تعارف الحضارات وتقابسها

صادق جواد سليمان

 في الأعوام الأخيرة، منذ أن نشر صاميوءل هنتنجتون، أستاذ دراسات الحكم بجامعة هارفرد مقاله الجذري "صدام الحضارات" في مجلة الشؤون الخارجية عام 1993، راجت أطروحة تقول أن طبيعة الصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة ستتحول من صراع ما بين دول إلى صراع ما بين حضارات.  بتعبير آخر، الحضارات، أكانت أوحادية الدولة، كما الصين أو الهند، أو متعددة الدول، كما الحضارة الغربية أو الحضارة الإسلامية، هي التي ستكون أطراف الصراع في النزاعات العالمية القادمة.  منذئذ مال كثير من الناس لقراءة مظاهر التأزم الراهن، وربما المتفاقم أيضا، بين الغرب والعالم الإسلامي، كمظاهر صراع محتد بين الحضارتين الغربية والإسلامية.

في نسق مضاد تماما لهذه الأطروحة - أطروحة "صدام الحضارات" - أزعم أن، تاريخيا، ما لوحظ في طبيعة الحضارات أنها تتصادم، بل لوحظ أنها، حيثما تتقابل، تتعارف وتتقابس.  آية ذلك أننا نجد في كل حضارة أثرا واضحا وحميدا لمعارف وإبداعات اقتبستها من حضارة أخرى.  مثلا، في الحضارة الغربية، في تدرجها نحو عصر التنوير (القرنين السابع عشر والثامن عشر)، نجد علما تأصيليا مقتبسا من الحضارة الإسلامية، والتي، بدورها، نراها اقتبست من حضارات أخرى، كحضارات الإغريق وفارس والهند، قبل أن تطور فتقدم محصولها  المعرفي للغرب.

من جانب آخر، تاريخيا، نرى صدامات حدثت مكررا ما بين إمبراطوريات، ما بين دول، ما بين أديان حين حرفت مقاصد الأديان، وعلى نحو أكثر تكرارا، ضمن كل من هذه الأطر، عبر خطوط صدع إيديولوجي،  سياسي، اقتصادي،  عرقي، أو طائفي.  في المعتاد نرى الصدامات حدثت حيثما وهن الوازع الخلقي، طفح الجشع، طغى التهور، واستقوت نزعة العدوان، أو أعمى الناس غرور وطني كاذب أو غلو عقيدي.  هنالك حيث ضعف الحس الحضاري نبذ المتخاصمون العقل، تحدوا الحكمة، وانساقوا وراء محض انفعال، فلجئوا للاقتتال.  بذلك هم أضروا بأنفسهم، واستتباعا، أضروا بالإنسانية جمعاء.

تلك قناعتي ومنها سأحاول التدليل – خلاف أطروحة "صدام الحضارات" -  على التدافع الإيجابي الذي يحصل لدى تلاقي الحضارات.  بوجه خاص، سأستشهد بالقفزة المعرفية الكبرى التي حصلت في خيرة المسلمين جراء تلاقي الإسلام مع حضارات معاصرة وأخرى سابقة.  من العصر الذهبي الإسلامي ذاك، والذي امتد قرابة خمسة قرون، تلقى الغرب معارف انتشلته من ركود جاهلي إلى إفاقة سرعان ما دفعته إلى موقع الصدارة المعرفية التي لا تزال له في عالم اليوم.

كيف حصل ذلك؟

في السجل البشري طالما نرى انطلاق تحولات عظمي من بدايات صغرى لم تكن تنبئ في وقتها بما سيكون لها من تأثير على وضع الإنسان في مستقبل الدهر.  ما كل البدايات في النشاط البشري، وهي تحصل جمة ومتنوعة كل حين، بل ولا معظمها، تستمر فتثمر.  لكن الجديرة حقا منها تلقى دعما من السنن الكونية التي شاء الله لها أن تسند كل عمل إنساني جدير، بل أن تضاعف من عطاء صالح العمل، وأن تعمم نفعه على البشرية جمعاء.  نعم، قد تبدو البذرة ضئيلة أمام الشجرة المثمرة التي نشأت منها، وقد يبدو القبس خافتا تحت الأنوار المبهرة التي تولدت منه، لكن لا الشجرة ولا الأنوار كانت لتثمر وتشع لو لم تكن هناك البذرة والقبس بادئ الأمر.

