مــا بــعد الحـداثــة

مقاربة نقدية

علي كاظم الخفاجي

 في اطار التشكيك بالسرديات الشمولية "الايديولوجيات" (يعرّف ماك غرايث ما بعد الحداثة بانها الالتزام المسبق بالنسبية والتعددية فيما يخص قضايا الحقيقة واحدى المجالات التي تلقى الشعبية في فكر ما بعد الحداثة هي التاكيد على ان كل فرد هو جزء من مجتمع انساني محلي، ولذلك لابد من تفسير الحقيقة على ضوء ذلك المجتمع.

 ولان هناك الكثير من المجتمعات المحلية المختلفة، تعتقد ما بعد الحداثة ان هناك الكثير من الحقائق المختلفة التي يمكن ان تتواجد مع بعضها... فطالماً كانت الحقائق مرتبطة بالبيئة الاجتماعية التي تظهر فيها فان ما يكون صحيحاً لدى البعض قد لا يكون كذلك لدى من يعيشون لدى بيئة اجتماعية اخرى)."1"

بناءاً على هذا الفهم الذي اعتمده المشروع الثقافي الـ(ما بعد حداثي) للحقيقة، تأسست معظم مفاصله الفكرية على هذه النسبية كونها تشكل المدرك المشرعن "للفوضوية الخلاقة وتوافقية التضاد وجمالية التناقض"، التي تستبطن رغبة ملحة في القفز على الفضاء الزمني لكل ما هو آني.

هذا الرغبة/الهوس الذي اوغل لدى البعض تحول الى رفضٍ كلي للانماط الثقافية بمختلف تجلياتها الفنية والموضوعية السائدة، وصيرورتها معرفة رمزية مبتذلة تتعالى عن ملامسة الهموم المعمقة لواقع المتلقي، وبالتالي استحالة الاشياء والافكار الى جدلية مغلقة بين "المنتِج والمنتَج" مما يضطر المثقف – ما بعد حداثي-  بين الفينة والاخرى الى اخضاع "ذاته التراثية" لتناص واعٍ ليؤكد لنفسه اولاً وبالذات، ولغيره ثانياً وبالعرض، كينونته المعرفية، ولعل المفارقة غير المدركة ان هذا التناص قد شكل اقسى فعل توهيني يمكن ان يمارس ضد العقل المعرفي بماهياته الوجودية، كونه احدث انهياراً فجائياً لكل ما هو قار في بنية مشروعة الفكري، مما يعني ضياع كل ما يمكن ان يؤكد مركزية العقل بوظائفه المسيّسة للكون والحياة، منتجاً بذلك لـ"متواليات معرفية" هيمنت على قراءاته الفكرية التي ابدعها.

في ضوء هذه الافتراضات يمكننا القول ان النسبية تقف امام منزلقات فلسفية تعجز عن تجاوزها باطمئنان من اهمها:

المنزلق الاول: وجوب الايمان بالتناقض الفلسفي والمنطقي فـ(كل تفسرات الحقيقة...هي صحيحة بذات القدر الذي تكون فية غير صحيحة)"2" وهذا ما لا يسلم به "هؤلاء" تجاه الكثير من  المفاهيم التي تشكل البنى التحتية للنسبية.

وتتأكد حقيقة التناقض فيما لو ادركنا ان المجتمع المحلي الواحد يحوي على عدة حقائق متعددة ومختلفة بتعدد افراده مؤدياً بذلك الى فوضوية هدامة، وبذا تخرج المعرفة من طابعها الموضوعي الخارجي لتتخذ مساراً ذاتياًَ، مما يجعلها مرتبطة ببعدها الوظيفي في النظام المتداول، وهو الذي  جعل ما بعد الحداثة تلاقي رواجاً هائلاً بين الاوساط الشعبية المروّجة للاباحية باعتبار ان ما يعطي القيم طبيعتها الاخلاقية لن يكون - في ما بعد الحداثة - التسالم الوجداني العقلائي، بل التحيز والتشيء الوظيفي للقيم في مجمل المنظومية الرقمية (واي شيء لا يمكن ان يتحول الى رمز قابل للتشخّص والعرض من قبل الحاسوب "ولا يدخل في التكنولوجية الرقمية" سيتوقف عن ان يكون شكلاً من المعرفة في مجتمعات ما بعد الحداثة)"3"      

