علاقة المرجعية الدينية بالعملية السياسية بالعراق من الخاسر فيها

نصير النعماني

 المرجعية الدينية لفظة يصرفها الذهن اليا الى القيادة الدينية للطائفة الشيعية بشقيها الاخباري والاصولي وهي مسندة الى الى لفظة مرجع المشتقة من الفعل رجع حيث يرجع الناس في امور دينهم اليه كونه الزعيم الروحي العالم بالشريعة والقادر على استنباط احكامها من مضانها المقررة في علم الاصول.

 والمرجع عند الامامية الفرقة الاكبر في الطائفة الشيعية متعدد غير منحصر بواحد من المجتهدين الذين تشترط فيهم مجموعة شرائط في مقدمتها ان يكون مجتهدا مطلقا عادلا  لكن الزعامة غالبا ما تكون لاعلم المراجع والذي تحدد اعلميته من اهل الخبرة، والمرجعية الشيعية تتسم بعدة خصائص تميزت بها عن المرجعيات في الساحة الإسلامية بشكل عام، أُشير إلى بعض هذه الخصائص.

 الخصيصة الأولى الاستقلالية، فالمرجعية الشيعية لا يُعيّنها نظام و لا تُنصبها حكومة وإنما تُختار من قِبَل الشعب عن طريق أهل الخبرة من العلماء والفضلاء، هم يُرشحون للناس المرجع الذي يقلدونه ويرجعون إليه وبالتالي فهي مستقلة لا تُنصب من جهة معينة وإنما تنبثق من اختيار الناس عن طريق الخبراء العارفين بالشريعة وبعلومها هذه ميزة.

 الميزة الثانية للمرجعية الشيعية الرُّقِي العلمي والالتزام الأخلاقي ولا نقصد بذلك أن نُقلل من قيمة المرجعيات والعلماء في بقية المذاهب الإسلامية ولكن لأن الشيعة يشترطون في المرجع الذي يُقلّدونه أن يكون هو الأعلم وخاصة في هذا العصر، لذلك فإن المرجع الذي يرجعون إليه يكون متفوقا ومتقدما في مستواه العلمي.

 وأيضا السمة الثالثة أن المرجعية الشيعية لها تأثير كبير على جمهورها يتعدى تأثير العلماء في المذاهب الأخرى وهذه المِيَز أصبحت واضحة وجلية وعن هذه الميزة يقول و الدكتور الشيخ محمد النجيمي وهو شخصية علمية دينية لامعة في السعودية، قال في حديث لجريدة الشرق الأوسط وهو يشير إلى بعض هذه الميزات، قال لا شك أنه بالنسبة للشيعة نجد عندهم مراجع دينية معتمدة ومحددة ولا أعتقد أن لديهم إشكالات كبيرة في هذه النقطة، لكن الإشكالية عندنا نحن أهل السُنَّة لأن مراجعنا الدينية تُعين من قبل الحكام وهنا تأتي المشكلة وأنا أقول هنا أنه ينبغي أن تكون المؤسسات الدينية ذات المرجعية الدينية بعيدة عن السلطة السياسية وأن يُوكل اختيارها إلى العلماء والفقهاء لأنهم لن يختاروا إلا من هو معتدل ومن هو على مستوى من العلم والثقافة، فتعيين مثل هذه المراجع ولا زال الكلام للدكتور النجيمي من قِبل الحكام يُحدث عادة عدم ثقة بهذه المراجع من قبل جماهير المسلمين ولهذا نلاحظ أن مراجع الشيعة تعد معتبرة عند العوام منهم، إذا تحدثت يُسمع لها، كونها غير معينة هذا الكلام  للدكتور النجيمي وهو خبير في مجمع الفقه الإسلامي.

  وتعرف عملية الرجوع بالفروع الى المرجع بالتقليد وظلت هذه المرجعية طيلة عمرها الذي ابتدا  عمليا بشكلها المعاصر بعد الغيبة الكبرى للامام الثاني عشر عند الشيعة الامامية  مستقلة عن السلطة بل في احيان كثيرة تعتبر في صف المعارضة لها الميزة الاخرى والتي تكاد تنفرد بها  هي وجود المورد المالي الضخم المتاتي من الحقوق الشرعية وخصوصا الخمس  الذي مكنها من ادارة شؤونها وشؤون طلبة العلم باستقلالية دون الخضوع لمشيئة الحاكم وبعيدا عن ابتزازه وشروطه واذا كانت المرجعية الشيعية طيلة عقود طويلة تختص بالشؤون الدينية وتعمل وفق نظرية التقية والانتظار فان النصف الاول من القرن الثالث عشر شهد نقلة نوعية في الفكر المرجعي الشيعي تجلت بتجاوز نظرية الانتظار ونظرية نيابة الحاكم المعروفة بالنيابة العامة التي منحها المحقق الكركي للشاه طهماسب بن اسماعيل  والتخلي عنها تماما مما دفع الشيخ احمد النراقي صاحب كتاب جامع السعادات والمتوفى سنة 1245 هجرية لتاليف كتاب ( عوائد الايام في فوائد الاحكام ) وطرح نظرية جديدة بحثها تحت عنوان جديد هو ولاية الفقيه وليس تحت عنوان النيابة العامة  القائمة على قاعدة الغيبة والانتظار حيث نظر النراقي الى واقع  الفقهاء وامكانية قيامهم بتشكيل الحكومات اللامركزية في بلاد شيعية واسعة.

