مصطلحات سياسية: رمزية سياسية

رمزية سياسية: Political Symboliics

شبكة النبأ: عبارة عن نظام من الإشارات والرموز يحمل معاني معينة ويعمل كإعادة تنشيط للرموز الثقافية للسلوكات. والخاصية الأساسية لكل رمزية هي في وقت واحد تعدّديتها وسيولة المعلومات المرتبطة بها، لكن أيضاً قدرتها على استنفار الإسقاطات الانفعالية الإيجابية (على مستوى التماهي) أو السلبية (على مستوى الرفض).

تهدف السلطة السياسية إلى ضمان تفوّقها داخل المجتمع، ليس فقط باحتكار الاستخدام الشرعي للقوة بل أيضاً بنشر (مجموعة أشكال رمزية تعبّر عن واقع أن النخبة الحاكمة هي من يدير المجتمع) (ك. جيرتز).

يتواجد النشاط الرمزي في أي نظام سياسي بلا استثناء. وغالباً ما يعمل كاستعراض للسلطة القائمة ولكن أيضاً كمحاولة لمعارضتها باسم نظام معتقدات آخر. وهو يظهر، بدرجات متفاوتة من التطوّر، من خلال طقوس، أي المراسم، والشعائر، والبروتوكولات "التي تحدّد المركز كمركز وتمنح هالة لما يجري" (ك. جيرتز). كذلك هو ينتشر، على مستوى آخر، في مسرحة التواصل الإعلامي، حيث تتشكل (السمات الرمزية) للشخصية "للدور"، الذي يمحو الفرد المضطلع به. ويظهر أيضاً عبر الاستثمار في الأشياء (شعارات، أوسمة، شرائط، تماثيل) التي تصبح حاملة لمدلولات ثقافية متراكمة تاريخياً وعاملة "كرموز أو أوساط إقرار اجتماعي" (م. أوجيه). وأخيراً هو يظهر حول أمور غير مادية. منها مثلاً الأفكار – الكبرى (العقد الاجتماعي كمبدأ أساسي) والنصوص النموذجية (اقتحام سجن الباستيل، نداء 18 يونيو / حزيران) التي تسعى لتأسيس شرعية مشتركة اجتماعياً تملأ ثغرات المعرفة وتمنع التساؤل حول المعتقدات والذي يثير الاضطراب. وهناك أيضاً القيم (حرّية، مساواة، تضامن...) التي يمكن التعريف بها كمعتقدات تعبوية تسمح بإعطاء الأحكام للموافقة أو للرفض.

وتسود النشاط السياسي البحت، الذي يُحظر اللجوء الروتيني إلى العنف الجسدي، صراعات رمزية. إذ تحركه معركة دائمة، بين أطراف فاعلة على درجات متفاوتة من الصوابية، تهدف إلى فرض التمثيلات الشرعية للواقع الاجتماعي أو الصراع السياسي: إرهاب أم مقاومة؟ محاباة الوطن أو عدائية تجاه الأجانب؟ بلدان متخلفة أم نامية؟ يفترض توضيح الرمزيات عمل تطبيع ذهني، أي مشاركة اجتماعية، ولذلك نفهم كثافة الصراعات السياسية بشكل خاص حول مسائل التربية وحرّية الإعلام.

للرموز والإيحاءات دور محوري في إطار المنظومة السياسية(1)

كل نشاط سياسي له بعدان: أحدهما جوهري والآخر ظاهري. البروفسور أولريش سارسينلي يتحدث مع موقعنا حول القيمة الرمزية لقمة مجموعة الثمانية، ويرى أن تدني الأهمية السياسية الحقيقية لحدث ما ينذر بهيمنة الإيحاءات السياسية عليه.

دويتشه فيله: قبل انعقاد قمة مجموعة الثمانية في حزيران/يونيو 2007 في مدينة هاليجندام الألمانية يكثر الحديث عن تجهيزات مقر انعقادها بدلاً من التحدث عن القضايا المطروحة خلالها للنقاش. ألا تشكل هيمنة أنباء التدابير الأمنية المرافقة للقمة وتكاليفها على وسائل الإعلام أمراً محرجاً بالنسبة للمستشارة ميركل؟ 

أولريش سارسينلي: الحديث عن التكاليف أمر معتاد للغاية في ألمانيا. وكل مضيف يرغب بلا شك في إظهار نفسه ودولته في أبهى صورة، الأمر الذي يتطلب إنفاق النقود. يجب ألا ننسى أن هذه القمة فرصة عظيمة لتقديم صورة عن الشعب الألماني ومنطقة انعقاد القمة للعالم أجمع، وأن للحدث شق دعائي لا يجب إغفاله.

سيُمنع المواطنين الألمان من دخول هاليجندام أثناء فترة انعقاد القمة. ما تأثير ذلك على الرأي العام؟

السؤال الهام يكمن في مجريات القمة نفسها وهل سينجح المشاركون فيها من خلال الايحاءات والرموز في التغلب على الانطباع السائد بأنها فعالية مغلقة لا علاقة لها بحياة الناس اليومية ومحيطهم السياسي.

وهل يمكن للرمزية أن تحتل الصدارة في قمة مجموعة الثمانية في مقابل نتائجها المحتملة؟  

  أولريش سارسينليالسؤال يكمن في جوهر نتائج القمة. هناك نتائج قابلة للقياس يتم تدوينها في الاتفاقيات أو البيانات الرسمية، وعادة ما يتم الاتفاق عليها مسبقاً عبر القنوات الدبلوماسية. هذه النتائج تشكل في النهاية قيمة الحدث، إلا أن تدني الأهمية السياسية الحقيقية للقاء مثل هذا ينذر بهيمنة السياسة البديلة المفتعلة والإيحاءات السياسية عليه. لكن بوجه عام يجب على المرء ألا يضع السياسة الرمزية والسياسة البديلة والإيحاءات السياسية في قالب واحد، فكل نشاط سياسي له بعدان: إحدهما جوهري والآخر ظاهري. والسؤال هنا يدور حول طبيعية العلاقة بين البعدين وحول مدى تأثير الرمز على قيمة الحدث الحقيقية.

إلى ما ترمز له قمة مجموعة الثمانية؟

بطبيعية الحال إلى ثقل وأهمية الدول المشاركة فيها من الناحية السياسية. ومن خلال القمة يتم إظهار قدرة هذه الدول على التعاون مع بعضها البعض، كما يتم إبراز الدور الخاص الذي يلعبه رؤساء وقادة حكومات هذه الدول. وباختلاف المنصب والدور والوضع السياسي الحالي يمكن التوصل إلى نتائج متباينة. المضيف، في هذه الحالة المستشارة الألمانية يمكنها أن تترك بصماتها الخاصة من خلال تحديدها للأطر العامة والبدء بتنفيذ المبادرات السياسية.

قمة مجموعة الثمانية تبدو أحياناً كرمز لغرور السلطة

نعم، هذا الانطباع قد ينشأ أحياناً لدى البعض. إن قمة مجموعة الثمانية قمة حصرية، وهو ما يعني أن أوساط المشاركين، وهم من ممثلي الحكومات وقادة الدول الصناعية، محدودة للغاية. وهو ما يطرح السؤال حول طبيعة علاقة هذه الدول الصناعية بالدول غير المشاركة. أضف إلى ذلك أنه في لقاءات مثل هذه لا يتم التعبير بشكل كافي عن تنامي أهمية المنظمات غير الحكومية. ومما لاشك فيه أن الاحتياطيات الأمنية المرافقة للقمة، والتي تزايدت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، تعطي انطباعاً بانعزالية الحدث بعده الشديد عن الشعب، مما يثير حفيظة البعض.           

هل تزايدت الرمزية في السياسة خلال السنوات الماضية؟

إنني لا أؤيد هذه الفرضية، بالرغم من أن وسائل الإعلام الحديثة، المرئية منها على وجه الخصوص، تعطى انطباعاً بأن النشاط السياسي رمزي لدرجة كبيرة. يجب على المرء أن يعي أن السياسة الرمزية كانت موجودة دائماً. وإذا أخذنا بلاط الحكم في العصور الوسطى والنظم الملكية في العصر الحديث فلسوف نلمس ذلك بوضوح.

وما هي أوجه الاختلاف في عصرنا الحالي؟                

في السابق كانت السياسة الرمزية محصورة على النخبة أو البلاط الملكي أو مجموعة مختارة من النبلاء، كما كانت تصل في بعض الحالات الاستثنائية ولأسباب خاصة إلى الشعب. أما اليوم فيتم دمقراطة السياسة الرمزية. الكل يستطيع أن يلمسها. ليس للسياسيين تأثير يذكر على نوع وطريقة الافتعالات السياسية، وذلك لهيمنة حتمية الديمقراطية الإعلامية عليها. وهناك منافسة متزايدة لجذب اهتمام الناس مما يؤدي في حالات عديدة إلى محاولة تخطي عوائق جذب اهتمام الجمهور عبر تصرفات مثيرة من جانب السياسة أو تصوير درامي للأحداث السياسية من قبل وسائل الإعلام، لكن ذلك يجب ألا يمحى حقيقة أن السياسة الرمزية كانت ومازالت تشكل جانباً كبيراً من النشاط السياسي، أن للرمزية دور محوري في إطار المنظومة السياسية.  

أولريش سارسينللي: أستاذ العلوم السياسية بجامعة كوبلنز-لاندو ومتخصص في أبحاث السياسة الرمزية

أجرى الحوار: بابلو فالدين/إعداد: علاء الدين سرحان  

ترهل المصداقية الرمزية للسلطة(2)

إن تأمل أحداث السنة السياسية المنصرمة يؤكد دون مبالغة اطّراد ترهل مصداقية السلطة وبداية انحسار مجال مناورتها وقدرتها على تصريف الأمور في وضع مريح . ولاشك أن كل سلطة حاكمة تحتاج في استقرارها إلى توفـّر عاملين أساسيين أحدهما موضوعي يتمثـّـل في ضعف قوة الضغط المقابلة لها وثانيهما ذاتي يتعلق بضرورة تملّك الفريق الحاكم للقدرة على الاضطلاع بالمهام الرمزية والمادية الملازمة لوظيفة الدولة وهي القدرة على الإخضاع والإدماج والتعبئة وتلبية مطالب المحكومين للحصول منهم على حسن التـقبّـل Consentement. وإذا افترضنا بأنّ العامل الموضوعي (ضعف المعارضة) يتوفـّر بقدر أو بآخر دون مبالغة في تأكيده فإن العامل الذاتي المتعلق بقدرة السلطة على إنتاج " المثل الأعلى"الرمزي والمادّي لضمان استقرارها يبدو مهزوزا ومقبلا على التهرّي أكثر فأكثر كما بينته أحداث السنوات الأخيرة ووقائع السنة المنصرمة على وجه الخصوص. لقد تمكّن حكم السابع من نوفمبر من إدارة شؤون البلاد في وضع من الأريحية على امتداد أكثر من عقد بعد سنة 1987 اعتمادا على أعمدة أربعة كانت أحداث السنة الماضية خير دليل على بداية تخلخلها رغم إمعان الحكم في إنكار وتجاهل هذا التخلخل وفي اعتماد سياسة التصلب والهروب إلى الأمام . ويمكن التذكير في هذا السياق بأن أول مرتكزات الاستقرار السياسي الذي نعم به حكم السابع من نوفمبر هو اتجاهه إلى تجديد بريق " المشروع الرمزي " للدولة عبر إنتاج خطاب أعلن تبنّيه لقيم مجتمع و طموحات نخبة و جماهير فقدت ثقتها أواخر الثمانينات في "دولة الاستقلال" فاعتمدت السلطة الوليدة تجديد "الإيديولوجيا الكلية المجمعّة" بإطلاق وعود التنمية السياسية و تطوير الإعلام والمصالحة مع الهوية الثقافية و إعادة توزيع الثروة و تقاسم التضحيات و لكن السنوات الموالية للتحول كشفت حدود القدرة "الديماغوجية" للسلطة خصوصا بعد أن تفطن المواطن التونسي بذكائه الفطري إلى عمق المسافة الفاصلة بين الشعار و الواقع و لعل ملامسة بسيطة للوعي العفوي للمحكومين يكشف للملاحظ الحصيف حالة الاستهتار والاستهجان التي يختزنها الوجدان السياسي التلقائي للمواطن التونسي تجاه السلطة وخطابها السياسي والإعلامي والثقافي. كما يلمس افتقاد الرموز المادية و المعنوية للسلطة لبريقها "الكاريزمي" الضروري لهيبة أي فريق حاكم. و لعلّ أرقى تعبير على ترهل المصداقية الرمزية للسلطة و بداية عزلتها عن قاعدتها الشعبية ما لمسناه في السنة الفارطة من برود وعزوف جماهيري في التعاطي مع الاستحقاقات الانتخابية. أمّا الركيزة الثانية التي أقامت عليها السلطة مصداقيتها فهي ما منحته في أول عهدها من أمل في تحقيق الرفاه والطموح إلى الرقي الاجتماعي و استفادت كما هو معلوم في ذلك من ظروف اقتصادية مواتية وفرت قدرا من السلم الاجتماعية ومنحت المواطن إحساسا بالاستقرار المادّي جعله لا يلتفت كثيرا إلى فداحة الوضع السياسي ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر اليوم ما تعانيه السلطة من عجز على إدارة المعاش والكسب في ظلّ تضخم ملفات مرعبة من أزمة التشغيل إلى تراجع الاستثمار وارتفاع الدّين وتدهور المقدرة الشرائية والارتفاع الجنوني للأسعار وبروز تحديات حقيقية يفرضها نظام اقتصاد السوق العالمي. و كانت السنة المنصرمة سنة الارتفاع الواضح للاحتجاج الاجتماعي بداية من الاضرابات إلى الاعتصامات في المصانع وصولا إلى استفحال ظاهرة " الحرقان على قوارب الموت" والاتجاه نحو الطرق الملتوية في "تدبير الرأس " لضمان القوت . و أصبح الشارع التونسي مسرحا لظواهر مزعجة مثل " التسوّل" و" الصّعلكة اللفظية والجسديّة" ولعلّ تعثر المفاوضات الاجتماعية في القطاعين الخاص والعمومي خير دليل في هذه السنة على اهتزاز الركيزة الثانية لاطمئنان السلطة على سلامة نهجها . وإذا مررنا إلى العمود الثالث الذي قامت عليه قوة الحكم منذ التحوّل ونعني به " الشوكة الأمنية " فإننا لا نخطئ إذا قلنا إن هذا المرتكز لم يعد بالصرامة التي يتصوّرها عرّابو " الحلّ الأمني " . إن التضحيات والجهود التي بذلتها شخصيات وجمعيات وأحزاب مناضلة بالإضافة إلى وضع دولي حكومي وجمعياتي يتميز بارتفاع حالة اليقظة والرقابة الحقوقية ... كل هذه العوامل ساهمت في إرتخاء القبضة الأمنية للسلطة فلم تعد مظاهر الهجوم الأمني تخيف أحدا ويمكن القول أنه باستثناء " تهمة الإرهاب " التي تحتاج إلى أدلة قوية فإن السلطة لم تعد تملك الجرأة على التهديد بالسجن للمدافعين على حقوقهم السياسية بل إننا نزعم أن السلطة تبحث الآن عن مخرج ممكن لإفراغ السجون من معتقليها بعد أن اصبح هذا الملف محرجا لها محلّيا ودوليّا . ونختم رصدنا لمظاهر تآكل مصداقية السلطة بالوقوف عند اهتزاز المرتكز الرابع الذي قامت عليه هيمنتها منذ ما يقارب على العقدين وأقصد بذلك بداية ضمور الحزام الحزبي والجمعياتي والاعتباري الذي نسجته السلطة حولها لتؤكد ما تدعيه من إجماع حول خياراتها فبعد خروج شخصيات اعتبارية عديدة من دائرة المباركة غير المشروطة لسياسة الدولة وبعد تشكـّـل " ملأ " جمعياتي وحزبي ديمقراطي مستقل ومرشح للاتساع بدأ سقف الخطاب المعارض في الارتفاع بداية من النقد العنيف لخيارات السلطة وصولا إلى الطّعن في الشرعيّة وقد كانت السنة المنصرمة بداية حراك شهدته قطاعات الإعلام ثم المحامين والطلبة وأخيرا القضاة . أمّا أرقى مظاهر بداية عزلة السلطة عن نسيجها التقليدي فهو بروز ملامح انزياح أكبر منظمة اجتماعية عن الموقع الوفاقي الذي احتلته منذ أكثر من عقد واقصد بذلك "الاتحاد العام التونسي للشغل" الذي يمثل موقعه من السلطة - قربا أو بعدا- محرارا أساسيّا لاستشراف مستقبل الوضع السياسي. لقد رفضت هياكل القرار داخل هذه المنظمة في السنة المنصرمة الانحياز للحكم في الاستحقاقات الانتخابية الفارطة كما عبرت في بيان واضح رفضها لدعوة " المجرم شارون" ورفضت مؤخّرا الالتحاق بغرفة المستشارين وفق تراتيب السلطة كما ارتفعت نبرة ممثليها في التعبير عن مصالح منظوريها في المفاوضات الاجتماعية . إن دلالات عميقة يجب أن تـُفهم من وراء الرسائل التي وجهتها المنظمة النقابية باعتبارها رقما أساسيا في معادلة التوازن والاستقرار السياسي بالبلاد ماضيا وحاضرا . انطلاقا مما تقدّم يمكن القول بأن السلطة مدعوّة اليوم أكثر من أي وقت مضى على ضرورة الإسراع بالتفكير في ترميم مصداقيتها المهزوزة ولن يكون ذلك بأقل من حلّ مشكل المساجين السياسيين وتوسيع مجال حرية الإعلام والمبادرة بمراجعة المنظومة القانونية في اتجاه احترام حق التنظـّم والعمل على فتح الحوار مع المعارضة الحقيقية لمواجهة تحديات المستقبل وإقناع المراقبين بوجود حياة سياسية حقيقية في البلاد . ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن المعارضة قادرة في السنة المقبلة على توفير عوامل الضغط الموضوعي إذا استطاعت بلورة خططها المرحلية والاستراتيجية ولملمت صفوفها من أجل تحوّل حقيقي يرونه بعيدا ونراه قريبا إذا صدقت النّوايا وتطورت الوسائل واتضحت الرؤى .