بذلك أقصد أن الثورة العلمية في الغرب لم تنشأ من فراغ، ولا حصلت فجأة من دون تمهيد.  ما مهد لها تحديدا وبشكل مباشر هي إنجازات حضارة سبقتها ووفرت لها ما كانت قد طورت ذاتيا من علوم.  تلك كانت الحضارة الإسلامية التي اقتبس منها أهل الغرب اقتباسا واسعا، بالأخص إبان عهد الأندلس.  كانت تلك في أوروبا عموما فترة كالحة لا ينشأ فيها من الداخل ولا يدخلها من الخارج بصيص نور من أي حقل معرفي.  كانت تلك أواخر القرون الوسطى التي لا تزال مضرب المثل للتدليل على عمق ما قد تصاب به الأمم في عصور تخلفها من جدب معرفي.

ما كانت إنجازات الحضارة الإغريقية معروفة لدى الأوروبيين حتى ذلك الوقت ولا إنجازات حضارات أخرى، كفارس والهند والصين.  كانت الإصدارات العربية وحدها المنهل الذي ينهل منه الأوروبيون.  ذلك أن المسلمين سعوا لتحصيل العلم أنى لقوا مصادره: جمعوه، استوعبوه، طوروه، ابتكروا فيه، ثم مع الوقت وضعوا ثمار ما أحرزوا في متناول سائر الأمم.  ما أنجزوه أثرى الإسلام وجعله من بعد كونه دينا حضارة شامخة.  من الصين واندونيسيا والهند، عبر فارس وسورية والقوقاز، إلى إفريقيا فإسبانيا لامس الإسلام قلوب وعقول عديد من الأمم، هذب أخلاقهم، رتب أوضاعهم، أضفى بعدا روحانيا في حياتهم، وأعطاهم شعور اعتزاز بالانتماء لحضارة كبرى متواصلة عبر القارات والمحيطات.

إلى جانب المعرفة العلمية والأدبية، نقل المسلمون معهم ابتكارات عملية.  مثلا، إثر اقتباسهم مفهوم الصفر من الهند واستيعابه في رياضياتهم (الخوارزمي، بغداد، 825) نقلوا النظام العشري للغرب.  كذلك، بعد اقتباس صناعة الورق من الصين (سمرقند، 712) جلبوها إلى اسبانيا، ومنها انتشرت في أوروبا.  بعد خمسة قرون، اخترعت أوروبا مطبعة جوتنبرج، وبتزويجها بالورق، ثورت نشر المعرفة في العالم.  لكن اختراع تلك المطبعة عام 1450 لم يأت من فراغ.  لقد استمدت فكرتها مما نقله الصليبيون من مصر من مهارات دبغ رسوم تجميلية على الأقمشة بقوالب خشبية بالكبس.  في عصرنا – كدليل أيضا على استمرار تقابس الحضارات بعضها من بعض – نجد ثمار الحضارة الغربية في العلوم والتكنولوجيا، كما في العلوم الإنسانية، مقتناة بترحاب ومستفادا منها في جميع حضارات هذا العصر.

في دراسة التقابس الحضاري بين الأمم يتضح جليا عظم الإنجاز المعرفي الإسلامي من حيث محتواه ومداه (يتضح) من تقيم عدد من أبرز مؤرخي الحضارات، أذكر منهم ثلاثا: دورانت، وسارتن، واليروني.  ويل دورانت، في الفصل حول الحضارة الإسلامية في مؤلفه الضخم "قصة الحضارة" يذكر أن محمد ابن النديم ضمن فهرسه المشهور "فهرست العلوم" عام 987 اسم كل كتاب صدر بالعربية حتى عصره، مع تعريف بمؤلف الكتاب أو مترجمه، وفي أيما حقل معرفي.  ثم يلاحظ دورانت بالقول: إننا نستطيع أن نقدر حجم الإنتاج الإسلامي في عصر ابن النديم من أن لا واحدا من ألف كتاب أدرج في فهرسه موجود بين أيدينا اليوم.  في ملاحظة أخرى يقول دورانت:  عندما سيتم مسح أدق وأشمل لهذا التراث نصف المنسي، فسوف نصنف القرن العاشر في المشرق الإسلامي كأحد العصور الذهبية في تاريخ العقل.