 وفي الحقيقة ظلت نظرية ولاية الفقيه حبيسة النقاش الفكري طيلة سنوات طويلة ولاقت معارضة كبيرة ليومنا هذا من كثير من اكبار علماء الامامية  ولم ترى تطبيقا واقعيا الا بعهد السيد الخميني الذي تبناها وطبقها في ايران ورغم تطبيقها ظلت مثار جدل واخذ ورد بين قبول بها ورفض لها استنادا للادلة الشرعية وما استقر عليه راي العلماء نتيجة فهم كل واحد منهم لتلك الادلة وفتحت ولاية الفقيه الباب واسعا امام مجتهدي الامامية للخوض بالسياسة ولعل اواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين شهدت ادوارا سياسية هامة ومؤثرة قام بها علماء الشيعة بدا بثورة التنباك في ايران ومرورا بافغنستان عام 1880 حين سلط الانكليز علي خان حاكما عليها فراح يقتل الشيعة واستصدر حكما من وعاظ السلاطين عنده بتكفير وقتل الشيعة ففعل ما فعل فيى هراة واهلها حتى تدخل المجدد الشيرازي الكبير الذي كان موجودا في العراق ( سامراء ) وانقذ الطائفة من القتل والسبي وايضا قضية المشروطة والمستبدة.

 ولعل عام 1905 وما تلاه شهد تصاعدا فريدا في مجال الفكر السياسي الشيعي فكتاب مثل كتاب او رسالة تنبيه الامة وتنزيه الملة  للعلامة الكبير النائيني المتوفى سنة 1936 يعتبر انتقالة عصرية كبيرة في مفهوم الحكم عند الشيعة الامامية بل في عموم الفكر الاسلامي كون ان ماطرحه النائيني يختلف عن طروحات الدولة الاسلامية سواء عبر الاحكام السلطانية التي تبرر شرعية الحكم القائم او من خلال اطروحة ولاية الفقية وما جاءت به وما لحق بها من تطوير وترتيب فاطروحة النائيني تختلف عن اجتهادات من سبقه من علماء الامامية الذين كانوا يناقشون القضية داخل اطار شرعية تولي الفقيه للسلطة بينما النائيني يخرج الى الاطار الدستوري المدني لبناء الدولة لقد كانت هذه الفترة فترة نضوج المشروع السياسي الحوزوي عند الشيعة وتجلت اعلى مراحله خلال ثورة العراق الكبري سنة 1920 والتي قادها المرجع الكبير محمد تقي الشيرازي الذي اصدر فتواه الشهيرة والتي حركت العراق واشعلت الثورة بوجه الانكليز وساهم في المعارك رجال الدين والعلماء ولعل اسم السيد محمد سعيد الحبوبي الذي اصيب في احد المعارك واستشهد نتيجة اصابته تشكل العنوان الكبير لمدى المشاركة المرجعية في هذه الثورة التي غيرت توجهات السياسية البريطانية في العراق.

 لقد كتب الكثيرون عن موقف المرجعية من الانكليز واعتبروا ان موقف العداء الذي اتخذته المرجعية من الانكليز ورفضها التعاون في تشكيل الحكومة او الدخول في المجلس التاسيسي مما يعتبره الكثيرون وانا منهم انه خطأ استراتيجي ارتكبته المرجعية بحق الطائفة حيث اثرت المصلحة العليا للاسلام على مصلحة الطائفة وقدمت الكثير من الضحايا في محاربة الانكليز ووقفت مع الاتراك الذين مارسوا اشد انواع الاضطهاد ضد الشيعة طيلة حكمهم للعراق والذي استمر لاربعمائة عاما كونهم مسلمين وانه لايجوز نصرة الكافر على المسلم هذه الاخلاقية والالتزام الديني كان غائبا عن الطرف الاخر الاقلية التي استثمرت كل عوامل الخلاف بين الشيعة والانكليز بطريقة ميكافيلية اسفرت عن استئثار طائفي عقيم بالحكم نتيجة اتفاق النقيب برسي كوكس الذي ظل الشيعة وهم اغلبية السكان يدفعون ثمنه اضطهادا واقصاءا وتمييزا طائفيا مقيتا  ويوم سقطت تلك المعادلة صار ثمنها دماء عشرات الالاف من الابرياء قبل الحرب الامريكية الاخيرة التي نجم عنها احتلال العراق كان للمرجعية الدينية موقف رافض للاحتلال مثلته فتاوى المرجعية.