الحقل السياسي والخطاب الإيديولوجي مدخل عقلاني إلى رواق السلطة(3)

في خضم غياب سلطة الدولة، وانعدام هيبة القانون، وانحلال وازع الأخلاق، وانحسار ملكة الوعي، واستشراء نزعة المغالبة، لا يفتأ الإنسان العراقي المخلص في ولائه والصادق في انتمائه، وهو يجيل بطرفه وسط مشاهد الموت العابث في كل الأوقات والدمار الزاحف من كل الاتجاهات، تارة صوب رموزه الدينية ومرجعياته الاعتقادية ينشد بفضلها الخلاص من محنته ويستعطفها للنهوض من كبوته، وتارة أخرى يتجه نحو شخوصه السياسية وروابطه الأولية وعلاقاته الاجتماعية يلتمس من خلالها العون لضمان أمنه وتأمين سلامته وحفظ مصالحه وصون حقوقه، وهو بين الرجاء في الأولى والأمل في الثانية يسأل نفسه ويرثيها في ذات الوقت باعتباره طالب حق وصاحب قضية، استغنى عنه الجميع وقلبوا له ظهر المجن، دون أن يعوا عواقب إهمال مصالحه والتضحية بحقوقه، في عصر أضحت فيه الجريمة عنوان مجد ومفاخرة، واصبح الفساد حنكة وحسن تدبّر، والانزواء وإيثار السلامة تعقّلاً وحكمة، والصمت عن الحق منتهى النبل والشهامة. هل حقاًيا ترى لا أمل في إصلاح نظامنا السياسي، وتقويم حياتنا الاجتماعية، ولا احتمال في تحسين أوضاعنا الاقتصادية، ولا ضمانة في تنوير عقولنا الثقافية؟

 إلى متى سيبقى العقل السياسي العراقي أسير الذهنية المؤدلجة ورهين السيكولوجية الانفعالية التي ما أن يحاول الخروج عن مسارها ويسعى للإفلات من سطوتها، متوخياً استطلاع رصيد قدرته في مجال عقلنة آليات السلطة واستشعار مقدار أهميته في مضمار أنسنة تفاعلات المجتمع، حتى تستدرجه تلك المآخذ بغوايتها نحو الإهتمام بالأمور الهامشية والانشغال بالقضايا الفرعية، لتسقطه مجدداً في حبائل الإستقطابات الأفقية والصراعات العامودية التي طالما استنزفت زخم تأثيره الرمزي، واستنفدت مخزون تراثه الحضاري، واستهلكت ثراء عمقه التأريخي؟. للحد الذي زجّ به مراراً وتكراراً في آتون مشاكل وأزمات هي ليست من صميم إختصاصاته ولا هي من قبيل إهتماماته، دون أن يصار إلى معالجة هذه العقد المستعصية وتلك الأمراض العضال، من لدن أصحاب الحلّ والعقد، رغم توالي المصائب وتواتر النكبات التي تجرعت علقم مرارتها وأكتوت بلظى نيرانها الغالبية العظمى من أبناء شعبنا العراقي، منذ أن دلفت نخبه العليلة وطنياً الضعيفة سياسياً المشوشة فكرياً إلى رواق السلطة بحثاً عن مغانم الجاه الإجتماعي، وسعياً وراء مكاسب النفوذ السياسي، وإشباعاً لنهم الإمتياز الإقتصادي، و‘إرضاءً لغرور الهوس النفسي، دون اعتبار لأية ثوابت أو مصالح عليا.

والحقيقة ان الاعتقاد السائد الذي مؤداه ؛ ان العقل السياسي العراقي هو بطبيعته عقل شرس الطباع نزق المزاج متقلب الأهواء، تمخض عما هو عليه من خصائص وسمات كمحصلة لشخصية الإنسان العراقي المجبولة على العنف والمسكونة بهاجس العدوان، لا يعدو أن يكون اعتقاداً ساذجاً ان لم يكن رأياً مغرضاً لا يجانب الصواب ويجافي الحقيقة فحسب، وإنما يخالف المنطق ويعارض الواقع، لا بسائق العواطف الشخصية والمشاعر الذاتية - وهذا حق مشاع لجميع من تعز ُّ عليه قيمه الوطنية وتطلعاته المشروعة - ولكنه بدلالة الشواهد التأريخية المرموقة والوقائع الحضارية المشرّفة التي شهد لها القاصي قبل الداني والعدو قبل الصديق. وهنا أودّ أن أستميح القارئ عذراًحين أذكّره ببعض ما قاله كبار المؤرخين وجهابذة الفكر من ذوي الاختصاص العلمي والدراية المعرفية، ممن يتوخون الموضوعية في البحث ويتحرون الحيادية في الدراسة ويتقصون الحقيقة في الاستنتاج، بخصوص تفنيد الأوهام وتبديد الخرافات التي نسجت ظلماً وبهتاناً حول شخصية الإنسان العراقي بشكل عام وطبيعة فكره السياسي على وجه الخصوص، كي لا يستمر البعض من ضعاف النفوس ومثيري الفتن بنشر الأباطيل هنا والتخرص بالأكاذيب هناك، بقصد التمتع بالإثارة الرخيصة والتنطع بالتعالم الثقافي المزعوم. فقد جاء في كتاب ؛ الإنسان في أدب وادي الرافدين، لمؤلفه الدكتور(يوسف حبّي) ما نصه انه: ((كان يظن إلى سنوات خلت، ان بواكير الفكر والعلم في تاريخ البشرية وفدت إلينا من حوض وادي النيل، أو ان النضوج الفكري لم يتخلص من مرحلتي الطفولة والمراهقة إلا على يد الإغريق وحكمائهم. غير أن التنقيبات التي بدأت منذ الثلث الأخير من القرن الماضي (يقصد التاسع عشر)، ولا تزال مستمرة حتى اليوم، صححت هذا الرأي الخاطئ، وأرجعت بدايات الفكر والعلم، بشكل عميق ومكتمل، إلى بلاد وادي الرافدين، مهد الحضارة البشرية))(1).

أما أستاذ الدراسات التربوية في جامعة ميسوري بولاية كولومبيا الأمريكية، البروفسور (كرستوفر لوكاس) فقد وجد ان: ((حيوية أرض الرافدين العظيمة تشهد عليها جاذبيتها الواسعة ثابتة الجذور. فقد انتظم ضمن ثقافتها شكل فريد ثابت من التنظيم الاجتماعي يرضي، على نحو عميق، الاستجابة الذهنية للأسرار الخالدة التي يتطلبها الوجود الإنساني. ان ثقافة الرافدين بانتصارها على العوائق الجغرافية والحدود العرقية والاختلافات اللغوية، كان مقدراً لها أن تستمر في الوجود الى قرون مديدة، منتصرة متفوقة بالرغم من الرجّات السياسية المتكررة والتدخلات المتلاحقة))(2).

من جانبه، أشار عالم السومريات المعروف (صمويل نوح كريمر) إلى أن: ((ما يعرف اليوم بالديمقراطية، وما ترتكز عليه من قاعدة متمثلة بالجمعية التأسيسية. فهي تبدو أول وهلة وكأنها من ثمرات الحضارة الأوربية الحديثة، ولا يمكن لأي فرد التصور، أن أول جمعية تأسيسية كانت قد عقدت قبل آلاف السنين في بقعة من بقاع الشرق الأوسط وليس في أوربا.. إذ ان أقدم جمعية من هذا النوع كانت قد اجتمعت قبل خمسة آلاف سنة في بلاد ما بين النهرين بالذات))(3).

وهكذا فان مجتمعاً تبوأت حضارته صدارة الإنجازات الإنسانية في الحقول كافة، واستطاع أن يرفد البشرية بكل مستلزمات الإنعتاق من عبودية الجهالة الحضارية متخطياً، رغماً عن ذلك، معوقات هائلة وصعوبات لا تخطر على بال، لا يمكن أن يكون ديدنه العنف وهاجسه الشراسة في التعامل مع خصائص الآخر وفي تعاطيه مع تجارب الغير. فإذا كانت هناك سلبيات ومآخذ يمكن أن تحسب عليه (= العقل السياسي العراقي) وتساق ضده، فما هي إلا نتاج جهل المنسوبين إليه وطيش المتكلمين باسمه، الذين لم ينصفوا تراثهم في الماضي فكيف يتوقع أن لا يسيئوا لرموزهم الوطنية في الحاضر، ويحسنوا التصرف إزاء مصيرهم في المستقبل. هذا بالإضافة إلى إخفاقهم في تجاوز أخطائهم بحق شعبهم الذي ما برح يتطلع إليهم بشغف عسى أن يخففوا عنه أوجاع السنين العجاف ويزيحوا عن كاهله غبار الزمن القاسي، فضلاً عن النأي عن محاولات إقحام خطاباتهم السياسية المؤدلجة وفرض تصوراتهم الرمزية المؤسطرة، لاسيما تلك التي تتوسل أساليب التجييش العنصري والتعبئة المذهبية، في إطار الحقل السياسي المسؤول عن إدارة عمليات الصراع الإرادي والتنافس السياسي على أسس من فن الحوار الواقعي والتنافس العقلاني بعيداً عن مظاهر التطرف الديني والتعصب العنصري والتشنج الطائفي. صحيح انه لا وجود لسلطة سياسية دون أن يكون لها سند إيديولوجي محدد تتكأ عليه وتستمد منه سلطانها، كما لا وجود لخطاب إيديولوجي دون أن يتمحور حول هدف سياسي معين يتطلع إليه ويسعى من أجله. ولكن المسألة التي نروم طرحها هنا تتعلق بالكيفية التي يتم من خلالها تضخيم الطابع الإيديولوجي للخلافات البينية وتغليب عوامل الاختلافات الفرعية في مضمار البحث عن مداخل الولوج إلى الحقل السياسي والإمساك بمقاليد السلطة على وفق قواعد الشرعية الدستورية المتعلقة بأصول وآليات التداول السلمي لإدارة الشأن العام، بحيث يجري تغييب واستبعاد أية إمكانية تتيح لأطراف العملية السياسية التوصل إلى صيغة عقلانية تساعد على تخطي حالة التخندق المتبادل والتي في المحصلة النهائية تفضي بالجميع إلى تغليب هواجس الشك على مشاعر الثقة وهمجية العنف على ثقافة الحوار ورذائل القطيعة على فضائل التواصل. وبما أن الإيديولوجية مهما كانت طبيعتها- هي منظومة من الأفكار والآراء المعبرة عن مصلحة جماعة اجتماعية معينة، من حيث أهدافها وتطلعاتها أو من حيث مواقفها وعلاقاتها، فان خطابها غالباً ما يجنح نحو تفضيل الشأن الخاص على حساب الشأن العام الذي هو حقل السياسة وما يشتمل عليه من خيارات في أشكال الحكم وأنماط السلطة المسؤولة عن تسيير شؤون المجتمع وضبط إيقاع العلاقات بين أفراده وجماعاته على وفق غاياته الموحدة وأهدافه المشتركة. ذلك لأن من طبيعة الأمور أن تكون السلطة السياسية - كما قال المفكر اللبناني الدكتور ناصيف نصّار: ((هي التي تقود العلاقة بينها وبين الإيديولوجية، وان بدا في الخطاب الإيديولوجي إنها تخضع للإيديولوجية. وفي الواقع، إذا خضعت السلطة السياسية للإيديولوجية، فإنها تخضع للإرادة الجماعية التي تعبر الإيديولوجية عنها))(4).

الأمر الذي قد يؤدي إلى تأزيم الأوضاع السياسية وتفاقم الظروف الاجتماعية وتصعيد المنازعات الإيديولوجية، وشحن المرجعيات الرمزية، لاسيما في حالة كون المجتمع المعني (مثلما هو الوضع في العراق الآن)، يشكو من ضعف وحدته السياسية، ويعاني من هزال روابطه الاجتماعية، ويفتقر لوجود قواسم مشتركة تشد ولاء جماعاته وتستقطب حميّة مكوناته. من هنا نكتشف مساوئ، ومخاطر، محاولات البعض الرامية إلى توظيف العوامل الدينية أو العنصرية أو المذهبية في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة من حياة الشعب العراقي، من منطلق كونها تعبيرات متنوعة لخطابات إيديولوجية متعارضة المصالح متقاطعة الغايات بين هذا الحزب السياسي أو ذاك، بين هذه الحركة الاجتماعية أو تلك، في خضم سباق المارثون نحو الظفر بمقاليد السلطة والاحتكام من خلالها لأساليب تكفير الخصوم وتخوين المعارضين، بغية إقصائهم عن الحق في المنافسة المشروعة، وتهميشهم عن الدور في المشاركة السياسية، تحت شتى الأعذار الكاذبة والمزاعم الباطلة. ولهذا ينبغي على أطراف العملية السياسية بكافة فصائلها ومجمل أطيافها إدراك حقيقة جوهرية، طالما تسبب إهمالها بحصول الكثير من المشاكل والعديد من الأزمات، وهي ان هدف السلطة الذي هو من أبرز وأهم مكونات الحقل السياسي، حيث تصارع الارادات وتجاذب القوى وتفاعل البنى وتواصل السيرورات، لا يمكن بلوغه وتحقيق مآربه إلاّ باعتماد آليات سياسية معقلنة تتعايش مع الاختلاف في الآراء والتنوع في الأفكار والتباين في المنطلقات، بالإضـــافة إلى استخـــــــدام لغـــة سياسية حضارية تتصف بالمرونة والمطاوعة لاستيعاب المغايرة الفكرية وقبول المعارضة السياسية وتشجع الحـــــــوارات الديمقراطية وبالتالي تعميم فكرة ان العمل الوطني الجاد يتطلب جهود الكلّ ويستلزم إسهام الجميع، ســــــواء أكـانوا في عرين السلطة أم خارجه.