جورج سارتن، مؤرخ العلوم بجامعة هارفرد، في مؤلفه "مقدمة في تاريخ العلم" يكتب: من النصف الثاني للقرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر كانت العربية لغة العلم، بل لغة التقدم المعرفي على الإطلاق.  وعندما ارتقى الغرب وعيا لدرجة أن أحس بالحاجة لعلم أغزر وجه نظره ليس إلى المصادر الإغريقية بل المصادر العربية.  ما كتبه سارتن يؤيده أبو الريحان البيروني، وهو عالم ومؤرخ مسلم عاصر ذلك العهد، بقوله:  لقد كانت العلوم تدخل العربية من كل حدب وصوب، فإذا دخلتها اكتسبت جمالياتها، وعندها تغدو العلوم أكثر تشويقا لطلابنا فينكبون على تحصيلها برغبة أشد.

ماذا حصل لذلك الصرح المعرفي الثر؟

مع الأسف، كما قد حصل مرارا على الجانب المظلم من سيرة البشر، حرب عدوانية دمرت جله، قتلت ألوفا من علماء محققين وآخرين واعدين، وأتلفت ثروة غير مسبوقة من علوم مدونة حتى ذلك الحين.  جنكيز خان وأولاده، في غزو عدواني منفلت زحفوا بجيوشهم المنغولية على دار الإسلام مهلكين الحرث والنسل ومتلفين الأخضر واليابس.  مئات من مدن آهلة وحافلة بمعالم رقي ثقافي، في سورية والعراق وبلاد القوقاز وفارس، ولكن غير معدة لصد عدوان خارجي، سقطت ضحايا هجمة المنغول.  ثم في 13 فبراير 1258، حفيد جنكيز خان، هولاكو، وجيشه دخلوا بغداد وبدؤوا خمسا وأربعين يوما من قتل ونهب.  قرابة ثمان مئة ألف نسمة قتلوا، من بينهم ألوف من علماء وأدباء وتجار وحرفيين.  كنوز ثقافية جمة جمعت بجهد حثيث عبر قرون، زاخرة بمئات الألوف من الكتب، أتلفت خلال أسبوع.  لم يسبق، كما - قيل في حينه – أن شهدت دجلة مثل ذلك مزجا في مياهها لدم وحبر.  أخيرا، أعدم الخليفة المستعصم بالله، السابع والثلاثون من العباسيين.  بذلك انهي العهد العباسي الذي كان قد عاصر النهضة المعرفية الإسلامية، وأحيانا رعاها، على مدى خمس مئة عام.

حضارة حيوية كانت لقرون مصدر النور الوحيد في عالم قاتم أعطبت هكذا بوحشية فجة.  نهضة ثقافية علمية صاعدة في وقت كانت أوروبا تركد في جهل وعجز بترت هكذا بفعل همجي.  مع ذلك، ما سلم من تلك الحضارة من نور معرفي، وهو غيض من فيض، كان كافيا لإنارة الطريق أمام الغرب، كافيا لإخراج الغرب من ركود جاثم ودفعه لبناء حضارة ثرة جديدة أضحت معطياتها تصبغ حياة هذا العصر.     

