن خارطة الثقافة العراقية، ولكن هذه التورط في عملية تشكيل قاعدة مثقفة من السياسات التي لها توابع تنحدر بمستوى الثقافة العراقية في حين إنها تحاول النهوض بعدة كبوة الثلاث عقود.

إن هذه الدعوات كانت هادئة في أول الأمر إلى أن اتضحت معاملها بشكل صارخ في أول مؤتمر انتخابي للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق حيث قام هذه الحزب بطرح قائمته الانتخابية وهذا خارج عن تقاليد الانتخابات الحرة وهذا الأسلوب يفضى إلى بناء متكتلات سياسية في الجسد الثقافي، ومما يزيد القلق حقاً هو تصريح احد المرشحين لهذه الانتخابات بأن هذهأوامر الحزب) معيداً إلى الأذهان ظاهرة (بعثنة)الثقافة.

هذه الحالة تستدعي العملية التوافقية في بناء الهيكلة السياسية حيث كانت وزارة الثقافة من نصيب الحزب الشيوعي العراقي ومن ثم سيطرة الشيوعيين على المؤتمر الانتخابي لاتحاد الأدباء، وتكللت هذه السيطرة بحضور وزير الثقافة الأستاذ مفيد الجزائري لأول اجتماع لإدارة الاتحاد بعد الانتخابات رغم تصريح الوزير بأن حضوره لا يعني أن للوزارة أو الحزب الذي يمثله علاقة في تسيير أمور الاتحاد وكأنه استدرك معنى حضوره وما يشكله من تحسس لدي المثقف العراقي بعد أن عانت الثقافة العراقية من التداخلات الحزبية والحكومية وما لحق بها من فوادح أثر هذه التداخلات المشابهة.

ولكن نتائج هذه التداخلات لا تعني الحزب الشيوعي من قريب أو بعيد فأن اغلب المثقفين العراقيين على دراية بما فعله الحزب الشيوعي في خمسينيات القرن الماضي من خلال استدراجه لأسماء ثقافية كعبد الوهاب البياتي بعد ان انقلب بدر شاكر السياب على انتمائه لهذا الحزب، فليس مهماً كيف يكون شكل الثقافة العراقية بقدر ما يمكن أن يستقطب الحزب أسماء لامعة تضاف إلى واجهة الحزب دون أن يضعوا في البال نتائج هذه الإضافة التي قد تتداعى أمامها أسس الثقافة لتتحول إلى ثقافة حزبية.

وبعد هذا كله يمكن أن نطرح هذا التساؤلهل الثقافة العراقية حرة أم مقيدة)نستنتج من خلال نشاطات الأحزاب وما تفعله من عملية تجيير الثقافة لحسابها وتهافت الهم الثقافي وتحولاته نحو (لحزبية التعددية)بمفهومها السياسي وانسحاب الصراع من ثقافي -ثقافي إلى صراع الأجندات السياسية وهيمنتها على الوسط الثقافي أصبحت الثقافة العراقية مقيدة بانتماءات شتى وأصبح المثقف العراقي يأتمر بأوامر الحزب مهما كانت دون أن يحسب أي حساب لهذه الأوامر و ما تجره على الثقافة العراقية من فقدان الأهلية من جديد وانسياقها وراء (فردانيات)حزبية بعد أن كان ينادي بالتخلص من سطوة الفردانية الحزبية على الثقافة ويدعو إلى تمكين المثقف من أدواته، فهل إن المثقف العراقي لازال يعاني من عدم قدرته عن التخلي عن عباءة السلطة؟ أم إن ما تركته الثلاث عقود من آثار في بنية الثقافة العراقية جعلها تعاني من داء (الأدلجة)؟، قد تكون فكرة بناء ثقافة حرة دون روابط تبعية فكرة صعبة التحقق، ولكنها ليست مستحيلة في ذات الوقت.

ثم عقب الناقد والقاص عبد الستار جبر على ما ينطوي عليه السؤال  من خيار :

تبدو لي مسألة الحرية والتقييد مسألة نسبية، فحتى أكثر الثقافات العالمية حداثة بل وما بعد حداثة كالثقافة الغربية تعاني من قيود اجتماعية وسياسية وآيديولوجية بشكل متفاوت، وهذا ظاهر في خطابها المعاصر، وهي تشير الى بعض هذه القيود بوصفها أزمة مرحلة ومنتقلة مع مراحل تغييرها وتطورها، ولكن اذا عني بهذه المسألة أن تدل على التحرر أو عدمه من السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية التي تفرض هيمنتها وموجهاتها على الخطاب الثقافي وتتدخل في رسم ملامحه وتحاول اعادة انتاجه وفقا لآيديولوجياتها الخاصة، فاننا يمكن القول أن الثقافة العراقية الراهنة بعد تغيير النظلم السياسي تعاني من ما يمكن ان نسميه "صدمة التغيير"، فهي لم تستثمر الحرية الجديدة التي انبثقت بعد سقوط النظام السياسي الديكتاتوري، لتبلور لها خطابا جديدا ينسجم مع متغيرات مرحلتها الراهنة التي تسعى لتأسيس نظام سياسي بديل يقوم على الديمقراطية والتعددية (ونحن لن نتحدث عن القيود الاخرى كالاجتماعية والدينية لأنها لم تشهد بعد تحولا أو تغييرا).

