حتى يغيروا (1)

قراءة في حلقات

نزار حيدر

لا يمكن ان نتصور تغييرا حقيقيا ودائما ومستقرا في العراق الجديد، قبل تغيير الذات، ولا يمكن ان نلحظ تغييرا في الذات العراقية، اذا لم تتغير الثقافة غير الصحيحة التي عشعشت في عقولنا، فتغيير الواقع يبدا من تغيير الذات، والى هذه الحقيقة تشير الآية المباركة {ان الله لا يغير ما بقوم، حتى يغير ما بانفسهم} واذا صح ما قيل من ان دفاعات السلام تبنى اولا في عقول البشر، قبل ان تتحول الى معاهدة سلام بين المتحاربين، فان اساسات تغيير الواقع، كذلك، تبنى اولا في عقول الناس من خلال التغيير الثقافي اولا، لماذا؟ لأن الواقع انعكاس لما يفكر فيه العقل، وان المصداق الخارجي لأي حدث او حادثة، هو تطبيق عملي لما يدور في خلد الانسان وعقله، والذي يرسمه ويخطط له الثقافة التي تحدد ملامح طريقة التفكير وقبل ذلك وعي الحالة واستيعاب الامور.

نحن، اذن، بحاجة اولا الى تغيير الذات والذي يبدا من تغيير الثقافة.

 فما هي الثقافة التي نحتاجها لبناء العراق الجديد، القائم على اساس الحرية والعدل والمساواة والتداول السلمي للسلطة؟.

اعتقد اننا بحاجة الى منظومة الثقافة التالية؛

اولا: ثقافة الحياة

 لقد ورث العراقيون من النظام البائد ثقافة الموت، فبعد ان قضت عدة اجيال من العراقيين، وبعشرات المواليد، نحبها في عدد من الحروب العبثية، باتت ثقافة الموت تخيم على رؤوسنا وكانها القدر المحتوم الذي لا مفر منه.

 وما زاد الطين بلة، كما يقول المثل المعروف، توافد ثقافة الانتحار الى العراق، والتي صدرتها للعراقيين مجموعات العنف والارهاب، فبات الموت ارخص الاشياء في العراق، وبات القتل والنسف والاغتيال والتفجير افضل الهوايات.

 ترى، كيف يمكن ان نبني عراقا جديدا اذا كانت ثقافة الموت هي الحاكمة في عقول الناس؟ وكيف يمكن ان نغير واقعنا المزري اذا كانت ثقافة الموت هي الآمر الناهي في حياة العراقيين؟.

 يجب، اذن، ان نغير هذه الثقافة الى ثقافة الحياة، من خلال معرفة ان الله تعالى خلق الانسان ليحيا وليعيش في هذه الحياة وليعمرها على احسن وجه، فهو تعالى لم يخلقه ليموت، ولو كان هدف الخلق الموت، لجاز الانتحار وطلب الموت بارخص الاثمان، بل ان الله تعالى عندما خلق الانسان وفر له كل الادوات واللوازم من اجل ان يحيا احسن حياة وبكامل السعادة، شريطة ان يلتزم بما امره به الله عز وجل، والى هذا المعنى تشير الآية الكريمة{وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءا غدقا}.

 ولان الله تعالى خلق الانسان ليحيا، لذلك جعل الدنيا مزرعة الاخرة، كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (ص) ولقد سئل الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، عن اي الامرين سيختار اذا ما خير بين يوم في الدنيا وآخر في الاخرة؟ فاجاب بانه سيختار يوم في الدنيا على اعوام في الاخرة، لماذا يا امير المؤمنين؟ قال؛ لان يوم في الدنيا اعمل فيه صالحا، سيمنحني حياة خالدة في الاخرة، ثم تلا حديث الرسول الكريم الوارد الذكر.