 وعندما حدث ماحدث بعد 9 / 4 / 2003 وانهيار الدولة تعاملت المرجعية الدينية بواقعية لسد فراغ الحكومة ولمعالجة الامور  وقد فعلت كل ذلك بروح متسامحة حضارية وقد تناست كل تلك العقود من الاضطهاد والممارسة الطائفية لمؤسسات الحكم القائمة وانطلقت نحو مشروع وطني حقيقي يقوم على اساس وحدة المجتمع ووحدة المصير فقد نقل لي احد زعماء القبائل العراقية انه التقى سماحة الامام السيستاني ليطرح علية قضية قتل وتهجير ابناء من قبيلته وهم من الشيعة القاطنين في منطقة ذات اغلبية سنية يقول هذا الشيخ انه حين قلت له السنة في المنطقة الفلانية فعلوا كذا وكذا يقول انتفض سماحة السيد وقال لااقبل ان تقولوا سنة وشيعة فانتم واحد هذا الموقف لم يكن للاعلام لانه كان في لقاء خاص وحول قضية مهمة وهنا يتبين صدق شعارات الوحدة التي ترفعها المرجعية الدينية  أن الذي يميز زعامة التشيع على طول التاريخ هو حضارية الفكر والممارسة والموقف, إذ ليس في فكر التشيع لأهل بيت رسول الله عليهم السلام ما يدعو إلى إبادة الإنسان وإقصاءه , لانتهاجهم النهج الحضاري السليم لأهل البيت الذين ما كانوا دمويين ولا عنيفين حتى مع ألد أعدائهم.

 لقد تبنت المرجعية الدينية موقفا سياسا متوازنا وسعت لتحقيق اهداف الشعب من خلال خطين سارا مع بعض الاول السعي الى التهدئة والثاني مطالبة الاحتلال بمطالب يؤمن بها كالانتخابات والاصرار عليها وكتابة الدستور مما سلب المحتلين هامش المناورة الذي كانوا يتحركون من خلاله ولما كانت المرجعية العليا في النجف الاشرف المتمثلة بالامام السيستاني لا تقول بولاية الفقيه ولا تسعى لاستلام سلطة كان منطقيا ان تؤول الامور الى حكومة مدنية تاتي عن طريق الانتخابات بمعنى ان الامور تهيات للحركات والاحزاب السياسية وخصوصا  الاحزاب ذات الرؤيا الاسلامية والتي سعت من اليوم الاول لسقوط النظام البعثي في العراق للالتفاف حول المرجعية والاحتماء بعبائتها وصرنا نسمع شعارات مثل الحزب الفلاني جنود المرجعية او الشخصية السياسية الفلاينية يعلن انه من جنود المرجعية والحقيقة ان الدافع لكل ذلك هو الفقر الجماهيري لهذه الاحزاب ولعدم وجود القاعدة الشعبية الواسعة لديها ودخلت هذه الاحزاب العملية السياسية بغطاء مرجعي وفازوا بالانتخابات بفضل هذا الغطاء وبفضل دعم المرجعية لها لكن السؤال هل انصفت هذه الاحزاب المرجعية الحقيقة المرة التي يعكسها الواقع العراقي.

 ان فشل قوى الائتلاف الشيعي في رسم واقع سياسي ناضج وفشل الحكومة المنبثقة عن هذا الائتلاف في تحقيق  وعودها واستمرار حالة التردي انعكس اثاره على المرجعية الدينية بشكل كبير ولازلنا نرى تقاطر الوفود الرسمية على اعلى المستويات على مكتب المرجعية العليا لاخذ الدعم ولو الاعلامي لان مايدور في اللقاءات يكون بعيدا عن الاعلام ولا يعلم احد بحقيقة مايجري ان القدسية والمكانة الرفيعة التي للمرجعية في نفوس الناس بدات تظهرعليها اثار الفشل الحكومي والفساد الاداري وهدر المال العام ويبدو ان فكرة التمسك بحكومة اثبتت فشلها براي غالبية الناس من قبل المرجعية وتوفير الدعم لها كلما بدا في الافق محاولة اسقاطها بدعوى ان التخلي عنها ياتي بمفسدة اكبر دعوى بحاجة الى مراجعة حقيقية فالخاسر الاكبر في استمرار تواجد المرجعية في تفاصيل العملية السياسية وتوفير الملاذ الامن  لرموز الفشل في العملية السياسة  و استمرارها في توفير  غطاء الشرعية لحكومة عاجزة عن  اداء عملها بصورة مرضية هو خسارة للمرجعية الدينية التي تعتبر طوق نجاة الامة  وليس بخسارة .

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 23 أيلول/2007 -10/رمضان/1428