ان عدم تحديد طبيعة ونوع العلاقة بين الوسط الثقافي العراقي الراهن والمتغيرات السياسية الجديدة،  يجعل هذا الوسط ينتج خطابات مشتتة تفتقد الى الرؤيا الموحدة والمحددة  تجاه المستجدات والأنظمة البديلة، وهذا يعني وجود أزمة بنيوية في الثقافة العراقية، فهي في الوقت الذي تتوفر لها الحرية لأن تعبر عن رؤاها وتصوراتها، لتنتج خطابا حرا ومبدعا، نجدها شبه مشلولة وما زالت تعاني من وطأة ارثها الديكتاتوري الشمولي الثقيل، وهذا يعني ان جزءا كبيرا من قيودها هي داخلية وليست خارجية، وكأن التركيبة الذاتية لهذه الثقافة قد شوهها التاريخ الأسود للمحددات والقيود المختلفة وفي مقدمتها السياسية، فاصبحت لا تعي وجودها من دون  هذه القيود، أو انها ستنتظر أكثر مما يجب لتضع خطواتها على الطريق الصحيح نحو امتلاك رؤيا وخطاب حرين.  

وبعد هذا التباين بين من  يرى حرية الثقافة وبين من يراها بالمقييدة ، يستمر الرهان حول فعل الثقافة العراقية بين هذين الخيارين بين الحرية من جهة والتقييد من جهة اخرى .

البطريركية ومقاومة الجديد(4)

يتسم المجتمع العربي بالبنية الأبوية البطريركية والتي تترتب عليها العديد من القضايا مثل الشمولية بالتفكير واحتكار الحقيقة وادعاء امتلاك المعرفة والخبرة وإقصاء الآخرين وعدم التسامح مع الأقليات وتجاوز التعددية الفكرية والسياسية وتهميش الآخر، وكذلك عدم الرغبة بتقبل الجديد ومحاربته بصورة مستمرة.

هذا ما تم تجاه العديد من الأفكار والمفاهيم التي تأثرت بها الأوساط الفكرية والثقافية العربية، فلم يكن سهلاً دخول مفاهيم الليبرالية والعلمانية الديمقراطية والاشتراكية، حيث تمت محاربتها بإدعاء غرابتها عن الواقع وعدم انسجامها معه، ولكن السبب الفعلي كان يتجسد بأن تلك الأفكار ستضر بمصالح بعض القوى الاجتماعية و النخب الحاكمة لأنها ستفتح آفاق التفكير على الجديد وستعمل الذهن، على قاعدة أن تلك الأفكار ستتساءل حول شرعية الحكم وعن العلاقة ما بين المواطن والسلطة وآلية توزيع الثروة وعن أنظمة الدولة و مضمون الحرية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية كالحق بالعمل والتعليم والصحة والسكن إضافة للحقوق السياسية والمدنية و الحق بإبداء الرأي والصحافة والإعلام والتنظيم الحزبي والنقابي.

بمعنى أن تلك الأفكار رغم تباينها النسبي إلى أنها ستساهم في تقويض آليات النظام الأبوي البطريركي وستساهم بفتح مجالاً واسعاً للاجتهاد والابتكار ومشاركة العديد من القوى بما في ذلك النساء بالحياة العامة الاقتصادية والسياسية والإدارية.

وبهذا السياق فإننا نجد أن بلدان ما يسمي بالعالم الثالث بسبب السلطة الأبوية تحاول الإبقاء على النسق السياسي والاجتماعي السائد كما هو، فرغم أن آليات التعددية الحزبية قد أدخلت في تلك البلدان ومنها بعض البلدان العربية إلا أن النخب الحاكمة تعاملت مع تلك التعددية في إطار قدرتها على ضبط حركتها والسيطرة على توجهاتها بحيث تكون تلك الحركة والتوجهات لا تتجاوز النسق أو المعيار المحدد من قبل النخبة الحاكمة بالدولة وبالتالي تخريب قواعد اللعبة المضمونة والمعروفة والمحددة مسبقاً.

وغني عن البيان أن آليات الضبط تتم بوسائل محددة منها الإعلام والأمن والأجهزة الوزارية التنفيذية ومنها تطويع السلطة التشريعية والقضائية بما ينسجم مع توجهات النخبة وقرارها بالحفاظ على النسق والمعايير دون القدرة على خرقها أو تجاوزها.

وفي سياق هذه الحالة فإننا نجد أن الأحزاب نفسها على اختلاف مشاربها سواءً كانت الحزب الحاكم أو من قوى المعارضة تنسجم في تلك اللعبة وتستمر في ممارستها التي تصبح منسجمة مع مصالحها ويتم بالتالي النظر إلى أية قوة سياسية أو اجتماعية جديدة قد تنشأ بأنها أحد أدوات تهديد القديم ومرتكزاته ومقوماته، لذلك فإن الاعتراف بالجديد المادي وهو بهذه الحالة الحزب السياسي أو القوة الاجتماعية المحددة ليس سهلاً كما أن الاعتراف بالأفكار الجديدة " الليبرالية والاشتراكية مثلاً " ليست سهلاً أيضاً.

بل يجري العمل على مقاومته بوصفه جديداً ينظر إليه بوصفه يشكل تهديداً للمنظومة المعرفية والمصالح السياسية والاجتماعية القائمة.