من كان هؤلاء السعاة للعلم في العصر الذهبي الإسلامي الذين مهدت علومهم للثورة المعرفية في الغرب؟  وماذا دفعهم بمثل هذا التركيز في اتجاه اقتناء العلم؟

كانوا أفرادا من خلفيات شتى تجمعهم عالمية الإسلام وعقلانيته.  كانوا طلاب علم على الإطلاق، لا طلاب تفقه في الدين فحسب.  كانوا أعضاء جماعة مستنيرة متنوعة العرق واللسان وحتى الدين والمذهب، لكن تربطهم رؤية معرفية موحدة ولغة ثقافية واحدة، هي العربية التي يتحاورون بها ويؤلفون فيها.  ورغم البيئة التي كانوا يعيشونها ويعملون تحت أعبائها، وهي بيئة متعسفة ومرارا ما مضطربة، فإن شراحة الإسلام ورحابة العربية كانا من وراء اندفاعهم نحو العلم اندفاعا لا يحفل كثيرا بمكدرات العصر ومعوقاته.

كان العلم لديهم تكليفا حث على تحصيله الرسول الأعظم، من أيما مصدر توفر، وأعلنه فريضة على كل مسلم ومسلمة.  وتحداهم القرآن الكريم:  قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وقل هل يستوي الأعمى والبصير، أم هل تستوي الظلمات والنور.  وأعلن المصحف المنزل: من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.  لقد نعت الإغريق العلم بالفضيلة، أما المسلمون فقد رأوه نورا يهتدى به إلى فهم نظام الكون والمشيئة الإلهية السارية في سننه، إلى فهم حال الإنسان وما يرفعه إلى أحسن تقويم وما يرده إلى أسفل سافلين، وإلى استخلاص العبر من سير أمم خلت من قبل، لكي يتسع بذلك كله أفقهم المعرفي، فيرتقون في الحكمة والفضيلة ويثرون خبرة الحياة.  ما عاد التخمين لديهم أساسا صالحا لتكوين نظر صائب أو أداء عمل صحيح.  ما كان الظن لديهم  ليغني عن الحق شيئا، بل إنهم وعوا أن بعض الظن إثم.  ولقد قرؤوا في الذكر الحكيم أيضا تمجيدا للعلم لم يرد مثله في أي كتاب، سماوي أو أرضي.

لقد كان أول التنزيل أمرا بالقراءة، وعلى القراءة أقبلوا بشغف.  من جانب أرسو للعربية قواعد محكمة من النحو والصرف، جمعوا الحديث، كتبوا التفسير، وضعوا فقه الشريعة، وأرخوا لوقائع الإسلام.  من الجانب الآخر، درسوا كل ما أنتجته الأمم قبلهم من علم، دونوه، ترجموه للعربية، جاعلين العربية لغة العلم بامتياز. طوروا ما اقتبسوا، زادوا عليه، وابتكروا فيه.  احترموا العلماء، المسلمين منهم وغير المسلمين.  بذلك، مع دخول القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، حفلت دار الإسلام يجامعات ومعاهد تدرس فيها العلوم الطبيعية إلى جانب علوم الدين، في آسيا، وافريقيا، وفي أوروبا الداخل منها في حظيرة الإسلام. 

علماء الإسلام في ذلك العهد أدركوا أن أهمية دور العلم في تبيان الحقائق موصولة بأهمية دور العقل في الإرشاد. لقد فهموا أن بالعلم يتمدد العقل فيوصل إلى فهم سديد للكون، أجرامه وسننه، ظواهره وخفاياه، حيوانه ونباته وجماده، وإلى فهم الإنسان لنفسه ككائن عاقل كريم.  لقد وعد الإنسان في الذكر الحكيم أن تتاح له رؤية آيات الله في الآفاق وفي نفسه حتى يتبين له الحق، كما أنه دعي ليعقل ويفكر ويتدبر ويتذكر ويتزكى ويستزيد علما لكي تتوسع مداركه، يستقيم سلوكه، وتسمو نفسه. 

علماء ذلك العصر الذهبي الإسلامي كانوا مواطني العالم الإسلامي بأسره، يوم أن كان العالم الإسلامي يمثل جل العالم المتحضر على وجه الأرض.  كان منهم رياضيون، فلكيون، صيادلة، أطباء، علماء طبيعة، فلاسفة، مؤرخون، لغويون، شعراء، أدباء، قضاة، أمثال الخوارزمي، جابر ابن حيان، الفرغني، الكندي، المتنبي، ابن يونس، البطاني، الرازي، الفارابي، ابن سينا، البيروني، ابن رشد، المسعودي، سيبويه، الفراهيدي، الخيام، وألوف آخرون قال عنهم جورج سارتن أنه أذا أنكر منكر أو جحد مكابر قيمة ما أنتجه المسلمون من معرفة في ذلك العصر، فاذكر لهم أسماء هؤلاء الأعلام ونظرائهم لترد نكران كل ناكر وجحود كل مكابر.