وإذا كان مهماًفي حقل السياسة أن يقترن التطلع نحو السلطة بمراعاة الخصائص المعيارية للممارسة الديمقراطية التي من ضمنها تحقيق النصاب العددي وحيازة امتياز الشرعية، الذي يعكس ظاهرياًرضا وقبول الغالبية من أفراد المجتمع ويستقطب تأييدهم لما تعلنه القوى الساعية باتجاه السلطة من برامج سياسية وما تزعمه من أهداف اجتماعية وما تشيعه من خطط اقتصادية وما تدعوا له من برامج ثقافية. فان الأهم من ذلك بكل تأكيد هو الحؤول دون التورط في الخصومات البدائية التي من شأنها تمزيق وحدة الجماعة الوطنية وتفتيت شملها وبعثرة قواها، تحت طائلة دعم هذا الطرف ضد ذاك ومؤازرة هذه الجهة على حساب تلك، على خلفية التشابه العنصري أو التطابق المذهبي أو التوافق الإيديولوجي أو التقارب القبلي أو التجاور الجهوي، متناسين أو متجاهلين - فالأمر سيان من حيث النتيجة - ان الأصل في وظيفة السلطة السياسية العقلانية قائم على وفق مبادئ الجمعنة الوطنية والتحرك في نطاق المصلحة المشتركة والاستجابة لضرورات الشأن العام، دون الأخذ بنظر الاعتبار ماهية الأصول العرقية والمرجعيات الدينية والانتماءات الطائفية والخلفيات اللغوية التي تتبناها القوى والتيارات المنخرطة في النشاطات السياسية المتنوعة، إلا ما يشكل ضمانة لمتانة نسيج المجتمع وضرورة من ضرورات تجانس عناصره وتناغم مكوناته. وهذا يعني - كما يؤكد المفكر السوري الدكتور برهان غليون - ((انه كلما تطورت آليات الاشتراك في السلطة، أي تطورت الديمقراطية الاجتماعية والسياسية وزالت ظاهرة العزل والاستبعــاد للأفــراد والجماعات التي تكــوّن الجماعـــة، نقـص الحماس للوحدة الثقافيـة السديمية ونشأت ظاهـرة التعـدد والقبول بالاختلاف))(5).

ولعل هناك من يعترض على هذا المنحى من الطرح معتبراً إياه محاولة لتجزأة وحدة الفكر والممارسة السياسية، والإخلال بعملية تحويل المجتمع العراقي المرتقبة من مجتمع تقليدي متخلف إلى مجتمع عقلاني متطور، في الوقت الذي يتطلب فيه وضع العراق الحالي وما قد يعاني منه لاحقاً، لاسيما مواجهة وطأة الظروف الأمنية المتفاقمة، وتطور احتمالات حدوث مصادمات سياسية ساخنة، تعزيز تلك الوحدة وتمتين أواصرها. هذا بالإضافة إلى استحالة إجراء مثل هذا الفصل والعزل ما بين الحقل السياسي والخطاب الإيديولوجي على مستوى الواقع والتجربة إلاّ لأغراض البحث النظري والدراسة الافتراضية. الحقيقة انه لا يمكن لأي باحث جاد خوض غمار مثل هكذا مغامرة والتعرض لصيغة من هذا النوع، طالما ان السلطة التي نتحدث عنها هنا هي سلطة (دولة) وليست سلطة (حاكم)، فالمؤكد ان السلطة في الحالة الأولى لا تستدعي فقط جهاز الايديولوجيا وتوظيف عناصره بما يخدم توجهاتها ويحقق أهدافها فحسب، بل وتستنفر جميع ما تحت سلطانها من أجهزة ومؤسسات لتبرير سيطرتها واستمرار بقائها. لا بل انه ((بقدر ما تكون الايديولوجيا ضرورة سلطوية فهي أيضاًضرورة أساسية في المجال السياسي حتى لكأن الايديولوجيا تكاد ترادف السياسية ويكاد الصراع السياسي ان يختزل إلى صراع إيديولوجي))(6).

أمــــا في الحــالـة الثانيــة فالمسـألـة فيهــا وجهـة نظـر تقتضي شرحاً موجزاً وتوضيحاً مقتضباً، فعندما تكون مقاليد السلطة السياسية ضمن مدى قبضة الحاكم - سواء أكان فرداً أو جماعة أو حتى طبقة - فهي بحاجة إلى تفويض من لدن أفراد المجتمع حتى تصبح (شرعية) ويكون بمقدورها الحكم على وفق صيغ (المشروعية) الدستورية والوضعية الأخرى. وبما أن هذا التفويض لا يقتصر الحق فيه على شريحة معينة من شرائح ذلك المجتمع أو فئة مخصوصة من فئاته، بل يستلزم لحصوله بصورة صحيحة إشراك جميع المواطنين ان أمكن ذلك وإلاّ فشرط الغالبية العظمى لابد منه لضمان تحققه كحد أدنى.

ولتعذر حصول هذا الشرط على وفق آليات الحقل السياسي ومؤسساته، لاسيما في إطار مجتمع داهمته عناصر الفوضى وأدركته مسببات الاضطراب واخترقته عوامل الانقسام، بفعل حسابات ذاتية متحاصصة ومداخلات مصلحية مسيسة، فيغدو، في هذه الحال، الخطاب الإيديولوجي لجهة الحاكم الذي في السلطة أو لجهة الجماعة التي يحكم باسمها ويمثل مصالحها، وسيلة مثلى لتحقيق ما عجزت عن بلوغه أساليب السياسة، بعد أن يخلع على مضامينه كل ما يلزم من مظاهر القداسة والتبجيل، ويستبطن قدر ما يستطيع من أشكال الرؤى الخلاصية والإنقاذية التي غالباً ما تحيله من حقل السوسيولوجيا إلى مجال اليوتوبيا وذلك من منطلق تصور أحادي تسلطي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم يحاول فيه الأول استخدام السلطة التي طوع بنانه ورهن إشارته للحلول محل سلطة الدولة أو التماهي معها لإحكام الهيمنة الفئوية على مقدرات الثاني، محولاً بذلك مفهوم السلطة من مدلوله السياسي العقلاني إلى مفهوم السيطرة بمدلوله القمعي/القهري. ولهذا يفترض الأخذ بواقع: ((ان سلطة الدولة لا تتماهى مع سلطة الحاكم، ولا ترتد إليها. وان من أكبر الأخطاء في النظر إلى السلطة السياسية الخلط بين سلطة الحاكم وسلطة الدولة بكيفية تؤدي إلى جعل سلطة الحاكم تتماهى مع سلطة الدولة، أو إلى جعل سلطة الدولة ترتد إلى سلطة الحاكم))(7). إذ من شأن ذلك أن يوقعنا في محظور التسييس الديني والتطييف الاجتماعي والتذرير الاثيني. ومن جملة الإشكالات التي يثيرها تدخل الخطاب الإيديولوجي في الحقل السياسي، على خلفية الأوضاع السياسية القلقة والاحتقانات الاجتماعية الملتهبة والمشاعر النفسية المجيشة والشعارات الرمزية المعبئة، الانجرار خلف دواعي الاستقطابات العصبوية والتكتلات الفئوية التي لا تتردد في ممارسة ضغوطها التعويقية على ديناميات الفعل السياسي وغلق آفاق تطورها بفعل تعارض المصالح وتقاطع الارادات واختلاف التوجهات، مما ينعكس سلباً على أدائها في مضمار تطويع الخلافات البينية وتوسيع القنوات التفاوضية وتنويع الخيارات الاستراتيجية بين الكتل والتيارات المتصارعة، في الوقت الذي لا يبرح الحيز الذي تدور في فلكه حدود عوالم المثل المجردة والطوباويات الخيالية، الأمر الذي يفضي لأن يقصر اهتمامه ويحدد فاعليته ضمن نطاق تبرير الأخطاء وتسويغ الانحرافات التي ترتكبها الفئات التي يعكس مصالحها ويمثل توجهاتها، وبالتالي تعميق حدة الأزمات بدل معالجتها، وتوسيع دائرة المشاكل بدل حلها. هذا مع ان إرهاصات الحقل السياسي مغروسة في عالم الواقع الآني ومدغمة في ثنايا المعاش اليومي، لا تشغلها فقط هموم الصراعات ومتاعب المساومات وضغوط التسويات، التي غالباً ما تكون في ظروف الأزمات السياسية والتوترات الاجتماعية فاعلة ومؤثرة فحسب، وإنما تتقصى الآليات وتستطلع الممكنات التي تجعل سبل الوصول إلى السلطة سالكة أمام الجميع دون تمييز على أساس النسب أو مفاضلة على خلفية الاعتقاد، باستثناء شرط أن يتقيدوا بضوابط العقلانية السياسية بالأفعال لا بالمقولات، ويتجنبوا تسويق الأحقاد والضغائن، حقيقة لا مدارات، ويلتمسوا خيار التعايش والتآخي واقعاً لا خطابات، فذلك أسلم لهم وأقرب إلى التقوى منه إلى الإتقاء.

الحجر والصولجان.. السياسة والعمارة الإسلامية(4)

خروجًا عن المعتاد يجئ كتاب «الحجر والصولجان.. السياسة والعمارة الإسلامية» لخالد عزب ليقدم لنا رؤية للعلاقة البينية بين السياسة والعمارة، لاشك أنها جريئة وتشكل حدثًا يستحق أن نقف عنده كثيرًا، المؤلف ذكر في مقدمة كتابه أن جدلاً ثار حول مادة هذا الكتاب حينما قدمها كجزء من أطروحته لمناقشتها كاد يفضي إلى عدم مناقشة الرسالة، حيث أصرت لجنة التحكيم على حذف كافة فصول هذا الكتاب، ينطلق من إثارة تساؤلات حول العمارة الإسلامية والسلطة بمكوناتها المختلفة.. السلطان ورجاله.. المجتمع وقواه الفاعلة والخاملة.. المبادئ الحاكمة للعلاقة بين الطرفين، تفاعلات متبادلة تعكس روح كل عصر وطبيعته. فجدلية العلاقة فرضت وجود مؤسسة الأوقاف التي من المفترض أنها تؤدي دورًا مهمًّا، يوازي بعض أدوار الدولة المعاصرة حاليًا، وبعض أدوار المجتمع المدني المعاصر، لكن انظر كيف كان وعي أهل الصولجان لكيفية توظيف هذه المؤسسة لتأمين معاش دائم لذريتهم، حيث إن الأوقاف محرم شرعًا مصادرتها، ومن ناحية أخرى لتوظيف العلماء ليكونوا موظفين لدى السلطة يأتمرون بأمر الواقف صاحب السلطة، هكذا جاءت العديد من المنشآت الدينية لتعبر في الوقت ذاته عن هيبة الدولة وعظمتها وقوتها، كما نرى في مدرسة السلطان حسن وجامع محمد علي.

كانت الأوقاف هي المحرك الوحيد لحركة العمران داخل المجتمع والواسطة بين السلطة بثرائها، والتجار وثرائهم، وبين الفقراء من خلال تقديمها للخدمات الاجتماعية إلى المجتمع، فلم يكن في القديم للدولة دور في تقديم الخدمات الاجتماعية بل يتوقف دورها عند حفظ الأنفس وإقامة المشاريع الكبرى التي تضمن زيادة ريع الدولة من الضرائب كشق الترع وإقامة الجسور والسدود وتأمين الطرق، ولما كانت الأوقاف تنبع من المجتمع وإليه فقد حقق المجتمع استقلالية نسبية في شؤونه.

في هذا الكتاب سيجد القارئ محاولة لاستكشاف عامل القيمة ودوره في العمارة الإسلامية، فهذا العامل هو أخلاقي رفيع نراه في أحكام طبقت من خلال فقه العمارة، فأنتجت صياغات جمالية من حيث مظهرها، لكن هذه الجمالية الشكلية تحمل في طياتها مضمونًا قيميًّا غير ظاهر للعيان، لكن الدراسة الدقيقة تكشف عنه، وعلى هذا فالفرد المتلقي للعمارة هو إنسان مرهف الحس يدرك ما تحمله من معان مركبة، وسيجد القارئ تارة نفسه بين طرز معمارية مختلفة من دولة لدولة كل منها يحمل بين جنباته سمة هذه الدولة أو تلك، وتعكس العمارة هيبة الدولة وقدرتها بل تعكس قدرة الدولة الاقتصادية وإرادتها السياسية. هكذا تتحدث العمارة فهي ليست حجرًا بل رداء للحياة وذاكرة حية للمجتمعات.

تعددت المناهج التي درست العمارة الإسلامية، ومعظمها درس من منظور بسيط غير مركب، وهو ما أدى إلى أحادية النظرة لهذه العمارة، وبالتالي قصور في إدراك ماهيتها. وكانت معظم الدراسات خلال العقود الماضية تركز على الدراسة الوصفية التي ترسم الشكل المعماري من خلال الكلمات، دون البحث عن البنية التي صاغت هذه العمارة ونحتت زخارفها المبهرة نحتًا يخطف الأبصار، أو تأصيل عناصرها المعمارية و الزخرفية إلى أن تصل أحيانًا بها إلى عمارة ما قبل الإسلام، دون أن يدرك هذا المنهج التأصيلي أن هناك بوتقة صهرت فيها هذه العناصر، وأعيد إنتاجها مرة أخرى بما يتوافق مع روح الحضارة الإسلامية، بطريقة تحمل في أغلب الأحوال إبداعًا يفوق ابتكار العنصر نفسه.

إذن فنحن أمام عدد من مستويات الدراسة ومحدداتها لكي نستطيع أن ندرس العمارة الإسلامية، وأول هذه المحددات هو تحديد بنية العمارة الإسلامية، ونحن نقصد هنا بالبنية العلاقة المتشابكة بين المكونات المادية والفكرية للعمارة، فالبنية هنا تربط بين الكل الواقعي أو تجمع أجزاءه، لذا فهي تعد القانون الذي يضبط هذه العلاقة.

يجب هنا التمييز بين (البنية السطحية) و(البنية العميقة)، فالبنية السطحية هي كل هيكل الشيء ووحدته المادية الظاهرة، أما البنية العميقة فهي كامنة في صميم الشيء، وهي التي تمنح الظاهرة هويتها وتضفي عليها خصوصيتها. وعادة ما يعي المرء إدراك البنية السطحية المادية المباشرة، فإدراكها أمر متيسر، أما إدراك البنية الكامنة فهو أمر أكثر صعوبة، يتطلب استخدام الحواس وإعمال العقل والخيال والحدس. لذا عادة ما يعيش البشر داخل بُنى اجتماعية وتاريخية واقتصادية يستنبطونها فتؤثر في سلوكهم وتشكيل رؤيتهم للكون وتحدد خطابهم الحضاري دون وعي منهم.

لذا لكي نصل إلى بنية العمارة الإسلامية، يجب أن نفك هذه العمارة، ونعيد تركيبها مرة أخرى، وعبارة فك الشيء تعني فصله وفرق أجزاءه بعضها عن بعض، وعكسها (ركب الشيء) أي جعل الشيء بعضه فوق بعض وضمه إلى غيره- وهذه العملية تهدف إلى فصل مكونات العمارة، ثم إعادة ضمها إلى بعضها من خلال نموذج تفسيري يوضح هذه العملية، وبذلك يمكن الوصول إلى ماهية العمارة الإسلامية.

وتعتمد هذه الدراسة في بناء النموذج التفسيري على دراسة العلاقة بين التحول السياسي، والذي يعني انتقال السلطة من جماعة سياسية إلى أخرى، وهو ما يطلق عليه ابن خلدون العصبية السياسية التي تقوم عليها الدول، على نحو ما حدث من انتقال للسلطة من الأيوبيين إلى المماليك في مصر، ومن المماليك إلى العثمانيين ثم إلى محمد علي وأسرته.

وهذا الانتقال عادة ما يصاحبه تغير في نمط أو طرز العمارة وفي تخطيط المدن، ولا يكون مثل هذا التغير سريع الحدوث، بل يأخذ وقتًا من الزمن، وهذا ما عبر عنه ابن خلدون (في أن رسوخ الصنائع في الأمصار، إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها). ونستطيع أن نترجم هذه العبارة معماريًا بأن الطراز المعماري المميز لأي عصر لابد له من وقت لكي تتضح معالمه، وهذا التميز المصاحب لأي طراز لابد وأن ينشأ في ظل استقرار سياسي يتيح للمعماري الإبداع.