لقد لاحظت أن ذلك ينسحب على الحالة الفلسطينية أيضاً سواءً على المستوى القيمي المعرفي المفاهيمي أو على المستوى الاجتماعي السياسي ايضاً، وأريد هنا أن أشير إلى تجارب الانشقاقات التي تمت في إطار فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية، حيث نظر إليها بوصفها خارجة عن النسق وتعمل على التخريب والتهديم أو أنها مرتبطة بجهات عربية أو أجنبية معينة، وقد حدثت بالعديد من المرات عملية اقتتال داخلي وصراع دموي بين من كانوا أبناء الفصيل الواحد أدى إلى استشهاد وجرح بعض الأعضاء الذين يعتبروا من خيرة أبنا شعبنا والذي اختاروا العمل الوطني و الكفاحي متجاوزين مصالحهم وتطلعاتهم الذاتية والخاصة، وكذلك بعد عام 94، تحدثت العديد من الأوساط اليسارية الفلسطينية حول أزمة اليسار وذلك بسبب ظروف موضوعية وذاتية منها تفكك الاتحاد السوفيتي وبروز الولايات المتحدة كزعيمة لنهج العولمة العسكرية والسياسية والاقتصادية واندحار المفاهيم الديمقراطية والعلمانية في البيئة العربية وبروز المد الجماهيري لقوى الإسلام السياسي عربياً وفلسطينياً، وكانت تشجع تلك الأوساط على ضرورة بلورة نواة لاستقطاب جميع الفاعليات اليسارية والديمقراطية سواءً الحزبية أو الاجتماعية أو كشخصيات وطنية، وذلك بهدف إنهاء حالة التقاطب ما بين تياري السلطة وتيار قوى الإسلام السياسي الذين يعتبروا أكثر رسوخاً في البنية السياسية والمجتمعية الفلسطينية في ظل تشتت وتبعثر قوى الديمقراطية واليسار، وأذكر حينها عندما بادر د. حيدر عبد الشافي بتأسيس حركة البناء الديمقراطي استجابة لتلك الرؤية ذات الإجماع من قبل العديد من الأوساط الديمقراطية والمتفردة انبرت العديد من القوى اليسارية لمحاصرة تلك التجربة الجديدة ظناً منهم أنها ستشكل تهديداً لقوتهم ولنفوذهم الجماهيري، وستعمل على استقطاب عناصرهم وجماهيرهم لصالح تلك الحركة الجديدة، علماً بأن تلك الحركة لم تكن تطمح إلا إلى توحيد جهد الحركة الديمقراطية والمساهمة في إعادة بنائها من جديد على أسس من المشاركة بهدف توفير مساحة مناسبة للحركة السياسة والديمقراطية في ظل الاستقطاب الحاصل ما بين تياري السلطة من جهة وقوى الإسلام السياسي من جهة أخرى كما أسلفنا، وبالمقابل لم ينظر بإيجابية لتشكيل المبادرة الوطنية الفلسطينية التي أتت استجابة لظرف موضوعي من أجل إنهاء حالة التشرذم بالخطاب والرؤية السياسية الفلسطينية وبهدف إعادة بناء مقومات النظام السياسي الفلسطيني على أسس مناسبة من الإصلاح والديمقراطية ومبدأ سيادة القانون وتوفير العيش الكريم والعدالة الاجتماعية لقطاعات اجتماعية واسعة وبهدف تعزيز صمودها الوطني جراء الممارسات العدوانية الاحتلالية بحق أبناء شعبنا وبوصفها أحد روافد التيار الديمقراطي كتيار ثالث لشعبنا، ورغم أن المبادرة وسكرتيرها العام قد خاضت الانتخابات الرئاسية وحقق تحالفها مع بعض القوى السياسية والاجتماعية نتائج مشجعة، ورغم دورها في تنفيذ العديد من الفاعليات المكافحة لجدار الفصل العنصري وللدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية لشعبنا واستقدام قوى التضامن الشعبي الدولي للتضامن مع أبناء شعبنا إلا أنه ما زالت بعض القوى تقاوم هذا الجديد الذي كان أحد أهم نتائج الانتخابات الرئاسية أي توفير الإمكانية الواقعية لبروز وولادة الجديد السياسي وبالمقابل المساهمة في تحطيم نظام الكوتة الفصائلية الذي ساهم في تحقيق مصالح بعض الأطراف وعمل على إقصاء المشاركة السياسية والاجتماعية الواسعة لقوى أبناء شعبنا في صناعة القرار الوطني.

إن نظرة سريعة لديناميات تفاعل الحركة السياسية والاجتماعية في بلدان أوروبا وغيرها من البلدان المتقدمة راسخة البنيان الديمقراطي نجد أن ظاهرة ولادة الجديد واندثار القديم وتفرع بعض القوى وولادتها من بعضها البعض ثم إعادة التئامها ووحدتها أو تحالفها من جديد، نجد أنها ظاهرة طبيعة وموضوعية وتعبر عن مدى النضج السياسي بالتفكير ولعل وجود قانون للأحزاب واحترام الرأي العام واستقلالية الإعلام ومهنيته عوامل تساعد على ترسيخ ما هو جديد، ومنع عملية الإقصاء.

