في النقد الثقافي: الثقافات السياسية

 الثقافات السياسية: Political Cultures

شبكة النبأ: أحيانا ما كان يتحمس علماء السياسة بدرجة كبيرة لدور دراسات الثقافة السياسية الذي تلعبه في مجالها، ثم ولسبب ما (ربما لأنها لم تكن توافق التقدير الكمي الأثير لقلوب علماء الاجتماع المعاصرين)، ولذلك فقدوا الاهتمام بها، أما الآن فقد عادت للظهور على الساحة مرة أخرى.

وتشير الثقافة السياسية إلى تأثير السياسة على الثقافة وتأثير الثقافة على السياسة. وعلى نحو أكثر تحديداً، تشتمل الثقافة السياسية على القيم، والمعتقدات، والأفكار، والممارسات التي وجدت في الجماعات التي تلعب دوراً في التنظيم السياسي للمجتمعات. فكما يكتب لوسيان باي Lucian pye (1962) إلى أن: ((الثقافة السياسية تشكلت من ناحية عن طريق الخبرة التاريخية العامة للمجتمع والخاصة لهؤلاء الأفراد الذين سيصبحون نخبة المجتمع ثم من بعد ذلك يمثلون الجهاز الحكومي (ص121)، ثم يحصى pye عددا من الاعتبارات التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند تحليل الثقافات السياسية (ص122- 124 1962) وهي:

1- مجال الأنشطة، والقضايا، والقرارات المدركة بواسطة الناس من حيث ارتباطها بإدارة القوة السياسية.

2- مجموع عوامل الحكمة والمعرفة لدى الناس التي تيسر عليهم استيعاب المعنى وإيجاده والقدرة على التفسير والتنبؤ بسلوك هؤلاء الذين يعرفون بكونهم سياسيين من ذوي الصلة بالموضوع.

3- الإيمان الذي يتجاوز المعرفة المادية substantive knowledge، المحكوم بالتعبيرات التكهنية بأولئك الذين يعرفون بوصفهم المتحدثين المؤهلين لقراءة المستقبل.

4- القيم المفترض أنها أكثر حساسية للأفعال السياسية.

5- المعايير المقبولة بوصفها معاييرا صالحة لتقدير المسلك السياسي.

6- الكيانات الشرعية التي من المفترض أن يكون بها في مقدور الناس معارضة القوة والهوية العامة التي يتيحها الجهاز السياسي للجميع.

إن ما نتعامل معه- في نهاية الأمر- هي القيم التي أدمجها الناس في ذاتها، وأصبحت جزءاً من أنظمتهم العقائدية وحياتهم اليومية. فنحن ندرس الثقافة السياسية لأننا نفترض أنها تعيننا على فهم طريقة الناس في صنع الاختيارات التي يباشرونها في دنيا السياسة، وكذلك تعيننا على فهم الكيفية التي تعمل بها الأنظمة السياسية المختلفة. إن التركيز هو تركيز غير مباشر- لا على المؤسسات السياسية وطريقة أدائها في العمل، فحسب، وإنما على القيم والمعتقدات التي لدى الناس والتي تقودهم إلى إيجاد تنظيمات سياسية محددة، وأوامر سياسية. إن مفهوم الثقافة هو مفهوم على جانب كبير من الأهمية لأنه يشير إلى أن معتقدات وقيم الناس ترتبط بالجماعات التي ينتمون إليها، وأنها ليست شيئاً يلمع ضوءه في رؤوسهم على نحو مفاجئ وغير متوقع ..

وكما يشير آرون وايلدفسكي aaron wildavsky (1989) إلى أن المرء يجد في المجتمعات الديمقراطية أربعة أنماط من الثقافة السياسية وهي:

((أن أبعاد النظرية الثقافية تعتمد على الإجابة عن سؤالين: الأول هو من اكون؟ والثاني هو ما الذي ينبغي عليّ القيام به؟ وربما يجاب على سؤال الهوية بالقول إن الأفراد ينتمون إلى جماعة قوية أي جماعة تصدر عنها القرارات الملزمة للجميع أو أن الروابط التي تربط ذواتهم معاً ليس إلا. أما سؤال الفعل والأداء فقد وجد جوابه في الاستجابة التي يخضع فيها الأفراد لما قل أو كثر من الإملاءات الوصفية pre- scription، المقيدة أو المحررة للأفراد هي مكونات ثقافة الجماعة)).

عندما نتأمل معاً قوة حدود الجماعة وتعدد وتنوع الإملاءات الوصفية الملزمة للأفراد. تتحصل لدينا اربع مجموعات، مصنفة لدى وايلدفسكي هي: جماعات النخبة elitist، ودعاة النزعة الفردية، وأصحاب دعوة المساواة، والقدريون (وفي كتاب ظهر مؤخراً، قدم وايلدفسكي جماعة خامسة ولكنها ليست بذات شأن، ولن أولى لتلك الجماعة اهتماماً ها هنا، بسبب افتقارها لدلالة ما بالنسبة لما نناقشه). ويؤمن النخبويون بالتنظيم التدريجي كما ان لديهم إحساساً بالمسئولية تجاه من هم دونهم، ويؤمن أصحاب النزعة الفردية – أساساً وبالدرجة الأولى – بالمنافسة الحرة وأنه يجب على الحكومة الإبقاء على مساحة للحركة وحماية الملكية الخاصة، أما دعاة المساواة فيؤكدون على أن لكل فرد حاجات عامة، وينتقدون النخبويين، ودعاة النزعة الفردية، ويتصدون فهم غير منغلقين داخل ثقافات سياسية في الحياة؛ فهم يستطيعون الانتقال من مجموعة إلى مجموعة أخرى معتمدين في ذلك على خبراتهم.

ويلفت وايلدفسكي (1989) انتباهنا إلى الأبعاد الثقافية للسياسة، وإلى الدور الذي يلعبه اعضاء الجماعات (أي الثقافات السياسية الأربع) في السياسة. إن معرفة أي الجماعات التي ينتمي إليها الفرد، وأيها التي لا ينتمي إليها الفرد، فإنها تعين الناس بقدر من المعلومات ضئيل نسبياً من أجل ترقية وتطوير أوليات التعامل وعمل العديد من القرارات السياسية المختلفة. وكذلك تؤثر الثقافات السياسية على ما يقرأه الناس وما يشاهدونه على التلفزيون إذ من المنطقي بالنسبة للأفراد أن يسلكوا تبعاً للنصوص التي تدعم وتعزز قيمهم ومعتقداتهم وأن يتجنبوا النصوص التي تتحدى هذه القيم والمعتقدات (حيث يقود ذلك إلى التنافر وعدم الانسجام).

ويقرر وايلدفسكي أن الثقافة هي رجل السياسة المطاطي في الهند لأنها تسمح بتفضيلات كأنها تتشكل من عجينة صلصال، فمعرفة كيف تتشكل الثقافات وكيف تؤثر على السلوك السياسي تغدو – عندئذ – مجالاً للبحث على جانب كبير من الأهمية، لأن تأثير نوع من الثقافة السياسية ليس التأثير الآلي، إذ غالباً ما يتورط الناس في عملية الانتقال من ثقافة سياسية إلى أخرى.

الخاتمة

مع زوال الحكومات الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية ومع ا فتقاد الشيوعية لمصداقيتها بشكل عام، فإن فائدة النظريات الماركسية لتحليل الثقافة ينبغي ان تؤخذ في الاعتبار، وعلى الرغم مما أذيع عن انحرافات الحكومات التي حكمت باسم الماركسية وبرغم الحماسة التي تقبلت بها الدول التي عرفت بالاتحاد السوفيتي الاقتصاد القائم على نظام السوق، فما زال نقاد الماركسية يزعمون أن لهم دوراً فعالاً يلعبونه. فهم ينبهون على قدر اللامساواة في عديد من المجتمعات، ويقدمون الاستبصارات والرؤى التي تمكننا من فهم الدور الذي تلعبه الفنون ووسائل الإعلام وظواهر ثقافية أخرى في المجتمعات المعاصرة. وهذه الموضوعات هي بؤرة التركيز لكثير من نقاد النقد الثقافي. إن عديدا من النقاد الماركسيين لم يؤمنوا البتة بالمذهب الشيوعي أو أنهم كانوا إيجابيين نحو الأنظمة الشيوعية المتنوعة في أوروبا الشرقية، والاتحاد السوفيتي والصين وكوبا. فهؤلاء النقاد يستخدمون الماركسية بوصفها منظورا ليهاجموا من خلاله ما يرونه من جوانب سلبية وغير إنسانية وفاسدة في المجتمعات البرجوازية الغربية، وأكدوا على أن وجهات النظر الماركسية عن الثقافة لا زالت لها صحتها ومنفعتها.

في نموذج وايلدفسكي نجد أن دعاة المساواة إما أن يكونوا ماركسيين أو أن معظمهم يعجبون بالماركسيين (وكلاهما يؤكد على المساواة في الحاجات الإنسانية) وهم الذين يعملون نقاداً لكل من النخبويين ودعاة النزعة الفردية وفرسان النزعة القدرية، وتلك العناصر في مجتمع يعاني من اللامساواة في جانب ما أو آخر.

وربما تكون الماركسية قدسجلت فشلاً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، إلا انها لا زالت تجذب عديداً من نقاد الثقافة والمدارس الأخرى، الذين يستخدمون مفاهيمها (غالباً في أشكالها المعدلة والحديثة) ليهاجموا انعدام المساواة في المجتمعات الرأسمالية وأحياناً في بعض المجتمعات الاشتراكية. إن الماركسية في زعم بعض منظريها، فلسفة إنسانية، ولكن على مستوى تحققها في الشيوعية أفضت، من حيث كونها يوتوبية، إلى عنف هائل ومعاناة كبيرة.

ولكن الرأسمالية قد أدت أيضاً إلى القسوة والمعاناة كما كانت الرأسمالية – أو لا تزال في نظر البعض – تتميز باستغلال الملايين من البشر، كما تتميز بمجتمعات تتعاظم فيها الفروق الطبقية باستمرار، وتعانى القاعدة العريضة من الناس الفقر الشديد والنمو المتزايد للشعور باليأس والإحباط، كما تتسم بالعنف العشوائي، وبمعدل ضخم للسلوك الإجرامي، إن النكتة القديمة عن الشيوعية والرأسمالية تلخص الأمور بخفة وطرافة.

إن الرأسمالية هي ذلك النظام الذي فيه يستغل الإنسان أخيه الإنسان؛ وفي ظل الشيوعية يحدث النقيض.

متعلقات

الـثقـافـة الـسـيـاسـيـّة(1)

الأقوى، حسب روسو، ليس قوياً بدرجة كافية ما لم ينجح  في تحويل القوة الى حق والطاعة الى واجب. إن محاولات تنشئة الولاء للنظام ليس مقتصرة على دول محددة دون غيرها، فهي موجودة في كافة دول العالم.  إن دراسة كيف ينظر الشعب الى سياسات بلاده هي فحص في الثقافة السياسية. إن مفهوم الثقافية السياسية لا يرجع الى المواقف حيال لاعبين محددين مثل الرئيس الحالي او رئيس الوزراء، ولكنه يلمح الى كيف ينظر الناس الى النظام السياسي بصورة كلية. وهذا يتضمن ما اذا كان المواطنون يرون النظام بكونه شرعياً، أي ان حكامه يتمتعون بالحق وهكذا القوة. ولذلك، فإن أحجار بناء الثقافة السياسية هي: الاعتقادات، والآراء، والعواطف الخاصة بأفراد المواطنين تجاه شكل حكومتهم. ويعرّف باي (Pye) الثقافة السياسية على أنها (مجمل القيم الاصلية، والمشاعر والمعرفة التي تعطي شكل وجوهر العملية السياسية).

 الثقافة السياسية والاستقرار السياسي

 إن الثقافة السياسية الداعمة، والمتراكمة عبر الاجيال تساهم في استقرار الأنظمة السياسية. فالنظام القائم على الحق يمكن له أن يدوم فترة أطول، لكونه في الحد الأدنى أشد تأثيراً من ذلك النظام الذي يعتمد على القوة وحدها. إن تأثير الثقافة السياسية على الاستقرار السياسي كما يكشف عن ذلك كتاب ألموند وفيربا (الثقافة المدنية الصادرة عام 1963) والمستند على عمليات مسح أجريت خلال عامي 1959 ـ 1960 في الولايات المتحدة وبريطانيا، والمانيا الغربية، وايطاليا والمكسيك. وكان الغرض من عمليات المسح تلك هو تعريف الثقافة السياسية التي كانت في أغلب الاحتمالات تعيش وتتطور فيها الديمقراطية الليبرالية.

وقد استطاع الموند وفيربا التمييز بين ثلاثة أنواع نقية من الثقافة السياسية: الأبرشية أو المحدودة (parochial)، التابعة، والمشاركة. في الثقافة السياسية الابرشية، فإن المواطنين يعون بصورة غير محددة وجود حكومة مركزية فحسب، ويصدق هذا على القبائل المعزولة والتي لا يتأثر وجودها وبقاؤها بالقرارت الوطنية التي تتخذها الحكومة المركزية. في الثقافة السياسية التابعة، فإن المواطنين ينظرون الى أنفسهم غير مشاركين في العملية السياسية، وإنما كتابعين ورعايا للحكومة، كما هو الحال بالنسبة للشعوب التي تعيش تحت نظام ديكتاتوري. أما في الثقافة السياسية الأكثر شهرة، وهي القائمة على مفهوم المشاركة، حيث يؤمن المواطنون بأنهم قادرون على المساهمة في النظام وأنهم أيضاً متأثرون به.

إن الفكرة الجوهرية في كتاب الموند وفيربا هي أن الديمقراطية أثبتت بأنها أكثر استقراراً في المجتمعات التي تزوّد فيها الثقافات المحدودة والخاضعة بثقل مضاد من حيث الجوهر للثقافة المشاركة. وهذا الخليط يطلق عليه (الثقافة المدنية ـ civic culture). في هذا التركيب المثالي، يكون المواطنون فاعلين بدرجة كافية في السياسية للتعبير عن خياراتهم المفضّلة لحكامهم ولكنهم ليسوا ضالعين في رفض قبول القرارات التي لا يتفقون معها. في دراسة الموند وفيربا، تقترب بريطانيا والى حد أقل الولايات المتحدة، من هذه الفكرة المثالية. في هذين البلدين، شعر المواطنون بأنهم قادرون على التأثير في الحكومة ولكن غالباً ما يختاروا عدم فعل ذلك، وهذا ما يعطي الحكومة فسحة من المرونة.

وبطبيعة الحال، فإن الزمن يتغير، ومنذ تاريخ الدراسة الفريدة التي قدّمها الموند وفيربا، فإن كثيراً من الديمقراطيات الليبرالية قد اصطدمت بمياه عاصفة: فيتنام، النشاط الطلابي، الكساد الاقتصادي، الحركة المناهضة للنشاط النووي، جماعات البيئة، تقلّصات في دولة الرفاة. وكما لاحظ الموند وفيربا عام 1980 خلال تحديثهما للعمل الاصلي، بأن هذه الاحداث تركت أثرها على الثقافات السياسية الغربية. في بريطانيا، والولايات المتحدة فإن الثقة في الحكومة تراجع كثيراً. وأن ثلاثة أرباع الاميركيين قالوا عام 1964 بأنهم وثقوا بأن الحكومة الفيدرالية (تقوم بعمل ما هو صحيح) ولكن في عام 1996 لم يكن هناك سوى الثلث من يعتقد ذلك. في بريطانيا، فإن القسم الذي يثق في أن الحكومة تقدّم البلاد قبل الحزب سقط من 39 بالمئة في عام 1974 الى 22 بالمئة في عام 1996. تكشف هذه الارقام عن تحوّل كبير في الثقافة المدنية باتجاه سلوك ارتيابي جوهري في السياسة. يبقى، في الولايات المتحدة كما الحال في الديمقراطيات الرصينة، فإن الحكومات تواصل عملها الحكومي. وفي معظم العالم الديمقراطي، فإن الحكام كانوا قادرين على خصخصة الشركات العامة وتخفيض المعونات دون تهديد استقرار النظام السياسي. إن مثل هذا التذمر الظاهر يسلّط الضوء بدرجة أكبر على أداء الأحزاب الحاكمة والقادة أكثر مما يسلط الضوء على العملية الديمقراطية نفسها.

إن هذه النقاط تثبت بأن الديمقراطيات المستقرة لها بنك من الرأسمال السياسي والذي بمقدروه تعزيزها في الفترات الحالكة. وكما لاحظ ميكافيلي (1469 ـ 1527) في كتابه (الأمير) فإن (الامير يجب أن يكسب الشعب الى جانبه، واذا كان العكس هو الصحيح، فليس له عون في اللحظات  الصعبة)، وقد ذكر انجلهارت (Inglehart) نقطة مماثلة بقوله:

حتى وإن كانت الديمقراطية لا تملك جواباً على سؤال: (ماذا فعلت لأجلي مؤخراً؟)، فإنها قد تتعزز عن طريق المشاعر المنبثّة بأنها من حيث الجوهر أمر جيد. إن هذه المشاعر قد تعكس من جهة نجاحات اقتصادية وغيرها والتي قد شهدها أحد ما منذ فترة طويلة أو تعلّمها من طريق آخر كجزء من المشاركة الاجتماعية المبكّرة للفرد.

وقد طوّر بوتنام (Putnam) عام 1993 مقاربة ألموند وفيربا، مستعملاً إيطاليا كمثال له. وقد أوضح كيف ان الثقافة السياسية الداعمة تعزز بصورة مباشرة أداء وأيضاً إستقرار أي نظام سياسي. في العمل الاصلي لكل من الموند وفيربا، صوّر الأخيران ايطاليا على أنها بلد يشعر سكانه بأنهم غير مضطلعين بالسياسة ومعزولين عنها. لقد عاد بوتنام الى هذا الموضوع ولكن أولى اهتماماً أكبر للتباين داخل ايطاليا، وشرح كيف أن الثقافات السياسية المتباينة في البلاد أثّرت في نشاطية عشرين حكومة اقليمية كانت قد أقامتها ايطاليا في السبعينيات. وعلى اية حال، فإن العشرين حكومة المتشابهة في تركيبتها وسلطاتها الرسمية اختلفت بدرجة متعاظمة من حيث الاداء. البعض منها (مثل إيميليا روماغانا في الشمال) أثبتت بأنها مستقرة وفاعلة، وقادرة على صناعة وتطبيق السياسات الابداعية. أما البعض الآخر (مثل كالابريا في الجنوب) فقد حققت القليل. والسؤال: مالذي يفسّر هذه الاختلافات؟

لقد عثر بوتنام على جوابه في الثقافة السياسية، إذ يعتقد بان الأقاليم الأكثر نجاحاً لديها ثقافة سياسية ايجابية، أي ثقافة ثقة وتعاون والتي تنتج مستوى عالياً مما أصطلح عليه بـ (الرأسمال الاجتماعي ـ social capital). في المقابل، فقد لوحظ بأن الحكومات الاقل فاعلية موجودة في المناطق التي تفتقر لأية ثقافة تعاون ومساواة. في ظروف كهذه، فإن بإمكان الحكومات تحقيق القليل وأن مخزون الرأسمالي الاجتماعي، الذي هو في الاصل محدود، سيتضاءل بصورة أكبر.

والرأسمال الاجتماعي يعرّف على أنه ثقافة الثقة والتعاون التي تجعل العمل الجماعي ممكناً ومؤثراً. وكما يقول بوتنام (إنها قدرة المجتمع على تطوير الانا الى نحن. إن الثقافة السياسية ذات رصيد من الرأسمال الاجتماعي يمكّن المجتمع من بناء المؤسسات السياسية بقدرة حقيقية لحل المشاكل الجماعية. وحيث تكون الثقافة السياسية شحيحة، فإن حتى الحكومة المنتخبة سينظر اليها على أنها تهديد للمصالح الفردية).

ولكن السؤال: من أين يأتي الرأسمال الاجتماعي ذاته؟ وتماماً كما الحال بالنسبة لكل من ألموند وفيربا قبل ذلك، فإن جواب بوتنام هو تاريخي. إنه يرجع، بصورة خلافية الى حد ما، التوزيع غير العادل للرأسمال الاجتماعي في ايطاليا الحديثة الى الاحداث العميقة في تاريخ كل إقليم. إن الحكومات الاكثر فاعلية في الشمال تستند على تقليد الحكم الذاتي الجماعي الذي يرجع الى القرن الثاني عشر الميلادي. أما الادارات الأقل نجاحاً في الجنوب فهي مثقلة بتاريخ طويل من الحكم الاقطاعي، الاجنبي، البيروقراطي، والتسلطي. وعليه، فإن تحليل بوتنام للثقافة السياسية يصبح الجهاز الذي من خلاله يفرض الماضي تأثيره على الحاضر.

ولكن تأثير الثقافة السياسية على الحكومة يسري في كلي الاتجاهين. فالثقافة المدنية تساهم في استقرار وفعالية الديمقراطية، ولكن  الديمقراطية التي تقدّم ـ حرفياً ـ الصالح تخلق مواقف داعمة وستعزز النظام السياسي في المستقبل. وقد كتب دايموند وليبست عام 1995 (من أجل نجاح طويل المدى للديمقراطية، ليس هناك بديل للاستقرار الاقتصادي والتقدّم). إن نجاح المانيا الغربية في ترجمة معجزة اقتصاد ما بعد الحرب الى مواقف مفضّلة في ديمقراطيتها الجديدة هو اختبار لسلطة الاداء الاقتصادي في تشكيل الثقافات السياسية. على العكس، كان على البلدان الشيوعية سابقاً التعاطي مع الانهيار الاقتصادي في سنواتها الاولى، وهو تعديل لا بد أنه إختبر الالتزام العام لتفريخ الديمقراطية. ولذلك من الاهمية بمكان إدراك أن الثقافة السياسية نفسها تتشكل من قبل تاريخ الامة والاداء الاقتصادي.

 النخبة والثقافة السياسية

 بالرغم من أن تأثير الثقافة السياسية الجماهيرية على الاستقرار السياسي قد جرى النقاش حوله بصورة واسعة، فإن أهمية الثقافة السياسية للنخبة لم تُطرح غالباً الا بدرجة قليلة. يبقى أنه في الدول التي تسود فيها الثقافة السياسية الأبرشية او المحدودة أو ثقافة الخضوع، فإن الثقافة السياسية للنخبة تعتبر رئيسية. وحتى حين تكون مواقف الجمهور حيال السياسة متطوّرة جداً كما هو الحال في الديمقراطيات الليبرالية الرصينة، يبقى أن وجهات نظر النخبة هي التي تفرض الأثر الأكبر المباشر على القرارات السياسية. وكما ذكر فيربا (1987) فإن قيم القادة السياسيين يمكن توقّع أن يكون لها (انسجام وتداعيات). على سبيل المثال، فإن النخب كانت مركزية بالنسبة للتحولات الديمقراطية الأخيرة.