   كعراقيين، علينا ان نتعلم كيف نعيش ، اما الموت فلسنا بحاجة الى ان نتعلم طريقه وطريقته، فسيأتينا رغما عن انوفنا، انما المهم ان نتعلم كيف نعيش حياتنا وهي الفرصة الوحيدة التي يمنحها الله تعالى عادة لكل واحد منا، فاللحظة التي تمر علينا لا يمكن ان تعوض ابدا أو تعود، والى هذا المعنى اشار قول الشاعر؛

 دقات قلب المرء قائلة له          ان الحياة دقائق وثوان

   واذا كانت هذه هي حقيقة الحياة، واذا كانت الحياة دقائق وثوان واذا كانت الحياة فرصتنا الوحيدة، واذا كانت الحياة قنطرة المرء الى الاخرة، وهي المزرعة التي نزرع فيها ليوم الحصاد الاكبر، فلماذا لا نستغلها على احسن وجه ونوظف لحظاتها من اجل انجاز اعظم ما نقدر عليه من الاعمال الصالحة؟ ولماذا نسوف في الزمن ونبذر في الفرصة ونستهلك العمر، الذي يتشكل من مجموع الثواني، بالقيل والقال والكلام الذي لا يغني ولا يسمن من جوع؟.

   علينا ان نتعلم كيف نعيش، لنتعلم كيف ننجز اعظم الامور باقصر زمن وباقل التكاليف والتضحيات، لان الحياة فرصة والفرصة غصة وهي تمر مر السحاب كما يقول امير المؤمنين الامام علي عليه السلام، ولنتذكر دائما بان الله تعالى سائلنا عن عمرنا فيما صرفناه وكيف وما الذي حققناه في هذه الفرصة الوحيدة، والى ذلك يشير قول رسول الله (ص) {لا تزول قدما عبد حتى يسال عن اربع، عن عمره فيما افناه، وعن علمه ما فعل به، وعن ماله من اين اكتسبه وفيما انفقه، وعن جسمه فيما ابلاه}.

   علينا، كعراقيين ان لا نصغ الى من يعلمنا كيف نموت، وان لا نسير خلف من يقودنا الى حتوفنا، وعلينا ان لا نستمع الى نصائح واقوال من يريد بنا سوءا، من خلال قتل الاطفال وتفجير اليافعين وهم في ريعان الشباب، بل علينا ان نزاحم العلماء والفقهاء والمثقفين والمتنورين الذين يعلموننا كيف نحيا بعز وكرامة وشهامة وانسانية، فنصغ الى نداء الحياة قبل ان نصغ الى نداء الموت، ونستمع الى صرخة البناء قبل ان نصغ الى هراء الهدم.

   اننا مسؤولون عن الامانة التي قبلنا ان نتحمل مسؤوليتها، لا زلنا في هذه الحياة الدنيا، اما اذا متنا فلسنا مسؤولون عن شئ، كما اننا نقدر على ان نستفيد من النهج الذي بعثه لنا رب العزة مع انبيائه ورسله، والطريق الذي رسمه لنا في القرآن الكريم، لا زلنا احياء نمشي على وجه هذه البسيطة، اما اذا مات احدنا فستسقط عنه كل الواجبات وسوف لن يكون ملزما باي شئ، وكل هذا دليل على ان الله تعالى خلق البشر ليحيا لا ليموت، والا فلماذا خلقه اذن؟ ولماذا بعث له الرسل والانبياء والمناهج والرسالات؟ اوليس من اجل ان يحيا الحياة التي تمناها له ربه عز وجل؟ وهو الذي خلقه خليفة في الارض ليعمرها؟.

   لنقرا القرآن الكريم وسيرة رسول الله (ص) وحياة الائمة من اهل بيت رسول الله عليه وعليهم افضل الصلاة والسلام، لنتعلم كيف نحيا حياة طيبة، وكيف نعيش العمر الذي كتبه لنا رب العزة والجلال، واذا كان هناك من يتصور بان الانسان خلق ليموت قبل ان يؤدي دوره ورسالته ومهامه التي وكل بها من قبل خالقه جل وعلا، فليذهب هو الى الموت وليدع العراقيين يعيشون حياتهم الكريمة، حياة السعادة والامن والاستقرار والطمأنينة والتقدم والرخاء، فلماذا يتصور البعض بان الله تعالى كتب للاخرين الحياة وللعراقيين الموت؟ ايجوز ذلك على الله تعالى وهو العادل والحكيم والقدير الذي لا يعجزه شيئا؟.