وبرأي بأن شعبنا بدأ يشق طريقه مؤمناً بالخيار الديمقراطي وعليه فإنني آمل أن تكلل تلك المسيرة بإنهاء عقلية الإقصاء واحترام الآخرين وتقدير الجديد وعدم مقاومته وترسيخ قوانين تسمح للتعدية الحزبية، حيث أنه آن الأوان لاعتماد الشرعية الآتية من صندوق الاقتراع والتي ستعمل على تعديل الخارطة السياسية الفلسطينية

باركوا المرأة: عندما يستعاد التاريخ برؤية جديدة(5)

من الطبيعي جداً أن تعود السينما الروسية المعاصرة مرة تلو الأخرى إلى الماضي، في محاولة لإضاءة هذا الجانب أو ذاك من التاريخ السوفيتي للبلاد الذي بقي منغلقاً على الكثير من أسراره طيلة سبعة عقود من الزمن. ولئن بدأت هذه المحاولات بصورة متزامنة مع انطلاق البيرستروكيا في أواسط ثمانينات القرن المنصرم، غير أن اهتمام الأفلام الأولى مثل «صيف 1953 البارد» و«غداً كانت الحرب» و«الذين أنهكتهم الشمس» كان منصباً بالدرجة الأولى على تقديم توصيف جديد للماضي بغية الكشف عن ملامح لم تكن معروفة سابقاً عنه وكان التطرق إليها ضرباً من الاستحالة في ظل المنظومة السياسية السابقة المهيمنة على البلاد والعباد. أما التحليلات الأكثر عمقاً لهذه المرحلة فهي لم تزل في أطوارها الأولى، وليس فيلم ستانسلاف غافاروخين الأخير «باركوا المرأة» 2003 إلا نموذجاً عنها.

في تلك السنوات اللاحقة للبيرستروكيا ابتعد غافاروخين عن السينما الروائية، واتجه إلى سينما لم يألفها ولم يتعامل معها يوماً سواء على مستوى الجنس الفني أو المضمون الفيلمي. فاسم غافاروخين ارتبط في السبعينات والثمانينات بصورة لصيقة بأفلام المغامرات والتشويق، وكان أحد أبرز مخرجي هذا النوع غير المنتشر بكثرة في السينما السوفيتية، واستطاع خلال هذين العقدين تحقيق العديد من الأفلام التي غدت من روائعها الكلاسيكية، ولم تزل تعرض على شاشات التلفزة حتى اللحظة مثل «قراصنة القرن العشرين» 1979 «مكان اللقاء لا يتبدل» 1979 «البحث عن الكابتن غرانت» 1984. لكن ما أن بدأت التغييرات تعصف بالبلاد حتى أنخرط غافاروخين في الحياة السياسية، واتجه إلى السينما التسجيلية محققاً ثلاثة أفلام جعلت منه أحد أهم ممثليها في السينما الروسية المعاصرة. أولها «لا يجوز العيش هكذا» 1990 الذي صور فيه أكثر الجوانب سوداوية وبؤساً في المجتمع الروسي، ليعود في الثاني «روسيا التي أضعناها» 1992 ويتطرق إلى أبرز المحطات المأساوية التي مر الشعب الروسي بها بدءاً من ثورة أكتوبر وحتى منتصف الثمانينات، أما في الثالث «الثورة الإجرامية العظمى» 1994 فتوقف عند هيمنة المافيات على مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية في مرحلة ما بعد البيرسترويكا. ويغرق غافاروخين في السياسة طويلاً مبتعداً عن السينما، ليعود إليها عام 1999 مع فيلمه «القناص» الذي لا يختلف في توجهه عن الأعمال الروائية التي اعتاد إخراجها، لكن ذلك سيتغير تماماً مع فيلمه الأخير الذي نحن بصدده.

عند الانتهاء من مشاهدة الفيلم قد نعتقد أن ما تابعناه للتو لا يعدو كونه ميلودراما جميلة تبدأ بقصة حب من النظرة الأولى وتختتم بنهاية سعيدة لقصة حب أخرى لذات الشخصية. لكن هذا الاعتقاد الأولي بحد ذاته يدفعنا لطرح الكثير من التساؤلات حول خيارات المخرج وغاياتها سواء فيما يتعلق ببنية السرد أو المساحة الزمنية التي غطاها الفيلم والتي تصل إلى حوالي ثلاثين عاماً أو التوظيف الدرامي للشخصيات أو المفاصل التاريخية التي توقف عندها والكيفية التي تم فيها ذلك وحتى عنوان الفيلم نفسه، كل ذلك يجعلنا مضطرين لإعادة النظر في رؤيتنا له.

في قرية نائية في الجنوب تلتقي فيرا (سفيتلانا خودتشينكوفا) التي لم تتم الثامنة عشرة من عمرها على شاطئ البحر مع ضابط في سن والدها، وتقع في حبه من النظرة الأولى، ولا تمضي بضعة مشاهد حتى تتزوجه وتسافر معه تاركة وراءها أمها وأخاها وأختها الصغيرة، أما الأب فلا نعرف شيئاً عنه. كل ذلك يحدث بسرعة عجيبة وفي أجواء أبعد ما تكون عن الرومانسية، وتنطوي على الكثير من الغرابة : رجل عسكري في منتهى الصرامة لا يعرف وجهه الابتسامة على الإطلاق، ولم يصرح بكلمة حب واحدة أو حتى أي كلمة توحي بالتودد و الإعجاب، تتعلق فيه وتقع في حبه فتاة على النقيض منه في منتهى الرقة والود والمرح دون أي مقدمات ومسوغات وتمضي معه. وهكذا يتم تفتيت الرومانسية التي نستشفها في المشهد الأول لفيرا وهي تسبح عارية في البحر وتغني على الشاطئ الرملي لصالح مشهدية قاتمة للمسكن الجديد الذي انتقلت إليه مع زوجها لاريتشيف. ولم نقم بتوصيف مسهب لهذه البداية التي قد تبدو متكلفة ومتصنعة إلا لأنها تشكل المفتاح الرئيسي لولوج عالم الفيلم بأكمله كما سنرى لاحقاً.