وتتألف الثقافة السياسية للنخبة من اعتقادات، مواقف، وأفكار حول السياسة التي تتبنى من قبل اولئك القريبين من مراكز السلطة السياسية، إن قيم النخب هي أكثر تماسكاً وجزماً من قيم السكان بصورة عامة.

إن ثقافة النخبة تتجاوز بكثير كونها جزءا تمثيلياً لقيم المجتمع الأوسع. إن أفكار النخبة، في كل انحاء العالم، متميزة عن الثقافة السياسية الوطنية، رغم أنها تكون متداخلة معها. على سبيل المثال، النخب تأخذ بصورة عامة خطاً أكثر ليبرالية في القضايا الاجتماعية والاخلاقية. ويؤكد هذه النقطة المسح المشهور الذي قام به ستوفر (Stouffer) عام 1954 عن مواقف الاميركيين من حرية الكلام. وقد أظهر ستوفر بأن أكثر قادة المجتمع يؤمنون بحرية الكلام بالنسبة للملحدين، الاشتراكيين، والشيوعيين في وقت كان فيه مواقف المجتمع أقل تسامحاً بكثير. وفي مسح لاحق ظهرت زيادة مفاجئة في دعم المجتمع الاميركي لحرية الكلام (راجع سوليفان، بييرسون، وماركوس 1982). وبالرغم من ذلك، فإن من الضروري بالنسبة لقضية حرية الكلام في الولايات المتحدة أن غالبية النخبة السياسية بقيت ملتزمة في وقت كان فيه المبدأ يتعرض لهجوم قوي من حملة مناهضة الشيوعية التي قام بها السناتور جو ماكارثي. وفي اسلوب مماثل، فإن كثيراً من قيادات البلدان الشيوعية سابقاً قبلت الحاجة للانتقال الشامل الى اقتصاد السوق حتى حين تبقى الثقافة الشعبية اكثر تعاطفاً مع مساواة الفقر المعمول به تحت الشيوعية.

وهنا سبب واحد بالنسبة للنظرة الليبرالية المعقّّدة لدى النخب هو مستواهم التعليمي. في الديمقراطيات الليبرالية، أصبحت السياسة مهنة الخريج (الجامعي). إن تجرية التعليم العالي التي تخلق نظرة ايجابية للطبيعة الانسانية تقوي القيم الانسانية وتشجّع على الايمان في قدرة السياسيين على حل المشاكل الاجتماعية، حسب أستن (1977). في حقيقة الأمر، إن التقابل بين قيم النخبة المتعلّمة والقسم الأقل تعليماً من السكان هو مصدر التوتر في أكثر الثقافات السياسية.

في تقييم تأثير الثقافة السياسية للنخبة على الاستقرار، هناك ثلاثة أبعاد حاسمة:

ـ هل لدى النخبة إيمان بحقها في الحكم؟

ـ هل تقبل النخبة فكرة المصلحة الوطنية، والفصل بين الطموحات الفردية والجماعية؟

ـ هل كافة أعضاء النخبة مع قوانين اللعبة، وخصوصاً أولئك الذين يديرون عملية انتقال السلطة؟

إن مكوّناً رئيسياً للثقافة السياسية للنخبة هو اعتقاد الحكام في حقهم في الحكم right to rule. إن الثورات التي اندلعت في أوروبا الشرقية عام 1989 تصوّر كيف أن انهيار الثقة بين الحكّام أنفسهم قد يؤدي الى سقوط الانظمة، كما أشار الى ذلك سكوبفلين (1990).

إن النخبة التسلطية تعزز نفسها في السلطة ليس فقط عن طريق القوة والتهديد باستعمال القوة، ولكن الأكثر أهمية، لأن لديها رؤية للمستقبل والتي بها تستطيع تبرير نفسها لنفسها. ليس هناك نظام يستطيع البقاء طويلاً دون أن يحمل فكرة ما حول الهدف.

في المرحلة الاولى للتصنيع، كان لدى الحكام الشيوعيين سبب وجيه للاعتقاد بأن اقتصادياتهم التخطيطية الجديدة كانت تفضي الى نتائج ما. ولكن مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، فإن التقدم قد إنتهى الى انهيار: فالاقتصاديات التخطيطية قد بلغت طريقاً مسدوداً. وحتى الدعم اللفظي من المفكرين قد تلاشى، حيث أن مسؤولي الحزب بدأوا يفقدون الثقة في حقهم في الحكم. وفي الأخير، سقط الحكم الشيوعي بسهولة لأنه تم إضعافه من الداخل. إن قيم النخبة توقفت عن دعم نظام الحكم، وكان الحكام الشيوعيون مدركين أنهم قد أصبحوا عقبة وليس مصدر تقدّم.

من أجل استقرارٍ طويل المدى، فإن النخبة السياسية يجب أن تقبل وتعمل على تفسير (ما) للمصلحة الوطنية. في هذا السياق يأتي سلوك الحكّام إزاء مناصب الحكومة التي يتولونها. هل يُنظر الى الخدمة العامة كطريقة فحسب لخدمة المصلحة العامة؟ بعض الأجهزة البيروقراطية الوطنية، من فرنسا وحتى باكستان، قد شهدت  بروز خدّام الأمة الى حد حماية البلاد من (السياسيين) أنفسهم. وفي الغالب، على أية حال، فإن الدولة ينظر اليها من قبل الطبقة الحاكمة على أنها درزة لمصادر شحيحة يجب أن تكون ملغومة لمنفعة الحكام، ولعوائلهم، ومرشحيهم، وجماعتهم. في العالم النامي حيث المصادر الاقتصادية شحيحة ومؤسسات الدولة ضعيفة فإن هذه المقاربة تكون سائدة غالباً. في البلدان الشيوعية سابقاً، كان المسؤولون الذين شهدوا سقوط النظام القديم يكسبون شخصياً من الاحتياطي العام في عمليات خصخصة فاسدة. وهذا يعكس ثقافة الكلاب المتناحرة والسلوك الطارد تجاه (ملكية الشعب). ومن السذاجة بمكان افتراض ان السياسيين في أي مكان  مقيّدون فحسب بالمصلحة الوطنية. وعلى اية حال، فإن قيم النخبة، في الحد الادنى، لا يجب أن تعذر المصلحة الذاتية، والتي تهدد الصالح العام. إن الفساد، حال فضحه، يجب أن يولّد نقداً وليس مجرد تربيت على الاكتاف.

إن البعد الأشد خطورة في الثقافة السياسية للنخبة ربما يكون المواقف التي يتنباها السياسيون في قوانين اللعبة rules of the game. هناك طائفة من الاحتمالات هنا: هل أن المنافسة بين النخبة مطلقة، كما في بلدان مثل ايرلندا الشمالية، حيث ان (المكاسب) لطرف ما (البروتستانت او الكاثوليك) يتم النظر اليها على أنها (خسائر) بالنسبة للطرف الآخر؟ في ظروف كهذه ليس هناك قوانين متفق عليها تحدد المنافسة السياسية. أو هل ان نزاع الحزب القوي يكون معتدلاً بموجب الاتفاق على تلك القوانين، كما في بريطانيا ونيوزلندا؟ إن نتائج هذين الموقفين من اللعبة السياسية على درجة كبيرة من الاهمية. خذ، على سبيل المثال، فضيحة ووترجيت في اميركا خلال ضلوع الداعمين للرئيس نيكسون في أنشطة غير قانونية مثل الاختراق والتنصّت على المكالمات ضد خصومهم الديمقراطيين. لقد عكست تلك الانشطة نظرة الرئيس للسياسة: (نحن) ضد (هم). فقد كان نيكسون على استعداد للتخلي عن القوانين الاعتيادية من اجل أن يكفل بأن خصومه قد (أصابهم ما يستحقونه). إن ديمقراطية تسود فيها هذه التصرفات بين النخبة ليس لها سوى أفق محدود للبقاء. 

في المقابل، حين يشاء حزب او مجموعة قيادات للاتفاق على السماح للتعبير عن المصالح والقيم الاخرى، فإن توقعات الاستقرار السياسي ستتحسن. يعتقد ليجفارت (Lijphart:1977) بأن المواقف المتعايشة بين ممثلي الجماعة في مجتمعات منقسمة مثل النمسا وهولندا يقدّم وصفة للحكومة المستقرة في الخمسينيات والستينيات. ومع أن الدين قد قسّم بقوة هذه البلدان الا أن سياسيي الحزب الذين يمثلون مجتمعات متباينة قبلوا حق كل قوة اجتماعية في الحصول على حصة عادلة من مصادر الدولة. هذه الجماعات ـ الكاثوليك، البروتستانت، والعلمانية ـ قد أصبحت حرة في توزيع هذه المصادر تماماً كما يريدها قادتها. إن هذا السلوك (عش ودع غيرك يعيش) قد أستوعب بنجاح الانقسامات المتفجّرة وكشف أهمية قيم النخبة في المساهمة في استقرار الديمقراطيات.

 التأهيل السياسي (Political Socialization)

 يعرّف التأهيل السياسي على أنه عملية نتعلم من خلالها السياسة، وهي تتعلق باكتساب العواطف والهويات والمهارات وايضاً المعلومات. إن الابعاد الرئيسية في عملية التأهيل هي ماذا يتعلم الناس (المحتوى)، ومتى يتعلموا (التوقيت والتسلسل)، ومن أين يتعلموا (الادوات او الوسائط). إن اكثر الدراسات المتعلقة بالتأهيل السياسي مشتقة من النموذج الاولي (primacy model)، القائم على فرضية أن ما نتعلمه في حال الشباب يزوّدنا بمنظار نفسّر عبره التجربة اللاحقة.

إن التأهيل السياسي هو وسيلة يتم من خلالها نقل الثقافة السياسية عبر الاجيال، إنها عملية عالمية. فمن اجل البقاء، فإن كافة المجتمعات يجب ان تتعلم المهارات المطلوبة بالنسبة للشعب كيما يؤدي أدواراً سياسية، تتفاوت من التصويت في الانتخابات الى ادارة البلاد. إن النقطة المركزية في موضوع التأهيل السياسي هي كونها والى حد كبير عملية غير منضبطة وغير قابلة للانضباط. فمهما حاول الحكّام فإنهم يجدوا أنفسهم عاجزين عن السيطرة على هذه العملية او محتويات التأهيل. من الناحية الطبيعية، لذلك، فإن التأهيل السياسي يسهم في طي الوضع القائم للوراء. ونتيجة ذلك، فإن الثقافة السياسية تصبح قوة توطيدية، وتزوّد بمانع رئيسي ضد التغيير المخطط.

إن تعلّم الثقافة السياسية يختلف تماماً عن اكتساب المهارة الاكاديمية، مثل معرفة التاريخ. إن التعليم الرسمي يتعلق باستيعاب وتعلّم كيف نستعمل المعلومات المنقولة من المدرّس الى الطالب في الاطار التعليمي. إن التأهيل السياسي منبث، وغير مباشر، وغير مرسوم او غير مخطط. إنه يتعلق بتطوّر العواطف السياسية والهويات (ماهو وطني؟ ديني؟ حزبي؟) الى جانب اكتساب المعلومات. إن التأهيل السياسي يتموضع عبر مؤسسات مختلفة، العائلة، الجماعة المتماثلة، ومكان العمل  الى جانب التعليم الرسمي. إنه يتأثر الى حد كبير بسياق التواصل وهكذا محتواه. على سبيل المثال، إن سلوك الاطفال ازاء السياسة سيكون منفعلاً الى حد كبير بواسطة تجربتهم في السلطة داخل البيت والمدرسة وهكذا بواسطة ما يقوله لهم الآباء والمدرسون حيال نظراتهم كيف يجب ان تكون.

إن النظرة الاولية للتأهيل السياسي هي أن الولاءات السياسية الاساسية تتشكل في مرحلة الشباب. إن التعليم في مرحلة الطفولة هو (تعليم عميق) لأنه يشكّل إطاراً لتفسير المعلومات المكتسبة في مرحلة البلوغ. إن الهويات السياسية الاصلية تتطور في الطفولة المبكرة، حيث تكون العائلة هي مصدر التأثير الحاسم في الطفل. أما في الطفولة المتأخرة، فإن هذه الملحقات مضافة عن طريق الزيادة الملحوظة في المعلومات. إن المؤثر الرئيسي في المراهقين هي في اعادة تصفية الادراك المفهومي للطفل، بناءً على المعلومات التي حصل عليها. إن هذه المراحل الثلاث من التأهيل: الطفولة المبكرة، الطفولة المتأخرة، والمراهقة، تؤهّل الطفل للمشاركة السياسية في حياة البالغين السياسية. إن تجربة البلوغ ستتطور ولكنها لا تحوّل عادة النظرة المؤمّنة في مرحلة الشباب. إن النموذج الاولي لمقاربة التأهيل تعمل بصورة أفضل في الفترات المستقرة مثل الخمسينيات.

والمثال على النموذج الأولي هو تحليل باي (Pye, 1985) للثقافات السياسية الاسيوية. يجادل باي بأن حجر الزاوية في بناء السلطة في الثقافات الاسيوية هي الولاء لجماعة أو المجموع. خارج إطار الحاجة للانتماء، فإن انضواء الفرد في هوية جماعية هي السلطة المتشكلة في الثقافات الاسيوية.

ولكن ما هو جذر هذه الحاجة للانتماء والتوافق؟ يقترح باي بأن الجواب يكمن في تجربة الطفولة. إن الطفل الآسيوي يعثر على حب غير مفنّد واهتمام من العائلة: فالطفل يحترم ولا يسأل عن السلطة الأبوية، ما يؤدي الى إذعان مماثل منه للحكام السياسيين في مرحلة لاحقة في الحياة. إن هذا القبول للقيادة الخيّرة هي خاصية فرضية في (الديمقراطية الاسيوية).

وبالرغم من أن معظم البحوث حول التأهيل السياسي تسلِّط الضوء على الاطفال، فإننا يجب ان نتذكر بأن عملية التأهيل هي ممتدة على طول الحياة. إن النظرات السياسية الاساسية تنضج في رد فعل على الاحداث والتجربة وأن التعليم السياسي لا يتوقف عند نهاية مرحلة الطفولة (أنظر كونفور وسيرنج: 1994). في القرن الثامن عشر الميلادي، لحظ مونتسكيو بأنه: نحن نتلقى ثلاثة أنواع من التعليم، واحد من عوائلنا، والثاني من معلمينا، والثالث من العالم، وأن الثالث يتناقض مع ما يعلّمنا إياه الاول والثاني.

بعض خبرات البالغين مثل السفر للخارج هي شخصية، ولكن الاحداث الجماعية مثل الكساد والحرب تحتفظان بأهمية سياسية. وعليه بإمكاننا معارضة النموذج الاولي ببديل آخر هو النموذج الجدّي (من جديد) أو الحديثي (model recency). إنها الفكرة القائلة بأن المعلومات الحالية تحمل ثقلاً أكبر فقط لأنها معاصرة وحديثة. فما نراه في التلفزيون اليوم يكتسب أهمية أكبر من ذكريات الطفولة المبكرة. إن واقع البلوغ يختزن أكثر بكثير من أساطير الطفولة.

إن المقاربة الحديثة تعمل بصورة أحسن خلال فترات التحوّل السياسي السريع كما في الثمانينات والتسعينيات، ولكن يجب أن يكون هناك بعض الجدارة العامة حيث من الواضح ان الثقافات السياسية تتغير، حتى وإن كان التغيّر بطيئاً. ليس هناك جيل يفهم السياسية بنفس الطريقة التي كان تفهمها الاجيال السابقة. في واقع الأمر، إن التحوّل الجيلي هو بلا شك آلية رئيسية للتغيير الثقافي. إن جيل الستينيات الذي جاء بدون ذاكرة الحرب العالمية الثانية إستطاع تطوير قيماً متميزة والتي أثبتت بأنها على درجة عالية من الاهمية حيث ان هذه الكتيبة تحركت الى مواقع السلطة.

  الدين والثقافة السياسية

 إن النقاش حول الثقافة السياسية يكون ناقصاً دون تقييم دور الدين. وكمصدر للقيم الاساسية، فإن الدين يعتبر مكوّناً هاماً في الثقافة السياسية في دول عديدة. وهذا يعود الى سلطة الدين في شرعنة او نزع شرعية السلطة العلمانية. وكونه يتموقع فوق العالم العلماني، فإن الدين يمنح الشرعية ولا يستمدها، فبإمكان القادة الدينيين المسؤولين عن تفسير العقيدة أن يتحولوا في اقصى نفوذهم الى حرّاس الثقافة السياسية.

إن هذا الدور الفريد أجبر الحكّام على تكريس اهتمام بالغ لعلاقاتهم بـ (المؤسسة الروحية). في العالم ماقبل الحديث كان الدين يشرعن بصورة مباشرة كافة مناشط ووجه الحياة في المجتمع. وقد لحظنا بان الدين والحكومة شكّلا نظاماً متكاملاً، فالدين الى حد كبير هو ثقافة سياسية. في العالم النامي، أصبح الدين ثقافة المحرومين، وأنه جهاز رئيسي بالنسبة لأولئك الذين يشعرون بالابعاد من المجتمع، إنهم قادرون على الافصاح عن احباطهم. وبالنسبة للفقراء بخاصة في مجتمعات غير متكافئة او متساوية فإن الدين يعتبر الصوت القوي للمعارضة السياسية.

في هذه المرحلة، إن الدليل الدامغ على أهمية الدين يبرز من خلال إنبعاث الاسلام. إنه الدين الأسرع انتشاراً في العالم، وهو الدين الذي تستمد منه كافة القوى السياسية ثقافة الاحتجاج ضد الديكتاتوريات وسياسات الهيمنة واخيراً ضد الغرب الاستعماري. لقد ازدادت أهمية الاسلام كمصدر رئيسي للثقافة السياسية لشعوب الشرق الاوسط وربما لأكثر من مليار مسلم في ارجاء العالم منذ عقدين على الاقل، حيث بات استعمال الخطاب الاسلامي ضرورياً في الحرب من اجل المصالح الخاصة او العامة. 

الثقافة السياسية الفلسطينية(2)

هو كُتيّب, او كرّاس (حسب مصطلحات الادبيات السياسية) للباحث باسم الزبيدي, ويقع في مئة صفحة من القطع المتوسط, وصادر عن مؤسسة "مواطن,المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديموقراطية". رغم ذلك, وربما بسبب ذلك طُبع هذا الكتاب في رام الله عام 2003 ضمن اتفاقية تعاون مع معهد تابري للبحوث – فنلندا. فالمانحون والمانحات, الاحياء منهم والاموات لديهم الاستعداد  للانفاق في مجال الديموقراطية والنسوية اكثر من الانفاق في مجالات الانتاج. ومن المفارقات اننا نحن في الشرق عموما, والعالم العربي خصوصا, اكثر إعجابا بالديموقراطية من شعوب الدول الغربية, إذ من الممكن ان يُتخيّل أن شعبا يعيش تحت نظام ديموقراطي هو اكثر ادراكا لعيوب نظامه, وعلى عكسهم الآخرون الذين يعيشون تحت نظام سلطوي. ولذلك, في الاستبيان الذي عمله فريق التنمية الانسانية العربية لعام 2003 حول تفضيل الانظمة, كانت الاقطار العربية في مقدمة الذين يفضلون النظام الديموقراطي – ويقول المثل الشائع : "حلم الجيعان عيش". ولكن باسم الزبيدي يحذّر الذين يعيشون تحت نظام قسري ان كسر ذلك النظام او انهياره "لا يعني السير التلقائي نحو حالة ديموقراطية"(ص21)- ولعل المشهد العراقي اليوم استجابة واضحة لتحذير الزبيدي.

، وعلى الرغم من تطرق العديد من الكتب والدراسات الصادرة حتى الآن لبعض جوانب الثقافة السياسية الفلسطينية، فإن كتاب باسم الزبيدي هذا يكاد يكون الكتاب  الأول المكرس لهذا الموضوع تكريساً تاماً. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى تحفيز الكتّاب الآخرين على متابعة هذا الموضوع ومناقشة مختلف جوانبه بعمق وتحليل مدعومين بالمعلومة التي تشكل الشرط الرئيس لأية دراسة قيمة.

بما ان السياسة هي "علم" إدارة شئون الناس فكان من الطبيعي  ان ترتبط بكل الميادين الانسانية: الاقتصاد, والاجتماع, والثقافة. كان القرن العشرون هو عصر ازدهار علم الاقتصاد السياسي, وفيه ظهر علم الاجتماع السياسي, وفي اواسطه دخل الى ساحة الادبيات مصطلحُ "الثقافة السياسية". وكان جبرائيل ألموند من اوائل من ادخل هذا المفهوم في الدراسات السياسية, وذلك في مقال نشره في مجلة Journal of  Politics عدد آب 1956 بعنوان "انظمة سياسية مقارنة". وفرضت الثقافة السياسية نفسها باعتبارها "أداة جوهرية لتحليل قضايا معقدة مثل النظام السياسي, والهوية الجماعية, والبيئة السياسية, وتوجهات المجتمعات والافراد"(ص11).

ويتفق الزبيدي مع ليستر ميلبراث في تصنيف تورّط الافراد بالسياسة وانخراطهم بها, فيجعلهم انماطا ثلاثة: النمط الضيّق وهم اللامبالون بنظام الحكم وليس لديهم الرغبة في المشاركة العامة. والنمط التابع وهم الواعون لنتائج عملية الحكم, ولكنهم لا يشاركون في مجريات الحياة العامة, ويكتفون بالتصويت السياسي والنقاش العام. والنمط المشارك وهم الذين يشاركون بفعالية في الحملات السياسية والشئون الحزبية, كما يمكنهم ان يتقلدوا مناصب عامة (ص9).