 ما ذكرت لم أقصد به أبدا مباهاة أو مفاخرة، أو تغنيا بأمجاد عصر سلف . مع ذلك، يبقى استحقاقا للعرب أن يقر لهم عالميا دورهم المفصلي في جمع المعرفة وحفظها وتطويرها بعد أن كانت المعرفة، وهي أغلى النتاج الإنساني، قد طمست في القرون الوسطى وكادت شعلتها تنطفئ للأبد.  كما أنه يبقى استحقاقا على العرب أنفسهم أن لا يتحفظوا اليوم على المعرفة الإنسانية وقد كانوا روادها بالأمس، وأن يؤصلوا في أجيالهم الصاعدة الثقة بأنهم أبناء وبنات حضارة تصدرت موكب المعرفة يوما ولهم – إذا شاءوا مجتهدين - أن يمتازوا في مجال المعرفة من جديد.  

ما أخذه الغرب من العرب لم تكن مجرد أعمال مترجمة، بل أعمالا مشروحة مضافة، مطورة، متفوقة.  آية ذلك أنه من القرن الثاني عشر حتى نهاية القرن الخامس عشر على الأقل كانت مراكز العلم في أوروبا تدرس الفلسفة الطبيعية في جلها من مؤلفات عربية.  في الطب كانت موسوعات الرازي وابن سينا وابن رشد المراجع الرئيسة في التدريس.  في الكيمياء كانت أعمال الرازي وابن سينا وسلفهما جابر ابن حيان أهم المراجع.  منهج جابر في التجريب،  القائل بعدم جواز اعتماد أي تنظير بدون تجريب، غدا المنهج العلمي المتبع  the scientific method،  بل أيضا استبق المنهج البراجماتيكي الأمريكي الذي عرضه تشارلس بيرس ووليم جيمس في نهاية القرن التاسع عشر، والذي قال أن صدقية أيما فكرة لا تكتمل إلا في تطبيقها بنجاح.  في علم الطبيعة، قدم ابن الهيثم أعمالا متفوقة في البصريات: كان أول من أبان سير الضوء في خط مستقيم، أشعاعه من مصدره في جميع الاتجاهات، وتضاؤله بتباعد المسافة.  كما أنه استبق علماء القرن السابع عشر بقوله بكونية السنن الطبيعية، بمعنى أن الظواهر الطبيعية أينما تحدث في الكون تتبع نفس القوانين الطبيعية التي تسري على كوكب الأرض. (وسبحان من قائل: فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا)

بقي أن أستدرك أن الغرب لم يقلدنا في شيء بل اقتبس ما حلى له الاقتباس.  ذلك أن التقليد شيء والاقتباس شيء آخر.  لا خير في التقليد لأنه محاكاة أعمى يأتي به المرء ما يأتي به غيره من قول أو فعل بدون تفكير ذاتي مستقل.  على صعيد الأمم لا تتعلم أمة بالتقليد، لأنها بالتقليد تعفي نفسها من استيعاب ما تقلد فيه، معتمدة على اجتهاد وإنجاز الآخرين.  في التقليد إلغاء لذاتية الأمة المقلدة في أعمق ما تمثل: في التفكير المستقل المتصل بذاتها كأمة متميزة.  لا تنتقل المعرفة عن طريق التقليد ولا تتنامى بالتراكم في خبرة الأمة المقلدة.  بذلك تبقى الأمة المقلدة متراوحة في مكانها وإن بدا أنها تتقدم أو تتطور.  بتعبير آخر، قد تبدو الأمة المقلدة في مظهرها كالأمة التي هي تتبعها بالتقليد. لكن شتان بين الاثنتين، فإحداهما قائدة والأخرى مقودة، الأولى تقدمها حقيقي نابع من ذاتها والأخرى ما يبدو عليها من تقدم هو حال ظاهري مستعار. في الخلاصة، بتعطيل قدرتها الذاتية على التفكير تنقاد الأمة المقلدة لما يفكر لها الآخرون. (وهذا – باختصار شديد -  هو حال الأمة العربية في الحاضر الراهن).