كل ما سيفعله الفيلم في جزئه الأول الممتد لحوالي ساعة وربع هو التأسيس على هذه البداية بغية تعميقها وترسيخها على خلفية الأحداث التي تمر بها هاتان الشخصيتان. فأحداث الفيلم تبدأ عام 1935، وهو تاريخ لا يخلو من الدلالة، إذ من المعروف أن سلطة ستالين ترسخت بصورة كاملة في منتصف الثلاثينات، ليقدم لنا الفيلم إشارات سريعة ومقتضبة إلى بعض إفرازات هذا النظام داخل المؤسسة العسكرية في البلاد مثل الإعدامات الجماعية للضباط قبيل الحرب، الخسائر البشرية الكبيرة التي تعرض لها الجيش الأحمر في حربه مع فنلندا، الدعاية الكاذبة فيما يتعلق بالحرب مع ألمانيا النازية، انتشار الوشاية بين العسكريين وصعود الانتهازيين منهم إلى المناصب القيادية، التشكيك بوطنية الجنود الذين وقعوا في الأسر لدى النازيين والنظر إليهم بريبة لا تخلو أحياناً كثيرة من التخوين المباشر والإعفاء من الخدمة لاحقاً ـ هذا في أحسن الأحوال.

ليتضح لنا أن اختيار مهنة الزوج كضابط عسكري لم يكن صدفة على الإطلاق، وهذا الخيار لم يكن يسعى لإعادة طرح المآسي المتعلقة بالمؤسسة العسكرية فحسب، إذ أنها لطالما طرحت في سنوات ما بعد البيرسترويكا وأصبحت معروفة للجميع، بقدر ما أراد غافاروخين توظيفه في تحليل منظومة كاملة من العلاقات الاجتماعية والتاريخية التي نشأت وترسخت في ظل النظام التوتاليتاري السوفيتي.

العسكري محكوم بالرضوخ، إلى حيث يؤمر بالانتقال عليه أن ينتقل وزوجته، وهنا الانتقال الذي لا ينفك يتكرر ويتكرر في الفيلم إلى درجة تصل حد العبث التهكمي ليس مجرد فعل إجرائي، فعن طريقه يتم تفتيت المكان ليس بصفته جغرافيا ـ فالأمكنة لا تسمى في الفيلم ـ وإنما بوصفه حاضن للبشر والروابط والمشاعر والذكريات، التي تفقدها العائلة في الفيلم مرات كثيرة في ترحالها. وهذه الصيغة الأولية من الرضوخ تتطور تصاعدياً لتمسي أكثر عمقاً وشمولية، عندما يقف لاريتشيف عاجزاً عن مواجهة شتى الانتهاكات الفظيعة التي تتم داخل جسد المؤسسة العسكرية من قبل طغمتها المهيمنة أو ممارستها تجاه الخارج. وهنا يميز غافاروخين عبر الشخصيات العسكرية التي يقدمها بين نوعين من الرضوخ : القسري والذي يمثله لاريتشيف نفسه، والاندماجي المتماهي مع المؤسسة، وفي كلا الحالتين تقوم شخوصه بإعادة إنتاج ممارساتها على من هم أدنى في التسلسل الهرمي داخل المؤسسة أو خارجها.

وهذا التمييز لا يأتي بغية وضع النوعين على قدم المساواة وبالتالي إدانتهما معاً، أو التفريق بينهما وإدانة أحدهما على حساب الآخر، وإنما الغاية منه تسليط الضوء على تجليات مختلفة للتكيف مع المؤسسة السياسية ـ العسكرية المهيمنة تبرز على مستوى التركيبة النفسية والسلوكية للشخصيات المقدمة. وبين الضابط الذي يعجز تماماً عن التكيف معها وينهي حياته منتحراً (يؤدي الدور غافاروخين نفسه) وبين الأخر المتكيف إلى درجة الذوبان الكامل فيها يقف لاريتشيف، فكل الصرامة والتجهم والانغلاق والكلام المقتضب و المشاعر المكبوتة لشخصيته التي عكسها ببراعة الممثل الكسندر بالويف، كل ذلك ليس إلا شكلاً من أشكال التكيف. فالإنسان يتحول في مقاومته غير المعلنة لبطش السلطة إلى قناع لا نستطيع حتى التكهن بما يخفي خلفه من مكنونات إنسانية، استطاع الفيلم أن يوحي بوجودها بصورة شفافة، فنحن لا ندركها وبالكاد نستطيع تلمسها، غير أننا حتماً نشعر بها في مكان ما داخل الشخصية، وبصورة خاصة من خلال علاقة لاريتشيف مع زوجته فيرا.

إذ أننا على المستوى الظاهري لهذه العلاقة سنرى أمامنا رجلاً قاسياً تقليدياً إلى أقصى حد، منذ اللحظة الأولى للزواج يوضح بصيغة الأمر الأساس الذي يجب أن تقوم عليه العلاقة بين الطرفين من وجهة نظره : الرجل عليه أن يعمل ويجني الأموال والمرأة عليها أن تعتني بالمنزل وتؤمن له الراحة داخله. وهذا الأمر ـ كأي أمر عسكري ـ غير قابل للنقاش والجدال وإنما للتنفيذ فحسب، وهو ما تذعن فيرا طواعية له، وتستمر في ذلك حتى عندما يطالبها بالتخلي عن "أبنائها" واحداً تلو الأخرى فيجبرها أن تجهض طفلها الأول، ومن ثم يأخذ أبنه الذي وجدت فيه تعويضاً عن أمومتها المفقودة بعيداً عنها ليضعه في مدرسة داخلية للأيتام، ومن ثم تخسر طفلي صديقتها ماشا سمولينا الممرضة في إحدى المشافي خلال الحرب عندما يقرر حملها معه إلى مكان جديد.