ويتفق الزبيدي ايضا مع روبرت داهل في تصنيف الثقافة السياسية الى مستويين: ثقافة النّخب وثقافة الجماهير. ومستندا الى عدّة تجارب, يعتقد الكاتب "أن الثقافة السياسية الديموقراطية لا تنشأ الا تدريجيا, وفقط عندما تباركها النخب المسيطرة, وتعمل على تعزيز المبادئ والقواعد والقوانين الوفاقية في علاقاتها الداخلية والخارجية"(ص14). ودرجة تعاون النخب, وتكامل تركيبها, واجماعها القيَمي هي التي تعزز الديموقراطية وتحافظ عليها. فهذه النخب"تتشبّث بالقيم والمعايير الديموقراطية في جهودها المتواصلة لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية, وجعلها شرعية وآمنة"(ص15). ويشير الكاتب في الصفحة التالية الى طروحات كل من فيلد وهيغلي وبورتونز التي ترى ان"النخب غير الموحَّدة تنجب انظمة غير مستقرة, في حين ان النخب الموحدة ايدلوجيا تنجب انظمة اوتوقراطية مستقرة".

وتملك النخب ثلاث وسائل لفرض ثقافتها على الجماهير: الوسائل القسرية, والوسائل الاقتصادية, والوسائل الرمزية او المعنوية. باستخدام وسائل القسر تسيطر ثقافة النخبة, وباللجوء الى الوسائل الرمزية والمعنوية تهيمن ثقافة النخبة, اما الوسائل الاقتصادية فتؤدي الى خليط من السيطرة والهيمنة (السيطرة سيادة مرفوضة وتجري مقاومتها, اما الهيمنة فسيادة مقبولة).

بعد تخصيصه الفصل الاول للاطار النظري, يفرد الكاتب الفصول الثلاثة الباقية لتلمس الثقافة السياسية الفلسطينية من حيث إقترابها او ابتعادها عن مبدأ الديموقراطية.ويخصص الفصل الثاني للعوامل المنتجة لهذه الثقافة او الفاعلة في انتاجها. فهو يتعامل مع ثلاثة متغيرات، أولها الاحتلال والشتات والأثر المدمر لهما على الثقافة السياسية، ثم أثر م.ت.ف، ويليهما أثر خطاب الإسلام السياسي. ففي حديثه عن م.ت.ف لا يوفر الكاتب جهداً في تحميل المنظمة مسؤولية جزء كبير من هذه الثقافة السياسية، على الرغم من أنه في النهاية ينقل رأيين مختلفين في تقييم المنظمة وهما الرأي القائل بأنها، وعلى مدى ثلاثة عقود، شكلت واحة الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي، والرأي الآخر الذي يقول بأن قيادة المنظمة وفصائلها قد عززت تقاليد احتكار السلطة وصنع القرار وفردانية النفوذ وضعف التقليد المؤسساتي والشخصنة كبديل عن المأسسة. والكاتب أكثر ليناً في تعامله مع خطاب الإسلام السياسي،  وأقل هجوماً على سماته. وقد يكون ذلك بسبب أن الإسلاميين لم يتسلموا السلطة ولم يمارسوا السلطة القهرية بعد.

وفي الفصل الثالث يناقش ميول وتوجّهات الثقافة السياسية الفلسطينية. وبه يناقش الكاتب كيفية تأثير العوامل السابقة على المحاور الرئيسة: تصّور الذات والآخر, تقاليد التنازل الدائم, والميل نحو السلطوية.

وفي المحور الاول يكتشف الزبيدي للإحتلال الدور الاهم في انتاج الدرجةً الملحوظة من"البتر والتشوّش والغموض" في تصوّر الفلسطينيين للذات والآخر مما يجعلهم اقل قدرة على تعزيز التوجه الديموقراطي(ص50). كما لاحظ (ص58) دور منظمة التحرير الفلسطينية ثم السلطة الوطنية في انتاج الميل للتنازل في الثقافة السياسية الفلسطينية: من تحرير كامل فلسطين,الى برنامج مرحلي على طريق تحرير كامل فلسطين, الى دولة فلسطينية على كامل حدود 1967, الى اعتبار حدود 1967 هي اساس المفاوضات(اوسلو, شرم الشيخ, خارطة الطريق, تفاهمات البحر الميت). وبما ان الطرف الاضعف هو الذي يقدم التنازلات فان السلطة الوطنية الفلسطينية تقدم التنازلات لاسرائيل وتطالب المعارضة ان تقدم التنازلات للسلطة(ص61). وفي المحور الثالث يلاحظ الكاتب ان مؤسسات السلطة وكذلك المنظمات الفلسطينية التي في الحكم او في المعارضة تشبه الاقطاعيات التي جعلها زعماؤها(قادتها او مسؤولوها) "قلاعا ومنابر للدفاع عن نفوذهم" (ص63). ويمكن إجمال رأيه في هذا المحور بأن الميل القوي نحو السلطوية, انما يمهد لنظام ابوي يقوم على عظمة الحاكم, ويفرز احتكار السلطة والشخصنة بدلا من المأسسة والقانون , وذلك من اهم العراقيل امام الديموقراطية.

ويناقش الكاتب في الفصل الرابع تجلّيات وتعبيرات الثقافة السياسية الفلسطينية وآثارها على الخيار الديموقراطي. ويستعرض في هذا المجال اربعة جوانب: الاقتدار السياسي, والمشاركة السياسية, والتسامح السياسي, والثقة السياسية.

والمقصود بالاقتدار السياسي هو القدرة على التأثير في النظام السياسي, ويلاحظ الكاتب في هذا الجانب شعور الفلسطينيين ب"عدم إمكانية التأثير في صنع القرارات مهما كانت مهمة, وعدم جدوى النقد مهما كان بنّاء ونزيها"(ص72). والديموقراطية ليست حرية الرأي فقط, بل المشاركة في القرار. والمشاركة السياسية التي تقتضيها الحياة الديموقراطية ليست بالانتخابات فقط, بل هي المشاركة المنظمة والواعية في القرارات السياسية للسلطة التشريعية والتنفيذية. ويلاحظ الكاتب, لا ضعف هذه المشاركة, بل غيابها الواضح "في جميع مستويات الحياة السياسية: ابتداء بالسلطتين التنفيذية والتشريعية وانتهاء بالمنظمات والأطر الأهلية المختلفة"(ص77). واما صورة التسامح في الثقافة السياسية الفلسطينية فهي عند الزبيدي اكثر قتامة واشد بؤسا,فيقول"اما الحيّز الذي يتجلى بإطاره عدم التسامح فهو واسع ومتنوع ويشمل النخبة كما الجمهور, والسلطة كما المعارضة"(ص78).ويرى الكاتب ان غياب شعور الثقة السياسية داخليا "يتبيّن من خلال تعاظم حجم الجمهور الذي لا يثق بالنظام السياسي ومؤسساته واحزابه وتوجهاته وبناه, كما لا يثق ايضا بالمنظمات والاطر المجتمعية"(ص81).

ويختم الكاتبُ كتابَه بمقولة مؤلمة: "فعلى الرغم من أن تجربة النضال الفلسطيني ذاتها هي بجوهرها مسعى للحرية والتحرر, فإن ما تمخّض عنها من ثقافة وتقاليد سياسية تحوّل مع الزمن, وفي جزئه الاكبر, الى حاجز يحول دون تحقيق ذلك المسعى ويضع امامه العراقيل, بعد ان طغت على التجربة ذاتها نزعات سلطوية وإقصائية كثيرة كشخصنة السلطة واحتكار صنع القرار وضعف تقاليد المأسسة وغياب روح المساءلة وغيرها...ومن سمات هذا النظام انه يُغلّب ما هو مرحلي وآني من المكاسب والاعتبارات على ما هو استراتيجي وبعيد المدى من مطالب واهداف"(ص87). 

    ويمكن إجمال السمات التي يطلقها الكاتب على ثقافة الفلسطينيين السياسية بأنها ثقافة تتسم بالإحساس بالضعف والمهانة والإحباط، مع بروز ثقافة الرفض والعصيان السلبي, وعدم الثقة بالقوانين والسعي لخرقها، وتطوير مفاهيم عدائية تشككية، إلى غير ذلك من الصفات السلبية. ويخلص إلى القول بأن الثقافة يعتريها الغموض والتشوش "اللذان يجعلان مناقشة هذا الموضوع أمراً صعبا"

  وعلى الرغم من أن الكتاب صدر في عام 2003، فإن الكاتب لم يتابع الثقافة السياسية التي أفرزتها الانتفاضة الأولى ثم الانتفاضة الثانية, ولم يتطرق إلى الكفاح المسلح لا كنوع من تجليات الثقافة السياسية الفلسطينية ولا كعامل من عوامل انتاجها او حتى التأثير عليها. ويتحاشى دراسة مفردات الخطاب السياسي الإسلامي وما تركه من أثر على الثقافة السياسية الجماهيرية. بل إن الكاتب إنما يمرّ سريعاً على التناقض الأساسي القائم في الثقافة السياسية الفلسطينية، والمتمثل في تناقض الطبيعة المحافظة للمجتمع الفلسطيني، التي لا تتقبل الديمقراطية من حيث هي إحدى تجليات الانعتاق والحرية، مع طبيعة الحركة السياسية الفلسطينية المبنية على هدف التحرر والانعتاق.

مصر في عيون فرنسية "بحث في أصول الثقافة السياسية العربية"(3) 

المؤلف : فيصل جلول

الناشر:  الدار العربية للعلوم/ بيروت

من المعلوم أن ثقافة معظم البلاد العربية تأثرت كثيراً، لا بل إنها انبنت أساساً على ثقافة البلد المستعمر، ولو لم يكن ذلك في كليتها.

ومثلما دخلت ثقافة الغرب - والثقافة الأمريكية خصوصاً - هذه الأيام إلى البلدان العربية حجزت الثقافة الفرنسية الفرانكفونية موطئ قدم لها في منطقتنا منذ القدم، إما عبر الاستعمار العسكري والثقافي أو من خلال موجة الثقافات الوافدة إلى عالمنا بفعل العولمة.

ولمعرفة طرق تكوين الثقافة السياسية في عالمنا العربي وتحديداً تأثير الثقافة الفرنسية فيها يبحث كتاب "مصر بعيون الفرنسيين" للكاتب اللبناني فيصل جلول، هذه الإشكالية انطلاقاً من مصر التي شكلت خلال القرون الثلاثة الماضية محوراً لافتاً في العالم العربي بصفتها حاضنة الثقافة العربية وعمق العرب السياسي والاقتصادي والعسكري قبل أن تكبلها اتفاقيات كامب- ديفيد ابتداء من الربع الأخير من القرن الماضي، بقيود همشت دورها وموقعها المركزي بين البلدان المشرقية.

ما يقوله فيصل جلول في كتابه إن بغداد ودمشق البعثيتين و طرابلس الغرب القذافية و بيروت العرفاتية في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، و الجزائر البومدينية، لم تفلح جميعها في تعويض الدور المصري أو خلافته منفردة أو مجتمعة، مما أدى إلى أن يفتقر العرب وما زالوا يفتقرون إلى مركز أو قطب تدور حوله حركتهم السياسية، ويتحدد من خلاله مستقبلهم السياسي. ومعنى ذلك أن الثقافة السياسية السائدة في هذا البلد، عدا عن كونها مسألة مصيرية، فهي عربية في الصميم.

وينطوي كتاب جلول على نصوص فرنسية حول أحداث مصرية فاصلة من حملة بونابرت على مصر؛ إذ شهدت هذه البلاد نوعين من الغزو، الأول عسكري وقد انتهى أثره بهزيمة الحملة وهرب قائدها ، والثاني هو الغزو الثقافي وهذا ما لا يزال أثره حاضراً إلى اليوم، إلى حد أن كثيراً من المثقفين المصريين مازالوا يعتقدون أن الحملة المذكورة أدخلت " التنوير" إلى مصر بعد أن حمل بونابرت معه إلى بلاد النيل جيشاً من المثقفين الأكثر خبرة وشهرة في فرنسا.

وفي رأي جلول أن التنوير الذي يتحدث عنه المثقفون في مصر للأسف يمكن اختصاره في أن المصريين، وللمرة الأولى، أريد لهم أن يكتشفوا مع الحملة المذكورة أن الحضارة الإسلامية متخلفة بالقياس إلى الحضارة الغربية، وأن الحضارة الإسلامية تمثل "الظلام" فيما الحضارة الغربية تمثل "النور" !!

وهذا ما يدفع بالكثير من المتنورين إلى الإسفاف في النهل من الحضارة الغربية المزعومة إلى حد التجرؤ على الدين الإسلامي متذرعين بأنهم ينتقدون الحضارة الإسلامية لا الدين الإسلامي، وكأنهم يتجاهلون حقيقة أن عماد الحضارة الإسلامية هو الدين الإسلامي.

إلا أن كثيرين حاولوا في هذا السياق لي أعناق المصطلحات في محاولة للتفريق بين الحضارة والدين الإسلامي وفصلهما عن بعضهما البعض من خلال ابتكار مصطلح الثقافة العربية الإسلامية التي يتشدق البعض بأنه ينتمي لها.

هي قراءة تحليلية إذاً مفادها أنه آن الأوان لتحرر الثقافة السياسية العربية من عقالها الغربي...فمن حريق القاهرة إلى العدوان الثلاثي، وإطلاق الحركة الناصرية يحاول جلول الإشارة إلى أن من مظاهر الضعف في الثقافة السياسية العربية أن العرب ما زالوا يلطمون على وجوههم جراء هزيمة يونيو 1967، خلافاً مثلاً لليابانيين والألمان الذين خسروا حرباً عالمية دون أن يخسروا ثقافتهم واقتصادهم.. والأهم من ذلك إرادتهم في البناء والتميز.

المحور المهم في الكتاب يبحث في عناصر الخضوع والممانعة في الثقافة السياسية العربية انطلاقاً من المركز المصري، واستناداً إلى مسلّمة تفيد أن الأصل في تخلف العرب وتقدم غيرهم يكمن في الثقافة السياسية.

قبل بونابرت، لم يسبق أن اجتاح عسكري بلداً أجنبياً بجيش من المثقفين وبحسب فيصل جلول، فإن اصطحاب جيش من المثقفين إلى مصر يندرج في إطار جعل المصريين يتلمسون التفوق الغربي العلمي، أي استحالة انتصارهم على الغرب، لا لأنهم لا يملكون وسائل الانتصار وأدواته العسكرية المبنية على الإرادة والافتخار الحضاري، بل لأنهم لا يملكون المعرفة الغربية التي تجعل من التفوق المادي قدراً يصعب نفيه.

إنه الانتصار والتفوق الثقافي إذاً .. أما الوجه الآخر للحملة الثقافية على مصر فيكمن في تعزيز اعتداد الفرنسي بحضارته وبلاده وجيشه. كان التركيز الفرنسي على الحضارة الفرعونية يريد القول إن الحضارة العربية الإسلامية عابرة في هذا البلد الفرعوني أصلاً بنظر الثقافة المنبثقة من الحملة والمستمرة حتى يومنا هذا.

واليوم تقول الولايات المتحدة الأمريكية إنها احتلت العراق من أجل نشر "الديموقراطية"، فهل يتكرر السيناريو؟ هذا ما يطرحه جلول ويختتم به كتابه بالقول: إن العرب لا يحتاجون إلى ثقافات وافدة؛ فلديهم المقومات والشروط التي تتيح لهم نهوضاً مدوياً وموقعاً عالمياً جديراً بالتقدير.

العرب بين ثقافة التسلط وثقافة الديمقراطية(4)

من بين القضايا والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العديدة التى تواجه الوطن العربي ، تبرز قضية الديمقراطية كأحد أهم هذه القضايا ، إن لم يكن أهمها على الإطلاق . وتبرز أهمية هذه القضية في كونها المحور الأساسي الذى يتوقف عليه حل المعضلات والقضايا الاجتماعية والاقتصادية التى تواجه هذه الأمة . وبالرغم من أن قضية الديمقراطية قد لاقت وما تزال تلاقي اهتماما كبيرا على مستوى الكتابة والشعارات إلا أنه لم يحالفها نفس الحظ على مستوى التطبيق العملي والسؤال الذى يطرح نفسه هو : لماذا لم ينجح التطبيق الديمقراطي في الوطن العربي ؟ وما هو السبب وراء استمرار النظم التسلطية في أقطار الوطن العربي ؟

 إن معالجة قضية الديمقراطية في الوطن العربي تتطلب البحث عن الأسباب الحقيقية والجوهرية التى تعرقل بناء المجتمع الديمقراطي في الوطن العربي بدلا من الاكتفاء بالتركيز على المظاهر الخارجية لهذه المشكلة والتى تتمثل في سيطرة أفراد أو فئات قليلة على مقاليد السلطة في أقطار الوطن العربي وممارستهم للقمع والعسف السياسي وعدم سماحهم للرأي المعارض أن يعبر عن نفسه . إن هذا كله هو نتاج للسبب الرئيسي ، في رأينا ، وهو طبيعة الثقافة السياسية السائدة في الوطن العربي والتى تؤدي إلى تكريس النظم التسلطية وعرقلة بناء المجتمع الديمقراطي .

 إن أولى خطوات البناء الديمقراطي السليم في الوطن العربي تتلخص في العمل على تغيير طبيعة الثقافة السياسية السائدة في الوطن العربي بحيث تصبح عاملا مساعدا على بناء الديمقراطية وليست عاملا معرقلا لهذا البناء .

 وقبل الاستمرار في مناقشة الموضوع يجب أن نحدد مالذي نقصده بمفهوم الديمقراطية، فالديمقراطية في رأينا هى " حق المواطن الفرد في المشاركة في اتخاذ القرارات في الشؤون العامة " وإذا كانت الديمقراطية بهذا المعنى حقا لكل مواطن ، فإن أولى شروط ممارسة هذا الحق هو أن يدرك المواطن الفرد أن من حقه أن يقوم بهذه الممارسة وأنها ليست هبة أو منحة من أحد . إن السبب الرئيسي وراء تعثر الديمقراطية في الوطن العربي ، في رأينا ، هو انعدام الإدراك بهذا الحق لدى المواطن العربي ، فالثقافة السياسية السائدة في الوطن العربي ، والتى هى نتاج لعملية التنشئة الاجتماعية والسياسية ، تعكس قيما وأنماطا سلوكية مخالفة تماما للنمط الديمقراطي ، ومعززة ومؤكدة للأنماط التسلطية السائدة في الوطن العربي.

 ويترتب على هذا الافتراض أن أي نجاح حقيقي وتطبيق فعلي للديمقراطية يتطلب تغيير طبيعة الثقافة السياسية السائدة ، وإزالة القيم والأنماط السلوكية المعرقلة للبناء الديمقراطي ولكي نتمكن من الوصول إلى هذا التغيير فإن ذلك يتطلب منا أن نحدد ماهية الأنماط الثقافية السائدة ، وما هو سبب وجودها واستمراريتها ؟ وكيف تعمل على تكريس الأنماط التسلطية وعرقلة بناء الديمقراطية في الوطن العربي ؟

 وسنحاول إلقاء الضوء على هذه الأسئلة من خلال التعرض للثقافة السائدة في الوطن العربي وما تتضمنه من قيم وأنماط سلوك مؤثرة على الحياة السياسية والعمل السياسي ، وكذلك من خلال التعرض للعوامل التى أدت إلى وجود مثل هذه الأنماط الثقافية والسلوكية. وبعبارة أخرى ، كيف تم غرس هذه الثقافة وما هى الأدوات أو القنوات التى قامت بذلك ؟ وأخيرا نتعرض إلى ما يمكن عمله لتغيير هذه الأنماط الثقافية السائدة .

 يعتبر مفهوم الثقافة السياسية أحد المفاهيم الجديدة نسبيا في أدبيات علم السياسة . ولقد كان العالم السياسي الأمريكي الأستاذ (ألموند) هو أول من استخدمه في مقالة كتبها سنة 1956 . ويعرف ألموند الثقافة السياسية بأنها " مجموعة التوجهات السياسية والاتجاهات والأنماط السلوكية التى يحملها الفرد تجاه النظام السياسي ومكوناته المختلفة وتجاه دوره كفرد في النظام السياسي " فالثقافة السياسية إذن هى أنماط التوجه والتكيف تجاه النشاط والعمل السياسي في أي مجتمع من المجتمعات . وفى بداية الستينيات قام مع الأستاذ (فيربا) بإجراء دراسة ميدانية في خمس دول لمعرفة أنماط الثقافة السياسية وأبعادها المختلفة وكانت نقطة التساؤل الأساسية في هذه الدراسة هى مدى إمكانية خلق ثقافة سياسية مؤيدة لبناء نظام سياسي ديمقراطي في الدول النامية ، وما هى الثقافة السياسية المؤيدة لهذا النظام . ولقد نشر الباحثان نتائج دراستهما في مؤلفهما الشهير "الثقافة المدنية " . ويرى الكاتبان أن توجهات الأفراد تجاه النظام السياسي تتحدد من خلال ثلاثة أبعاد هى الإدراك ويعنى مدى معرفة الأفراد لنظامهم السياسي والبني التى يحتويها والأدوار السياسية في جانبي المدخلات والمخرجات ، والمشاعر وتعنى الأحاسيس التى يحملها الفرد تجاه النظام السياسي والسلطات والسياسات العامة ، وأخيرا التقييم ويعنى الأحكام والآراء التى يحملها الأفراد تجاه النظام السياسي والأدوار السياسية المختلفة وتقييمهم لأداء النظام السياسي بصفة عامة .

 ويمكن تحديد وقياس الثقافة السياسية لأي مجتمع من المجتمعات من خلال معرفة مدى إدراك وشعور وتقييم الأفراد لأربعة جوانب أساسية من الحياة السياسية وهى : النظام ككل (الحجم ، الموقع ، الشكل الدستوري…الخ ) وجانب المدخلات (الأفراد والجماعات، والبنى والعمليات السياسية التى يتم من خلالها تقديم المطالب المختلفة إلى السلطات السياسية لتحويلها إلى قرارات ملزمة ) ،وجانب المخرجات ( كيفية وضع وتنفيذ السياسات العامة في المجتمع وماهى البنى التى تقوم بهذه العملية )، وأخيرا دور الفرد ذاته ( ما هو الدور الذى يلعبه الفرد في الحياة السياسية ؟ ومدى معرفته لحقوقه وواجباته وقدراته السياسية وكيفية المشاركة في الحياة السياسية ، وأى المعايير يستخدم لتكوين آرائه حول النظام السياسي وتقييمه لجوانبه المختلفة ) . ويرى الكاتبان أنه من خلال معرفة كيفية توزيع هذه الأبعاد الثلاثة (الإدراك والشعور والتقييم ) يمكن الخروج بثلاثة أنماط أو نماذج من الثقافات السياسية وهى الثقافة السياسية المشاركة والثقافة السياسية التابعة (الرعوية) والثقافة السياسية المحلية (الضيقة).