وهناك ثلاثة مستويات من البنى تحدد العلاقة بين العمارة والسياسة:

المستوى الأول: العمارة كشاهد سياسي، وهو يمثل البنية السطحية، وفي هذا المستوى تكون العمارة سجلاً للعديد من الأحداث السياسية التي مرت عليها، أو حدثت في المنشأ المعماري، أو تركت أثرها عليها، ومن أمثلة ذلك باب زويلة الذي شيد في العصر الفاطمي ليكون أحد أبواب حصن القاهرة مقر حكم الفاطميين بالعاصمة المصرية، وكان ذا وظيفة حربية، إذ أنه كان يغلق على الحصن الذي كان يضم قصور الفاطميين ومسجدهم الجامع وجندهم ومواليهم.

ولكن.. منذ عام 658هـ/1259م، حين وسط المظفر قطز أحد سلاطين المماليك أحد رسل التتار بظاهر باب زويلة، ثم علق رؤوس رسل التتار الأربعة على باب زويلة. اكتسب الباب منذ ذلك الوقت وظيفة سلطوية سياسية خاصة مع تلاشي دوره الحربي، وتوالت حوادث الإعدام عليه، منذ ذلك الحين حتى القرن التاسع عشر الميلادي، وأعدم السلطان المملوكي طومان باي آخر سلاطين المماليك على هذا الباب، وكان هذا الإعدام رمزًا لبداية عصر العثمانيين في مصر ونهاية عصر المماليك. وفي العصر العثماني وعصر محمد علي توالت عمليات تنفيذ حكم الإعدام على هذا الباب حتى عصر الخديوي إسماعيل. كان لجلوس متولي الحسبة بالقاهرة عند هذا الباب أثره في تغير اسمه لدى العامة إلى باب المتولي. وبمرور الوقت نسي الناس السبب الحقيقي لهذه التسمية، وتصوروا أن المقصود بالمتولي أحد الأولياء الصالحين، ومن ثم ظل هذا الباب يتقرب إليه بعض العامة بربط الخرق بمساميره.

كما يسعى السلاطين بإثبات انتصاراتهم على عمائرهم بصورة أو بأخرى لتكون شاهدًا على هذه الانتصارات،ومن ذلك تعليق خوذة ملك قبرص على باب مدرسة السلطان الأشرف برسباي بالقاهرة والتي انتهي من تشييدها عام 829 هـ / 1425م، وهي السنة التي فتحت فيها قبرص.وظلت هذه الخوذة باقية حتى القرن 11 هـ / 17 م.

المستوى الثاني: الرمزية السياسية للعمارة، وهو يمثل أحد جانبي البنية العميقة.في هذا المستوى تجسد العمارة قوة الدولة وتوجهاتها السياسية.ومثل هذا النوع من العمائر شاع في العمارة الإسلامية. تتمثل هذه الرمزية في عدد من المدلولات المعمارية،يحمل بعضها مضمونا حضاريا وبعضها الآخر مضمونا سلطويا سياسيا، ويجمع بينهما أحيانا بعض العمائر ذات الدلالات المتعددة. تعد قبة الصخرة والحرم القدسي الشريف حولها أبرز العمائر التي تحمل مضامين حضارية. يعود تشييد القبة إلى العصر الأموي، الذي شهد نزاعا حضاريا بين الدولة الأموية والدولة البيزنطية على السيطرة على العالم القديم،اتخذ هذا النزاع صورا متعددة. منها تعريب طراز أوراق البردى التي كانت تصنع في مصر.وتعريب للنقود في إطار سياسة رسمها عبد الملك بن مروان الهدف منها إرضاء الشعور الديني والسياسي للمسلمين، ورغبته في إعادة حق ضرب النقود إلى الخلافة في شخص الخليفة كمظهر من مظاهر الملك والسلطان بعد أن انتزع حق ضرب النقود كثير من الولاة والثائرين فكان الإصلاح النقدي سببا مهما في القضاء على الفوضى السائدة تحقيقا للاستقرار السياسي.فضلا عن أن النقد العربي الخالص يعبر عن سيادة الدولة وخروجها من تحت عباءة النفوذ الاقتصادي البيزنطي،لذا اتجه عبد الملك إلى الاستقلال الاقتصادي بتعريب النقود، فضلا عما يتيحه هذا من توحيد النظام النقدي في دولة تمتد عبر مساحات شاسعة من الأراضي.

اتجه عبد الملك بن مروان في إطار هذا المخطط الشامل إلى العمارة التي ترمز إلى سيادة الدولة واتجاهها الفكري، ففي القدس تبنى مشروعا ذا طابع سياسي ديني حضاري، يرتكز على الاهتمام بعمارة الحرم القدسي الشريف خاصة قبة الصخرة والمسجد الأقصى، لارتباط هذا الحرم بالعقيدة الإسلامية فهو أول القبلتين، وفيه صلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالأنبياء واليه كان إسراؤه ومنه كان معراجه. ولما كانت عمارة الحرم آنذاك بسيطة لا تتناسب مع ما حولها من كنائس،خاصة كنيسة القيامة المقدسة لدى المسيحيين، وما قد تحدثه عمارة الكنائس في نفوس بعض المسلمين، ورغبة عبد الملك في إثبات الهوية الحضارية الجديدة للمدينة. تبني مشروع عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى.

ويلفت الانتباه من هذا المشروع قبة الصخرة،إبراز آثار الحرم، فهي تعد أول عمل معماري واع لعظمته بل متباه بها، انتهى من بنائها عام 72 هـ / 692 م. وهي ترى من مسافات بعيدة، وهي مبنية فوق صخرة مقدسة، حولها ممران يدوران حولها بمسقط مثمن،شامخة في الهواء في مركز الحرم القدسي على تل من تلال القدس.

الرمزية السياسية لعمائر القاهرة :

نرى هذا يتكرر في القاهرة أيضا، حينما اختار السلطان الكامل الأيوبي أن يشيد دار الحديث الكاملية في داخل القاهرة الفاطمية وعلى قصبتها العظمى، ليأتي الصالح أيوب من بعده ليشيد مدرسته عام 647 هـ /1249 م. على جزء من القصر الشرقي الفاطمي،لتستمر بذلك الأهمية السياسية لهذا الموقع الذي تأكد بإلحاق شجرة الدر ضريحا للصالح بالمدرسة عام 648 هـ /1250 م. وذلك وفاء لزوجها السلطان، ولكي تذكر مماليكه بولائهم له ولها بالتبعية، وشيدت لنفسها قبة بالتبعية، وشيدت لنفسها قبة ضريحية بالقرب من مشهد السيدة نفيسة حملت ألقابا لها دلالات سياسية تعبر عن الفترة التي استبدت فيها بحكم مصر بعد وفاة تورانشاه بن الصالح نجم الدين أيوب. كان موقع مدرسة الصالح أيوب جزءا من القصر الشرقي الفاطمي الكبير، وهو ما أتاح للظاهر بيبرس البندقداري فرصة لكي يختار جزءا من القصر لكي يشيد عليه مدرسته إلى جوار مدرسة الصالح، معلنا بذلك بداية تسابق على هذه المنطقة لتشييد المنشآت السلطانية، ولكي يكرس إعلانه لقيام دولة المماليك على أنقاض الدولة الأيوبية، ومثلت هذه المدرسة تطورا إضافيا في عمارة المدارس في مصر وملحقاتها، اذ ضمت كتابا وسبيلا لخدمة المارة ألحقا بها.

في كتاب يرصد مقر الحكم في مصر : د.خالد عزب يكشف علاقة العمارة بالتحولات السياسية(5)

امتداد لكتابه "الحجر والصولجان.. السياسة والعمارة الإسلامية" والذي صدر هذا العام عن دار الشروق  وقدم رؤية للعلاقة بين البينية بين السياسة والعمارة، رؤية جريئة نطلق من إثارة تساؤلات حول العمارة الإسلامية والسلطة بمكوناتها المختلفة، السلطان ورجاله، المجتمع وقواه الفاعلة والخاملة، المبادئ الحاكمة للعلاقة بين الطرفين، تفاعلات متبادلة تعكس روح كل عصر وطبيعته. يواصل الكاتب والمؤرخ د. خالد عزب في كتابه (دار السلطنة في مصر: العمارة والتحولات السياسية) الصادر عن المجلس الأعلي للثقافة هذا الأسبوع  الكشف عن فحوي العلاقة ما بين السلطة والعمارة والسياسة. قاصدا بالتحولات انتقال السلطة من جماعة إلي جماعة أو من فرد إلي فرد، وهذا الانتقال يكون له في أغلب الأحوال أثر مباشر علي العمارة، يتضح بصفة خاصة في مقر الحكم. وهذا المقر إما يستمر في ضوء انتقال السلطة في أداء دوره ووظائفه. وإما تغير طبيعة هذه الوظائف تبعا لمراسم السلطة الجديدة وتقاليدها، أو يتغير التركيب الداخلي لهذا المقر تبعا لنمط السلطة الجديدة. أو ينتقل مقر الحكم إلي مكان آخر جديد بعيدا عن المقر القديم الذي يكون في بعض الأحيان محاطا بأنصار السلطة القديمة. وقد يكون المقر الجديد محاولة من السلطة لإثبات وجودها علي الساحة السياسية للبلاد. ويحاول الكتاب استكشاف معطيات متعددة في هذا المجال.

ويمثل هذا الكتاب إضافة مهمة للباحثين فهو يرصد مقر الحكم في مصر، مكانه وتطور عمارته منذ فتح مصر علي يد عمرو بن العاص، الذي أنشأ الفسطاط كمقر لعسكره وعاصمة يحكم منها مصر، إلي أن تغير اسمها الي مدينة مصر لكونها تجمع كل المصريين عند التقاء الوجة البحري بالصعيد، وهو المكان نفسه الذي شيدت فيه منف من قبل لتعبر عن تواصل مصر من الشمال إلي الجنوب عبر نهر النيل، ثم يرصد الكتاب ظهور ضواحي شمال الفسطاط التي اتخذت مقارا للحكم مثل العسكر والقطائع، ويعرج علي الحصن الفاطمي الذي سمي القاهرة، وشيده الفاطميون ليكون حصنا معزولا عن مدينة مصر " الفسطاط".

ثم يدرس تفصيلا قلعة صلاح الدين الايوبي التي شيدها ببراعة بهاء الدين قراقوش، ومقومات هذه القلعة كمقر للحكم من دواوين وأسوار وأبراج وقصور ودار عدل وغيرها من المنشآت التي توحي بوجود مقر سلطاني يليق بدولة عظمي، استمر حتي ظل الحكم العثماني مقرا للحكم في مصر.

هذا الكتاب النفيس بمثابة مقدمة للدراسات التحليلية للعمارة الإسلامية، وإجابة شافية لتساؤلات منها: ماهية العلاقة بين السلطة والسياسة، والعلاقة بين المجتمع المدني والعمارة؟ وكيف تم التحول من النمط المعماري الإسلامي الي النمط المعماري الغربي ؟

يمحص المؤلف وهو باحث وكاتب ذائع الصيت معروف بدراساته المستفيضة في مجال العمائر الاسلامية، التحولات التي طرأت علي مقر الحكم في مصر لأنها تبرز دور السياسة في صياغة العمران خاصة مع المركزية الشديدة للحكم في مصر، تلك المركزية التي نراها في سطوة مقر الحكم لي العاصمة المصرية منذ العصر الايوبي الي عصر الخديوي اسماعيل

وقد واجه المؤلف خلال فترة اعداده لهذا الكتاب صعوبات عديدة، وفي سعيه نهل من دراسة " أولج جرابار "عن "العمارة والقوة" والتي ركز فيها علي مدي إظهار العمارة الحربية لقوة السلطة الحاكمة، دراسات " ناصر الرباط" كما لجأ الي الوثائق والمصارد والمراجع.

لقد وقف علماء السياسة الشرعية، وهم المعنيون بالدراسات السياسية في العصور الاسلامية عند الماوردي وكتابه "الاحكام السلطانية"، وبقي كتابة لقرون طويلة الاساس المرجعي لتحديد مؤسسات الدولة الاسلامية. ولم يحاول أحد أن يرصد ما طرأ من تطور نتيجة لانتقال السلطة وتغير تركيبتها. ويعد مقر الحكم وما اشتمل عليه من معالم صورة يمكن من خلالها استكمال ما جاء في كتاب الماوردي الذي وقف عند نموذج بغداد.

كان الماوردي الذي عاش في العصر العباسي، منظرا لمقر الحكم في صورته البسيطة والتي نراها في الفسطاط، ثم في صورته الاكثر تركيبا والتي نراها في بغداد. لقد عبر تأسيس الفسطاط عن المشروع الفكري والحضاري للدولة الاسلامية آنذاك، فعمرو بن العاص أراد أن يكون مجتمع الفسطاط منفتحا علي المجتمع المصري لذا لم يشيد سورا للفسطاط، بل جعلها مدينة مفتوحة وشجع الاقباط علي الاقامة بها، وشيدوا كنائس فيها. بينما حملت الدولة الفاطمية مشروعا يقوم علي فرض الخلافة الفاطمية الاسماعيلية في مصر، ولذا كان مقر حكمهم منعزلا عن المصريين، ولم يشرعوا في كسب المجتمع الا في عصر ضعفهم حين شيدوا أضرحة لآل البيت لكسب العاطفة الدينية عند المصريين. وحمل صلاح الدين مشروعا دفاعيا في وجه الهجمة الصليبية؛ لذا بات تشييد قلعة الجبل والأسوار في العاصمة المصرية همة الأول. بينما كانت دولة المماليك دولة تقوم علي القوة العسكرية لأفرادها، لذا بات الاستيلاء علي مقر الحكم آنذاك استيلاء علي حكم مصر وبلاد الشام. وظلت القلعة رمزا للسلطة في العصر العثماني.

ومع مجئ محمد علي بدأت المفاهيم السياسية في التغير، واصبح دور الدولة يتعاظم داخل المجتمع ، حتي صارت حياة الافراد مرهونة بسياسات الدولة، ومع انتقال الحكم الي المدينة بعد سنوات من عزلته، أصبحنا أمام نقله سياسية وعمرانية. فالحاكم الذي كان يتحصن خلف الأسوار، أجبرته المدفعية علي مغادرة الحصن. وصار مقر حكمه في داخل المدينة وسط الناس متحصنا بالمدينة والناس. وتحولت المدينة كلها الي مقر للحكم، فبها قصر الحاكم والدواوين أو الوزارات. واستتبع هذا اخضاع المجتمع لسيطرة السلطة من خلال فكرة الدولة التي تنظم كل شئ وتحدد أهدافه طبقا لسياستها، فأصبحت الشوارع منظمة والتعليم منظما، وحتى وقت الناس خاضعا لفكرة النظام الذي يفرض هيمنة الدولة علي كل شئ.

تقلص في ضوء ما سبق دور الولاية الجماعية والولاية الخاصة الي أبعد حد ممكن تصوره لصالح الدولة. فبعدما كانت حركة العمران تخضع لسلطة المجتمع المتمثلة في فقة العمارة، والتي كانت قانون يطبقة الجميع دون الرجوع الي الدولة. فرضت الدولة علي المجتمع قوانين عمرانية ومعمارية وأنشأت جهازا يتولي تنفيذ هذه القوانين ورقابة حركة العمران في المجتمع، هو ديوان الاشغال.

ومن هذا المنطلق يحاول الكتاب رسم صورة متكاملة لطبوغرافية مقر الحكم منذ صورته البسيطة في الفسطاط حتي صورته المركبة في القاهرة الي صورته الأكثر تركيبا ووضوحا في قلعة الجبل. كما يرصد المؤلف أثر التحولات السياسية علي هذا المقر في العصور المختلفة. ومدي تأثر هذا المقر بتركيبه السلطة الحاكمة. وما طرأ من تغير علي مقر الحكم نتيجة لتغير نمط السلطة وفكرها مع أسرة محمد علي.