وهكذا يعيد الزوج الراضخ للمؤسسة العسكرية إنتاج ممارساتها القمعية الفوقية تجاه الزوجة التي ترضخ بدورها وكأنها فرداً في ذات المؤسسة، بينما يحدث ذلك في إطار المؤسسة الأبوية المهيمنة عليها. والحقيقة إن قسوة لاريتشيف تجاه فيرا تبدو أبوية بكل معنى الكلمة، والغاية منها ليس تحطيمها معنويا أو جسدياً ـ فهو لم يقم مرة واحدة بشتمها أو ضربها ـ وإنما حمايتها وتأهيلها للتكيف مع الواقع المحيط الذي لا يريد أن ينجب طفلاً في ظله، ويخشى ألا يستطيع طفله الأول التأقلم معه إذ ما أفسدته فيرا بدلالها وجعلت منه إنساناً هشاً. لنصبح أمام حالة من التجاذب والتماهي بين المؤسستين ـ العسكرية والأبوية في مواجهة المرأة التي تخضع لها بصدر رحب.

مع موت لاريتشيف يبدأ الجزء الثاني من الفيلم والذي لا يستمر أكثر من 45 دقيقة وتسيطر على مجرياته أربعة نساء: فيرا ووالدتها وفيرا الصغيرة أبنه ماشا والممثلة الشهيرة والمتقاعدة كونينا التي لم تعد أجواء المدينة تناسبها، فتنتقل للعيش معهن. أي أننا إزاء ثلاثة أجيال من النساء تعيش بمعزل عن الاستبداد الذكوري، لنعود إلى ذات الحالة التي بدأ منها الفيلم، مع عدة فوارق جوهرية، فالأسرة الجديدة لا تربطها صلة الدم وحدها لتنتهي هذه الصلة تماماً مع موت الأم، وهي إشارة واضحة إلى التفكك الذي أصاب الروابط الأسرية التقليدية داخل المجتمع السوفيتي والشكل الجديد من العلاقات التي حلت مكانها، كما لا يمكننا أن نتوقع أن يعيد التاريخ نفسه بالنسبة لفيرا الشخصية الرئيسية، فهي لم تعد تلك الفتاة المراهقة التي يمكن أن تنساق ببساطة وراء مشاعرها، وإنما امرأة ناضجة خبرت الحياة وعرفت حلوها ومرها في تنقلاتها المستمرة، وتوسعت الخيارات المتاحة أمامها بعد نجاحها على الصعيد المهني وإدارتها لفندق يتيح لها الاختلاط اليومي مع عدد غير محدود من الرجال. لكن توقعاتنا سوف تخيب تماماً، وتقع فيرا للمرة الثانية في حب رجل عسكري في عمر والدها وله الكثير من الأولاد والأحفاد. ولئن عارضت والدتها في المرة الأولى ارتباطها بلاريتشيف، نجد أن أعضاء أسرتها الجديدة يرحبون بخيارها ويفرحون لأجلها ويحزنون كذلك عند اعتقادهم أنه تخلى عنها، لتعود وتعم الفرحة الجميع عندما يطرق «الأب العسكري» بابهم مجدداً للزواج منها، وينتهي الفيلم مع هذه «النهاية السعيدة» بعد أن يذكرنا بلقطة في بدايته تجمع بين لاريتشيف بلباسه العسكري وفيرا بجمالها الروسي النموذجي. وهنا لا يعود ثمة لبس في المستوى التعميمي الذي يرتقي الفيلم إليه من خلال ربطه بين الجذور العميقة للنظام الأبوي في روسيا وبين تقبل المواطنين السوفيت للنظام التوتاليتاري طيلة سبعة عقود. ونشير في هذا السياق أن «ستالين أب الشعوب» كان أحد أكثر الشعارات تداولاً في المرحلة الستالينية التي تبدأ أحداث الفيلم خلالها، ونشهد معها تعميم العسكريتاريا على كافة بنى المجتمع بما في ذلك الأسرة، حيث المرأة هي الأكثر معاناة من بطش المنظومة الديكتاتورية ـ الأبوية وفي الوقت ذاته هي أكثر من خفف من تبعاتها على المستوى الإنساني. 

أزمة النظام الأبوي العربي(6)

من المعروف أن الدراسات الأنتربولوجية حاولت دراسة المجتمع العربي وفقاً لثقافته وعاداته وتقاليده وبناه التربوية عن طريق تحليل أمثاله الشعبية أو نمط قراباته العائلية إلى غير ذلك من الدراسات الانثربولوجية التي أخذت في وقت من الأوقات أهمية كبرى من خلال تحالفها مع الاستعمار في سنواته الأولى، وربما تمكنت الدراسات الانتربولوجية بعد ذلك من إعادة النظر في مناهجها العلمية وسياقاتها النظرية مما مكنها من التحرر نوعاً ما من الانحياز الغربي.