   ان على العراقيين ان ينتبهوا الى حالهم فلا يبيعوا حياتهم بدنيا غيرهم، كفاهم شعارات براقة وكاذبة كانت ولا تزال السبب المباشر لموتهم بالجملة ودمارهم وفنائهم لحساب حياة الدعة والترف لآخرين لا يستحقون ان يضحي احد من اجلهم، كفاهم شعارات اليمين واليسار والقومية، فان للبيت رب يحميه، وليتعلموا ثقافة الحياة فيتشبعوا بها، وليختاروا الحياة على الموت، ليس خوفا من الموت، فهو حق لابد من ان نتذوقه ان عاجلا ام آجلا، وانما من اجل ان نزرع اكبر مساحة من الحياة، لنحصد اعظم ما يمكننا حصاده يوم القيامة.

   ان على العراقيين ان يتعلموا كيف يحيون من اجل انفسهم، فلا يضحوا من اجل الاخرين الذين يريدونهم كالبقرة الحلوب، ولقد اثبتت الايام والتجارب ان من ضحى من اجلهم العراقيون ظلوا يتفرجون عليهم في اشد ايام المحنة، من دون ان يمدوا لهم يد العون والمساعدة، بل ان كثيرا منهم ساعدوا الارهابيين على قتلهم وتدميرهم.

   علينا، كعراقيين، ان نتشبع بثقافة الحياة من اجل خير انفسنا وبلدنا، فنفكر كيف نستفيد من خيرات بلادنا لانفسنا وليس من اجل الغير، فالعراق للعراقيين فقط لا غير.

   ان الناجحين هم الذين يحبون الحياة من اجل مواصلة نجاحاتهم، اما الفاشلون فهم الذين يبحثون عن طرق الموت والانتحار، ليغطوا على فشلهم، ارايتم فلاحا ناجحا شاطرا، يحب ان تموت ارضه، فلا ياتي يوم حصادها بالخير الوفير على نفسه وعلى اهله، ام رايتم طالبا شاطرا ومتفوقا يحب ان تهدم مدرسته او لا ياتي يوم الامتحان ليثبت فيه تفوقه وشطارته على اقرانه من زملائه الطلبة الاخرين؟.

   لقد اوصانا رسول الله (ص) خيرا عندما قال {ان قامت الساعة وفي يد احدكم الفسيلة فان استطاع ان لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها} فماذا اراد الرسول الكريم بهذا مثلا؟ انه اراد ان يعلمنا حب الحياة حتى آخر لحظة من عمرنا، فبالرغم من ان غرس الفسيلة في آخر لحظة قبل قيام الساعة لا ينفع المرء شيئا في الحياة، وكلنا يعلم بان الفسيلة بحاجة الى مدة لا تقل عن سبع سنوات قبل ان تثمر، الا انها تنفعه في الحياة الاخرى لانها ستشهد له يوم القيامة عند ربها عز وجل كون هذا الانسان الذي غرسها حاول ان يهبها الحياة، بغض النظر عن نجاحه بذلك من عدمه، لكن المهم انه حاول وكان صادقا في محاولته.

ثانيا: ثقافة التعايش

   لقد شاء الله تعالى ان نعيش، نحن العراقيون، في بلد متنوع ومتعدد في كل شئ، في الاجناس والاعراق والاديان والمذاهب والافكار والاحزاب والسياسات والثقافات والمناخ والطبيعة والتاريخ والحضارات، وفي كل شئ، ولذلك، فاذا اردنا ان نعيد بناء العراق الجديد على اسس صحيحة، علينا ان نتشبع بثقافة التعايش التي تقوم على اساس الاعتراف بهذا التنوع وعدم السعي او بذل اي جهد لالغائه او تجاوزه او عدم الاعتناء به.