 ويرى الكاتبان أن هذه الأنماط أو النماذج هى نماذج نظرية أو مثالية ، وأنه لا يوجد مجتمع من المجتمعات تسيطر عليه إحدى هذه الثقافات بالكامل ، ولكن توجد أنماط من الثقافات الثلاث في كل المجتمعات البشرية ولكن يمكن تحديد الثقافة السياسية لأي مجتمع من المجتمعات من خلال قياس توزيع هذه الأنماط في هذا المجتمع وأيهما المسيطر أو الغالب، بعبارة أخرى ، فإن الثقافة السياسية لأي مجتمع من المجتمعات تحددها السيطرة النسبية لأي من هذه الأنماط مع الاعتراف بوجود أفراد أو جماعات داخل نفس المجتمع يحملون أحد النمطين الآخرين أي وجود ثقافات سياسية فرعية إلى جانب الثقافة السياسية السائدة . ويخلص ألموند وفيربا إلى أن نمط الثقافة السياسية المشاركة هو النمط المعزز لبناء الديمقراطية في أي مجتمع من المجتمعات ، وأن الدول التى تقدمت في مجال بناء الديمقراطية ، هى دول تمتاز بسيطرة وانتشار الثقافة السياسية المشاركة.

 انطلاقا من تحديدنا لأنواع وأنماط الثقافات السياسية فإن الثقافة السياسية العربية تعكس بشكل واضح خصائص ومكونات الثقافة السياسية الرعوية (ثقافة الراعي والرعية)، حيث أن خصائص الثقافة السياسية الرعوية التسلطية تتجلى بوضوح في جميع جوانب الحياة العربية ، وأن هذه الثقافة الرعوية بما تتضمنه من قيم الرضوخ والتسلط ، وما تعكسه من أنماط سلوك تعمل بشكل مستمر ودائم على عرقلة بناء الديمقراطية في الوطن العربي.

 إن القيم والتوجهات وأنماط السلوك التى يتعلمها الإنسان العربي منذ نشأته وحتى نهاية حياته من خلال القنوات المختلفة ، تعمل على ترسيخ روح العجز والإتكالية والإذعان لمن هم أقوى منه.

 إن الحياة الاجتماعية العربية مبنية في إطار سلسلة مترابطة من علاقات التسلط والرضوخ ، بين الأب والأبناء ، الأخوة والأخوات ، الكبير والصغير ، الرئيس والمرؤوس .. وهكذا إلى أن تصل إلى العلاقة بين الحاكم والمحكومين.

 إن علاقات التسلط والرضوخ المنتشرة في الحياة الاجتماعية العربية وروح الإذعان والاتكالية تنعكس في نهاية المطاف على الحياة السياسية ذاتها فيصبح من الطبيعي للإنسان العربي أن يتقبل أي نظام تسلطي ، حيث أن هذا هو ما تعود عليه طيلة حياته . ويصبح عنده إحساس بالعجز وعدم القدرة على المشاركة في اتخاذ القرارات ، حيث أنه قد تعود على وجود من يتخذ له القرارات في جميع جوانب حياته الأخرى ولذا فإنه يتقبل وجود من يتخذ له القرارات بالنيابة عنه في المجال السياسي . لقد عَرفنا الديمقراطية في بداية هذه المقالة على أنها حق المواطن الفرد في المشاركة في اتخاذ القرارات العامة ولكن غياب الإدراك بهذا الحق لدى المواطن العربي وشعوره بالعجز عن المشاركة في اتخاذ القرارات في الأمور التى تخصه ، يجعله يقبل بوجود أي نظام تسلطي على أنه أمر يتفق مع طبيعة الأشياء في مجتمعه، بغض النظر عن مشاعره تجاه هذا النظام ، وعادة ما تكون مشاعر سلبية مشوبة بالكراهية وعدم القبول لهذا النظام ، يصاحبها إحساس بالعجز عن فعل أي شئ تجاه النظام أو تغيير سياساته.

 ويبدو هذا بوضوح في روح الإذعان والاتكالية السائدة في الثقافة السياسية العربية، روح الإذعان للسلطة والإحساس بعدم القدرة على تغييرها ، روح الاتكالية على الغير (الطبيعة والبطل المنقذ ) لتخليص المواطن العربي من عسف السلطة وتسلطها . إن روح الاتكالية هذه تنعكس بجلاء في كثير من الأمثال الشعبية العربية التى تعبر عن إحساس المواطن العربي بالكره تجاه رموز السلطة المختلفة وعلى إتكاله على قوى خارجية لتخليصه منها كذلك تنعكس روح الإتكاليه هذه من خلال اعتماد المواطن العربي على البطل الأسطوري وعلى الزعيم المنقذ لتخليصه من ربقة الاستعباد والسيطرة ، ولذا تنتشر في الثقافة السياسية العربية ظاهرة عبادة الفرد والاعتماد على الشخصية الملهمة للزعيم البطل لإنقاذ المواطن مما يعيش فيه من عسف وظلم وتسلط .

 وتعمل القيم والتوجهات وأنماط السلوك التى يتعلمها المواطن العربي على عرقلة بناء الديمقراطية من ناحية أخرى من خلال انعدام روح الحوار والنقاش الموضوعي وتقبل الآراء المخالفة واحترامها في العلاقات الاجتماعية والسياسية ، حيث أننا نجد أن المواطن العربي يضيق صدره بالحوار والنقاش ولا يحترم الآراء المخالفة ، ولا يتقبل النقد . وتصبح العلاقة هى علاقة رضوخ وتقبل لأوامر ونواهى من هم أعلى منه ، وعلاقة تسلط وسيطرة على من هم أدنى منه ، ويتدرج ذلك حتى يصل إلى قمة الهرم (السلطة السياسية ) .

 إن هذا العرض المختصر يوضح لنا بجلاء أن الثقافة السياسية السائدة في العربي هى ثقافة معرقلة لبناء الديمقراطية ومعززة للنظم التسلطية الموجودة في أقطارنا العربية . إن الإنسان العربي ينظر إلى وجود سلطة سياسية تمارس عليه تسلطها وعسفها وتقوم باتخاذ القرارات التى تلمسه في صميم حياته ووجوده نيابة عنه ودون استشارته ، هو أمر طبيعي يتفق مع بقية جوانب حياته الأخرى ، حيث أنه كان هناك دائما من يتخذ له القرارات في البيت والمدرسة ومكان العمل ، ويرجع هذا كله إلى نوعية القيم وأنماط السلوك التى يتعلمها المواطن العربي من خلال قنوات ومؤسسات المجتمع المختلفة ، ويقودنا هذا إلى ضرورة مناقشة نوعية التنشئة السياسية التى يتعرض لها المواطن العربي ودور القنوات المختلفة في ذلك ، وآثارها على تكوين الشخصية الديمقراطية من عدمه لدى المواطن العربي .

 لقد رأينا كيف أن القيم والتوجهات والأنماط السلوكية التى تعرض لها وتشرب بها المواطن العربي قد خلقت ثقافة سياسية رعوية تسلطية ، يشعر من خلالها الفرد بعجزه وعدم قدرته على المشاركة في الحياة العامة ، وتصبح النظم التسلطية أمرا طبيعيا بالنسبة له تتوافق مع بقية جوانب حياته الأخرى . ولكن كيف تم غرس هذه القيم والتوجهات وأنماط السلوك ؟ وما هى القنوات التى قامت بعملية الغرس هذه ؟

 للإجابة على هذين السؤالين يتوجب علينا مناقشة مفهوم آخر من المفاهيم السياسية وهو مفهوم " التنشئة السياسية " وذلك لأن القيم والتوجهات وأنماط السلوك التى يكتسبها الفرد هى نتاج لعملية التنشئة التى يتعرض لها طوال حياته . والتنشئة السياسية هى جزء من التنشئة الاجتماعية العامة وهى عبارة عن " العملية التى يكتسب الفرد من خلالها قيمه وتوجهاته السياسية ومعارفه ومشاعره وتقييماته لبيئته ومحيطه ونظامه السياسي " .

 وبعبارة أخرى ، فإن التنشئة السياسية هى العملية التى يتم من خلالها تشكيل الثقافة السياسية للمجتمع وتشمل عملية التنشئة السياسية : " كل أنواع التعليم السياسي ، الرسمي وغير الرسمي ، المخطط وغير المخطط ، في كل مرحلة من مراحل حياة الفرد ، ويتضمن ذلك مختلف أنواع القيم وأنماط السلوك التى ليس لها علاقة مباشرة بالحياة السياسية ولكنها تؤثر على السلوك السياسي للفرد ، مثل اكتساب بعض الاتجاهات الاجتماعية والخصائص الشخصية التى قد يكون لها أثر على سلوك الفرد السياسي " .

 إن الثقافة السياسية للمجتمع هى نتاج لعملية التنشئة السياسية وإن القيم والتوجهات وأنماط السلوك التى تتضمنها هذه الثقافة هى انعكاس لنوعية التنشئة التى يتعرض لها أفراد المجتمع . ويجدر التنويه هنا إلى أن كل النظم السياسية تحاول أن توظف عملية التنشئة السياسية لغرس القيم والتوجهات والأفكار السياسية التى تتفق مع قيم وتوجهات وأفكار السلطات الحاكمة ويتم ذلك عن طريق المؤسسات والقنوات التى تخضع لسيطرة السلطة مثل المؤسسة التعليمية ووسائل الإعلام ، ولكن إلى جانب أسلوب التنشئة الرسمي والمباشر ، فإن الفرد يكتسب قيمة وتوجهاته السياسية عن طريق قنوات أخرى قد تتناقض مع قنوات التنشئة الرسمية ، مثل الأسرة وغيرها من القنوات التى لا تخضع لسيطرة السلطات بصورة مباشرة.

 إلى جانب ذلك ، فإن كثيرا من القيم والتوجهات وأنماط السلوك التى يتعلمها الفرد خلال عملية التنشئة الاجتماعية بصفة عامة والتى قد لا يكون لها علاقة مباشرة بالنواحي السياسية ، تساعد على تكوين شخصيته وتحديد اتجاهاته بشكل يؤثر على سلوكه السياسي فيما بعد ، ويتضح ذلك بوضوح عند مناقشة الثقافة السياسية العربية حيث أن أغلب مكونات الثقافة السياسية الرعوية التسلطية في المجتمع العربي هى نتاج لعمليات التعلم والتربية التى يتعرض لها المواطن العربي طوال مراحل حياته ، والتى لا تتضمن أية جوانب سياسية بصورة مباشرة . إن علاقات التسلط والرضوخ وروح الإذعان والاتكالية وأنماط السلوك غير الديمقراطية المتمثلة في انعدام روح الحوار والنقاش وعدم القدرة على تقبل الرأي المخالف ، والتى تتميز بها الثقافة السياسية العربية ، هى نتاج لعملية التنشئة الاجتماعية والسياسية التى يتعرض لها المواطن العربي من خلال قنوات التنشئة المختلفة وبالذات من خلال البيت والمؤسسة التعليمية .

 وتتفق أدبيات التنشئة السياسية في أن البيت هو الخلية الأولى التى تتشكل فيها قيم وتوجهات وأنماط سلوك الفرد التى تؤثر في ما بعد على نظرته وسلوكه تجاه النظام السياسي والعملية السياسية . وتبرز أهمية البيت في عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية في أن الطفل يكتسب خصائص شخصيته وأنماط سلوكه من خلال طرق التربية والتصرفات والمواقف التى يتعرض لها في البيت . ويعمل البيت العربي بصورة مباشرة على خلق القيم والتوجهات وأنماط السلوك التى تعكس نفسها في الثقافة السياسية الرعوية التسلطية . إن نمط التربية السائدة في البيت العربي يعمل على " قتل الشخصية وإخضاع الفرد لقيم المجتمع وترويضه للامتثال" ويتضح ذلك من خلال علاقات التسلط والرضوخ التى تسود حياة الأسرة العربية ، فالأب هو كل شئ في البيت العربي .

 ويعمل نظام التربية في البيت العربي على قتل روح الإبداع والتفكير الحر المستقل عند الطفل وتزول ثقته تدريجيا في آرائه الخاصة وفى قدرته على تحمل المسؤوليات .

 إن أنماط التربية في البيت العربي تضع الأسس الأولى لشخصية الإنسان العربي وقيمه وسلوكياته التى تشكل في ما بعد ثقافته السياسية وتنعكس في هذه الثقافة كل علاقات التسلط والرضوخ وأنماط الإذعان والاتكالية والعجز التى يتشربها الإنسان العربي في البيت .

 بعد البيت تأتى المدرسة لتشارك في تشكيل شخصية الإنسان العربي ، وفى تكوين الثقافة السياسية العربية ، وبدلا من أن تقوم المدرسة بمحاولة تغيير القيم وأنماط السلوك التى تعلمها الإنسان العربي في البيت ، فإنها تقوم بتعزيز هذه القيم وأنماط السلوك عن طريق ما تغرسه من قيم وتوجهات وأنماط سلوك مشابهة لما كان يتعرض لها الإنسان العربي في البيت، وذلك من خلال أساليب ووسائل التعليم والتربية العقيمة التى تقتل الشخصية والاستقلالية وحرية التفكير ، وتعزز روح الاتكالية والإذعان والعجز ، فالنظام التعليمي العربي قائم على أساس التلقين وهو دائما في اتجاه واحد . المعلم يلقن والتلميذ يحفظ ما يتلقفه غيبيا دون أن يكون هناك مجال للحوار والنقاش والتساؤل الحر ، وتمارس عملية التلقلين في إطار من علاقات التسلط والرضوخ التى تعود عليها الإنسان العربي في البيت ، فسلطة المعلم لا تناقش وأخطاؤه لا يسمح بإثارتها ، وآراؤه لا يمكن الاختلاف معها لأن عواقبها وخيمة ونتائجها رسوب الطالب، وهذا يخلق في عقلية الطالب روح الامتثال والطاعة لمن هو في موقع السلطة . إن كل هذا يؤدي إلى أن يقوم الطالب العربي بحفظ مادة الدرس غيبيا "الصم" دون أي تساؤل عن محتواها وموضوعها ، وينتج عن ذلك غياب الفهم والإدراك الحقيقي والسليم لما يتعلمه الطالب العربي .

 عندما ينتقل الطالب العربي إلى الجامعة فإنه لا يواجه مناخا متغيرا وأسلوبا مغايرا لما تعود عليه في البيت والمدرسة ، فالجامعات العربية هى عبارة عن " مدارس للتعليم العالي يمارس فيها التعليم بواسطة التلقين ".  إن الهم الأساسي لجامعاتنا هو حشو ذهن الطالب بعدد كبير من المعلومات دون الاهتمام بتعليم الطالب كيفية البحث وتعليمه الأساليب والمناهج التى يستطيع أن يستعين بها في البحث والتقصي والدراسة .

 إن الهدف الأساسي للجامعة العربية يجب أن يكون هو بناء منهجية التفكير في الطالب العربي وتشجيعه على التساؤل الحر والنقاش والحوار وتعويده على احترام آراء الآخرين وتقبل النقد والرأي المخالف ، ولكن واقع الجامعات العربية يختلف عن هذه الصورة تماما فأسلوب التعليم هو نفس أسلوب التعليم المدرسي ، وسلطة الأستاذ الجامعي على طلبته لا تناقش ، والتلقين والحفظ الغيبي هما الأساس في العملية التعليمية.

 يعمل هذا كله على تعزيز قيم وأنماط سلوك التسلط والرضوخ وهكذا تتكامل سلسلة بناء شخصية الإنسان العربي بشكل يغرس فيه روح الاتكالية والخضوع والإذعان للسلطة ، وتنعكس هذه الخصائص على الثقافة السياسية السائدة في الوطن العربي بشكل يعزز الأنماط التسلطية ويعرقل الأنماط الديمقراطية .. ويصبح نمط الثقافة السياسية الرعوية التسلطية هو النمط السائد في الوطن العربي ، الثقافة القائمة على الخضوع لمن هم أقوى وأعلى والتسلط على من هم أضعف وأدنى ، ويصبح تقبل تسلط السلطة السياسية والإذعان لها أمرا طبيعيا ومنطقيا ومتفقا مع الأنماط الموجودة في بقية العلاقات الاجتماعية في المجتمع العربي .

 وتشارك مؤسسات المجتمع الأخرى في أحكام الحلقة وفى تعزيز نفس الأنماط السابقة فالأعلام يقع تحت سيطرة السلطة السياسية ويعبر عن قيمها وتوجهاتها ويغيب عنه النقد والتحليل والنقاش الحر لمختلف الآراء والتوجهات ويعمل هذا كله على تعزيز الشخصية التسلطية في الإنسان العربي وإلى تأكيد نمط الثقافة السياسية التابعة التسلطية في الوطن العربية … وكما يقوم الدكتور مصطفي حجازي ، فإن علاقات التسلط والرضوخ وسلسلة القمع والقهر هى :

" ..... الخاصية الأساسية للعلاقات السائدة في العالم المتخلف ، وعندما يعشش الإرهاب والقهر في الإنسان على هذا النسق ، عندما لا يكون أمامه نموذج آخر سوى نموذج التسلط والرضوخ ، لابد للذهن أن يفقد مرونته وحرية حركته والاتجاه التحليلي النقدي … فالجدل والتفكير النقدي لا يتاح لهما النمو في النهاية إلا في جو من العلاقة الديمقراطية الحقيقية ، التى وحدها تجعل الحوار ممكنا ، وتفتح الطريق أمام قانون التناقض ، تلاقي الـ "مع" والـ" ضد" في علاقة الجدل . الذهن المتخلف يعاني من التفكير وحيد الجانب والاتجاه ، نظرا لتحكم علاقات التسلط والرضوخ : كلمة السيد وأوامره ، قانونه يقابلها معاش  انفعالي عند التابع الذى يعمم بدوره نفس الموقف الذهني في مختلف وضعيات الحياة . شلل الفكر النقدي نابع من فرض الطاعة دون النقاش والفهم " .

 لقد قلنا في بداية هذه المقالة إن الديمقراطية كما نراها هى حق المواطن الفرد في المشاركة في اتخاذ القرارات في الشؤون العامة ، وقلنا إن إدراك المواطن الفرد لهذا الحق هو أهم وأول شروط ممارسته وشروط نجاح الديقمراطية ، ولقد رأينا كيف أن المواطن العربي لا يدرك ولا يرى أن المشاركة في اتخاذ القرار في الشؤون العامة هى حق أصيل له يجب الدفاع عنه . ومن رأينا أن ذلك يرجع إلى أن المواطن العربي لم يتعود على أن يتخذ قراراته في ما يخصه ، وأن هناك دائما من يتخذ له القرارات نيابة عنه حتى في أخص خصوصياته، وأن هذا الذى يتخذ القرار يمثل السلطة بالنسبة للمواطن سواء تمثل ذلك في الأب أو المعلم أو الرئيس في مكان العمل . ولقد رأينا كيف أن هذا كله يخلق في المواطن العربي روح العجز والاتكالية والإذعان للسلطة ، وينزع عنه ثقته في نفسه وفى قدرته على المشاركة في اتخاذ القرارات وإبداء رأيه بحرية ، ويؤدي هذا إلى تعزيز نمط الثقافة السياسية الرعوية التسلطية السائد الآن في الوطن العربي والذى يقوى من مركز النظم التسلطية ويؤكد بقاءها .

 إن الخطوة الأساسية والهامة في بناء الديمقراطية في الوطن العربي يجب أن تبدأ بتغيير الثقافة السياسية العربية وتخليصها من القيم والتوجهات وأنماط السلوك التى تعزز علاقات التسلط والرضوخ والعمل على غرس القيم والتوجهات وأنماط السلوك التى تساعد على بناء الشخصية المستقلة والحرة ، وعلى خلق ثقافة سياسية مشاركة تجعل من المواطن العربي إنسانا واثقا من نفسه ومن قدراته ، وتجعله يرفض ويقاوم أية محاولة للتسلط عليه وسلب حقه في المشاركة في اتخاذ القرار من جانب السلطة السياسية .

 إن هذا يعنى أن الوطن العربي في حاجة إلى ثورة تمس صميم الثقافة العربية ، ثورة تنسف كل النظم التربوية وأنماط السلوك السائدة الآن ، ثورة يمتد تأثيرها إلى البيت والمؤسسة التعليمية ووسائل الإعلام ومكان العمل ، ثورة تعمل على إعادة بناء الإنسان العربي بشكل يؤدي إلى تغيير بنية الثقافة السياسية والعربية تغييرا جذريا وإيجابيا في اتجاه تعزيز القيم الديمقراطية وتحطيم وإلغاء قيم التسلط والخضوع السائدة الآن في الوطن العربي . إن مجرد تغيير حاكم بحاكم لا يعني إلا تغيير متسلط بمتسلط آخر طالما بقيت نفس القيم والتوجهات وأنماط السلوك السائدة في الثقافة السياسية العربية .

 إن ديمقراطية الحياة السياسية لابد وأن تنبع من ديمقراطية الحياة الاجتماعية، وحيث أن العلاقات الاجتماعية العربية والمؤسسات الاجتماعية العربية هى علاقات ومؤسسات غير ديمقراطية ، فإن ذلك يعكس نفسه في غياب الديمقراطية وسيطرة علاقات التسلط والرضوخ على العلاقات والمؤسسات السياسية في الوطن العربي … وإن محاولة تطبيق الأساليب الديمقراطية على العلاقات والمؤسسات السياسية في الوطن العربي لن يكتب لها النجاح ما لم يصاحبها البدء في تطبيق الأساليب الديمقراطية على العلاقات والمؤسسات الاجتماعية العربية، لأنه بدون خلق ثقافة ديمقراطية مشاركة في الوطن العربي تحل محله الثقافة التسلطية الرعوية ، فإن بناء الديمقراطية على المستوى السياسي سيتعثر ، وتصبح مختلف المؤسسات السياسية الديمقراطية ، مهما كانت صورتها ، عبارة عن أشكال بدون محتوى ، وأدوات يستغلها الفرد أو الفئة الحاكمة في تعزيز سلطتها وسيطرتها .

 أخيرا فإننا نرى أن خطورة الموضوع وأهميته تفرض على الفئات الملتزمة بتخليص هذه الأمة من ربقة التخلف والتسلط ، ضرورة القيام بالدراسات المتخصصة والمتعمقة لأبعاد الثقافة العربية وتحليل أنماط التربية والسلوك في المؤسسات الاجتماعية العربية تحليلا علميا وموضوعيا وصريحا من أجل تحديد الأنماط السلوكية والقيم والتوجهات المسيطرة على الثقافة العربية ووضع الخطط والبرامج الكفيلة بغرس النمط الديمقراطي في العلاقات والمؤسسات الاجتماعية العربية ومن ثم في العلاقات والمؤسسات السياسية العربية.