لقد عملت هذه الدراسات على قراءة المجتمع العربي قراءة أشبه بدراسات البنية الثابتة القارّة غير المتغيرة، فالمجتمعات العربية وفقاً لذلك هي مجتمعات ساكنة وقدرتها على التحول والتغير بطيئة بحكم كون ثقافتها التي تنطلق منها رؤية هذه المجتمعات للعالم هي ثقافة سكونية، وهكذا سقطت هذه الدراسات في فخ النظرة التأبيدية ولم تتمكن من استيعاب العوامل الاجتماعية والسياسية والخارجية التي كان لها دور مؤثر في ثقافة هذه الشعوب وحياتها، ولا يخرج الكلام الكثير حول الاستبداد الشرقي عن هذا الإطار، لكن تطور مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية كان الكفيل برفض هذه الدراسات الانتربولوجية التي تنتهي إلى نوع من أنواع العنصرية الثقافية، وبدأ ترسيخ نوع جديد من الانتربولوجيا يقوم على الانتربولوجيا الثقافية، التي يعتبر كلود ليفي شتراوس أبرز دعاتها، مهما يكن فإن هذا النوع من الدراسات المجتمعية حرض العديد من الدراسات لقراءة المجتمع العربي وفق هذا المنظور الانتربولوجي، معتبرين أن هذا النوع من الدراسات يدخل إلى عمق المجتمعات العربية وخصوصياتها إضافة إلى أنه يهتم بالبنى العميقة وليست السطحية التي غالباً ما تكون نتاج التحولات الطويلة الأمد وليست خاضعة للمتغيرات الآنية والسياسية، هذا المدخل المنهجي هو الذي حرض هشام شرابي على دراساته لإشكالية تخلف المجتمع العربي على أنها أزمة تكمن في بنيته الأبوية (البطريركية) الكامنة في المجتمع العربي، وقد كان شرابي الأكثر بروزاً في هذا النوع من الدراسات.

يهدف شرابي من دراساته هذه إلى الكشف عن أسباب التخلف العربي وكيفية تجاوز هذا التخلف والتغلب عليه، والتخلف هنا ليس تخلفاً اقتصادياً أو إدارياً أو إنمائياً، بل إنه كامن في أعماق المجتمع العربي لا يغيب لحظة واحدة، بل إنه يقبله ويتعايش معه كما يتقبل الموت مصيراً، ويتخذ هذا التخلف صفتين مترابطتين هما: اللاعقلانية والعجز، الأولى تتجلى في عدم القدرة على التدبير أو الممارسة، والثانية في عجزه عن التوصل إلى الأهداف التي يرنو إليها.

وبالتالي فمصير المجتمع العربي إنما يتوقف على مقدرته في التغلب على نظامه الأبوي واستبداله بمجتمع حديث، فما الذي كان يعنيه شرابي بالنظام الأبوي في المجتمع العربي، يظهر هذا النظام في البنى السياسية والاجتماعية والنفسية، ويقوم حجر الأساس فيه على استعباد المرأة ونفي وجودها الاجتماعي، ذلك أنه مجتمع ذكوري تسكن فيه الذهنية الأبوية ذات النزعة السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوباً لفرض سيطرتها، ولذلك فإذا أراد المجتمع العربي أن يبقى ويستمر فلا بد من تغييره تغييراً جذرياً شاملاً، عن طريق رؤيةٍ بعيدة المدى ونوعٍ من الممارسة الجماعية التي يجب أن تؤدي إلى إزاحة الأب رمزاً وسلطة وتنتهي بتحرير المرأة قولاً وفعلاً.

غير أن شرابي لم يكن يبني مفهومه عن النظام الأبوي في المجتمع العربي كما ساد في المجتمعات الغربية ويعمد الى تطبيقه في العالم العربي، إذ إنه يلحظ أن هناك بعداً آخر ضمن هذا النظام قد حدث في المجتمعات العربية هو التحديث الذي نتج عن الاحتكاك بالحداثة الأوروبية، مما جعل المجتمعات العربية مجتمعات هجينة لا تنتمي إلى النظام الأبوي التقليدي ولم تدخل بعد عصر الحداثة، لذلك لا يمكن قراءة المجتمع الأبوي العربي إلا وفق رؤية التبعية والأبوية، فالتبعية هي العلاقة التي نجمت عن سيطرة أوروبا الحديثة على العالم العربي، حيث أن الرأسمالية الأوربية التي تغلغلت في البلدان العربية أدت إلى نشوء رأسمالية تبعية ومزيفة، وحالت دون ظهور طبقة برجوازية ناضجة، وطبقة عاملة أصيلة، وعليه فإن "النظام الأبوي المستحدث" كان في نظره، حصيلة اقتران الإمبريالية بالأبوية.

ولذلك كان شرابي على خلاف في نظريته عن الأبوية في المجتمع العربي عن نظرية نمط الإنتاج الآسيوي في الدراسات الماركسية أو فكرة الاستبداد الشرقي في الدراسات الاستشراقية، فقد كان يعالج الأبوية العربية انطلاقاً من تصور محدد لكلية نفسانية؟اجتماعية نقع عليها في بنى اجتماعية ونفسية، وتنطوي هذه الكلية على سلم قيم وممارسات اجتماعية تنتمي إلى اقتصاد وثقافة واضحة المعالم وهذه البنى موجودة في جميع المجتمعات الأبوية العربية بغض النظر عن اختلافها في المظهر إلا أنها تتقاسم البنى العميقة نفسها، وقد تسلسلت حقبات الأبوية العربية الإسلامية بدءاً من العصر الجاهلي فعصر الخلفاء الراشدين وانتهاءً إلى عصر السلطة العثمانية. ثم تمظهرت الأبوية المستحدثة في العصر الحديث حيث نلحظ بنى بدوية وتقليدية وسابقة على الحديثة وحديثة، وهكذا فالأبوية المستحدثة قد ترسخت في المجتمع العربي عبر حقبٍ طويلة الأمد وأعادت إنتاج خطابها التحديثي في العصر الحديث عن طريق اللغة والأدب، إلا أن مضمون هذا الخطاب بقي فكراً مجرداً وطوباوياً، يعمل على تثبيت أسس النظام القائم أكثر مما يهدف إلى نقد بنيته السياسية والعقائدية، وعليه فقد بقي هذا الخطاب مقموعاً في وجه الخطاب الديني التقليدي ولم يحدث أثراً في المجتمعات العربية التقليدية.