المنزلق الثاني: ما يمكن ان نسميه باشكالية التعريف حيث لا يمكن وفقاً لهذا اللازم تعريف الاشياء والافكار وبالتالي فقدان الركن الاساس الذي تبنى عليه الحضارات فـ(التعريف بالطريقة الحداثية يرى ان الحقيقة هي توافق بين الشيء والفكرة التي نحملها عنه، ولكن ما بعد الحداثة تنأى عن هذا الاسلوب نتيجة عدم وجود هذا التوافق المثالي فالشيء والفكرة التي نحملها عنه يندمجان لدرجة لا نعرف ما اذا كانت الثقافة هي التي تجعلنا نرى الشيء كما نراه، او انه فعلاً بذاته هكذا، فلا يوجد فاصل واضح بين الشيء وتمثيله.. لاننا لايمكن ان نفصل الموضوع عن اطاره، وهذا الاطار هو الذي يرسم تصوراتنا للموضوع، وهو مرتبط بظروف مختلفة وبتاريخ متشابك من القناعات والمصالح والرغبات.. اذن الموضوعية غير موجودة لذلك لا تكترث ما بعد الحداثة بالتعريفات)"4"

المنزلق الثالث: الفقدان الحتمي لظاهرة التعميم والشمولية والكلية التي تستند اليها ايما حضارة مما يسهم في نقل الفكر الذي آمن بالنسبية الى حالة الاستغراق بجزيئيات غير منسجمة ليس بينها ايما رابط موضوعي او فلسفي اوعلمي، وبفقدان تعميمات العلوم التجريبية والفلسفية يصبح الفكر الانساني، فكراً مهشماً، وبالتالي تنتفي القيمة المعرفية لكل ما يُنتج. مما يرسخ البرزخية بين المعارف النظرية الفلسفية من جهة وبين العلوم التجريبية والانسانية من جهة اخرى.     

من هنا لابد للعقل الما بعد حداثي من القيام بمسح شمولي لأولوياته وانساقه الفكرية لتشكيل اسّ معرفي أولي قارٍ بعيداً عن هيمنة الفكر النقضي الذي كان وما يزال سمته البارزة، فالمشكل الذي وقع فيه  ناتج في احد جوانبه من طبيعة تصوراته الفلسفية ازاء الكون وقضاياه، فقد اعتاد في ذلك على تفكيك المفاهيم بصيغة اثنية، توهماً بمانعية الجمع بينها  لهذا حاول مفكرو ما بعد الحداثة التخلص من غياب التوازن في المفاهيم الضدية بالغاء المساحات المشتركة بينها والاحتفاء بالتشتت واللاثبات.

فبدلاً من الاشتغال على تقويض الفواصل المعرفية الحاكمة على مجمل النشاطات الفكرية، فقد اتُجه نحو لملمة هذه الثنائيات بثنائية اخرى شمولية تمثلت في (النسبية / الاطلاق).

ضمن هذا الاطار التحليلي يمكن الادعاء بعدم استقرار الحقيقة على نسق تقييمي واحد، وبالتالي عدم خضوعها الى معيار واحد، فالقول بالنسبية يملك قدراً معقولاً من الواقعية  فيما لو نظرنا الى الحقيقة في عدد من تجليّاتها -لا مطلقاً -  كونها نتاجاً انسانياً، حيث لا يمكن حينئذ احتكارها احتكاراً شمولياً  بمعنى تجهيل الآخر واقصائه.

[email protected]

الهوامش

1-قراءات في ما بعد الحداثة، مجموعة من الباحثين، ترجمة حارث محمد حسن ود. باسم علي خريسان ص61.

2-نفس المصدر ص62.

3-نفس المصدر  ص7.

4-مابعد الحداثة ترحب بكم، عبد الرحمن الحبيب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 19 تموز/2007 -4/رجب/1428