لذا فقد حدد المؤلف مفهوم التغيير، بأنه الخروج عن النمط المعتاد. اما التطور فهو احداث اضافات تتواءم مع المستجدات. وما حدث في العصور الاسلامية المتلاحقة هو تطور طبيعي وتلقائي نتيجة للخبرة المتراكمة. أما ما حدث في عصر أسرة محمد علي فهو تغيير جذري في نمط الحكم وطبيعته وبالتالي في طبيعة مقر الحكم وتركبيته. ولم يجئ هذا دفعة واحدة ، بل جاء علي مراحل متتالية وصلت أوجها في عصر الخديوي اسماعيل.

ويري د.خالد عزب أن الدراسات المتعلقة بالعمارة في العصور الإسلامية المختلفة ارتبطت برؤي جزئية، تري الأجزاء المتفرقة دون جمعها تحت مظلة واحدة. ومن هنا نبعت فكرة هذا الكتاب لجمع هذه الاجزاء، في محاولة لفهمها وطرح رؤية تحلل أسباب وجود العديد من الأنماط المعمارية.

يشير المؤلف من خلال هذا الكتاب إلي ان ثمة ثلاثة مستويات من العمائر، المستوي الأول: يتعلق بالسلطة، ويتمثل في مقر الحكم أيا كان موقعه من العاصمة أو المدينة. والمستوي الثاني: يتعلق بالخدمات والمرافق داخل المدينة، وهذا المستوي مشترك بين السلطة والمجتمع، ويبرز بصفة خاصة في مؤسسة يمكن أن نعتبرها وسيطة، هي مؤسسة الأوقاف. والمستوي الثالث: عمائر المحكومين، وهي لا تخضع لسيطرة السلطة إذ إن حركة العمران داخل الأحياء تخضع للسيطرة الجماعية لقاطنيها ولحقوق أفراد المجتمع.

ويكشف المؤلف أن المدينة في العصور الاسلامية تشكلت فيها المسئولية عن طريق الولاية او مانعرفه حاليا بالمسئولية، فهناك ولاية عامة وجماعية وخاصة. فالولاية العامة دورها كان يتجسد في أغلب الأحيان في السلطة الحاكمة ونراه بصفة خاصة في دار الإمارة والمسجد الجامع وأسوار المدن. والولاية الجماعية تظهر الهياكل الحضرية الوسيطة واستمرارها كالأحياء السكنية والتنظيمات الحرفية والدروب المشتركة والملكيات الجماعية وغير ذلك. أما دور الولاية الخاصة فيرتبط بالحياة الفردية من بناء المساكن واستعمالها اليومي والتصرف فيها.

ويتعلق موضوع هذا الكتاب بالمستوي الأول؛ إذ أن عمائره ترتبط بالسياسة ارتباطا وثيقا، ونستطيع أن نقول انها عمائر ذات طبيعة سياسية بحتة، وان تداخلت هذه الطبيعة مع عوامل أخري كالعامل الديني في المسجد الجامع أو مساجد الصلوات الخمس، او عامل فقة العمارة أو قانون العمران عند وقوعها في داخل المدن..ولكنها في النهاية منشآت ذات طبيعة سلطوية. وهذا الكتاب يحاول أن يفسر طبيعة العلاقة بين العمارة والسلطة الحاكمة.

يضم هذا الكتاب بين دفتيه ستة فصول؛ يتناول الأول نشأة مقر الحكم في مصر منذ فتح العرب لها. فتعرض لبناء مدينة الفسطاط عاصمة، وبساطة مقر الحكم بها، فهذه المدينة لم تشهد دارا للإمارة الا عندما بني عبد العزيز بن أحمد بن مروان دارا للامارة عرفت بدار الذهب، ثم بناء ضاحية العسكر مقرا لحكم العباسيين يف مصر الي أن بني أحمد بن طلون القطائع مقرا لحكمه، ثم عودة مقر الحكم الي العسكر بعد قضاء العباسيين علي الدولة الطولونية. وتعرض الفصل لاتخاذ الحصون كمقار للحكم منعزلة عن العاصمة، وهو ما نجسد في القاهرة حصن الفاطميين في مصر. تحول هذا الحصن بمرور الوقت ومع سقوط الدولة الفاطمية الي جزء من التكوين الحضري للعاصمة المصرية، كان الحكام قد أدركوا سرعة اندماج الحصون في الحياة الحضرية للمدن؛ لذا ومع الحروب الصليبية أدركوا أهمية اتخاذ القلاع التي شيدت علي الجبال أو علي الهضاب مقار للحكم. وهذا يفسر اتجاه صلاح الدين الايوبي لتشييد قلعة الجبل كمقر للحكم.

فيما خص الفصل الثاني لنشأة القلعة. مرت قلعة الجبل بمرحلتين أساسيتين، الأولي هي مرحلة التأسيس وهي موضوع الفصل، هذه المرحلة بدأت علي يد صلاح الدين وامتدت الي انتقال الكامل بن العادل الي القلعة ليتخذها مقرا لحكمه عام 604 هـ /1207 م. وفي هذه المرحلة باتت القلعة تستكمل مقوماتها باعتبارها مقرا للحكم. وتناول الفصل التغييرات التي طرأت علي القلعة الي عصر الأشرف خليل . و توقف المؤلف عند اتخاذ الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة مقرا لحكمه وبين مدي أهمية قلعة الجبل في تلك الفترة.

جاء الفصل الثالث ليبين المرحلة الثانية التي مرت بها القلعة باعتبارها مقرا. وتتمثل في عصر الناصر محمد بن قلاوون حيث وصلت القلعة في هذه المرحلة الي قمة ازدهارها، واستكملت مقوماتها علي أنها مقر لحكم مصر والبلاد التابعة للسلطنة المملوكية وتتمثل هذه المقومات في المساجد بخاصة المسجد الجامع للقلعة، ودار العدل، القصر الأبلق وقاعة الاعمدة والحوش السلطاني والنطاق الشمالي وما يحتويه من طباق للجند وأسوار ودواوين ودار النيابة، والاسطبل، والميدان.

هذه الدراسة الرأسية صاحبها دراسة أفقية موازية لها للتحولات التي طرأت علي القلعة منذ عصر الناصر محمد الي دخول الفرنسيين مصر، ما طرأ علي القلعة من تقسيم في العصر العثماني نتيجة لطبيعة الحكم في ذلك العصر، وما أحدثه الفرنسيون من تدمير في القلعة.

تناول الفصل الرابع القلعة في عهد محمد علي وخلفاؤه. حيث تدل أعمال محمد علي في القلعة علي استيعابه لتقنيات العصر، ولنا في ذلك ثلاثة اجراءات اتخذها: الأول كان انشاؤه قلعة فوق جبل المقطم اعلي قلعة الجبل. والثاني: إقامة أبواب جديدة للقلعة تسمح بمرور العربات التي بدأت تشيع في مصر منذ دخول الفاطميين. والثالث: تشييده دارا للصناعات الحربية في القلعة منها: سراي الحرم وسراي الجوهرة ودار الضرب وسراي العدل والقصر الأحمر ومسجده، عكس هذا الفصل مدي اهتمام خلفاء محمد علي بالقلعة والاضافات والتجديدات اتي أحدثوها.

عرض الفصل الخامس لانتقال مقر الحكم من القلعة الي القصور وتتبع جذور القصور مقار الحكم في مصر الي عصر محمد علي حيث تنقل بين القلعة وقصري الازبكية وأثر النبي الي أن استقر في قصر شبرا. وفي عهد عباس حلمي الأول تنقل بين القلعة وقصره بالحلمية وقصر العباسية، وتنقل سعيد باشا بين قصوره والقلعة. واستقر مقر الحكم في عهد الخديوي اسماعيل في قصر عابدين الذي شيد علي طراز عصر النهضة الفرنسي المستحدث ليواكب اتجاهه نحو تغريب مصر وتحويلها الي نمط الحكم الغربي.

وقد انطلق المؤلف من الحديث عن بنية العمارة، بتفكيكها في محاولة للفهم، فوجد من خلال هذا التفكيك أن العلاقة بين العمارة والسياسة تقوم علي ثلاثة مستويات كانت هذه المستويات هي محور الفصل السادس بعنوان" العلاقة بين العمارة والسياسة – رؤية تحليلية" . وفي هذا الفصل تم دراسة ثلاثة مستويات من العلاقة بين العمراة والسياسة. المستوي الأول العمارة شاهدا سياسيا، وفي هذا المستوي تكون العمارة سجلا للعديد من الاحداث السياسية التي مرت عليها، أو حدثت في المنشأ المعماري، أو تركت أثرها عليه والمستوي الثاني الرمزية السياسية للعمارة وفي هذا المستوي تجسد العمارة قوة الدولة وتوجهاتها السياسية . ومثل هذا النوع من العمائر شاع في العمارة الاسلامية . تتمثل هذه الرمزية في عدد من التعابير المعمارية، يحمل بعضها مضمونا حضاريا، وبعضها الآخر مضمونا سلطويا سياسيا، ويجمع بينهما بعض العمائر ذات التعابير المتعددة. المستوي الثالث يتمثل في العلاقة الفكرية بين السياسة والعمارة. وهذه العلاقة هي التي تحكم طبيعة العمارة وموضوعاتها وحركيتها وتخطيطها. وهي تنبع من التوجة السياسي للسلطة، هذا التوجه يكون أيديولوجيا، ينعكس علي العمارة في صور متعددة، وهو لا يحدث دفعة واحدة، بل يطل علي العمارة القائمة علي مراحل حتي يكسبها – عند التحول من نمط الي نمط بتغير السلطة- شخصية جديدة، تعرف عند الآثاريين والمعماريين بالطراز المعماري.  

مسرحية بالقاهرة تحذر الجمهور من الاحتلال الأمريكي(6)

مسرحية مصرية تنتقد التواجد الأمريكي في الشرق الأوسط

 يؤمن المخرج المسرحي الاشتراكي خالد الصاوي بأسلوب الصدمة في نقل رسالته التحذيرية الى الجمهور الذي يتدفق بأعداد كبيرة على المسرح الذي يقدم عليه أحدث أعماله.

يجتاح فجأة ممثلون في ثياب مشاة البحرية الامريكية وهم يحملون بنادق خشبية مقصف المسرح حتى قبل ان يجلس المتفرجون على مقاعدهم ثم يعمدون الى التحرش بالمتفرجين وتفتيشهم وترويعهم لتهيئة الاجواء لعرض يتصدى لأبعاد احتلال امريكي يراه محتملا.

مسرحية الصاوي "اللعب في الدماغ" ذات النبرة السياسية العالية التي دخلت شهرها الثالث الان في مسرح "الهناجر" الصغير بدار الاوبرا بالقاهرة تعد في حد ذاتها دليلا على فشل واشنطن في جعل المصريين ممتنين لمليارات الدولارات التي يحصلون عليها كمعونة امريكية.

المسرح السياسي الصريح أمر غير عادي في مصر خاصة عندما يكون بين الشخصيات التي يجسدها الممثلون الرئيس الامريكي جورج بوش وجنرال امريكي يدعى تومي فوكس يتولى منصب الحاكم العسكري للعراق.

وتعبر المسرحية التي تجاوز عرضها المدة المقررة في برنامج المسرح الشكوك العميقة في العالم العربي بشان النوايا الحقيقية للولايات المتحدة في الشرق الاوسط وتمضي أبعد بكثير مما يمكن للساسة المصريين قوله علنا.

من الافكار الاساسية في العمل ازدواجية السياسية الامريكية حيث تحاول من جانب استمالة العرب بوعود الصداقة الا أنها تحط من شأن القضايا العزيزة على قلوب العرب من ناحية اخرى.

على شاشة في خلفية المسرح يظهر بوش وهو يقول باللغة العربية "اننا نحبكم . صدقوني."

بعربية مكسرة يقول الجنرال فوكس فيما يرقص على ايقاعات موسيقى صاخبة وهو يرتدي زي مشاة البحرية "سألوني تهب ايه ياتوم أنا قلت الهرية.. أنا أهب المصريين كتير والامة الاربية."

ويغني فوكس الذي كان اسمه فرانكس في النسخة الاولية من العرض على اسم قائد القوات الامريكية اثناء غزو العراق قائلا "سألوني بتضرب ليه ياتوم أنا قلت بلاش غباوة..النار دي هاجة لازم ألشان (علشان) تيجي الهلاوة (الحلاوة)."

وعبر مزيج من الرمزية السياسية والاداء المسرحي الصاخب والوسائط الاعلامية الحديثة والموسيقى يقول الصاوي لجمهوره ان العالم العربي يواجه خطر الاستعمار والرأسمالية والعولمة.

وتندلع اشتباكات على الحدود الاسرائيلية المغربية في اشارة الى توسع اسرائيل حتى سواحل شمال افريقيا كما تسقط العواصم العربية في ايدي قوات غازية وتظهر الدبابات الامريكية في ميدان التحرير بقلب القاهرة.

ولا يسلم الحكام العرب ايضا من الانتقاد في المسرحية التي تنادي بضرورة تولي حكومات جديدة زمام الامور مع اشارة الى فشل أحمد عرابي في وقف الغزو البريطاني لمصر عام 1882.

ويتلقى بوش النصائح من مستشار ماكر قصير القامة ينصحه بأن يعامل رعاياه العرب بنفس مستوى التقدير الذي يكنه لاحب شيء الى قلبه.

وعندما يقول له بوش ان حبه الأكبر كان لكلبه الأول بوبو يقول له المستشار أنه قد صار لديه الان "مئة مليون بوبو" يمكنه ملاطفتهم وتدليلهم.

وقال الصاوي أنه لم يواجه أي عراقيل امام عرض مسرحيته التي يقدمها في مسرح الهناجر الليبرالي التابع للدولة.

واضاف ان مسؤولي الرقابة حضروا كما جرت العادة التجارب الاخيرة قبل بدء العرض العام إلا أن الصاوي رتب لحضور 600 من زملائه النشطين للتجارب نفسها تعبيرا عن تضامنهم معه.

ومجمع الاوبرا الذي يقدم فيه العرض شيد باموال المعونة اليابانية في الثمانينيات.

ويشتكي المشرعون الامريكيون من انه رغم ان المساهمة اليابانية معروفة للمصريين جيدا فان قليلين في مصر هم الذين يعرفون ان واشنطن أنفقت اضعاف ما قدمه اليابانيون اذ قدمت مليارات الدولارات لاصلاح نظام الصرف الصحي بالقاهرة.

ويقول الصاوي الذي يؤدي شخصية الجنرال فوكس انه يعتبر نفسه نشطا اشتراكيا راديكاليا وان المسرحية تستهدف مهاجمة الوجود الامريكي والبريطاني في العراق والصهيونية والعولمة الرأسمالية.

وقال في مقابلة مع رويترز انه عارض ايضا الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي قال انه يتعين محاكمته علنا كي يكشف تاريخ علاقاته مع الولايات المتحدة.

وأضاف "أشياء كثيرة ستتضح حينئذ. صدام كان لعبة في أيدي الامريكيين مثل (زعيم القاعدة) أسامة بن لادن. حلفاء اليوم أعداء الغد."

وقال الصاوي ان المقاومة المسلحة هي الرد الامثل ضد القوات الأمريكية والبريطانية في العراق.

واضاف "ربما يستطيعون ترسيخ مجتمع أفضل اذا هزموا الاحتلال. النقطة المهمة بالنسبة لي هي كيف يتحول العراق الى فيتنام اخرى حيث ترفض اغلبية الشعب الاحتلال."

الاستبداد الرمز والقائد الضرورة(7)

 في الثقافة العربية كانت الغلبة دوماً للمثل السياسي على حساب غيره من النماذج الأخرى المؤثرة في حياة الناس، هذا مع احتفاض المثل الديني دوماً بالأهمية نتيجة ما يحاط به من هالة تصل إلى حدّ القداسة. وعربياً، كان القائد القدوة والرمز مثلاً لسيادة السياسي وغلبته على الإرادة الشعبية، واسم الشرعية كان دوماً هذا الرمز يطيح بالخصوم، فكل الشرعيات في العالم الثالث كانت تقوم على شرعية الرجل الواحد، ولم يكن ذلك الواقع وليد لحظة تاريخية معاصرة بل أنه راسب في جذور العقل العربي بخاصة والانساني بعامة.