الثقافة السياسية(5)

يعرف البعض الثقافة السياسية بإنها "مجموعة من الاتجاهات والمعتقدات والمشاعر التى تعطى نظاما ومعنى للعملية السياسية وتقدم قواعد مستقره تحكم تصرفات أعضاء التنظيم السياسى"  ويعرفها البعض الآخر بإنها "القيم والمعتقدات والاتجاهات العاطفية للافراد حيال ما هو كائن فى العالم السياسى "وهذا يمكن القول أن الثقافة السياسية هى مجموعة الافكار والمشاعر والاتجاهات التى يؤمن بها الفرد وتحرك سلوكه تجاه النظام السياسى

والثقافة السياسية بهذا المعنى هى جزء من الثقافة العامه للمجتمع وهى بذلك تؤثر فى الثقافة العامه وتتأثر بها فالثقافة  السياسية تجد مصادرها فى الميراث التاريخى للمجتمع وفى الاوضاع السياسية والاقتصادية والايدولوجية السائده فى المجتمع كذلك فإن الثقافة السياسية تؤثر فى الثقافة العامة للمجتمع عن طريق قيامها بمساندة استمرار اوضاع  أو السعى لتغيرها

كذلك لا تعرف الثقافة السياسية لاى مجتمع ثباتا مطلقا، ولكنها تتعرض للتغيير ويحدث هذا التغيير استجابة للتحولات التى تطرأ على المجتمع سواء سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا وسعى الثقافة السياسية للتكيف مع تلك الاوضاع الجديدة.

وبالاضافة الى وجود قاسم مشترك من الثقافة السياسية بين أفراد المجتمع ككل الا أن ذلك يمنع من وجود عدد من الثقافات السياسية التى قد ترتبط بمكان الاقامة مثل ثقافة اهل المدن وثقافة اهل الريف او الاختلافات الجيلية مثل ثقافة الكبار وثقافة الشباب او الاختلافات بين ثقافة الجماهير وثقافة الصفوة. فعلى سبيل المثال تتسم الصفوة بإنها حديثة وعقلانية فى حين تتصف ثقافة الجماهير بالتقليدية والقدرية. كذلك تتسم ثقافة الكبار بالسعى الى المحافظة على القيم القديمة ومقاومة التغيير فى حين أن الشباب يتقبل القيم الجديدة ويسعى الى التغير الاوضاع القائمة.

ما هو مضمون الثقافة السياسية

تحتوى الثقافة السياسية لاى مجتمع على عدد من القيم السياسية يتراوح مضمونها فى الآتى :

1) الحرية والاكراه : حيث أن الثقافة السياسية قد تؤكد على قيمة الحرية وهنا فان طاعة الفرد للسلطة الحاكمة يكون على أساس الاقتناع وليس الخوف ويكون لدى الفرد أحساس بالقدرة على التأثير فى مجريات الحياة السياسية والمشاركة الايجابية أو قد تؤكد على قيمة الاكراه وفى هذه الحالة فعادة ما ينصاع الفرد للحكومة بدافع الخوف لا الاقتناع ويفتقد الاحساس بالقدرة على التأثير السياسى

2) الشك والثقة : حيث يعتبر عنصر الشك أو الثقة فى السلطة الحاكمة عنصراً اساسياً من عناصر الثقة السياسية مع ويتوقف مدى ثقة الفرد او شكله فى الحكومة على طبيعة سلوك الحكومة تجاه الافراد ومدى استجابتها لمطالبهم كذلك فان انخفاض الثقة بين الافراد وبعضهم البعض يقلل من ثقة الافراد فى حكومتهم

3) المساواة والتدرج : فقد تؤكد الثقافة السياسية أما على المساواة بين الافراد أو على التمييز والتفرقة بينهم وتزداد درجة المشاركة السياسية فى المجتمع كلما زاد الاحساس بالمساواة بين أفراده

4) الولاء المحلى والولاء القومى : ففى المجتمعات التى تعلى من قيمة الثقافة القومية يتجه الفرد بولائه نحو الدولة ككل بما يتضمنه ذلك من شعور بالمسئولية العامه وأعلاء المصلحة العامه على المصلحة الخاصة. والاهتمام بالقضايا القومية. أما فى المجتمعات التى تعلى من قيمة الثقافة المحلية يتجه الفرد بولائه الى اسرته أو قبيلته أو جماعته الدينية أو العرقية أو اللغوية على حساب الدولة ويصاحب ذلك غياب الشعور بالمسئولية العامه والانغلاق على القضايا المحلية والذاتية

ويتم نقل الثقافة السياسية أو خلقها أو تغييرها عن طريق عملية التنشئة السياسية أة نقل تثافة المجتمع من جيل الى آخر ويقوم بهذا الدور عدد من الادوات اهمهما الاسره والمدرسة وجماعة الرفاق والاحزاب السياسية ووسائل الاعلام المختلفة..

الديمقراطية وحقوق الإنسان في الثقافة السياسية السائدة(6)

 محاضرة ألقيت في ملتقى السويداء للحوار الديمقراطي

موضوع محاضرتي هو الإشكالات المتعلقة بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وبالعمل في هذا المجال ، وهي بلا شك إشكالات عديدة ، منها ما يتعلق بطبيعة الفكر المحمول ، ومنها ما يتعلق بالجدال الثقافي حول بعض القضايا السياسية الخلافية ، ومنها ما يتعلق بالعقبات العملية التي تواجه العمل .

  جدير بالذكر أن هذه الإشكالات عامة في المنطقة العربية ، ومنها سوريا ، مع الاختلاف في درجة حضورها بين بلد وآخر . بالتالي المحاضرة ليست معنية برصد انتهاكات حقوق الإنسان في بلدنا ، ولا هي معنية بالتذكير بعهود ومواثيق حقوق الإنسان ، و لا بتناول الديمقراطية وحقوق الإنسان من زاوية قانونية . إنها معنية أساساً بالثقافة السياسية السائدة والفكر المحمول عند الطيف السياسي في سوريا ، سواء في السلطة أو المعارضة أو المجتمع المدني أو المجتمع العام ، وبمدى توافقها أو تعارضها مع ثقافة الديمقراطية و حقوق الإنسان ، والعقبات التي تضعها أمامها ، والأبواب التي تفتحها . لذلك أعتقد أنها ستطرح قضايا تستحق النقاش و الحوار مثلما تستحق الصبر والاستيعاب الصحيح والتعامل بعقل مفتوح دون تخندق أو تصيد أو استياء .

  أولا مقدمة :

  كانت المنطقة العربية ، ومنها سوريا ، طوال نصف القرن الماضي من أقل المناطق تأثراً و استجابةً لنهوض فكر و ثقافة حقوق الإنسان، ويقف وراء ذلك أسباب عديدة ، لعل أهمها الاستبداد السياسي واستمرار عمليات القمع للحقوق والحريات الأساسية و افتقاد العديد من البلدان العربية للبنية المؤسساتية العصرية وهزالة الهيئات التشريعية والتمثيلية و بقاء العدوان الخارجي والعنف العسكري والاقتصادي الملازم له، والذي يقود إلى مزيد من غياب الديمقراطية و تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان.

  واليوم تطرح علينا الظروف العالمية و الإقليمية في بلد كسوريا الكثير من الهموم والإشكاليات المتعلقة بحقوق الإنسان و مسألة الانتقال إلى الديمقراطية . ولذلك يغدو لزاماً إعادة التفكير و التبصر بكل ما حولنا لأجل بناء فهم يتلاءم مع تلك الظروف و المستجدات .

  ثانيا : البيئة السياسية والحقوقية في سوريا

  مازالت سوريا تعاني من استمرار العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية منذ ما يزيد عن الأربعين عاماً ، ومن تبعاته كتغييب الدستور وإضعاف القضاء العادي واستقلاله لصالح القوانين والمحاكم الاستثنائية ، و احتكار العمل السياسي ، ومنع النقابات من ممارسة دورها ، وتعطيل حركة المجتمع المدني . هذا الأمر أدى ، ولا زال ، لسيطرة حالة من العطالة العامة للطاقات الكامنة في المجتمع على كافة المستويات .

  يضاف إلى ذلك إمساك الدولة بكافة مفاصل العمل السياسي والنشاط الاقتصادي والاجتماعي وتضييق مجال المشاركة في الشؤون العامة للوطن وتغييب الرأي الآخر وحرمانه من حقه في التعبير والوجود الرسمي ، فضلاً عن إضعاف المؤسسات التمثيلية و إفراغها من محتواها .

  هذا كله أدى إلى انتشار الفساد و الإفقار المتزايد للمواطنين ، ليطال التهشيم كل قطاعات المجتمع التي ارتدت إلى مستوى المتطلبات الدنيا ، وليتقلص الاهتمام بالشأن العام . وفي المحصلة ضمرت العفوية والتلقائية لدى المواطن السوري ، وسادت أزمة عامة في القيم و الأخلاق والتوجهات ، و استشرى الانغلاق على العائلة والعشيرة والتعصب والجنوح نحو الخلاص الفردي .

  هذه الأوضاع على سوئها ،ثمة ما هو أدهى منها ، وهو إدارة الحكومة الظهر لكل الدعوات الإصلاحية في المجتمع ، فهي تعمل بتوقيتها واعتباراتها ، وتشيح بوجهها عن الآراء الأخرى ، ولا تسمع إلا صوتها في قراءة الأوضاع الداخلية والإقليمية .

  أما أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية فهي مسترخية ، ويبدو أنها تأقلمت مع أوضاعها ، والمعارضة السياسية ( التجمع الوطني الديمقراطي ) ليست أفضل حالاً ، إذ إنها بسبب الأرضية الفكرية السياسية الواحدة الجامعة لها مع السلطة ( خاصة التيار القومي التقليدي فيها ) تعاني من إشكالات غير قليلة على صعيد الرؤية والخطاب ، فخطابها المعلن في جريدة الموقف الديمقراطي أكثر تطوراً من وضعها ، فهذه الجريدة ما عادت تقرأ من قبل أعضاء التجمع على الرغم من تجاوزها فكريا و سياسيا لمعظم الآراء و الطروحات التي نسمعها من النشطاء السياسيين . يضاف لذلك أن المعارضة تعاني تكلسات على صعيد الفكر والسياسة ، و فصاماً بين خطابها الموجه نحو الإصلاح الداخلي وبين نظرتها و خطابها إزاء الخارج ، أي تجاه العالم وأمريكا و إسرائيل والقضية الفلسطينية و الفعاليات الراهنة في العراق ، إذ لا تزال المحركات الأيديولوجية هي الأساس في نظرتها وخطابها ، فضلاً عن البنى التنظيمية الضعيفة والمترهلة . أما على صعيد الأفراد والمثقفين في فليس هناك من خط ناظم ، واضح المعالم لمجهوداتهم ، كتلك الخطوط التي سمعنا عنها في أوربة في عصر النهضة ، بل على العكس خلافاتهم أكبر من توافقاتهم ، و للأسف بنيت التحاجزات بين الجميع بفعل غريزي ، فقد تحددت الرؤى والتصورات خلال الفترات الماضية بطريقة سريعة وسلبية ، فهذا يتحدث عن " حزب أمريكي في سوريا يطل برأسه " وآخر يتحدث عن " حزب فلوجي " ، وتعالت الأصوات والاتهامات ، داخل طيف المعارضة ، وهو ما يوحي بتشكل استقطابات مستقبلية سريعة غير منتجة ، بل و وهمية تقوم على الغرائز أكثر مما تقوم على الحوار ، فعندما يغيب هذا الأخير تحضر الغرائز لتفعل فعلها . وهو ما يعني أن الحوار الدائر داخل هذا الطيف كان استمراراَ لإعادة إنتاج عاهاتنا ذاتها ، وليس كما يؤمل منه ، أي إنتاج الأفكار والتصورات ، وهذا الأمر نتحمل مسؤوليته جميعاَ .

  لجان إحياء المجتمع المدني و الهيئات المدنية الأخرى و منظمات حقوق الإنسان ليست أفضل حالاً هي الأخرى ، إذ لم يحدث حتى الآن تمايز واضح وملحوظ على صعيد العقلية والممارسة عن الأحزاب السياسية ، و لا ندري إذا كان من الجائز الحديث عن وجود حركة حقوق إنسان في سوريا ، رغم أنه أصبح لدينا اليوم أربع أو خمس منظمات تعمل في هذا الإطار . لكن من البديهي القول أن وجود منظمات لحقوق الإنسان لا يعني بالضرورة وجود حركة حقيقية لحقوق الإنسان . فكل منظمة من هذه المنظمات تعاني ، فضلاً عن الظروف المعقدة المحيطة بها ، إشكالات ذاتية معيقة لتقدمها بدءاً من لحظة التأسيس ، ومروراً بعدم وجود آليات عمل واضحة متميزة ومهارات إدارية حقيقية و بناء مؤسسي حقيقي وانتهاء بالبرامج والأهداف والرؤى و التصورات الموجودة حول العمل في مجال حقوق الإنسان .

  من الإشكالات الحاضرة بقوة داخل هذه المنظمات هي إشكالية الوعي السائد فيما يخص قضايا حقوق الإنسان ، إذ يجري التعامل مع مبادئ حقوق الإنسان بشكل قانوني محض ، دون موضعتها في السياق الثقافي والسياسي . ومنها الإستراتيجيات الموجودة التي تقتصر على رصد الانتهاكات في المجال السياسي وحسب دون العمل على جبهة الآليات الوقائية ، ونقص الكوادر الثقافية التي يمكن أن تلعب دوراً في مجال توسيع أفق العمل في مجال حقوق الإنسان و تنمية العمل المدني ، إذ ليست المهمة الأساسية تجنيد الأنصار والأعضاء ، بل خلق الوسائط والبيئات الاجتماعية القادرة على حمل الرسالة اليومية لحقوق الإنسان ، وهي مهمة أكثر شمولاً من البيانات و نداءات الاستغاثة على أهميتها ، و بمراقبة بسيطة نجد أن معظم نشطاء حقوق الإنسان في سوريا ليسوا أكثر من أجهزة فاكس .

  من البديهي القول أيضا أن الذين لم يعيدوا قراءة تجاربهم الحزبية قراءةً نقدية و انتقلوا للعمل في مجال حقوق الإنسان تحت رد الفعل تارة أو طلب الشهرة تارة أخرى غير قادرين على بناء منظمة حقوق إنسان .

  جانب آخر غائب هو التنسيق بين المنظمات الموجودة ، فالتنسيق على المستوى الوطني هو اللبنة الأولى للتنسيق على المستوى العربي و العالمي . و نحن نرى أنه لم تحدث مبادرات إيجابية ملموسة للمنظمات تجاه بعضها البعض . وهذا يهدد قسطاً هاماً من جهودها ويخدش نبل رسالتها ، إلا إذا كان الهدف هو السعي لتأسيس مجموعة دكاكين يتنافس أصحابها على الزبائن .

  باختصار : هذه المنظمات بحاجة لأن تراكم اليوم تدريجياً في اتجاه المرور إلى مرحلة أكثر فاعلية ونوعية ، و إلا فإن الواقع سوف يتجاوزها و ينتج أشكالا أكثر فاعلية .

  ما أريد قوله في هذا المجال : إن جميع هذه الأوضاع ، إن في السلطة ، أو في المعارضة ، أو على صعيد المثقفين ، أو على صعيد العمل المدني و جمعيات حقوق الإنسان ، لا تخلق أوضاعاً صحية لتقدم الديمقراطية و حقوق الإنسان في سوريا ، وهو ما يبرر طرح الإشكالات الفكرية والعملية المتعلقة بالديمقراطية حقوق الإنسان على مائدة الحوار والنقاش .

  ثالثا : الإشكالية الفكرية الأساسية : الحداثة و التقليد

  ثمة أهمية لتأسيس رؤية معرفية نابعة من حقائق العصر والواقع والحاجات والتحديات ، أملاً في إنتاج أشكال متقدمة وحضارية من العمل والممارسة . ولعل أهم القضايا التي تحتاج إلى تأسيس معرفي جاد تلك المتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية في مجتمعنا ، على أنه لا يمكن النظر لهذه القضايا وكأنها دين جديد أو أيديولوجيا جديدة ، وإنما ينبغي النظر إليها بصفتها مشروعاً غير منجز ، وفي حالة تطور وتجديد مستمرين .

  لكن لا بد هنا أن نذكر في البداية ما المقصود بثقافة حقوق الإنسان ؟

  إنها تعني مجموعة القيم و البنى الذهنية والسلوكية والتقاليد والأعراف وغيرها،التي تنسجم مع مبادئ حقوق الإنسان، و تتوافق مع القيم الديمقراطية و احترام التعددية و التنوع و الاختلاف ، مع ما يرتبط بها من وسائل التنشئة التي تنقل هذه الثقافة في البيت والمدرسة والجامعات وبيوت الدين والأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة وغيرها.

  بالتالي ، فإن نشر ثقافة حقوق الإنسان هو مشروع عام وعريض لتمكين البشر بالمعارف الأساسية حول المواثيق الدولية و حقوقهم ودفعهم للعمل من أجلها ، و المساهمة في خلق الوسائط و البيئات القادرة على حماية حقوق الإنسان و التقدم باتجاه الديمقراطية . إنها عملية متواصلة وشاملة تعم جميع صور الحياة، ويجب أن تنفذ إلى جميع أوجه الممارسات المهنية والاجتماعية والسياسية .

  أما بالنسبة للديمقراطية ، فإنها لا تعني سلطة الشعب . فهذه العبارة غامضة ، ويمكن تأويلها في كافة الاتجاهات ، بل حتى لمنح الشرعية لأنظمة استبدادية وقمعية . إذ أن من شأن حكومة وطنية أو قومية تعمل في خدمة الرأي العام الشعبي على نحو مباشر " أي دون وجود الوسائط المعدلة للرأي العام : المجتمع المدني والمجتمع السياسي " أن تؤدي إلى نتائج يرثى لها ، فمن مسؤولية الدولة الدفاع عن الأجل الطويل ضد الأجل القصير ، مثلما الحال في الدفاع عن الذاكرة الجماعية وحماية الأقليات أو تشجيع الإبداع الثقافي ، حتى حين لا يتواءم ذلك مع متطلبات الجمهور الواسع . تعني الديمقراطية إذاَ أن التفكير الصائب المنحدر من الدولة باتجاه المجتمع السياسي ثم نحو المجتمع المدني يحل محل تفكير صائب آخر يصعد من الأدنى إلى الأعلى أي من المجتمع المدني نحو المجتمع السياسي ومنه نحو الدولة . ينبغي من أجل تأسيس الديمقراطية وجود تمييز بين الحيزات الثلاثة : الدولة والمجتمع السياسي و المجتمع المدني ، وبالتالي فإن الفصل بين المجتمع المدني والدولة هو الذي يسمح بخلق المجتمع السياسي ، وهذا هو الشرط الرئيس من شروط الديمقراطية ، أما المجابهة المباشرة ، ومن غير وسيط ، بين الدولة والمجتمع المدني ، فتقود هذا أو تلك لتحقيق النصر ، لكن من غير أن يتحقق للديمقراطية من نصر أبداَ ، وهذا يعني أن المجتمع المدني هو في المآل الذي يخلق المجتمع السياسي وهو الذي يمنح الشرعية للدولة .

  أما أبعاد الديمقراطية الثلاثة فهي أولاَ احترام الحقوق والحريات الأساسية ، أي تحديد السلطة السياسية بواسطة الحقوق الأساسية ، وثانياَ المواطنية بصفتها الحقوق المكتسبة عن وجود الإنسان الفرد في جماعة محددة ، وثالثاَ الصفة التمثيلية للقادة السياسيين وقانون الأغلبية ، هذا القانون المضاد للسلطة الشعبية وتلك الاستعانة بإرادة الشعب التي أنشأت أنظمة استبدادية وهدمت الديمقراطيات بدلاَ من بناءها ، وغني عن القول أن مفهوم الأغلبية عرضة للتغيير على نحو دائم ، وفق المسائل المراد حلها من جهة و مع مرور الزمن من جهة ثانية .

  السؤال المهم في مجال الديمقراطية هو : لماذا تعثرت وتتعثر عملية الانتقال الديمقراطي في البلدان العربية ؟

  تاريخيا لقد تمت عملية الانتقال للديمقراطية من خلال نماذج أربعة رئيسية :

  النموذج الأول هو التطور التلقائي الذي تتداخل فيه عوامل عديدة للتحول الاجتماعي . وعملية التطور هذه ارتقائية وتستجيب لنمو القاعدة الاجتماعية والسياسية المدعمة والراغبة في نموذج الحكم الديمقراطي .

  أما النموذج الثاني فهو انبثاق الثورة الديمقراطية في وجه الاستبداد والطغيان . إن ولادة هذا النموذج في كنف الثورة الفرنسية قد أشاع اعتقاداَ غير صحيح بأن الديمقراطية لا تولد بغير ثورة . فالعنف المتضمن في هذا الشكل قد يؤدي إلى نقيضه ، إلى مسار غير مأمون وغير مضمون وربما يكون حافلاَ بالنكسات والمحن مثلما حدث في الثورة الفرنسية بالضبط .

  النموذج الثالث للانتقال تم من خلال انتصار سياسي للحركة الدستورية الديمقراطية . ولا يسعنا هنا أن نفترض كون الاستبداد راغباَ في التنازل عن مزاياه بسهولة . لا يحدث ذلك بكل تأكيد . غير أن هناك حالات كثيرة يرغم فيها الاستبداد على الاقتراب من الساحة لا بفضل ثورة أو قوة مادية طاغية أو ضاغطة ، وإنما ببساطة بفضل عجز شامل عن إيجاد قاعدة مدنية واجتماعية له ، وإفلاسه الروحي والمعنوي ، وانتقال مزاج الناس وتفضيلاتهم جذرياَ إلى الشكل الديمقراطي للحكم وتنامي ضغط أخلاقي وثقافي ومعنوي لا يقاوم لترسيخ الضمانات الدستورية والقانونية للحريات الأساسية .

  وهناك نموذج رابع للانتقال تم عبر حروب دموية أشاع فيها المنتصر تلقائياَ أو بالقوة نموذجه " الديمقراطي " شكلياَ . وقد تم ذلك مثلاَ في أعقاب الحرب العالمية الثانية بعد انتصار الولايات المتحدة على اليابان ووضع الأمريكيين لدستور " ديمقراطي " لهذا البلد . وهناك أمثلة عديدة لنفس النموذج سواء في الحروب الثنائية والحروب الإقليمية والعالمية .