إلا أن الحقبة المعاصرة عملت على إنتاج نقدٍ جديدٍ تمكن من النفاذ عميقاً إلى جوهر الخطاب الأبوي المستحدث من أجل تغييره جذرياً والكشف عن التقاليد والعادات والطقوس التي يفرضها المجتمع على أنها قيم وفرضيات كمسألة الجنس ودور المرأة والسلطة السياسية والكبت الجنسي. لقد راهن شرابي على أن النقد الجديد سيتمكن من تغيير الوعي السياسي تمهيداً لحدوث الثورة السياسية، وهو بذلك تفاءل بحتمية النصر للقوى الديمقراطية العلمانية والاشتراكية والإنسانية العادلة، مما جعله يسقط في إجابته عن السؤال الملح (ما العمل؟) إلى نوعٍ من الخطابية ورفع الشعارات "التقدمية" وإلى تبني حلول لا تنتمي إلى نفس البدايات المنهجية التي انطلق منها. لقد أحسن شرابي بكل تأكيد في تشخيص الأزمة في البنية الأبوية العربية القائمة على التسلط والتراتبية الفوقية، التي تبدأ من الأسرة وتنتهي في رأس الهرم للسلطة السياسية، إذ هي تقوم على الهيمنة الأبوية (البطريركية).

ورغم أن شرابي يبدو في بعض تحليلاته ماركسياً إلا أنه لا يبدو ماركسياً أرثوذكسياً، لا سيما حين يحاول الخروج عن الترسيمات والوصفات الماركسية الجاهزة، فهو يصر على قراءة التراتب الاجتماعي في الوطن العربي على أساسٍ طبقي، إذ يرى أن الطبقة البرجوازية الصغيرة التي تشكلت في البلاد العربية على إثر التحرر من الاستعمار عمدت إلى الاستيلاء على السلطة ولم تتمكن ­ على الإطلاق ­ من تنفيذ المهام الملقاة على كاهل كلٍ من البرجوازية (أي التنمية الاقتصادية الرأسمالية) والبروليتاريا (التحول الاجتماعي الثوري). ثم عرّى حكم الطبقة البرجوازية الصغيرة هاتين الطبقتين اللتين أعاقت التبعية والإمبريالية نضجهما ثم حجمتهما، وساهم هذا الحكم أيضاً في انتشار نوع من الخلخلة أحدث انشقاقاً طبقياً حاداً بين النخبة البرجوازية الصغيرة الجديدة في مواقع السلطة في الأنظمة "التقدمية" والجماهير البرجوازية الصغيرة البروليتارية الآخذة في الحرمان والاغتراب بوتيرة متسارعة، ونتج عن هذا الانشقاق تحول عقائدي تجسد في انتشار أصولية إسلامية مقاتلة.

تبدو دراسات شرابي بعد وفاته بحاجة إلى مزيد من النقد والتمحيص، سيما وأنها أخذت منحىً جديداً ومبدعاً في قراءة أزمة "التخلف" التي عاشها ويعيشها المجتمع العربي.

...................................................................................

المصادر/

1-  د. عادل الثامري  / موقع دروب

 2- د. عبد الرزاق عيد /  موقع الاوان

 3-  أثير محمد شهاب/ موقع شارع المتنبي

 4- محسن أبو رمضان / موقع المبادرة

 5- نوار جلاحج / مركز الاخبار امان

 6- رضوان جودت زيادة / منتدى النهضة

--------------------------------------------------------------------------------

[1]- راجع كتاب جورج طرابيشي (شرق وغرب رجولة وأنوثة)- دار الطليعة –بيروت -1977 .

[2]- في الجزء الثالث من رواية " مدن الملح " الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1989 .

[3]- فريديرك انجلس – أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة – ترجمة أديب يوسف – منشورات دار الفارابي ودار الكتاب العربي – بيروت 1958 – ص 95 .

[4]- المصدر نفسه – ص 96 .

[5]- المصدر نفسه – ص 115 .

[6]- كلود ليفي ستروس، الفكر البري - ترجمة نظير جاهل- المؤسسة الجامعية للدراسات – بيروت 1984 – ص 162 .

لعل متح الحداثة الشعرية من مناجم الأسطورة، هي التي تكمن وراء تللك الصور الحسية الغريزية البدائية الشرسة التي تعبر عنها الصورة الشعرية كالتي يصوغها محمد الماغوط عن شهوته للأنثى في صورة " الرغبة بأكل النساء بالملعقة ..."

[7]- راجع ميشيل فوكو – استعمال اللذات، ترجمة جورج أبي صالح – مركز الانماء القومي – بيروت 1991 – ص 151 .

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 27 تشرين الثاني/2007 - 16/ذوالقعدة/1428