في التاريخ القديم عندما كان يعتلي فرعون العرش كان على الناس أن يفرحوا ويبتهجوا لأن أحد الأرباب أقيم رئيساً في كل البلاد فسوف ترتفع مياه النيل ولا يهبط منسوبها. ولم يكن الحال في أرض الرافدين أقل تأليهاً للملك الذي تجتمع فيه قوى الآلهه مجتمعة، فشخصية الملك تتمتع بالقوة والعلم الإلهي ولا يخفى عليها شيء، وفي الأدب المصري القديم يقول أحد الوزراء: "إن جلالته عليم بكل شيء بما يحدث ويقع وليس هناك في هذه الدنيا شيء لا يوفه إنه "نون" إله الحكمة في كل شيء وما من معرفة إلا وقد أحاط بها.

 وقاد هذا التصور للملك أو الحاكم في أرض بابل التي كانت تماثل بلاد النيل في تصورها للملك إلى اعتبار الملك وكيلاً لإله المدينة وبالتالي كانت الفضيلة في بلاد ما بين النهرين عموماً هي الطاعة التامة للملك ممثل الآلهه على الأرض أو أنه ينوب عنها.

وفي بلاد فارس لقب الحاكم "بملك الملوك" وهو صاحب السلطة المطلقة، وعندما غزا الإسكندر فارس وجد الناس

يسجدون للإمبراطور ويؤلهونه فابتدع سياسته الخاصة ودمج بين الثقافة المقدونية والفارسية واقتبس من الفرس عادة السجود للملك. وفي أرض الصين كان الإمبراطور يستمد سلطته من السماء فهو ابن السماء وممثل الكائن الأعلى ومملكته تسمى تيان شان أي التي تحكمها السماء ومن هنا اقتبس الأوروبيون عبارة مملكة السماء. مثل هذه الرواسب هي التي انتجت مجتمعات لا تتصور فراغ السلطة أو غياب رمزها، ولهذا يميل نيال فيرغون في مقاله المنشور في مجلة Foreign Policy يوليو 2004م، إلى الاعتقاد بأن "السلطة مثل الطبيعة تنفر من الفراغ".

إن الحديث عن حضور الرمز وسقوطه يتصل بالمعاني الكبرى في حياة الناس أولاً فكما للخير رمزه كذلك الحال بالنسبة للشر، وكما للعدل رمزه فالحال مشابه بالنسبة للظلم، وبهذا فإن الرمزية تلقي بظلالها على القيم الإنسانية أولاً. ولعل الحديث عن قوة الرمز يقود بالضرورة إلى تفحص نصوص التراث التي تؤكد دوماً على أن لكل قيمة رمزها في حياة الشعوب، ولكن رمزية الاستبداد والسلطة التي يطغى عليها دوماً حوار الشرعية وهاجس البحث عن إطار للهوية الذي غالباً ما يميل إلى أن يضع للرمز السياسي صورة الراعي الكافل للحقوق والمحقق للأمنيات.

في عام 1940م كتب الأديب أحمد حسن الزيات رئيس تحرير مجلة الرسالة (فصل2، ص 187) "اللهم إنا نسألك الراعي الذي يطرد الذئب والدليل الذي يعمل المصباح والقائد الذي يرفع العلم وكل أولئك يا رباه أجمعهم في رجل واحد هو أشبه الناس بالمهدي المنتظر والإمام المرتقب والمسيح الموعود". مثل هذا النص يتطابق مع نص من الحكمة البابلية القديمة التي تخاطب الملك بما يلي: "يا راعي الأحياء في المناطق الدنيا وحافظ الأحياء في الأعالي، أنت المدبر إنك لا تعجز أبداً".

مثل هذه الرواسب هي التي أوجدت قوة الرمز السياسي وهي التي كرست أيضاً رمزية الخوف وهي التي أوجدت سلوكاً خاصاً تجاه هذا الرمز أو ذاك الذي لا تظهر مقاومته إلا في لحظة السقوط. والرمز قد يكون ايضاً أيدلوجيا معينة أو فكرة معينة أو مدينة بذاتها. فحال سقوط بغداد أو القدس كانت الذات العربية تواجه سؤال الهوية، وحال سقوط التجربة الماركسية الليبرالية في تشيلي عام 1973م كان ذلك يعني سقوط شعب تشيلي في بحيرة من الدم وبأسر الديكتاتورية العسكرية، ولحظة النكبة الفلسطينية عام 1948م واجه العقل العربي سؤال الضياع، وعندما سقط الاستعمار الأميركي بتحرير الأرض الفيتنامية، بعد كفاح استمر ثلاثين عام، كان ذلك يعني التمكين وإعاد التوحد.

وقد يعني السقوط السياسي سقوط المجتمع وغرقه بوحل من الثنائيات والفوضى وفسيفساء التعدد، وقد حدث ذلك يوم سقط النموذج اللبناني عام 1975م أي حرب أهلية لا تزال آثارها موجودة. وكانت بيروت أهم العواصم العربية إطلاقاً في التعبير والحرية، ولكن حين فكر الفكر أن يتجسد واقعاً وممارسة كان صوته الرصاص.

وسقطت أنديرا غاندي رئيسة وزراء اكبر ليبرالية في آسيا لمجرد أنها أرادت عبر صدمه كهربائية كما ادعت أن تنبه لخطر التوازن المختل في اقتصاديات المجتمع الهندي، لكنها عادت بعد عامين من الهزيمة عام 1977م على أنقاض التحالف الديمقراطي الذي أسقطها لأنه لم يستطيع أن يحل مشكلة واحدة من أزمات الاقتصاد الهندي. وإذا كان الإنجليز افتخروا بأنهم أسقطوا تشرتشل بعد انتصاره في حرب كبرى فإن للهنود الحق نفسه بالنسبة لقائده أما باكستان فقد شنقت ذا الفقار علي بوتو الذي خسر الحرب وأنقذ الوطن.

وقد يمثل سقوط نظام أحلام كبرى وضياع مستقبل، حدث ذلك يوم سقطت الوحدة بين مصر وسورية وفي سقوط النظام الناصري في مصر والسودان، سقط في مصر حسب رأي غالي شكري في كتابه دكتاتورية التخلف ص 45، لأن الاتحاد الاشتراكي العربي التنظيمي السياسي الوحيد الذي كان يضم قوى الثوره والثورة المضادة معاً. وبغياب الديمقراطية كهمزة وصل حتمية بين خطة التنمية وتحرير الأرض.

إن تعامل العقل الشرقي عامة والعربي خاصة، يبدو شغفا بترميز السياسي حتى ولو كان مستبدا، فقد حدث وان علت المنادات احيانا بالمستبد العادل، وحدث ان اصبح القائد المستبد هو الرمز والضرورة التاريخية التي لا مناص من خوض غمار التعايش معها والدعوة للقائد الضرورة الذي يعرف كل شيء وينتصر على كل الاعداء ويقاوم كل الضغوط، حدث هذا في مقابل بحث المفكرين العرب عن جذور العقلانية والنهضة، ولا نعرف هل من سبيل لذلك في ظل طرح مبدأ القائد الضرورة؟. 

الإشهار والقرصنة السياسية(8)

قراءة سميولوجية

لقد ظهر الإشهار الخاص بسيارة فولسفاگن والذي نقدمه أسفله، على جدران فرنسا في شتاء 91 - 92. لقد كان العالم حينها يعيش على وقع تحولات سياسية هامة : سقط الاتحاد السوفياتي، وانهارت الشيوعية وقَذف بها الى مزبلة التاريخ أولئك الذين أسسوها، وانتعش وجنى خصومها ثمار هذه المآل.

إن هذا الإشهار هو موضوع قابل للوصف. إنه كذلك قبل أن يكون إرسالية، وقبل أن يكون خطابا قابلا للتأويل. ومن أجل وصفه، يجب التمييز بين أنماط مختلفة للتعبير لتحديد قراءتنا وتأويلنا الخاصين. لقد استند مسار هذه القراءة إلى أدوات نظرية مستوحاة من البنيوية ومن بارث، مع التركيز على بعض المعطيات التاريخية والثقافية والتداولية التي عادة ما يهملها الخطاب الشكلاني..

الملصق مجموعة من الحكايات المتداخلة

يشكل الملصق كلا منسجما، ويثير سلسلة من الحكايات التي يقوم القارئ بتحيينها انطلاقا من مخزونه الثقافي الخاص. ولقد آثرنا الاحتفاظ بثلاث منها لإبراز مستويات الدلالة التي يشتمل عليها هذا الملصق.

فرجة العطب

يبدو وجود الأشياء في الصورة لأول وهلة وكأنه وجود توتولوجي. إن هذه الأشياء ليست علامات إلا لنفسها، ولا تدل إلا على وجودها الخاص : >نحن أدوات<. إنها تشكل أيقونات(1)، إنها تحاكي الشيء. إلا أن هذا الوضع السميولوجي قابل للتغير وفق القراءة التي نتبناها. وسيتخذ هذا الوجود قيمة جديدة من خلال وجود النسق الكنائي : >نحن أدوات نموذجية للعطب panne، أو نحن، بعبارة أدق، تمثيله الفوتوغرافي<. إن الأمر كذلك، فالصورة تسلمنا الأشكال النمطية للعطب مع أدواته (مفتاح، وأداة نزع العجلات) ولوازمه (الخرقة) وخاصيته (التشحيم)(2).

إخراج العلم 

إن الوحدات الأساسية التي تثيرها الصورة هي : التناظر والمحاكاة والانزياح. وبناء عليه، فإن الأشياء التي تربطها علاقة تناظر مع علم الاتحاد السوفياتي تكتسب معنى جديدا. إن >العطب< يصبح الحد المقابل لمرجع غائب. وسيتيح لنا التناظر الشكلي والموضعي للأدوات ولون الخرقة تحديد سلسلة من المعادلات (معادلات سيؤكدها الشعار) بين الإخراج الفوتوغرافي ومرجعه وعلم الاتحاد السوفياتي.

إن أيقونات الملصق (صورة : أدوات المرآب) تحيل على مكونات علم الاتحاد السوفياتي. إن هذه الأدوات تتناظر من الناحية الشكلية مع عناصرالعلم التي تملك طابعا رمزيا بالمعنى الذي يعطيه بورس للرمز(المطرقة هي رمز للطبقة العاملة). وعلى هذا الأساس، فإن الإشهار يبلور لغة للصورة يفلت مستواها الأكثر تطورا (الأكثر تسنينا) من علاقة الإرغام التي تربط الشيء الممثل بموضوعه.

صور الخطاب البصري

لا يكتفي الإشهار باستثمار كل أنواع دلالات العنصر الأيقوني. إنه يقوم أيضا باستخدام صور تؤلف بين هذه العناصر(3). وهكذا فإنه يتجاوز حدود المعادلات لكي يقوم بتحريك الأدوات (أعلى يسار الملصق، وسط الملصق) ويقلب وضعها كليا (منجل بيد يسرى، آلة نزع العجلات بيد يمنى)، ويقوم بتحويل الأشياء (تتحول المطرقة إلى مفتاح ويتحول المنجل إلى أداة نزع العجلات) ويزيد في حجم هذه الأشياء (علاقة 1 بـ 3). بالإضافة إلى ذلك، فإنه يغير من الألوان (أحمر أحمر + أسود، أصفر رمادي + أسود، اختفاء اللون الأصفر وظهور اللون الأزرق)، كما يلغي النجمة الموجودة في أعلى الملصق بمحاذاة رأس المنجل، ويضيف الشعار والرمز المميز. إن مجموع هذه الصور تقوم بتحوير في بناء الصورة المرجعية (العلم) كما يبدو ذلك من خلال إحلال الرمز النمطي محل النجمة.

اختفاء النجمة وظهور المميز

إن لموقع النجمة ضمن الامتداد الديناميكي لشفرة المنجل وفي يساره قيمة رمزية : إنها تشكل، حسب بورس، رمزا لا يعين النجمة في ذاتها، بل يشير إلى الفكرة أو الخصائص التي تُمْنحها (انظر الصورة ص. 39). تشكل هذه النجمة > رمزا للروح ، أو النور ، إنها رمز للصراع القائم بين القوى الروحية أو قوى النور، وبين القوى المادية أو قوى الظلام < إنها تمثل ، من خلال موقعها بين السماء والأرض ، الإنسان الجديد الذي يشع كالنور، إنها كرقم 5 الذي يعتبر رقم الاتقان، إنها بالإضافة إلى ذلك رمز لعالم إنساني مصغر (4)

ومع ذلك يجب ربط هذه القيم الرمزية بسياقها، أي ربطها بالعلم السوفياتي وكذا بالقيم التي قامت هذه الدولة من أجل نشرها والدفاع عنه. إن نجمة هذا العلم تمثل -من خلال مثولها كرمز لإنسانية جديدة مشعة وكاملة وداحرة لقوى الظلام (القوى الرجعية)- مثلا نصل إليه عبر النظام الشيوعي. ويمثل لهذه الإنسانية التي تقودها البروليتاريا بالمنجل والمطرقة، رمز التلاحم بين العمال والفلاحين الذين وضعوا المثل الاجتماعي فوق أي اعتبار وفي النجمة بالتحديد. إن هذه النجمة مجوفة ولها لون أصفر يجعل منها كيانا بارزا فوق اللون الأحمر للعلم. وهي بذلك تتميز عن النجمة الممتلئة رمز القيم الدينية (5) التي لها لون الذهب، لون النور السماوي والإلهي الذي يصبح على الأرض رمزا >لقوة الأمراء والملوك والأباطرة الذي يعلن عن الأصل الإلهي لسلطتهم<.

الا أن السلطة هنا هي بين أيدي البروليتاريا، وهي صاحبة القوة التي يرمز لها اللون الأصفر،لون الأدوات التي تتيح للإنسانية الرقي إلى مرتبة النور المرموز له بلون النجمة الأصفر. ولكن النجمة اختفت من الملصق وكذلك اللون الأصفر وحل محلهما الشعار المميزlogo ذو اللون الأزرق الناصع (6). وتمكن الإشارة إلى أن النجمة والمميز يوجدان معا في موقعين متقابلين (النجمة في أعلى يسار العلم، والشعار في أسفل يمين الملصق). إن معادل النجمة، أي المثل الذي يقدمه العلم، لا نحلم بالوصول إليه، إننا نعيشه. إن فولسفاگن لا تبيعنا أحلاما، بل تمنحنا واقعا يوجد في أسفل الملصق : golf اختفت النجمة لصالح الرمز التجاري؛ كل العناصر تقود إلى التقابل : الألوان والأشكال والمواد والموقع الفضائي.

ستة مستويات للدلالة

1- إقامة علاقة شكلية عبرالمحاكاة.

- المرحلة الاولى في حياة الأشياء الممثلة : أنا صورة لشيء (أيقون)، إن الشيء يحيل على نفسه، إن العلاقة بين الشيء وصورته تتم عبر المحاكاة.

2- إقامة علاقة دلالية عبر رابط منطقي.

المرحلة الثانية : أنا صورة لموضوع يثير مجموعة من الأشياء، أو يحيل على نشاط (المرآب، العطب). إن العلاقة الدالة تتم عبر رابط منطقي (كناية )، إن الصورة تحيل على حقل معجمي (نموذجية العطب).

3- إقامة علاقة شكلية عبر التناظر.

-المرحلة الثالثة : أنا صورة تحيل استعاريا على صورة أخرى (إشهار V W == علم الاتحاد السوفياتي)، إن العلاقة بين الصورتين هي نتاج تناظر شكلي. إن ما يهم في هذه الصورة هو العلاقة الاستعارية وليس معناها. إن االأمر يتعلق بمعاينة شكلية. إن البنية الفضائية للصورة تشكل التركيب (7) الذي ينظم عناصرالحقل المعجمي.