   العراقيون بحاجة الى ثقافة التعايش مع الذات ومع اعضاء العائلة الواحدة ومع الجيران ومع ابناء المحلة ومع اهل القرية والناحية والمدينة ومع ابناء الوطن الواحد، لان كل واحدة من هذه الاجزاء والوحدات الادارية والجغرافية يحمل التنوع بكل اشكاله او على الاقل بشكل او شكلين منه، اوليس في العراق هنالك عوائل كل واحدة منها فيها تنوع ديني او مذهبي او سياسي او حزبي، فكم من عائلة في العراق فيها الابناء منقسمو الولاءات الفكرية والسياسية، فهذا اسلامي والاخر شيوعي والثالث قومي؟ واخرى فيها الاب شيعي والام سنية او بالعكس، او ان الاب مسلم والام مسيحية، او ان الام كردية والاب عربيا او تركمانيا، وهكذا؟.

   ان هذا التنوع لا يمكن ان يكون مصدر قوة واستقرار وتكامل ما لم تكن الثقافة التي تحكمنا هي ثقافة التعايش، فبالتعايش نحيا بسلام، وبالتعايش نستقر وبه نتقدم ونتحاور ونتزاوج ونتكاثر ونتعاون، فلندع ثقافة الاقصاء والتمايز على اساس العرق او الدين والمذهب جانبا، ولننس ثقافة الفوقية ونظرية شعب الله المختار او الحزب الاوحد او الفكر الشمولي التي ورثناها من النظام البائد، جانبا، من اجل ان نتعايش ونتحاور فاذا اختلفنا ندع العقل هو الذي يحكم على صحة او خطأ اي من الطرفين المتحاورين، او ان يكون خيار الشعب هو القول الفصل، واذا اتفقنا على امر في ظل التنوع فلنقرر التعاون من اجل انجاز المهمة.

   كذلك فاننا بحاجة الى ثقافة التعايش مع الطبيعة ومع الكون، فالله تعالى الذي خلق كل شئ من اجل الانسان كما في قوله عز وجل{وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بامره وسخر لكم الانهار} وفي قوله {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار} وفي قوله {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره} وفي قوله {وهو الذي سخر البحر لتاكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} وفي قوله {الم تر ان الله سخر لكم ما في الارض والفلك تجري في البحر بامره} وفي قوله {الم تروا ان الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض واسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} انما من اجل ان يستغل الانسان كل هذه النعم المسخرة له من اجل حياة افضل، ومن اجل ان يعيش بسعادة وبحبوحة فيتمتع بالنعم ويتلذذ بفوائدها شريطة ان لا يغفل عنها وذلك من خلال الانتباه لها والتعايش معها واستيعابها وهضم فلسفة خلقها من قبل الله عز وجل.

   ان التعايش مع الطبيعة يعني ان نفجر طاقاتها ونوظف فوائدها سواء تلك التي في البر او في البحر او في السماء، اما القطيعة او التغافل عن الطبيعة، فسيخسر الانسان بسببه الكثير من النعم التي اودعها الله تعالى فيها.

   ان في العراق الكثير الكثير جدا مما خلق الله تعالى وسخره للانسان، الا ان ما يؤسف له حقا هو ان العراقيين غافلون عما اودعه الله تعالى في الطبيعة من حولهم، ولذلك تراهم يعيشون العوز والحاجة والتخلف الاقتصادي والمرض والامية، بالرغم من كل النعم والخيرات التي وهبها لهم رب العزة والجلال، لماذا؟ لانهم غفلوا عن الطبيعة ولم يقرروا التعايش معها، وهذا خطا كبير لا بد لهم من ان ينتبهوا اليه، ليسخروا ما خلق الله تعالى من اجل تحقيق حياة افضل لهم وللاجيال القادمة.

   يتبع....

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 14 تشرين الثاني/2007 - 3/ذوالقعدة/1428