  وعندما نطوف بأنظارنا عبر هذه النماذج لن يكون هناك خلاف كبير بين غالبية العقلاء حول تفضيل النموذج الثالث . وقد نترجم هذا النموذج ولو ترجمة " مستوردة " وغير دقيقة فيما يسمى بنظرية المجتمع المدني . والافتراض المتضمن هنا هو أن النمو الأخلاقي والمؤسساتي والثقافي للمجتمع المدني الذي تعبر عنه المنظمات غير الحكومية ، يمكن أن يفضي إلى انتصار معنوي للنموذج الديمقراطي ، وبالتالي إلى الأخذ به تلقائياَ ، ودون الحاجة لثورات أو حروب أو قسر من الخارج والداخل .

  أما الإصلاحات السياسية التي تقبلها الأنظمة على مضض فإنها تتناسب مع نموذج يمكن تسميته " انفتاح سياسي بدون دمقرطة " . وهو نفس النموذج الشائع في أكثر تجارب الإصلاحات السياسية في العالم الثالث .

  ومع ذلك لو طرحنا الأمر بطريقة ديمقراطية بدون ديمقراطيين ، فإن الأمر لا يستدعي جلب مزيد من الشقاء لأرواحنا المعذبة أصلاَ . فإذا كانت الإشكالية المتضمنة هي أن شعاراتنا جميعها تفتقر إلى جماعات حاضنة حقيقية ... اشتراكية بدون اشتراكيين ، رأسمالية بدون رأسماليين ، حداثة بدون حداثيين ...الخ ، فإنها لا تبدو قدراَ أو قانوناَ بقدر ما تبدو كتحد عقلي وسياسي في آن واحد .

  من الناحية النظرية يمكن إثبات أن الثقافة الديمقراطية الحديثة تنهض على ثلاثة مستويات من العمق / العناصر :

  الأول : هو الاعتراف بكينونة الفرد وجدارته بحقوق لصيقة به كإنسان وقدرات وأدوار ووظائف مكتسبة كمواطن . ويقود هذا الاعتراف إلى تقييد تفويض الدولة ( بكل هيئاتها ) في حدود معينة ، بل وجعل حماية حقوق الفرد وضمان الوفاء بها إحدى أهم وظائف الدولة الديمقراطية .

  وما يميز الثقافة الديمقراطية هو أنها تعترف بكينونة الفرد وأهليته القانونية وجدارته بحقوق ومسؤوليات يمارسها مباشرة في فضاء اجتماعي واسع للغاية تشرف عليه الدولة . على حين أن الثقافات السابقة على الديمقراطية والمناهضة لها تعترف بالفرد إما في فضاء اجتماعي ضيق للغاية ( الأسرة – العشيرة – القبيلة – الجهة " المحلية أو المحليات " – الطبقة – الهيئة الدينية ... الخ ) أو في إطار قيود ثقيلة وهو ما يعني حرمانه من طائفة معينة من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية ... الخ .

  والثاني : هو انعقاد الغلبة للعلاقات التعاقدية التي يدخل فيها الفرد مباشرة أو عبر وسائط تعاقدية منظمة / جماعية . أي وجود التنظيمات و المؤسسات في المجتمع .

  وثالثاَ : الاستقرار النسبي لمبدأ التسوية السلمية المنهجية للمنازعات والصراعات ، أي وجود النزعة للتفاوض والقبول بالحل الوسط . وبالتالي الالتزام الطوعي بقبول القواعد الآمرة التي يجسدها القانون في المجتمع الديمقراطي. والنقيض المطلق لهذا المبدأ هو عبادة العنف ، وحالة حرب الجميع ضد الجميع : أي الفوضى الكاملة .

  هذه المقدمة ضرورية للقول بأن كثيراً من التناقضات والإرتباكات الحاصلة في مجال العمل الحقوقي و العمل الديمقراطي تعود بشكل أساسي إلى غياب خلفية التأطير النظري المؤسس لموضوع التفكير في مجال حقوق الإنسان ، بالتالي فإن عملا ًمركباً يجمع بين الممارسة و أطرها الفكرية المرجعية العامة (الفلسفية ، السياسية ، القانونية ) يكفل بيئة أفضل و انغراساً أعمق للقيم الديمقراطية و لقضايا حقوق الإنسان في واقعنا وفي ثقافتنا السياسية .

  إن مظاهر القصور ونقص المردودية لدى منظمات حقوق الإنسان و مؤسسات المجتمع المدني و القوى التي تسمى ديمقراطية لا تعود فحسب إلى المعطيات السياسية و التاريخية الواقعية ، بل تعود في الأصل إلى غياب أو تغييب الأسئلة النظرية-الأساس ، أي الأسئلة التي تقف وراء المشروع ، أي إلى غياب مكون مركزي من مكونات العمل. هذا المكون هو الفكر . ويخطئ جميع العاملين في مجال حقوق الإنسان عندما يفصلون حقوق الإنسان عن الفكر ، فالخوف من الإيديولوجيا لا يبرر إلقاء الفكر في المزبلة ، إذ سيكون لذلك ضريبة قاسية هي الوقوع في فخ تحويل حقوق الإنسان إلى مجرد شعار أو إلى مقولة سحرية دون أبعاد و أرضيات ، لتتحول إلى أصولية من نوع جديد لا يدرك مؤيدوها منها إلا لفظها .

  لا بد من بناء أعمدة الارتكاز النظري التي تمنح العمل الديمقراطي و مشروع حقوق الإنسان أرضيته الفكرية الصلبة ، القادرة على تحصين رؤيته الجديدة للعالم والمجتمع والإنسان ، و لتشكل حقوق الإنسان و الديمقراطية قلب المشروع النهضوي ، بعد أن تم فصلهما عنه و تحولت على أيدي الكثيرين إلى مشروع حقوقي قانوني محض . إن وراء العمل في جبهة حقوق الإنسان و الديمقراطية رؤية جديدة للكون و الإنسان و المجتمع ، رؤية لا يمكن استيعاب روح هذه الحقوق دون الاستناد إليها .

  يعني العمل في مجال تنمية الديمقراطية و حقوق الإنسان أولاً و قبل كل شيء المساهمة في عملية الاستيعاب التاريخي و النقدي لرؤية جديدة للإنسان والطبيعة والمجتمع والتاريخ ، وهي الرؤية المحايثة لمواد و بنود مواثيق حقوق الإنسان .

  من هنا ، إن هناك ضرورة لربط العمل في ميدان الديمقراطية و حقوق الإنسان بالعمل الفكري الرامي إلى دعم المنظور الحداثي للإنسان و الطبيعة و التاريخ ، ومن دون هذا الربط و الوعي بالتلازم الفعلي الحاصل بين المبادئ ذات الصبغة القانونية في مجال حقوق الإنسان ومرجعيتها النظرية الحداثية والتاريخية سنظل نمارس عمليات الخلط الفكري و التشوه المعرفي و تركيب المفارقات على صعيد الممارسة . ما أريد قوله إن العمل في مجال الديمقراطية و حقوق الإنسان يمثل عودة إلى أسس المشروع النهضوي الذي اغتيل بأيد عديدة ، تارة بفعل الخارج وتارة بقمع الداخل و تارة أخرى وهو الأساس باسم الوعي الزائف والمضلل . يعني العمل في أسس مشروع النهضة المتوقف والمتراجع ( إنه إعادة التفكير بأسس وبديهيات وجودنا كبشر أولاً) وليس عملاً مهنياً محضاً يتنطع له مجموعة من المحامين يحولون حقوق الإنسان إلى بنود ومواد قانونية معزولة عن الأرضية الثقافية و الفلسفية التي أنتجتها .

  إن معركة تبيئة مبادئ حقوق الإنسان و القيم الديمقراطية في الفكر العربي تحتاج فعلاً إلى معارك سياسية محددة في قضايا واقعية ،لكنها تحتاج أيضاً وبالحدة والقوة ذاتها إلى معركة الدفاع عن الحداثة في فكرنا المعاصر،فالتقليد وحقوق الإنسان لا يجتمعان، التقليد و العمل الديمقراطي لا يجتمعان، سواء أكان التقليد قومياً أم ماركسياً أم إسلامياً . لا يمكن أن تجتمع المناداة بحقوق الإنسان مثلا عند بعض العاملين في هذا المجال واستمرار هيمنة تصورات تقليدية محددة عن الإنسان و العقل و المجتمع، واستمرا ر هيمنة الأفكار المرتبطة بالرعية و الطاعة و الامتثال و التقاليد ودونية المرأة و اضطهاد الصغير و التعصب القومي و الحقيقة الواحدة التي لا مراء فيها .

  هذا يعني أن سؤال الحداثة سيظل مطروحاً على جدول أعمالنا ،ويرتبط بهذا السؤال ضرورة القيام بجهود فكرية تنويرية تساهم في إعداد الأرضية الملائمة لانغراس أفضل لمبادئ حقوق الإنسان و القيم الديمقراطية في فضائنا الفكري والسياسي 0

  أما عمليات التغيير و التطوير و التحديث التي تمت في المنطقة العربية خلال نصف القرن الماضي فقد تمت في مستويات قشرية وسطحية بمعزل عن التعرض لأنساق الثقافة القديمة ، إذ تجاورت الأنساق القديمة مع الحديثة ، وأدى هذا الوضع إلى تفريغ كل المفاهيم الحداثية (الإنسان، الفرد، الوطنية، الديمقراطية، الساحة العمومية، الشعب ، القانون، العقل) من مضامينها الأصلية ، فتبقى الشكل وغاب الجوهر في خضم تلك العلاقة التجاورية الشاذة، فالشعب بقي هو القبيلة ، والحزب السياسي قبيلة مصغرة ، والفرد عبداً ، والقانون شريعة الدين أو السلطات000 إلخ 0

  بناء على ما سبق لا أتصور إمكانية تحقيق تقدم ما في مجال تطور و تطوير الوعي بحقوق الإنسان في فكرنا دون إعادة إحياء مشروع الإصلاح الديني ،فلا يمكن تعزيز جبهة العمل في مجال حقوق الإنسان دون دعم جهود هذا الفكر في مجال نقد العقل الإسلامي ونقد آلياته في التفكير، ودون إعادة بناء المشروع النهضوي ، بحيث تشكل حقوق الإنسان و الديمقراطية محتواه 0

  رابعا : بعض عناصر الثقافـــة السياسيــة السائـــدة :

  يمكن القول بوجود وحدة في الثقافة السياسية في سورية ، كسائر البلدان العربية الأخرى ، بين السلطة و المعارضة (خاصة في شقها القومي التقليدي و الإسلامي الأصولي)، وذلك على الرغم من وجود اختلافات بين الحيزين0 لكن العناصر الموجودة داخل هذه الوحدة ، أي العناصر المشتركة ، هي التي تصيغ وجدان و رؤى السلطة و المعارضة على حد سواء ، وبما يجعل التباينات بينهما محدودة أو قليلة الأهمية 0 لكن الغريب أن هذه العناصر المشتركة ذاتها هي التي تنتظم وعي الشارع الشعبي، وبما يعني وجود خط واحد ناظم للرؤى و الأفكار السياسية في السلطة و المعارضة و المجتمع0

  و للأسف ،فإن كل عناصر هذا الخط الناظم للمستويات السابقة لا تنسجم مع ثقافة وقيم حقوق الإنسان و الديمقراطية 0

  - خطاب وطنـي / قومـي ضـد خطر الخـارج :

  يطرح الفكر القومي التقليدي (البعث ، الناصرية) دائماً وأبداً ، وعلى الدوام ، أهدافاً سياسية ساخنة ، على الرغم من أن الهزيمة تعشش منذ وقت بعيد ، ولازالت ، في العظام0

  ينتظم هذا الفكر مسألتان، الأولى ضعف مستواه الحداثي، والثانية عقدة إهانة كبيرة بسبب الهزائم المتكررة ، يعبر عنها باهتزاز وتصدع كل أرجاء الشخصية و الوجدان0 تحت تأثير عقدة الإهانة يتم التمسك بجدول أعمال يدور أساسا ًحول الهوية القوميةً ،أو بالأحرى حول أجندة عمل قومية ،وهو سلوك سهل لا يتطلب الكثير من التفكير، يعتمد البحث عن العناصر القادرة على التعبئة و التحشيد و التجييش، ويكفي أن نقول "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" حتى تنتابنا مشاعر النصر و نصل إلى السماء ، ومن ثم لترمينا الحقائق الواقعية للهزيمة رمياً على الأرض ،و يا ليتنا نصحو ، بل نعيد الكرة من جديد0

  هذه الأجندة القومية ، الدائمة الحضور ، رغم عمق الهزائم ، تؤدي إلى تشوه ثقافي عام في الثقافة السياسية ، إذ تصبح المهمة الأعلى و المقدسة هي الانتصار على الآخر أو الخصم ، وبالتالي إلقاء مهام إعادة البناء الداخلي ، وما يرتبط به من استحقاقات كحقوق الإنسان و الديمقراطية إلى الهامش0

  استمرار هذا الوعي من الأسباب الأساسية لحالة الشلل على صعيد البناء الداخلي، وطالما استمر هذا التشوه الفكري سيظل ينظر لثقافة حقوق الإنسان و الديمقراطية باعتبارها وسيلة لاختراق مجتمعاتنا ،أو على الأقل تأجيلها لصالح التعبئة و التجييش الضروريين لمعركة النصر ضد إسرائيل و أمريكا و الغرب، في الوقت الذي لم تحدث حالة تعبئة و تجييش طوال نصف القرن الماضي ضد انتهاك ما لحقوق الإنسان في المنطقة العربية . تأخذ " الهوية القومية " في هذا الوعي طابعاًَ وسواسياً تجاه الآخر ، وشكل تعيينات قطعية ، مغلقة و ثابتة0

  هذا الفهم يعيق استقبال العناصر الإيجابية في الثقافات الأخرى بسبب سيطرة هواجس و وساوس الغزو الثقافي0

  القضية المركزية و المهمة الحارة هي إعادة البناء الداخلي على أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا ليس إنكاراًَ لمشروعية العمل القومي وضرورة إزالة الظلم القومي الواقع على العرب ، لكننا ندرك هذه المهمة من منظور حقوق الإنسان و الديمقراطية على اعتبار أن إنجازها رهن بتحديث وإصلاح المجتمع والسياسة و الثقافة في الأقطار العربية ،أكثر مما هي مرهونة بالوسائل العسكرية و التعبوية و التحشيد و استغلال العواطف القومية0

  أوضح ما يعبر عن هذا التيار هو رؤيته للصراع العربي الإسرائيلي والخطر الخارجي الذي تمثله إسرائيل على العرب ، خاصة عندما وضع هذا التيار "القضية الفلسطينية" ، ولازال ، كقضية مركزية للعرب ، وبالتالي تمحور وعيه ووعي الشارع الشعبي حولها. باعتقادي إن قضية العرب المركزية هي الديمقراطية و حقوق الإنسان ، وما عداها ، على أهميته ،سيجد مكانه اللائق عندما تعود للمواطن ثقته بذاته و بوطنه وبقضاياه القومية0

  للأسف حتى المعارضات السياسية عندما تطالب بالديمقراطية و حقوق الإنسان ، فإنما تؤكد عليها من أجل مواجهة الخطر الخارجي وحسب، وليس لأن أهل البلد يستحقونها ويحتاجونها لإعادة احترام أنفسهم و الثقة بذواتهم و التعبير عن إنساينتهم 0

  لقد تناولت التيارين القومي و الإسلامي، بصفتهما الأوسع انتشاراً ، إلا أن ما يصدق على تيار الأجندة القومية و تيار الأجندة الإسلامية ، يصدق أيضاً على التيار اليساري الذي وضع الاشتراكية كأجندة راهنة ، لتكون في مواجهة الديمقراطية وحقوق الإنسان على مدى نصف القرن الماضي من تاريخ المنطقة العربيـــة0

  - مقاومــة المحتــل:

  يشيع في الخطاب السياسي العربي ، بحكم الهزيمة المستمرة من جهة ، وبحكم الوعي الزائف من جهة ثانية فهم خاطئ لمسألة مقاومة المحتل ، ولا أريد الخوض في الأخطاء السياسية في هذا المجال، لكن أريد الإشارة بشكل سريع لذلك من زاوية الثقافة التي تنتج هذا الفهم للمقاومة و التي تزيد وعينا انتكاسا بحكم معاداتها الضمنية لحقوق الإنسان و الديمقراطية . إذ بغض النظر عن أمريكا وعن وجهة نظرها التي تستند لاعتبارات نعرفها جميعاً ، فإن " المقاومة" وما أفرزته في الوعي العربي عموماً و الوعي السياسي خصوصاً تلعب للأسف دوراً طارداً ونافياً للقيم الديمقراطية و لحقوق الإنسان بحكم عدم استنادها لمشروع سياسي ديمقراطي ، على الرغم من اعترافنا جميعا أن المقاومة حق مشروع 0

  أصبحت مقاومة أمريكا وإسرائيل ،أي العدو الخارجي هي الناظم لكل تطلعاتنا و أفكارنا، أي تمحورت الهوية حول الخارج والخطر الخارجي0

  لقد أنجزت حركات التحرير العربية الاستقلال في جميع البلدان العربية ، ولكن ماذا فعلت بمجتمعاتها بعد ذلك ؟ طبعاً ليس المقصود التقليل من تلك النضالات أو من المقاومة الفلسطينية أو ما يسمى العراقية ، لكن المقصود أن الوعي الزائف لابد أن ينتج الكوارث . فمقاومة بدون برنامج واضح للإنسان و لحقوقه و للعمل الديمقراطي غير مضمونة العواقب . لا المقاومة الفلسطينية تملك برنامجاً ديمقراطيا للداخل الفلسطيني ، و لا ما اصطلح على تسميته بالمقاومة العراقية في الإعلام العربي تملك برنامجاً ديمقراطيا للداخل العراقي .

  - عقــدة الخــوف من الغــرب:

  ينظر العرب عموماً لدعاية الولايات المتحدة بخصوص الديمقراطية و حقوق الإنسان بقدر كبير من التوجس و الريبة،بل وبسبب تاريخ طويل من الكيل بمكيالين وازدواجية السلوك و القرارات و السياسات غالباً ما توصف منظومة حقوق الإنسان كأداة للهيمنة ، وكجزء لا يتجزأ من مساعي القوى الكبرى و على رأسها الولايات المتحدة للسيطرة على الشعوب الأخرى وفرض أنماطها الثقافية الخاصة بوسائل القوة عليها 0

  ويضاعف من خطر هذه الظاهرة أنها تستثمر استثماراً ماهراً من جانب الحكومات والنظم السياسية العربية والقوى الشمولية العاملة بنشاط في الساحة السياسية و الثقافية العربية 0 ويستهدف هذا الاستثمار التلاعب بالعقول من أجل تكريس الخضوع لقيم سياسية شمولية ولنظم سياسية تسلطية وذلك بالقول أن هذه النظم وهذه القيم تشكل الحماية الملائمة للشعوب العربية ضد محاولات اختراق سيادتها0

  وبالتالي فإن التلاعب الانتهازي من جانب الولايات المتحدة بقيم حقوق الإنسان يمثل تبريراً لنوع آخر من التلاعب من جانب القوى المحلية ، ونعني بذلك التلاعب المحلي بقيم السيادة وبالقيم الوطنية بهدف تمرير انتهاكات خطيرة للحقوق و تغييب الديمقراطية . إن الدعاية المكثفة للسلطات لا تكف عن إثارة النخوة الوطنية و العاطفة القومية ضد وبهدف تبرير كل من المصادرة المستمرة للديمقراطية وحقوق الإنسان0

  لقد وظف هؤلاء جميعاً عقدة الخوف من الغرب توظيفاً انتهازياً وسيء النية حيناً ، وبسبب الجهل و تمحور الثقافة السياسية حول الفكرة القومية كشكل عدائي تجاه الآخر حينا آخر ، والمحصلة كانت الإبقاء على أوضاع حقوق الإنسان واستمرار الاستبداد و تغييب الديمقراطية

  حتى على المستوى السياسي نرى أن الصراع لا يدور بإطلاق بين العرب والغرب ، فالغرب ظهر على الدوام كفضاء بالغ التنوع ليس من الناحية الثقافية وحسب بل ومن الناحية السياسية أيضاً ، كما أن الصراع بين العرب و الولايات المتحدة هو صراع سياسي صرف ولا شأن له بصراع الحضارات و الثقافات .

  لم يعد من الممكن الدفاع عن خطاب الهوية الأحادي الذي دفع مجتمعاتنا قسراً لرؤية متوجسة إزاء العالم ترفض التفاعل الخلاق مع الثقافات الأخرى ، ليكون المآل الانكماش على الذات القومية أو الدينة أو تغليظ الحدود بيننا وبين الآخرين أو إثارة الكراهية و الخوف من جميع الأنظمة الثقافية و المجتمعية الأخرى 0

  خامسا : إشكالية العالمية والخصوصية

  يكاد يكون خطاب " الخصوصية "في المنطقة العربية ومنها سوريا لسان حال جميع القوى الكابحة للتقدم ،إن كان لدى الحكومات أو لدى التيار الإسلامي أو لدى الفكر القومي التقليدي أو التيار الماركسي التقليدي ، بما يوحي أن مجتمعاتنا العربية لا تنتمي إلى مجتمعات البشر ، وإنساننا ليس من أبناء الأرض ، بل من المريخ .

  ينظر دعاة الخصوصية لثقافة الديمقراطية و حقوق الإنسان بوصفها نتاجاً لثقافة الغرب وتعبيراً عن هيمنته، وهي بالتالي نقيض لثقافتنا وهويتنا . هذا التفسير باعتقادنا لا تاريخي ينظر للثقافات كجزر معزولة و للهويات كحواجز ثابتة لا تتغير .

  ويحمل خطاب الخصوصية ضمناً أو صراحة افتراض أن الثقافة ، أي ثقافة ، ساكنة وتحمل خصائص لا يطالها التغيير ، ولعل هذا المنطق هو بمعنىً ما أساس الانتقائية في التعامل مع مفاهيم حقوق الإنسان .

  صحيح أن الثقافات تتمايز ، فهذه حقيقة مشاهدة لا جدال حولها ، ولكنها أيضاً تتلاقح وتتحاور ، فالثقافات أجسام حية تنمو وتتطور وتؤثر وتتأثر ، وفي مضمار هذا التلاقح تسقط بعض الترهلات من جسدها ، وتكتسب بعض السمات التي لم تكن فيها .

  حقوق الإنسان و القيم الديمقراطية ليست نتاجاً خالصاً للثقافة الغربية ، بل نتاجا لتطور تاريخي طويل ، وتفاعل واحتكاك خصيب بين ثقافات وحضارات الأمم كافة ، على الرغم من أنها قد أخذت شكلها القانوني في الغرب.