4- بناء اعتباطي لمفهوم

المرحلة الرابعة : أنا تمثيل اعتباطي لكيان، لمقولة مجردة (رمز). إجمالا تمثل الأشياء لطبقتي العمال والفلاحين، وتتحول إلى رمز للشيوعية (رغم أن العلاقة : >مطرقة = طبقة عاملة<، هي من باب التمثيل الكنائي ، المنطقي). إن القيمة الاعتباطية للرمز قيمة خارج التاريخ رغم إمكان تحديد تاريخه.

5- البناء التداولي لخطاب محين.

المرحلةالخامسة : أنا خطاب مدرج ضمن وضعية تاريخية محددة (مقام تداولي). إن هذا التحديد التاريخي المزدوج (ربط المقام التلفظي بالمقام المرجعي : تاريخ ظهور الملصق بتاريخ الشيوعية) يجعل الإشهار يدل على الفشل السياسي. إن الخطاب الإشهاري يقوم من خلال إعادة استثمار معطيات وضعية نمطية (الفشل السياسي) بتنشيط غرض (thématique ) وتاريخ.

6 - بناء بلاغي لخطاب إشهاري.

المرحلة السادسة : أنا خطاب إشهاري ويقدم نفسه بهذه الصفة. إن الأمر يتعلق بتجميع للمستويات الدلالية حول صورة بلاغية مركزية (النفي) التي تستحوذ من جديد على الحمولة الرمزية للصورة وللعناصر التي تشتمل عليها من أجل بلورة خطاب غائي أي الخطاب الإشهاري (التجاري)

سند لساني مقتضب لكنه قوي

صوت > لا < : التلفظ عن طريق الإسم

يتميز السند اللساني المستعمل في الملصق بالاقتضاب : في وسط الملصق (في الأعلى) هناك >NIET< وفي أسفل يمينه هناك >GOLF< متبوعة بالمميز النمطي فولسفاگن. وهناك في الاتجاه العمودي، وعلى يسار الملصق إسم الوكالة الإشهارية. وبالإضافة إلى الاقتضاب، فإن هذا السند متنافر : إنه يشير إلى معارف متعددة، ويحتوي على عناصر من وضعيات ومشارب بالغة التنوع (اللغة الوطنية : الروسية، الالمانية، الاستعمال العالمي لـ >GOLF<، بنية اسم العلم والتسنين التجاري). ومع ذلك فإن انسجامه يكمن في السؤال المركزي للتلفظ : من يتكلم؟

تولي حضارتنا أهمية قصوى للإسم ولفعل التسمية وتخصهما بفضائل عديدة (8) : إن التسمية في ذاتها خلق(9). إن >GOLF V W< إسم محدد من خلال إسم عائلي (تكمن وظيفة المميز النمطي في تأكيد الهوية الجماعية للشركة بالمعنى الاشتقاقي لكلمة firmare)، وقبل الإسم هناك لقب السيارة الصغيرة التي تنتمي إلى عائلة فولسفاكن : >GOLF<.

إن رمز الهوية هذا الذي يوجد في أسفل يمين الملصق(10) يقوم بدور >التوقيع< : إن المؤسسة تقدم نفسها بهذه الصفة من خلال النوعية والوظائف. إن الإشهاري يقوم، من خلال خلق معادلة بين الإسم والإسم العائلي = الهوية، بتجسيد المؤسسة. لحظتها يكون في مقدور هذه المؤسسة أن تعلن عن نفسها : إنها تتكلم لأنها موجودة.

إن التوقيع الذي يشبه من الناحية البنيوية الهوية الاجتماعية المسننة هو صوت. وبإمكانه، نتيجة لذلك، أن يؤكد قوة >لا< التي يصرح بها]، مع كل ما يستتبع ذلك من ثقل اجتماعي وثقافي واقتصادي وصناعي وهو ما تمنحه إياه >ماركة< فولسفاگن. في حين يبدو توقيع الوكالة الإشهارية متواريا. ورغم ذلك فإنه يتطلب من القارئ معرفة خاصة؛ معرفة تخص الطابع التعاضدي أو المهني للوكالة (DDB NEEDHAM RC Paris B 602025538 ). إن على هذه الوكالة، وهي توقع منتوجها، أن تمنح زبونها الكلمة، أن تمنحه صوتها وإن كان ذلك يتم بطريقة غير مباشرة، إن لم نقل رمزية.

إن هذا التبادل التلفظي هو من طبيعة ثلاثية : من اليسار ينتقل الصوت إلى اليمين عبر التوقيع ويرتفع إلى أعلى من خلال >NIET < القطعية. إن الوكالة تمتلك، من خلال هذا التبادل الرمزي للأصوات، الكلمة وتمنحها إلى الزبون الذي يستطيع أخيرا أن يقول >لا<. إن ثلاثية التلفظ تؤكد وجود علاقات سلطة في الكلام الإشهاري وتراهن وتستعملها مع الإبقاء على أصلها في الهامش.

> لا < : ضحالة الشكل وتركيب المعنى

يُختصر الشعار الإشهاري في أبسط صوره : NIET. إن اقتضاب الشكل يستمد روحه من تركيب المعنى. ذلك أن هذا الملفوظ البسيط يحيل بداءة على معرفة ثقافية خاصة : اللغة الروسية. إلا أن هذه المعرفة تتجاوز حدود ما تمثله الدائرة اللسانية. لقد اكتسب بعدا عالميا. وسيكون لهذا المفهوم أبعاد إجرائية متنوعة على مستوى القراءة : فهذه الكلمة تعد من الناحية المعجمية مقروءة عالميا (إنه علامة بلا تركيب). ومن الناحية التركيبية، يحيل على الأممية الشيوعية. ومن جهة ثالثة فإن الإشهاري يستثمر فيه البعد التداولي : سقوط الاتحاد السوفياتي بديهية يعرفها الجميع.

والحال أن إثبات هذه الحالة يتحول إلى برهنة، ذلك أنه يُشبِّه حالة سقوط الشيوعية بالقيم التي يدافع عنها الملصق، إن الأمر يتعلق بمحسن إقناعي يستند إلى عنصرين غائبين في الخطاب الإشهاري : الذات والتاريخ (لا يقول الملصق عادة >أنا<، بل يترك المكان للقارئ، ويتحاشى الإشارة إلى وضعية تاريخية محددة، ويقترح صورا أو خطابات >كونية< تدرك ضمن المقولات المسكوكة) (11). وتعد هذه الظاهرة تجديدا في عالم الخطاب الإشهاري.

إن شعار فولسفاگن يُحدث، على هذا الأساس، قطيعة مع الاستعمال الإشهاري المعتاد. إن تاريخيته وذاتيته تستندان إلى قيم أسطورية تعود إلى >حكمة الأمم<، إن لِـ >NIET< التي يعرفهاالجميع، قيمة كونية. ذلك أنها مؤسسة على تأكيد حالة تاريخية يعرفها الجميع. والحال أن الأمر لا يتعلق، من الناحية الوظيفية، بفعل لساني، بل يقوم الأمر على ربط علاقة خاصة بين المعاينة والصورة.

التردد بين النص/ الصورة

الكلمة /شعار المثبتة على الملصق تسمح لنا وحدها بقراءة >لا للشيوعية<. إن كتابة >لا< باللغة الروسية تعطي كامل قوتها باعتبارها فضاء للتأمل، وتسمح لنا بالانتقال من العنصر اللساني المباشر إلى الصورة. لقد سبق لبارث أن حدد وظيفة اللساني في الإرساء (12). وفي حالتنا، ألا يمكن القول إن الأمر يتعلق بسيرورة اللاتحديد؟ ذلك أن تأويل الخطاب الإشهاري لا يمكنه الاستغناء عن الإرساليتين المترابطتين : الصورة واللفظ.

النفي من خلال الموضوع والمادة واللون

إن اللون والأشكال والأنسجة وعلاقة المواد فيما بينها تحدد النقيض والنفي (الذي يعلن عنه الملصق) وهما الأداة المحركة لدلالة الصورة.

فإذا كان الأحمر عند جميع الأمم يعد >الرمز الأساس لمبدأ الحياة بقوته وسلطته وبريقه< (13)، فإنه هنا ملغى وملوث ومتسخ بمادة التشحيم، وفي المقابل، هناك الأزرق للمميز النمطي (logotype) الذي يكتسي صبغة إيجابية : يعاد النظر في القيم الإيجابية، سواء كانت إيديولوجية أو ثقافية أو رمزية، من موقع قدرتها >التسويدية< باعتبارها ملطخة بمادة التشحيم.

وإذا كان قماش الأعلام عادة لينا وحريريا، فإنه هنا خشن وممزق وملوث بمادة التشحيم، فعوض الحرير أو النيلون هناك ثوب القنب الخشن، وتستبدل الحواشي المذهبة التي تزين أحيانا أعلام الاستعراضات بـ >أهداب< قطعة ثوب ممزقة.

إن الوضع السميولوجي للموضوعات الممثلة تنتقل من الرمز إلى الأيقون. وتخضع هذه االأيقونات لعنف رمزي ينزل بها من المثالي إلى المبتذل. إنه عنف يلغي التاريخ الذي تدعي هذه الأشياء الانتماء اليه، كما لو أن الأمر هو مجرد وهم. وهكذا فإن الأدوات الرمزية كالمنجل والمطرقة يتحولان إلى أدوات ميكانيكية مبتذلة ومتسخة ومهملة. إن المادة الباردة للأدوات الممثلة في الصورة، وكذا لون الحديد الرمادي والشحم تلغي كل القيم الرمزية التي يمثلها المنجل والمطرقة. إن السنن الفوتوغرافي يعلن عن سقوط سياسي للاتحاد السوفياتي وسقوط للشيوعية.

وفي الأخير، تمكن الإشارة إلى أن العلم الذي يقدمه الإشهاري هو علم بدون سارية، فلا وجود لعمود يعلق عليه، كما لو أن لا أحد يريد حمله، إلا إذا تعلق الأمر بحمل خرقة مرآب وهو ما ترفضه فولسفاگن لأن سياراتها لا تعرف العطب. وفي المقابل فإن الإشهار ليس في حاجة إلى سارية، إنه يعلق على الجدران وبهذه الطريقة فهو يعلن اختلافه.

إن العلم الجديد هو المميزالنمطي الذي يعود في هذه اللحظة إلى أصله : إنه شعار. إن ما ىؤطر اللعبة البلاغية هو خطاب صورة الجودة image de marque : هناك تناقض جوهري بين الهوية الجماعية للمؤسسة وبين مبدأ الاشتراكية. بالإضافة إلى ذلك، فإن VOLK تعني شعب باللغة الألمانية. وبناء عليه، فإن فولسفاكن هي التي تدافع عن مصالح الشعب وليس الإيديولوجية الشيوعية. ومن سخرية التاريخ، فإن فولسفاگن الصغيرة هي >سيارة الشعب< كما كان هتلر يود ذلك.

مزيج من المواد : مميز نمطي - حروف (14)

يعد المميز النمطي >ماركة لفظية< (15) أداة تواصلية تمثل الهوية الجماعية للمؤسسة. وبناء عليه، فإن هذا الموضوع البصري الذي يحتوي على معلومة لسانية (الحروف الأولى للتوقيع) هو صورة لهوية خاصة تدل على القوة وتلاحم المجموعة الممثلة رمزيا داخل نفس الدائرة. إن التلاحم يتم حول الأزرق، وهولون بارد بامتياز، ولكنه يدل على السكينة والدقة ومرتبط في الفكر التقليدي بالصفاء واللامادية. إن الأشياء تسير كما لو أن الأمر يتعلق، بعيدا عن واقع المؤسسة الصانعة للسيارات، بطابع خفي إن لم نقل سحري أو روحي للهوية.

إن الحروف الطباعية المثبتة داخل المميز النمطي هي نفس الحروف المستعملة لكتابة golf شعار الملصق. إنها حروف تنتمي إلى فصيلة linéales أو حروف batons التي لا تحتاج الى أية زخرفة، وتوحي زيادة على ذلك بالفعالية والحرمان إن لم نقل التقشف. وعادة ما يمجد في هذه الحروف وضوحها الكبير.

إن هذه العناصر كافية لتحديد السياق الطباعي للملصق الذي يقوم بتحيين الخطاب اللساني . ف ـ>NIET < من خلال حرمانها ودقتها وفعاليتها البصرية، تكتسب قوة كبرى، وهو ما يقابل جو الإهمال واللادقة والاتساخ الذي تشير إليه الأدوات والخرقة. إن هذا الجو يعد نقيضا للبياض المتسم بالبرودة التي تتمظهر الحروف من خلالها.

عندما يتحول المعنى إلى شكل

يحتوي البعد الأيقوني للملصق على مستويات عدة للقراءة. إن الملصق في ذاته صورة. إن الأمر يتعلق بلوحة بكامل مستلزماتها (الإطار، الإخراج، البناء، تناسق الألوان). والإرسالية اللسانية تنتمي إلى هذه اللوحة. إلا أن لها وضعا خاصا في علاقتها بالمستوى الثاني، مستوى الصورة الفوتوغرافية التي تتطلب معرفة خاصة بهذا الفن (الضوء، التأطير، العدسة). إن الصورة تقترح على العين موضوعات دالة (مفتاح، خرقة). إن هذا المستوى الثالث يجعل من القراءة تنفتح على عالم الأشياء. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يتيح لنا الانتقال إلى تحديد تأويل رمزي وإيديولوجي للصورة. وتنضاف إلى هذا لعبة البلاغة البصرية أو محسنات البناء التي تسهم هي الأخرى في تحديد المعنى الشكلي للملصق (16).

سحر المعنى برهنة بلاغية

إن الدينامية الأصلية للخطوط التي ترسمها الأدوات على العلم تبدو مقلوبة على الملصق، كما لو أن المعتقدات الكراتيلية(17) القديمة المرتبطة بالعلامات تبعث من جديد في الضمير الجمعي المعاصر (انظر الصورة ص. 43).

إن تجاوز علامة وتحطيمها ومحوها وشطبها يعد تخلصا من قوى الشر التي قد تنبعث من هذه العلامة. ولقد كان المصريون حريصين على تشطيب أو تكسير بعض الهيروغليفات التي تمثل كائنات أو حيوانات شريرة قد تسيء إلى الميت (18)، كما لو أن العلامات تملك بالإضافة إلى معانيها ما يشبه مادية مقدسة (19).

إن الممارسات السحرية ليست غريبة عن العالم المعاصر حتى وإن كانت لم تحتفظ سوى بأثر لاواعي وبذكرى بعيدة. والملاحظ أن هذا السلوك يكمن، داخل الخطاب التجاري المعاصر، في الاستعانة ببعض الممارسات الدالة التي تعود بهذا الشكل أو ذاك إلى السحر، إن لم نقل إلى تعويذة حجاجية.

الأشكال والبناء: إظهار وإخفاء

ومن جهة أخرى، فإن المستطيل الباهت والمتموج يتضمنه المستطيل الواضح للملصق والذي يتحكم فيه إن جاز التعبير، إنه يؤطره ويعزله ويقدمه كلوحة. فعلى الأرضية البيضاء للملصق يُرسم أحمر اللوحة، وهذا ما يؤكد وجود عملية إخراج للصورة : من المستبعد جدا أن يسقط المفتاح أثناء عطب ما على مفتاح نزع العجلة الموجود على الخرقة بهذه الدقة المتناهية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأدوات موضوعة على >سطح< نقي (أبيض الملصق) وهو ما يتقابل مع الوسخ الناتج عن العطب. إن الأمر يتعلق إذن بعطب خيالي من صنع الفوتوغرافيا بهدف التركيز على البعد الفرجوي للحدث. ومن زاوية أيقونية، فإن الأمر هو تأكيد للخطاب الإشهاري كما تم تأكيد الهوية على المستوى اللساني.

إن البعد المحسوس والدال للأشياء يحدث وقعا واقعيا هو من صلب الفوتوغرافيا. وعلى العكس من ذلك، فإن السنن الفوتوغرافي يركز على الطابع الفرجوي، أي على المظهر العرفي الاصطناعي للمشهد.