الاقتباس أمر آخر.  إنه بخلاف التقليد، سنة التدافع الإيجابي بين الناس، أفرادا وأمما.  لا حضارة قامت في التاريخ من دون أن تقتبس من حضارات أخرى.  في عملية الاقتباس ترى أمة تقتبس من أمة أخرى ثم تبني على ما اقتبست، ولعلها بفضل ما تفعل و تستثمر في مجهودها التقدمي من معطيات ذاتية،  تفوق تلك التي اقتبست منها بادئ الأمر. ذلك أن الاقتباس لا يعفي المقتبس من الاجتهاد والإنجاز، بل يطالبه بتكثيف الجهد الذاتي كشرط للتقدم.  في الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، وقت أن نشطت فكرا وعلما، هكذا أدرك علماء الإسلام، فصاروا يبحثون عن كل مفيد يتاح لهم اقتباسه من عطاءات حضارات أخرى، قريبة وبعيدة.  ثم بنوا على ما اقتبسوا حتى أنجزوا ما فاق انجازات الأمم التي اقتبسوا منها بادئ الأمر  بشوط بعيد.  ما كانوا متبجحين بما أنجزوا ولا مانعين ما حققوا من متناول الآخرين، فقد تلقوا من الإسلام أن العلم لا يستنفد ولا يحتكر، وأن من منزلقات أهل العلم الأنانية والغرور.  

خلاصة، إذن، بخلاف الامبراطوريات، بخلاف الدول، بخلاف الأديان حين تحرف مقاصد الأديان، بخلاف الطوائف والمذاهب، لا أرى في طبيعة الحضارات أنها تتصادم أو تتخاصم، بل أراها، حيثما تتقابل،  تتعارف وتتقابس.  رغم كل الحروب التي جرت بين الأمم في عصور بعيدة وقريبة نرى في كل أمة أثرا حضاريا من إنتاج أمة تصادمت معها بالأمس.  في نظري، من يقول بصدام الحضارات لا يفقه تماما معنى التحضر كارتقاء لمستوى فكري وخلقي رفيع.  ذلك أن الحس الحضاري ينبثق من منظور إنساني يعلو مستواه وعيا على مستوى سائر ما نتصرف فيه، أكان على صعيد أفراد أو أمم، أكان ضمن الأمة الواحدة أو في علاقات الأمم بعضها ببعض.  في الحس الحضاري نقيم العدل، نتعامل بالإحسان، نتراحم ونتكافل.  في الحس الحضاري لا نعتدي ولا نظلم ولا نطغى، ولا نؤذي، بل نصون حقوق وكرامة الجميع.  في الحس الحضاري نحب لغيرنا ما نحب لأنفسنا، ونرى الناس سواسية وأندادا، فلا فلا نتصاغر أمام أحد ولا نتعالى على أحد، ولا نستأثر بما الناس فيه سواء.  في الحس الحضاري نلتمس الوئام لا الخصام، واليسر لا العسر، للنفس والغير. في الحس الحضاري نحسن الظن، نتسامح، نتراضى، ويسعد بعضنا بعضا كموطنين في وطننا، وكمواطني عالم واحد.  في الحس الحضاري، كمسلمين بالأخص، ندرك جوهر رسالة الإسلام الذي لخصه الرسول الأعظم، المرسل من رب العالمين رحمة للعالمين، بقوله الخالد: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. ذلك هو لب المسلك الحضاري والاستحقاق الذي يطالَب بالوفاء به كل من يدعي وصلا بالحضارة، فردا كان أو أمة.         

* ندوة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء

صلالة، عُمان

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 4 أيلول/2007 -21/شعبان/1428