  أما قضية الخصوصية الثقافية أو الحضارية فهي في كثير من الأحيان قضية حق يراد به باطل ، إنها مفهوم صحيح في ذاته ، وذلك على اعتبار أن الاختلاف ينمي الإبداع فضلا عن كونه حقيقة واقعة ، لكن لا شك أن الحكومات وقطاعاً واسعاً من النخبة الثقافية والسياسية (تيار الفكر القومي التقليدي و تيار الإسلام السياسي) يرفعون شعار الخصوصية كشعار أو واجهة تخفي وراءها ثقافة معادية للديمقراطية و حقوق الإنسان .

  هذه الخصوصية لا يمكن فهمها ايجابياً إلا بجانب " التطورية " التي تعيد تشكيل تلك الخصوصية . بالتالي فإن ما يسمى ب "الخصوصية السورية "لا يحول دون التطبيق الشامل لمبادئ حقوق الإنسان و إطلاق سيرورة تحول ديمقراطي ، و إنما يجب أخذ الخصوصيةا بعين الاعتبار عند تحديد الأولويات ومداخل التطبيق وصياغة الخطاب الديمقراطي الحقوقي المحلي المناسب ، ولو وقفت البشرية عند حدود الخصوصيات لما توصلت إلى مجموعة من القيم والمبادئ المشتركة بين جميع البشر ، والتي تجسدت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق الشرعية الدولية . نقول هنا الخصوصية مستويات والخصوصية التي يجب الاحتفاء بها هي تلك التي تثري الفكر وتحفظ كرامة الإنسان و تنسجم مع منطق التاريخ و الحاجة للتقدم .

  في الوقت الذي تقبلت فيه معظم السلطات المسلمات الليبرالية الغربية المعاصرة ، لا سيما الخصخصة و اقتصاد السوق ، فإنها قد رفضت مسلماته السياسية و تبعاتها في مجال حقوق الإنسان و الحريات الديمقراطية، و في الوقت الذي لم نتورع منذ اصطدمنا بالغرب في أواخر القرن التاسع عشر وحتى لحظتنا الراهنة عن استيراد كل شيء فإننا نتردد إزاء الديمقراطية وحقوق الإنسان .

  انسجاماً مع خطاب الخصوصية لدى النظم السياسية وتيار الإسلام السياسي والفكر القومي التقليدي ، برزت رؤى تؤكد على ضرورة وجود مواثيق إقليمية وعربية وإسلامية لحقوق الإنسان تراعي هذه الخصوصية ، وقد عبرت هذه الرؤى عن نفسها مثلا في الميثاق العربي لحقوق الإنسان والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان .

  يمكن للاتفاقيات الإقليمية ، على غرار الميثاق الأوربي لحقوق الإنسان والميثاق الأمريكي لحقوق الإنسان ، أن تسهم في توفير ضمانات وآليات إقليمية لاحترام حقوق الإنسان و الآليات الديمقراطية . وهذا ما حدث فعلاً في أوربا و الولايات المتحدة ، لكن لم يحدث عند العرب وفي بلاد الإسلام . السبب واضح وهو أن الاتفاقيات الأوربية والأمريكية طرحت نفسها مكملاً للقوانين الدولية وليست بديلاً عنها أو نقيضاً لها ، وجميعها تعكس رؤية واحدة لحقوق الإنسان و للقيم الديمقراطية ، أي أن المنطق الداخلي الذي يحكم جميع هذه المواثيق واحد . في حين لم يحدث ذلك في إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام عام 1990 الذي اعتمدته منظمة المؤتمر الإسلامي ، فهذا الإعلان قيد جميع الحقوق والحريات فيه بأحكام الشريعة الإسلامية (م/24)وجعل من هذه الأخيرة المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواده (م/25)وهو بذلك يختلف اختلافا ًكلياً عن الصكوك الدولية و الأوربية و الأمريكية لحقوق الإنسان التي تقوم على أساس علمانية حقوق الإنسان .

  السؤال المطروح في إطار الحديث عن الخصوصية هو : هل من سبيل للجمع بين حقوق الإنسان والإسلام ؟

  لا بد هنا من تقرير حقيقة هامة من حيث المبدأ: إن أي حديث تجريدي عن الإسلام لا يكون مفيدا ًولا بد من ربطه بمدرسة أو مذهب أو شخص أو فرقة معينة ، أي لا بد من الحديث عن تفسير وفهم للنصوص التي تمثل مصادر الإسلام ، وهي نصوص القرآن والسنة ، لأن " القرآن لا ينطق وإنما ينطق عند الرجال" كما يقول الإمام علي بن أبي طالب .وأيضاً لأنه ليس هناك من نص مهما كان مقدساً له معنى ذاتي لازم و نهائي ، فالمعاني تستخلص بعمليات معقدة يقوم بها عقل ما ، محكوم سلفاً بعلاقات الزمان والمكان بكل ما يعتمل فيها من مصالح وعادات وتقاليد ومعارف سائدة .

  ما تقدم يطرح على حركات حقوق الإنسان و القوى الديمقراطية مهمة تشجيع حركة التنوير الديني التي تضع حقوق الإنسان والديمقراطية كمبدأ، ومن ثم تبحث في النص الديني عما يؤيد ذلك ، وهنا ليس المطلوب البحث في بعض مكنونات وكنوز التراث العربي الإسلامي ، بل عن الأفاق المستقبلية التي تصل بين هذا التراث و كل من الحاضر والمستقبل . إذ على الرغم من تلفيقية هذا الأمر إلا أنه مفيد من الناحية السياسية و العملية ، وفي السياق ذاته تصبح المساهمة في بلورة مشروع علماني جزءاً لا يتجزأ من المهام المطروحة على حركة حقوق الإنسان و القوى الديمقراطية .

  سادسا : إشكالية حقوق الإنسان و الديمقراطية

  يمكن القول أن هناك تشابكاً واسعاً بين الاعتبارات السياسية و الاعتبارات الحقوقية من الناحية النظرية و العملية في بلدان المنطقة العربية ، بما يجعل الفصل بينهما مستحيلا ، أي يصعب وجود حركة لحقوق الإنسان تتناول القضايا الحقوقية بمعزل عن طرح وجهة نظرها و دورها في عملية إصلاح سياسي مطلوب. فالنضالات الحقوقية ستكون خاسرة إذا ما تم النظر إليها بمعزل عن تقدم العملية السياسية في المجتمع، وبكلمة أخرى فإن الإصلاح الحقوقي هو جزء جوهري وأساسي من الإصلاح السياسي الديمقراطي في سوريا.

  إن عملية الإصلاح السياسي وتقليص هيمنة التصورات الاستبدادية ،أي عملية الانتقال الديمقراطي، من المعارك الموصولة بمعركة حقوق الإنسان ، تماماً كما أن المعارك الثقافية في موضوع نقد الذهنيات التقليدية تندرج في الأفق ذاته .

  إن مجمل آليات عمل حركة حقوق الإنسان في المنطقة العربية هي آليات «منفعلة»، بمعنى أنها تتحرك بعد وقوع الانتهاكات، أما آليات «الوقاية» فهي ما زالت بسيطة، كالتعليم والترويج والعمل الثقافي وغيرها، أي أنها تتخذ موقفاً دفاعياً . إذ تركز معظم حركات حقوق الإنسان في البلاد العربية على «الانتهاكات» الواقعة بحق الأفراد أكثر من العمل على جبهة تغيير أو تطوير الآليات الناظمة للدولة والمجتمع والمولِّدة لتلك الانتهاكات، وهو ما يمكن تسميته بالدور «الوقائي». وربما يكون أحد أسباب هذه الآلية الدفاعية، حساسيتها تجاه المسائل السياسية، ومبالغتها المفرطة في تأكيد نفسها كحركة غير حزبية، بمعنى أنها لا تعمل في المجال السياسي المباشر . وهذا بالطبع أمر ضروري شريطة ألا يؤدي بها خارج الحقل العام و خارج منطق التقدم.

 حركة حقوق الإنسان / من الناحية النظرية على الأقل / هي الأكثر تأهيلاً لتقديم تصور حول «الديمقراطية» المتناسبة مع واقع مجتمعاتنا العربية وبالانسجام مع قيم ومبادئ حقوق الإنسان العالمية.

  باعتقادي هناك جدول أعمال عريض أمام حركة حقوق الإنسان في البلاد العربية، يتضمن فيما يتضمن تقديم مشاريع مقترحة من وجهة نظر حقوق الإنسان للإصلاح الديمقراطي إلى السلطات والمعارضات معاً، وتقديم رؤية مقترحة عن عملية «الانتخابات» التشريعية والبلدية , مستندة في ذلك إلى مبادئ حقوق الإنسان والشرعة الدولية، كذلك تقديم مشاريع مقترحة لقوانين ديمقراطية وعصرية تتعلق بالصحافة والمطبوعات والعمل المدني والأهلي . كما يمكن لها أن تقدِّم رؤيتها للقوانين والأفكار الناظمة للأحزاب السياسية القائمة، الحاكمة منها والمعارضة، بما يدفع هذه الأحزاب لتجديد فكرها وآلياتها بما ينسجم مع حقوق الإنسان والعمل الديمقراطي واقتناعها بالقيم الإنسانية الديمقراطية، وقد يرتقي دورها، في حال نجحت في تثبيت مصداقيتها واستقلاليتها ومهنيتها العالية، إلى دور «رقابي» معترف به من الجميع .

  سابعا : إشكالية حقوق الإنسان و السياسة :

  تعتبر قضية العلاقة بين «السياسة» و«حقوق الإنسان» على الصعيد النظري، وما يرتبط بها على الصعيد العملي من محاولات لتسييس حركات حقوق الإنسان أو عزلها عن التدخل في الشأن السياسي، إحدى اكبر المشاكل التي تواجه هذه الحركات في المنطقة العربية، وتعود جذور هذه المشكلة إلى ظروف نشأة هذه الحركات التي اعتمدت أساسا على العاملين في الحقل السياسي العام (الأحزاب السياسية)، بسبب ضعف العمل المدني في المجتمعات العربية، كما تعود إلى الاختلاف البيِّن في طبيعة المجتمعات العربية عن المجتمعات الغربية .

  يُصرُّ العديد من دعاة حقوق الإنسان في المنطقة العربية على الفصل المطلق والحدي بين «حقوق الإنسان» و«السياسة»، وبالمقابل تتوجه أحزاب سياسية عديدة (سواء في السلطات أو المعارضة) نحو محاولات إلحاق منظمات حقوق الإنسان بها، وفي اعتقادي أن الرؤيتين تعبران عن ضيق الأفق، وعن خلل في فهم تلك العلاقة على المستوى النظري.

  نكاد نبصر مثلاً، عبر ملامح العديد من دعاة حقوق الإنسان و العمل المدني بشكل عام، نفورهم الشديد من «السياسة» لمجرد لفظ الكلمة، بما يوحي لنا بتواصل فاعلية وتأثير ثنائية ( المقدس – المدنس ) في العقول والخيارات، فالسياسة توازي المدنّس، وحقوق الإنسان توازي المقدس في هذه الثنائية . هذا يوضح لنا أن «العقل التقليدي» سواء كان ضمن حركة حقوق الإنسان أم في الأحزاب السياسية، فإنه سينتج الكوارث والمهازل ذاتها على صعيد الخطاب والممارسة العملية ، فالمشكلة الأساسية في «العقل» الذي يرى ويسمع ويتصرف، سواء وجد ضمن الأحزاب السياسية أم داخل حركة حقوق الإنسان .

  «السياسة» بما هي مجمل ما يتعلق تفكيراً وممارسة بالشأن العام، كالهواء الذي يحيط بنا ونتحرك داخله، فهي عامل ملتحم ووثيق الصلة بكل مظاهر وتجليات وأشكال الفعل الإنساني، سواء أحببنا ذلك أم كرهناه.

  «حقوق الإنسان» بما هي مقاومة لكل ظواهر الاستبداد في جميع المستويات والأماكن (الحقوق المدنية والسياسية) ومقاومة لكل أشكال الظلم الاجتماعية (الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، هي شكل جديد من أشكال الممارسة السياسية . وبالتالي فإن تباين حركة حقوق الإنسان عن الأحزاب السياسية، ليس في كون هذه الأخيرة تمارس السياسة بينما تترفع حركة حقوق الإنسان على هذا «الدنس»، وإنما في تفاعلها بأشكال جديدة مع الشأن السياسي، فالهدف الجوهري لأية حركة حقوقية هو تقييد أداء «القوة السياسية» بكافة مستوياتها و مصادرها , بإلزامها بالاعتبارات والمعايير الإنسانية، وهذا النشاط هو فعل سياسي .

  الفكرة الجوهرية في هذا المجال تتمثل في أن النشاطين المدني (ومن ضمنه الحقوقي) والسياسي (الحزبي) مترابطان ويعتمدان على بعضهما بعضاً، على الرغم بالطبع من كونهما قابلين للفصل أو التمييز إلى مجالين مختلفين بدرجة معينة، أي أن ثمة ربطاً وفصلاً بين الحيزين المدني الحقوقي والسياسي الديمقراطي، وبدون هذا الفهم لا أعتقد أن العلاقة بينهما يمكن أن تستقيم.

  هنا يجب الإشارة إلى أنه من الضروري عدم تقويض خطاب حقوق الإنسان، عن طريق تبني خطاب يستند إلى «موقف سياسي» ما في لحظة ما. فالأساسي هو الاستناد إلى مبادئ وقيم حقوق الإنسان لدى ملامسة القضايا السياسية، دون الاندراج في موقف سياسي مباشر. كذلك من المهم عدم قيام «المسيَّسين» في حركة حقوق الإنسان بصبغ مبادئ وقيم حقوق الإنسان بأفكارهم وتراثهم الحزبي الخاص.

  من خصائص الخطاب الحقوقي اتسامه بالاستقلالية التي يجب الحرص عليها من قبل حركة حقوق الإنسان والأحزاب السياسية معاً. لكن من الضروري ألا تتبنى حركة حقوق الإنسان فهماً سلبياً للاستقلالية، بحيث تغدو معها مساوية للانعزالية ، أو تهيمن عليها مشاعر التوجس الدائمة تجاه الأحزاب السياسية، لتغدو هذه المشاعر آلية عمل ثابتة، وعلى طول الخط، لحركة حقوق الإنسان.

  «الاستقلالية» بمعناها الإيجابي تعني «الحيدة السياسية»، والتي لا تتوجس من وجود ما يمكن تسميته «تقاطعات» أو قواسم مشتركة، مع الحركة السياسية بعمومها سواء داخل السلطات أو المعارضات. وهذا أمر منطقي، إذ لا يمكن فهم الخصائص المختلفة أو الاختلافات دون وجود حد أدنى من «التوافقات»، فهناك قواسم مشتركة بين الإنسان والحجر والحيوان (وهناك بالطبع اختلافات)، فكيف لا يكون هناك توافقات أو قواسم مشتركة بين حيزات (سلطة ومعارضة ومجتمعاً مدنياً) تنتمي جميعها إلى الحقل العام والمساحة الوطنية ذاتها، وليس لطرف أو حيز من هذه الحيزات أن يحزن لوجود تلك القواسم المشتركة أو التوافقات ، وبالتالي فإن هذه «التوافقات» و تلك القواسم يصنعها الواقع السياسي الاقتصادي، ولا تصنعها الرغبات.

  كلمة أخيرة :

  تلك كانت أبرز الإشكاليات المطروحة في ساحتنا الفكرية السياسية ، وهي إن كانت لا تطرح نفسها بذات الحدة في جميع البلدان العربية ، إلا أنه من الواجب فتح حوار حولها بقصد تقريب الرؤى والتخلص من الخلافات المعيقة وغير المثمرة لتقدم حركة حقوق الإنسان في بلدنا و لتأمين انتقال ديمقراطي يسير .

  إلا أن هذا الحوار رهن بمدى توافر الحريات و درجة القناعة التي يمكن أن تبلغها السلطة بضرورة وجود مجتمع حي وفاعل وقادر ، ومدى الضمانات القانونية التي يمكن أن تقدمها له لممارسة حقه في الحوار والفعل والمشاركة .

  هذا الحوار يغدو اليوم جزءاً أساسياً من دفع الوطن إلى الأمام على طريق تقدم أوضاع حقوق الإنسان في بلدنا و آليات العمل الديمقراطي ، فضلاً عن الحاجة النفسية العميقة له ، فنحن أحوج ما نكون اليوم إلى استعادة الثقة بالذات … وبإنساننا .. وببعضنا .

إعادة بناء الثقافة السياسية عراقيا(7)

يعد مفهوم الثقافة السياسية من المفاهيم الحديثة في علم السياسية، حيث استخدمت في الخمسينيات القرن الماضي، عندما استخدمه الأمريكي (غابرئيل ارموند) ومن الملاحظ أن الثقافة السياسية هي جزء من الثقافة العامة في المجتمع رغم كونها تتميز بنوع من الإستقلالية وكثيرا ما ينتقل القيم الثقافة السياسية إلى المجتمع من خلال التنشئة السياسية عبر مؤسساتها المعروفة داخل كل مجتمع. والثقافة السياسية بصورة عامة يعاني من أزمة بنيوية في مجتمعات العالم الثالث وذلك لكون الاستبداد السياسي والموروث الشمولي للسلطة قد أدى إلى صياغة نوع من عقدة الخوف(الفوبيا) من كل ما هو سياسي، وان الحديث عن أمور السلطة من قبل الشعب يعتبر تهديدا للأمن القومي وشخصية الزعيم، لذلك نرى البيئة الملائمة لظهور السلطات الإستبدادية في الشرق الاوسط خلال أكثر من سبعة عقود من الزمن، ونظرا لكون العراق إحدى الدول الهامة في المعادلة الشرق أوسطية، لذلك فان أللاستقرار السياسي أصبح العنوان الرئيس للعراق لأكثر من نصف قرن، لان النظام الملكي لم يخلو من الأخطاء التي تحسب ضمن الشمولية السلطوية.

يعد مفهوم الثقافة السياسية من المفاهيم الحديثة في علم السياسية، حيث استخدمت في الخمسينيات القرن الماضي، عندما استخدمه الأمريكي (غابرئيل ارموند) ومن الملاحظ أن الثقافة السياسية هي جزء من الثقافة العامة في المجتمع رغم كونها تتميز بنوع من الإستقلالية وكثيرا ما ينتقل القيم الثقافة السياسية إلى المجتمع من خلال التنشئة السياسية عبر مؤسساتها المعروفة داخل كل مجتمع. والثقافة السياسية بصورة عامة يعاني من أزمة بنيوية في مجتمعات العالم الثالث وذلك لكون الاستبداد السياسي والموروث الشمولي للسلطة قد أدى إلى صياغة نوع من عقدة الخوف(الفوبيا) من كل ما هو سياسي، وان الحديث عن أمور السلطة من قبل الشعب يعتبر تهديدا للأمن القومي وشخصية الزعيم، لذلك نرى البيئة الملائمة لظهور السلطات الإستبدادية في الشرق الاوسط خلال أكثر من سبعة عقود من الزمن، ونظرا لكون العراق إحدى الدول الهامة في المعادلة الشرق أوسطية، لذلك فان أللاستقرار السياسي أصبح العنوان الرئيس للعراق لأكثر من نصف قرن، لان النظام الملكي لم يخلو من الأخطاء التي تحسب ضمن الشمولية السلطوية، والثقافة السياسية في العراق جرت صياغتها وفق مصلحة الحزب الواحد والقائد الأوحد حتى بات الرئيس يعني البلد، وان البلد لا يساوي شيئا دون الزعيم الكاريزمي، وان عملية بناء ثقافة سياسية معينة تم من خلال استخدام جميع الوسائل واستخدام الدولة ومؤسساتها لتحقيق تلك الغرض فقد تحول الأسرة والمدرسة والجامعة والإعلام إلى وسائل بيد النخبة الحاكمة لزرع الافكار الشوفينية في عقول الافراد ابتدأ من المؤسسات الأولية كالأسرة والمدرسة وانتهاء بالجامعة والإعلام و الموسسات الإدارية، واستمرت عجلة الظلام بالدوارن منجرفة ورائها عقول المئات من الاطفال والشباب من خلال عسكرة المجتمع وبناء جيش من المدنيين، إضافة إلى ممارسة الوسائل المخابراتية، وصياغة مجتمع بوليسي لا يحترم فيها ابسط حقوق الإنسان، واستخدام الحرب النفسية والدعاية الموجهة في صنع راي عام مصطنع على المستويين الإقليمي والدولي، فمن الناحية الاقليمية إبراز قوة النظام السياسي الحاكم لدول الخليج وجعلهم في حالة من القلق ومن ثم دعم كل ممارسة سياسية للنظام ألبعثي سواء في الداخل اوالخارج من قبل تلك الدول، وفي البعد الدولي ممارسة سياسة التبعية العمياء للقطب الشرقي وإهدار المال العام في صفقات الأسلحة التي استخدمت في غير محله من خلال ضرب الشعب وكل صوت يختلف مع راي النظام، أو يطلب بحقوق الافراد، وما حملات الانفال والجينوسايد إلا نموذجا بسيطا من ممارسات ثقافة السلطة والنظام السياسي حتى سقوطها في (2003).

وهنا تكمن جوهرة الموضوع أي ما الذي يمكن ان نفعلة في العراق الجديد لغرض بناء الثقافة السياسية من جديد وتحرير العقول من المفاهيم الحدية التي يرفض كل من لا ينسجم مع رايه، واعتبار الراي المخالف جرما لا يغتفر، وكما يقولون إن عملية الهدم أسهل من عملية البناء لذا يتطلب إعادة بناء البنية الثقافية في العراق جهود مدروسة وميكانيزمات علمية وعملية تكفل تحرير الكلمة من المعتقل وتحرير العقول من الجمود وتنهض بالواقع الفكري العراقي بعد كل الحملات التشويهية التي استهدف العقل العراقي من قبل النظام البعثي الشمولي التي لم يترك وسيلة إلا واستخدمها في سبيل إخضاع الشعب وقتل أية بذور للتنوع والاختلاف رغم كون الاختلاف سنة الله في الحياة.