إن التقابل بين الوقع الواقعي (وهم الواقع الذي تخلقه الصورة) والطابع الفرجوي (فرجة صناعته) تقابل ظاهري فحسب. وبالفعل، فإن الفرجة تنتزع هذه العناصر من سياقها من أجل إدراجها باعتبارها عناصر ثابتة، داخل الخطاب الإشهاري، وفي هذه الحالة تكتسب هذه العناصر خصائص الأشياء، أي واقعيتها. وبعبارة أخرى، فإن قوى الأشياء الموضوعية تنقل إلى الخطاب وتضفي عليه طابع الموضوعية (20).

تطابق الشكل مع الخطاب

إن التجليات التي أشرنا إليها تشكل المعنى الشكلي للملصق، كما لو أن مجموع إرغامات شكلنة الإرسالية هي في ذاتها المنتجة والكاشفة عن المعنى العام الذي يشتمل عليه الخطاب الإشهاري. إن المعنى ليس وليد الشكل فحسب، إنه متربط به ومحكوم باختيار الإرغامات الفيزيقية (الإسناد) للتعبير (الفوتوغرافيا) أوالأسلوب. وفي المقابل، فإن اختيار هذه الإرغامات هو استجابة لمقام تداولي محدد (مقام تجاري، ومقام اجتماعي ومقام تاريخي).

وبناء عليه يمكننا الآن التفكير في تحديد معايير جمالية وفعالية هذا الملصق. إن هذا الملصق >جيد< (والأمر ينسحب على كل ممارسة إبلاغية)، إذا كان المعنى الشكلي يتجاوب مع الخطاب ومع المقام التلفظي.

إن الشكل عنصر مؤسس للمعنى الذي يبلوره الخطاب، إن الشكل قد يؤكد وقد ينفي المعنى الظاهري. وبعبارة أخرى، إن الشكل يحيل على المقام المركب للتلفظ (المقام التاريخي والتداولي والثقافي) كما يبدو ذلك من خلال ملصق فولسفاگن ،حيث إن وقع الظهور والاختفاء الشكليين يحتوي العلاقات التي تقيمها في وقتنا الراهن السياسة مع الإشهار.

الإشهار كدعاية : أو انتصار الإيديولوجية الألمانية على الشيوعية

تتصارع على صفحة هذا الملصق وجهتا نظر حول موضوع تاريخي واحد : الشيوعية كما تمثلها الدولة السوفياتية مرموزا إليها بالعلم. والحال أن هذا العلم مغيب من الملصق رغم أن الخطاب الإشهاري في كليته يقوم عليه. الملاحظة الأولى هي غياب المرجع الأساس، والملاحظة الثانية هي أن هذا الكيان لا يتكلم، إن خطابه يتجسد في وجوده العيني، إنه موجود بشكل مواز في خطاب الآخر. إن هذا الآخر هو بطبيعة الحال الوكالة الإشهارية، وبشكل أساسي أيضا، القارئ الذي يعد خزان كل القيم التي تستند إليها الوكالة في إنتاجها.

يتحول علم الاتحاد السوفياتي عند هذا القارئ إلى مشهد >للعطب<. وتتحول الشيوعية إلى >عطب< تاريخي ضخم، إنه توقف للتاريخ. و ابتداء من اليوم تجب إعادتة هذا الأخير إلى سيره العادي وفق المبادئ التي تدافع عنها فولسفاگن بطبيعة الحال. فما هي الإرسالية التي يريد الإشهاري تسريبها؟ : >NIET <، أي لا للعطب. إن سياراتنا لا تصاب بالعطب لأنها من نوعية جيدة. وبناء عليه، إذا اشتريتم گولف فإنكم، بالإضافة إلى الضمانة التي توفرها فولسفاگن، لن تصابوا بأي >عطب< تاريخي.

زيادة على هذا، هناك الإيديولوجية الضمنية التي يوحي بها الخطاب الإشهاري. إن الهدف الأساس من النفي هو مقابلة صوت فولسفاگن بالنظام الشيوعي السابق. وبناء عليه، فإنها تعلن انتصار صناعة السيارات الألمانية على الإيديولوجية السوفياتية. والحال أن حدود هذه المقارنة حدود مهزوزة. فالصناعة لا يمكن مقارنتها بالإيديولوجية حتى ولو كانت هذه الإيديولوجية هي الاشتراكية. إن الانزياح يعود إلى الصورة المركزية للملصق، حيث إن القيمة الرمزية للأدوات تُشبه بالقيمة الميكانيكية للإصلاح : خطوة واحدة تفصل الاقتصادي عن السياسي. وبصفة عامة، فإن موضع التأمل هو انتصار الليبرالية على الاشتراكية، مع تعديل بسيط جدا يكمن في أن الممثلين معروفان : ألمانيا والاتحاد السوفياتي. وإذا استحضرنا البعد الحربي والعسكري للعلم (موضوع البلاغة البصرية للملصق)، فإننا لا نستطيع أن نتحاشى الإشارة إلى الخلاف الجرماني السوفياتي : إن ألمانيا المهزومة في الحرب تنتقم لنفسها على المستوى الاقتصادي وتعلن ذلك جهارا. ومن حقها أن تفعل ذلك، فهي تقارن نفسها بالاتحاد السوفياتي الذي هزمها بالأمس ويوجد حاليا في وضعية مزرية اقتصاديا وسياسيا.

الإشهار والسياسة : من الاستغلال إلى القرصنة

لقد تحاشى الإشهار لفترة طويلة تضمين إرسالياته بعدا سياسيا، وهذا لم يمنعه من أن يكتسح شيئا فشيئا الخطاب والدعاية السياسين وجعل الأحزاب وقادة الرأي سلعا معروضة >للبيع<. وفي هذا الإطار، قام الإشهاريون في الستينات والسبعينات باستغلال ما يوفره العالم السياسي دون أن يكون لإرسالياتهم مضمون سياسي. وعلى عكس ذلك، يقوم الخطاب الإشهاري راهنا بالاستيلاء على أساليب التعبير الخاصة بالميدان السياسي وأشكال الصراع داخله.

إن هذا الانزياح من التجاري إلى السياسي دليل على تطور في الذهنيات. إن الإشهار سيجعل من السياسة، في مرحلة نهوض اقتصادي وغليان سياسي، قيمة بضائعية وذلك عبر تملك حيثيات الخطاب السياسي في مرحلة تتميز بالنكوص الاقتصادي والتراجع السياسي. إن الأمر يتعلق إذن بقرصنة وليس باستراتيجية تجارية تهدف إلى التوسع.

يستغل ملصق فولسفاگن تيار الرفض، الذي شكل في أيامنا هاته تيارا سياسيا واسعا، من أجل الوصول إلى الهدف التجاري. إنه تضع في حسابه الحقد السياسي الذي يميز المرحلة الراهنة، مستغلة في ذلك على إجماع الناس حول هذا الإحساس (الحقد القديم تجاه الشيوعية والسياسة بصفة عامة).

وهذا ما يجعل من >النفي< الصورة المركزية التي يستند إليها الملصق الإشهاري. وانطلاقا منه أيضا ندرك كون النسق التلفظي يمد الإشهاري بالكلام السياسي المتميز بالرفض، وهو أيضا ما يفسر إثارة الواقع (أنا خطاب العطب) والإحالة (أنا رفض معروف لكل ما هو سياسي) والانتماء (أنا صانع السيارات وأقوم بدور التأليف).

وهذا ما يجعل الطابع المركب للإرسالية أمرا ضروريا. إن هذه العناصر تقوم جميعها بنسج أسطورة العطب وأسطورة السياسي (العلم) كما تقوم، على المستوى التداولي، بالربط بين قوة الرفض الراهنة >NIET< وقوة القرصنة الإشهارية (إظهار-إخفاء). إن المعنى الشكلي لهذا الملصق يعبر عن معنى مرحلة وليس عن استراتيجية فقط.

تساؤل مزدوج

وتبقى الحيرة قائمة، إن إشهار فولسفاگن يعلن عن انتصار القيم الاقتصادية مقابل اندحار ما كان يسمى نضالا من أجل المُثُل. قد يتعلق الأمر بانتقام إيديولوجي، لكن الطابع الجديد للإشهار يحتاج إلى تأمل : أتنحصر أحلامنا فقط في النجاح الاقتصادى؟

سيظل هذا السؤال معلقا. وفي النهاية من يستفيد من قرصنة خطاب سياسي حافظ مع ذلك على جوهره؟ ألا تقوم المؤسسة بتمويل اتجاه عودة السياسي في أشكاله الأكثر رداءة (إنه استغلال لحقد مرضي).

إن هذه التساؤلات، تعود بنا من جديد إلى التساؤل عن المقام التداولي الذي مكن من إنتاج الخطاب الذي قمنا بتحليله، أي التساؤل حول تاريخنا المعاصر وحول الابتذال الظاهري للخطابات التي ننتجها ونعيشها يوميا.

............................................................................

الهوامش والمصادر/

* النص الذي قمنا بترجمته ظهر في مجلة

Communication et langages n 93, 3 trimestre , 1992

تحت عنوان La publicité comme détournement politique

1- في اصطلاح بورس>يحيل الأيقون على الموضوع عبر المشابهة، مثال ذلك رسم شجرة يحيل على شجرة في الواقع. أما الأمارة فإنها لا تشبه الموضوع ولكنها ترتبط معه بعلاقة تجاور : الدخان دليل على النار. أما الرمز فيحيل على موضوع عبر قانون وعرف بواسطة فكرة. مثال ذلك العلامات اللسانية<. انظر Julia Kristeva , Le langage cet inconnu , Seuil , 1981 , p 18

2-لم نحصل على هذا الوضع السميولوجي انطلاقا من اصطلاح بورس. فالأمر لا يتعلق بأمارة (بمعنى أن الدخان هو أمارة على النار) ولا برمز (الطابع العرفي للعلامة)، بل يتعلق بعلاقة دلالية قائمة على أساس وجود رابط منطقي يمكن أن نطلق عليه كناية منطقية. إن هذا الوضع السيمولوجي لا يمكن الإمساك به إلا من خلال سياق إنتاجه لأنه مرتبط به في الوجود.

3- بلغة بلاغية، فإنه لا يكتفي باستعمال المحسنات المعنوية، بل يلجأ أيضا إلى محسنات الخطاب.

4- Jean Chevalier , Alain gheerbrant , Laffont / Jupiter 1982

5- إن الأرضية الحمراء للنجمة تذكر بحضور الفعل الإنساني الذي يتيح الانتقال إلى المثل العليا التي تمثلها الشيوعية.

6- إن تاريخنا قد جعل من الصراع بين المحايثة والتسامي معارك حقيقية وقاتلة، حيث لازالت أطراف هذا الصراع تحمل نفس الألوان الرمزية باسم الحق الإلهي أو الحق الإنساني الذي يدعي كل طرف تمثيله : الشوانيون (Chouans) كانوا زرقا، وثوار السنة الثورية الثانية كانوا حمرا، وهي نفس الألوان التي تتصارع حاليا انظر Dictionnaire des symboles op cit

7- يجب تحديد أن الاستعارة اللسانية تشكل في هذه القراءة مفهوما إجرائيا، فنحن لا نسحب الخطاطة اللسانية على الصورة.

8- Jean Servier, in Histoire des moeurs II , encyclopédie de la pléiade , 1981

9 - - Pascal Vermus in Ecritures II , le sycomore, 1985 , Ladislas Mandel; communication et langages n 91 , p 83 cf note 19

10- إنه يشبه توقيعا، أو عقدا أو ميثاقا تجاريا أو بيانا شيوعيا.

11- إن هذا الاختفاء يشكل إحدى ميزات الملصق التجاري التي تتناقض مع الملصقات الدعائية أو السياسية. انظر الشعار الشهير ; I want you للعم سام الذي يدعو الشباب الأمريكي للانخراط في الجيش انظر Jean Paul Gourevitch , L'image politique , Flammarion , 1980, Jean Didier Urbain , " Idiologues et polylogues " , Nouveaux actes sémiotiques n 14 université de Limoges , 1991

12- cf "Rhétorique de l'image " , Communications n 4 , le seuil , 1963

13- إن الأحمر القاني يستدرج ويشجع ويستفز، ولذلك فهو "أحمر الأعلام" و"الواجهات"و"الملصقات الإشهارية" انظر Dictionnaire des symboles op cit

14- إرسالية تستعمل أسننا متعددة : كل كتابة هي إرسالية مختلطة باعتبار اعتمادها على البعدين الصوتي والطباعي.

15- cf Gérard Blanchard " Le discours de la marque : le logotype " Communication et langages n 36 , 1977

16- مقولة استعرناها من Jacques Roubaud : La fleur inverse , Essai sur l'art formel des troubadours , Ramsay 1986

17- اعتقاد في القيمة الوجودية للعلامات، إن الكلمة تمثيل للشيء الذي تقوم بتعيينه، إن تكرارها هو تكرار للشيء الذي تمثله.

18- Groupe d'écriture de l'école normale de l'Yvonne , les systèmes d'écriture : Un savoir sur le monde , un savoir sur la langue, CRDP Dijon , 1990 , p102

19- Jean Dupèbe , in Ecritures II , Le Sycomore , 1982, p 303

20- وسنلاحظ أن المعانم الدنيا للصورة معدية إن الاتساخ الموضوعي للأدوات يشير إلى صورة الشيوعية، إن كنا نقبل بهذه الاستعارة الطبية.

.........................................................................

1- موقع دويتشه فيله

 2- الحبيب بوعجيلة / الموقف

 3- ثـامــرعبــاس/ مجلة الاسلام والديمقراطية

 4- جريدة الوطن القطرية

 5- محمد الحمامصي/ جريدة الحقائق

arabic.cnn.com -6

 7- جريدة الغد الاردنية

 8- عمانويل سوشيي/ ترجمة: سعيد بنگــراد/ موقع سعيد بنگراد

.........................................................................

1- الدكتور يوسف حبّي ؛ الإنسان في أدب وادي الرافدين. (بغداد، منشورات دار الجاحظ - وزارة الثقافة والأعلام، 1980) سلسلة الموسوعة الصغيرة العدد (83)، ص5.

2- كريستوفر جي. لوكاس ؛ حضارة الرقم الطينية وسياسة التربية والتعليم في العراق القديم، ترجمة عبد المسيح ثروة. (بغداد، منشورات دار الجاحظ - وزارة الثقافة والأعلام، 1980)، سلسلة الموسوعة الصغيرة العدد (61)، ص4.

3- صمويل نوح كريمر ؛ هنا بدأ التاريخ: حول الأصالة في حضارة وادي الرافدين، ترجمة ناجية المراني، (بغداد، منشورات دار الجاحظ - وزارة الثقافة والأعلام، 1980)، سلسلة الموسوعة الصغيرة العدد (77) ص21، 22.

4- الدكتور ناصيف نصّار ؛ منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر. (بيروت، دار أمواج، 2001)، ص191.

5- الدكتور برهان غليون ؛ المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات. (بيروت، دار الطليعة، 1979)، ص115.

6- الدكتور محمد سبيلا، الايديولوجيا: نحو نظرة تكاملية. (بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992)، ص63 والجدير بالملاحظة ان المؤلف يستخدم مفهوم (الشرعية) كمرادف لمفهوم (المشروعية) في حين انهما مختلفان. ففي الوقت الذي يعبر الأول عن صيغة من صيغ القبول والرضا التي يبديها المواطنون حيال الموقف من السلطة وطريقة حيازتها، فان الثاني يشير إلى مدى توافق إجراءات وسياسات تلك السلطة مع أصول وقواعد القوانين الدستورية والوضعية الأخرى. للمزيد حول هذا الموضوع انظر كتاب الدكتور منذر الشاوي ؛ القانون الدستوري: نظرية الدولة (بغداد، منشورات مركز البحوث القانونية التابع لوزارة العدل، 1981) الكتاب الثالث، ص75.

7- الدكتور ناصيف نصّار ؛ المصدر ذاته، ص 82.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 22 تموز/2007 -7/رجب/1428