وهنا لابد من الإشارة إلى الوسائل التي يتم بها تغير القيم الثقافية السلبية والتخلص من الموروث الثقافي للنظام ألبعثي البائد ويتطلب الأمر عدة طرق منها:

تفعيل دور المؤسسات الأولية:- وذلك من خلال وضع برنامج تنموي للأسرة وتعويد الأسرة على قيم التسامح والراي المخالف وثقافة قبول الأخر من خلال إعداد الآباء والأمهات على حمل مسؤولياتهم في إعداد الأبناء ثقافيا واجتماعيا لكي يحول الاطفال من خلالهم القيم الثقافية الجيدة إلى المحيط التي يعيشون فيها، وخاصة المدرسة التي تعتبر المؤسسة الأولية الثانية في التأثير على التوجهات العامة للأفراد خاصة في المراحل الدراسية الاولى، وفي المدرسة يتم تحويل الافكار وتداولها بين الافراد بحيث تؤدي إلى صنع نوع معين من الثقافة السياسية لدى الافراد، وقد أشار المختصون في مجال علم الاجتماع السياسي إلى المراحل التي تمر بها حياة الطفل السياسي ومن ابرز العلماء(دايفيد أيستن ) الذي أشار إلى وجود ثلاثة مراحل أساسية في حياة الطفل السياسي كالتالي (مرحلة التسييس، مرحلة الشخصية، مرحلة تصوير وتكوين قيم وأفكار) ففي المرحلة الاولى - يشعر الطفل بوجود عالم سياسي ومواقع سياسية في محيطه الاجتماعية.

وفي المرحلة الثانية - حيث يدرك الطفل من خلال تعرفه لبعض الوجوه السياسية ويكونون بمثابة نقاط اتصال مع النظام.

     اما المرحلة الثالثة- ):- عندها تنظر الطفل للسلطة من خلال بعض وجهات النظر التي كونها عنها كأن تكون مقبولة لديه أو يرفضها شعورياً وتملكه بردود فعل معينة مرضية أو غير مرغوبة فيه.

تفعيل دور المؤسسات الأساسية: ويتم من خلال تفعيل دور الأعلام التي يعتبر محركة العصر في القرن الحالي، وبناء اعلام يكون قادرا على الضغط على الحكومة وعدم اتاحة المجال لها للخروج على السبيل الديمقراطي، وبذلك يكون الاعلام من وسيلة بأيدي النظام إلى وسيلة للتعبير عن احتياجات الشارع وهموم المواطن العراقي الذي دفع الكثير جراء الاعلام الهادف من قبل الفاشية البعثية وعنصريتها الهوجاء في ممارسة حرب الكل ضد الكل. ويتحقق ذلك من خلال التوسع في الإعلام الحر المستقل إضافة إلى وضع إلية لصيانة الصحافة من القمع والتهميش الحزبي والفكري التي تعيق حركتها وتجعلها أسيرة الواقع المفروض قسرا. ومن الامور التي على الإعلام تبنيها في العراق الجديد نشر ثقافة الحوار وقبول الأخر والتسامح الفكري والديني لكي يتم من خلالها بناء ثقافة سياسية جديدة للعراق. ومن ثم يأتي دور الأحزاب التي يمارسون نشاطاتهم بصورة واسعة حيث من خلال التنظيمات الحزبية الهادفة التي تهدف إلى زرع قيم الإنسانية والحوار بين مؤيديها والتخلص من مرض المصلحة الذاتية للحزب لان استقرار البلد ورفاهيتها الفكرية هي التي توفر الجو الملائم لعمل الأحزاب ونظرا لكون النسيج العراقي نسيج معقد وذات أطياف متنوعة لذا لابد من وجود إطار وطني يدور حولها نشاطات الأحزاب العراقية في نشر الوعي والثقافة السياسية لدى أفرادها.

والواقع العراقي اليوم لا يعبر فقط على لمشاكل الأمنية والاقتصادية رغم تاثيرهما الواضح وإنما هناك أزمة فكرية بنيوية داخل المجتمع نتيجة سنوات البؤس والحرمان من كل الحريات والقيم الإنسانية، وتكمن ألازمة في توجهات الافراد ورؤيتهم للقضايا التي يعانونها في حياتهم على كل المستويات، وان عملية البناء تحتاج إلى تغير الافكار السلبية التي تعيق حركة التغير الايجابي في المجتمع وان بناء دولة المؤسسات في العراق يحتاج إلى توفير بنية ثقافية يكفل نجاحها بحيث تقوم الدولة الجديدة على أساس سيادة القانون والمواطنة فنتيجة إدراك المواطنين لما لهم وما عليهم ينتج مجتمعا فعالا يضغط على الحكومة ويكون لدية راي عام منتج وفعال ويكون الحكومة خاضعة لمطالب الشعب في تحقيق الرفاهية على كل الأصعدة. وان أي تغير مرجو في العراق يتطلب تهيئة الاجواء المجتمعية لذلك التغير، لان التغير تبدأ من الافراد ومن ثم المجتمع والدولة.

تداخلات الثقافي والسياسي ودورالمثقف(8)

كيف يمكن استيضاح العلاقة المفاهيمية التي تربط بين الثقافة والسياسية.. وكيف يمكن إيجاد ضبط علمي وصفي لمفهوم "الثقافة السياسية" ومدى تأثيراته في مراحل وأحداث معينة؟

في بحث بعنوان: الثقافة السياسية ودورها في ظل الاستعمار الجديد على العالم العربي، تسعى الدكتورة بصيرة الداود الى استيضاح ومناقشة مفهوم "الثقافة السياسية" وتوضيح الدور الذي يفترض ان تؤديه في ظل الحالة التي تعيشها المنطقة ودور الثقافة السياسية في صراع الحضارات بالاضافة الى طرح وتوضيح آراء ومواقف لابرز المثقفين والمفكرين العرب على اختلاف تياراتهم رغم ما يعيشه المثقف من أزمة نتيجة تكشف المبادئ والنظريات في مواجهة الانهيارات والتحولات التي يشهدها العالم في الوقائع والأفكار أو في النظم والمؤسسات حتى أضحت سويولوجيا الاخفاق لدى المجتمعات العربية تعلن عن نهاية لأقسام من الثقافة أو نهاية لبعض وجهات النظر التي شاخت وبلغت مرحلة سلبها التاريخي.

هذا الواقع الذي تشخصه الباحثة بصنع المشكلة على طرفين واضحين: السياسي كما يقول بذلك الواقع والثقافي كما أوضحته الباحثة وهو ما يشير الى أن طرفي المفهوم يعيشان أزمة في الواقع ستنتقل حتما الى التحديد المفاهيمي للمصطلحين.

تشير الباحثة إلى عام 1956كبداية لما عرف بالاتجاه الثقافي في العلوم السياسية عبر عدة اصول لتصل الى أن مفهوم الثقافة السياسية مختصر يشير الى طائفة من القيم التي يتحرك النظام السياسي في إطارها وهو جزء من الثقافة الكلية للمجتمع بحيث تتأثر بالثقافة الأشمل لأنها تمثل الجانب السياسي فقط من ثقافة المجتمع وهي مؤثرة في شكل السلوك السياسي من جانب المواطنين تجاه السلطة السياسية أو من جانب أعضاء النظام السياسي تجاه المجتمع بأكمله وتشير الباحثة الى أن المثقف ليس بالضرورة أن يكون مهتما بالشأن السياسي الا أن الحاجة تبرز الى ذلك حين تواجه الأمة تحديات مصيرية تتطلب من المثقف أن يمارس دورا كبيرا من خلال تجنيد علمه وفكره ومعرفته لخدمة مصالح البلاد.

يتطرق البحث كذلك لدور الثقافة السياسية في صراع الحضارات وفي تناولها لحالة حركات الاسلام السياسي توضح الباحثة ان ابرز عوامل الجذب في هذه الحركات في ارتباطها بالسياسة وكونها تتحدث عن مطالب سياسية وترد على مطالب ذات طبيعة سياسية لتتوصل الى عدة نتائج من ابرزها:

أهمية دور المثقف في الراهن السياسي وان الثقافة الأكثر جدة وحداثة والأكثر فاعلية وصلاحية تثبت على مر التاريخ جدارتها وتفوقها على غيرها وأن ابرزها ما تتطلبه الفترة المعاصرة العودة القوية لدور المثقف والمفكر السياسي والثقافة حول السلطة ليعيد ممارسة دوره بشكل فعال يستند الى العودة لنقد الافكار وابداع الجديد.

وتشير الباحثة كذلك الى أن من أهم الركائز العلمية والثقافة والفكرية لتأسيس مشاريع حضارية اقامة قطيعة نقدية على جهتين: الأولى مع ايدلوجيات التحديث التغريبي والثانية مع خصوصيتنا الجامدة التي لا تزال تنظر الى الذات على أنها معطى متميز ومتفرد خارج التاريخ الكوني حتى أضحت تنفصل تدريجيا عن العلم ولم تعد تشكل منتجا لتفاعل تطوراته وهو ما يستوجب تأسيس فكر جديد يقوم على التوفيق بين خصوصياتنا وبين كل ما هو كوني.

لعل ابرز النقاط التي تسترعي الانتباه وتحصد حالة من الاختلاف حولها الموقف من حركات الاسلام السياسي وما اذا كانت منبتة عن اصولها التراثية والى أي درجات تتغذى هذه الحركات على معطيات تاريخية، والأخرى المتعلقة بالدعوة لالتفاف المثقف حول السلطة والتي ظلت تمثل احدى مظاهر الانتقاد من مختلف التيارات الثقافية إضافة إلى الجانب المتعلق باقامة قطيعة نقدية مع ما اطلقت عليه الباحثة ايدلوجيا التحديث التغريبي.

الثقافة السياسية والتطور الديمقراطي:

ضعف القيم الديمقراطية في بنية الثقافة السياسية للمصريين(9)

على الرغم من كثرة التعريفات النظرية المطروحة لمفهوم الثقافة السياسية إسوة بالعديد من مفاهيم علم السياسة الأخرى، فإن هناك شبه اتفاق بين أغلب المتخصصين في حقل السياسات المقارنة على أن المفهوم يشير بصفة عامة إلى مجموعة القيم والأفكار والمعتقدات والمعارف والاتجاهات السائدة لدى أفراد مجتمع ما عن شؤون السياسة والحكم. وفي ضوء ذلك فإن مكونات الثقافة السياسية تختلف من مجتمع إلى آخر لكونها وثيقة الارتباط بجملة من المحددات والعوامل الجغرافية والتاريخية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخاصة بكل مجتمع. كما أن الثقافة السياسية لمجتمع ما تتغير بدرجة أو بأخرى من مرحلة تاريخية إلى أخرى، وبخاصة في حال حدوث تحولات كبرى في طبيعة نظام الحكم، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، والأطر الثقافية والقيمية. أضف إلى ذلك أن الثقافة السياسية ليس بالضرورة أن تكون متجانسة بالنسبة إلى جميع أفراد المجتمع. فإلى جانب ما يمكن عدّه ثقافة سياسية عامة، أي سائدة لدى القطاع الأكبر من أفراد المجتمع، فإنه عادة ما تبرر ثقافات سياسية فرعية لبعض الفئات والتكوينات الاجتماعية. هذا وتنتقل قيم الثقافة السياسية من جيل إلى آخر من خلال عمليات التنشئة السياسية والاجتماعية التي تقوم بها أجهزة ومؤسسات عديدة كالأسرة والمدرسة والجامعة والنادي والحزب والنقابة ووسائل الإعلام ... إلخ. وتولي النظم السياسية، بمختلف أشكالها، اهتماماً بالثقافة السياسة لما لها من تأثيرات مهمة في مختلف جوانب الحياة السياسية، وبخاصة تلك المتعلقة بقضايا المساندة السياسية للنظام والشرعية السياسية والمشاركة السياسية ... إلخ.

وفي ضوء ذلك، فإن الديمقراطية ليست مجرد قوانين ومؤسسات سياسية وعمليات انتخابية وإجراءات مؤسسية لإدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع فحسب، ولكنها إضافة إلى كل ذلك هي مجموعة من القيم والمبادئ التي تعد بمثابة الإطار الثقافي للنظام الديمقراطي. أهم هذه القيم في: الاعتدال، والتسامح السياسي والفكري، والقبول بالتعددية في مجال الفكر والسياسة، والإيمان بالحوار كوسيلة للإقناع والاقتناع، وبالتنافس السلمي كوسيلة لكسب ثقة الناخبين من أجل الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها، مع تقبُّل الهزيمة في حال عدم الفوز. كما ان قيم الحرية والمساواة والمشاركة وسيادة القانون ... إلخ، تعد من المكونات الرئيسية للثقافة السياسية الديمقراطية. وتؤكد خبرات التطور السياسي للنظم السياسية المقارنة أنه لا يمكن إقامة نظام ديمقراطي حقيقي في مجتمع ما دون تأسيس وترسيخ قيم الديمقراطية في الثقافة السياسية لدى أفراد هذا المجتمع، الأمر الذي يجعل هذه القيم الأساس في إدارة العلاقات داخل مؤسسات المجتمع المختلفة وفي ما بينها من ناحية، ويجعلها العنصر الرئيسي في صياغة الرابطة المعنوية والعلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم من ناحية أخرى.

وفي خصوص موقع القيم الديمقراطية في بنية الثقافة السياسية المصرية، فقد خلص العديد من الدراسات الميدانية السابقة إلى أن تلك القيم لا تمثل مكوناً رئيسياً في بنية الثقافة السياسية لأغلبية المصريين، بل على العكس تشيع في صفوف تلك الأغلبية قيم السلبية والعزوف عن المشاركة، والشعور بعدم القدرة على التأثير في مجرى الأحداث والتطورات، وضعف روح المبادرة. فضلاً عن منظومة القيم المرتبطة بعبادة السلطة والشك فيها والتحايل على قراراتها والاستهانة بالمال العام...إلخ . ومن هذا المنطلق يمكن القول إن القيم الديمقراطية ليست محدداً لصياغة أنماط العلاقات والتفاعلات داخل مؤسسات المجتمع (الأسرة، المدرسة، الجامعة، النادي...الخ)، بل إن هذه المؤسسات ساهمت - وتساهم - بأوجه مختلفة في إعادة إنتاج القيم التسلطية في الثقافة السياسية على نحو ما سيأتي ذكره في ما بعد. كما أنها، أي القيم الديمقراطية لا تمثل محدداً لصياغة العلاقات داخل الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية الموجودة على الساحة السياسية من ناحية ولا العلاقات في ما بين تلك الأحزاب والتيارات من ناحية أخرى، حيث تنتشر في ما بينها نزعات التخندق السياسي والفكري، فضلاً عن تجاهل أسس وأخلاقيات الحوار السياسي، وهو الأمر الذي ساهم ضمن عوامل أخرى في خلق حالة من الاستقطاب داخل المجتمع، تميزت بتعدد محاورها واختلاف درجة حدتها من فترة زمنية إلى أخرى. وقد دار - ويدور - هذا الاستقطاب حول ثنائيات عديدة منها: العروبة والإسلام، الدين والدولة، الدينية والعلمانية، الاشتراكية والرأسمالية، الناصرية والساداتية ... الخ.

وهناك روافد عدة أدّت - وتؤدي - إلي عدم بروز قيم الديمقراطية في الثقافة السياسية للمصريين وإضفاء الطابع التسلطي على تلك الثقافة:

أولها، رافد جغرافي - تاريخي، يتمثل بالتراكم التاريخي لتقاليد مركزية السلطة والاستبداد السياسي. ويمكن تتبع جذور هذه الظاهرة منذ أيام الفراعنة. ولذلك أطلق عليها المفكر جمال حمدان مفهوم "الفرعونية السياسية". وثمة عوامل عدة أدّت إلى خلق هذه الظاهرة وترسيخها أهمها: الطبيعة النهرية للمجتمع المصري، وما استلزمه ذلك من ضرورة وجود سلطة مركزية قوية لإدارة شؤون النهر وشؤون البشر، أي تقوم باتخاذ الإجراءات والترتيبات اللازمة لضبط فيضان النهر من ناحية وتوزيع المياه من ناحية أخرى. فضلاً عن استمرار ظاهرة سيطرة الدولة على الأراضي الزراعية وغياب الملكية الفردية، وذلك حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الأمر الذي ساهم في تقوية سلطة الدولة وقبضتها المركزية. إضافة إلى ما سبق، فإن استمرارية تقاليد ممارسة السلطة المركزية (بأشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة) من قبل الحكام الذين تعاقبوا على حكم مصر منذ أيام الفراعنة حتى الوقت الراهن، وذلك باستثناء فترات محدودة تعرضت تلك السلطة فيها للضعف والتدهور في بعض المراحل التاريخية، إن استمرارية هذه التقاليد، جعلت من الدولة المركزية ذات السلطة القوية أحد الثوابت الرئيسية في حياة المصريين، ومن ثم أحد العناصر المحورية في ثقافتهم السياسية التي تنتقل عبر الأجيال.

وثانيها، رافد اجتماعي - ثقافي، وهو لا يمكن فهمه بمعزل عن الرافد التاريخي. ويتمثل بغلبة الطابع التسلطي على عملية التنشئة السياسية والاجتماعية للمصريين. فعمليات التربية والتنشئة المتواصلة التي يتعرض الفرد لها خلال مختلف مراحل حياته، والتي يقوم بها العديد من المؤسسات الاجتماعية والسياسية كالأسرة والمدرسة والجامعة والنادي والحزب والنقابة وأجهزة الإعلام ... إلخ، هذه العمليات تقوم على أسس تسلطية واستبدادية، تكرس لدى الفرد منذ سنواته الأولى قيم الطاعة والامتثال والخضوع وتلقي التوجيهات من أعلى والتسليم بها دون حوار أو مناقشة أو نقد. وهنا يمكن التطرق إلى أمور عديدة تتعلق بخصوصية بنية العائلة المصرية وانعكاساتها على عملية التنشئة السياسية للأطفال. وطبيعة النظام التعليمي والعملية التعليمية من حيث الشكل والمضمون وتأثيرات ذلك في غرس بعض القيم الديمقراطية لدى التلاميذ والطلاب وتدريبهم على المشاركة من خلال الحوار وإبداء الرأي في قاعات الدراسة. كما يتطرق البحث إلى دور أجهزة الإعلام في نشر وإشاعة الوعي السياسي والقيم الديمقراطية بين المواطنين. ونظراً إلى طول فترة التنشئة السياسية والاجتماعية التسلطية التي يتعرض لها الفرد (من الأسرة إلى المدرسة إلى الجامعة)، فإنه لا يُنتظر من أن يشارك في الحياة السياسية بفاعلية بعد كل ذلك، فهو لم يتعود المشاركة ولم يمارسها من قبل. وعلى هذا الأساس فإنه لا يمكن إنجاز تحول ديمقراطي حقيقي على الصعيد السياسي دون تعميق الديمقراطية على صعيد المجتمع بحيث تصبح نمطاً عاماً للحياة يشمل مختلف أشكال المؤسسات والعلاقات الاجتماعية في المجتمع. وتعد هذه العملية أحد المتطلبات الاجتماعية الرئيسية لتأسيس نظام سياسي ديمقراطي، إلا أن إنجازها يرتبط بشروط واعتبارات عديدة، سوف تشير الدراسة إلى بعضها في ما بعد.

وثالثها، رافد سياسي - مؤسسي، يتمثل بحرص النظم التي تعاقبت على حكم مصر في العصر الحديث، على تكريس مركزية السلطة وتحديث أطر وأساليب ممارسة "الفرعونية السياسية". ولذلك غابت قضية الديمقراطية، ولم يعد هناك مجال لظهور ثقافة سياسية ديمقراطية. وحتى مرحلة الديمقراطية البرلمانية التي عرفتها مصر خلال الفترة 1923 - 1952 كان قد شابها كثير من التناقضات والإختلالات الاقتصادية والاجتماعية التي حالت، إلى جانب عوامل أخرى، دون تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي. ناهيك عن الانتهاكات المستمرة التي لحقت بالقيم والقواعد الدستورية والقانونية سواء من قبل القصر أو الإنكليز أو الأحزاب السياسية. وهو الأمر الذي جعل تأثير هذه المرحلة في الثقافة السياسية للمصريين من منظار قيم الديمقراطية محدوداً وهامشياً. أما النظم التي جاءت إلى سدة السلطة في مرحلة ما بعد 1952، فقد اتسمت أساساً بالطابع السلطوي مع اختلاف في الدرجة. وقد تجلى ذلك على نحو واضح في تركيز السلطات، دستورياً وواقعياً، لمصلحة السلطة التنفيذية وبخاصة مؤسسة الرئاسة. وهو الأمر الذي أدّى إلى تكريس هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية.

وقد ارتبط بذلك وترتب عليه ضعف وهشاشة المؤسسات السياسية من ناحية، وغلبة الطابع البيروقراطي على العملية السياسية من ناحية ثانية، وسيطرة الدولة على مؤسسات وتنظيمات المجتمع من ناحية ثالثة. وقد استندت هذه الهيمنة إلى سياسات وإجراءات قمعية، فضلاً عن توظيف أجهزة الإعلام ومؤسسات التعليم والتنشئة من أجل تدعيم السلطة الحاكمة وتسويق خطابها السياسي، وتكريس قيم الطاعة والولاء والأبوية السياسية لدى المواطنين. لذلك فقد كان كل ما يعني السلطة الحاكمة من المواطنين خلال الخمسينات والستينات هو حشدهم خلف النظام وسياساته وقراراته دون أن يكون لهم أي دور يذكر في صنع تلك السياسات والقرارات. وتدريجاً أصبحت التعبئة السياسية بديلاً من المشاركة في الحياة السياسية على نحو إيجابي وفعال. وحتى حين شرع النظام السياسي في توسيع دائرة المشاركة السياسية منذ منتصف السبعينات، وذلك بالانتقال من صيغة التنظيم السياسي الواحد إلى صيغة التعددية الحزبية المقيدة، فقد حرص على إحاطة تلك التعددية بجملة من القيود السياسية والقانونية والإدارية التي فرغتها من مضمونها الحقيقي، بحيث أصبح التعدد الحزبي استمرارية لنظام الحزب الواحد، ولكن في صيغة الحزب المسيطر أو المهيمن وهو الحزب الوطني الديمقراطي.

................................................

المصادر/

1- إعداد: عبد الله الراشد/ شؤون سعودية      

2- موقع حركة فتح

3- قراءة : طارق ديلواني /  موقع الاسلام اليوم

4- أ‌. د. محمد زاهي بشير المغيربي/ ليبيا اليوم

5- منتديات رحال الثقافية

6- د.حازم نهار/ مركز دمشق لدراسات حقوق الانسان

7- زيرفان سليمان البرواري/ جريدة الافق الجديد

8- يحيى الأمير/ جريدة الرياض اليومية

9- مجلة أبعـــــــاد/ المركز اللبناني للدراسات

10- النقد الثقافي/تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية/ارثر ايزابرجر

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 19 تموز/2007 -4/رجب/1428