مصطلحات نسوية: الفانتازيا

الفانتازيا: Fantasy

شبكة النبأ: في السياق الأدبي الحديث يشير مصطلح "الفانتازيا" إلى نوع أدبي معين، وهو النوع الذي تقول عنه جوانا رس أنه "يخالف الواقعي ويخرقه... الفانتازيا هي ما لا يمكن أن يكون قد حدث في الماضي، أي ما لا يمكن أن يحدث أو يوجد". وقد لعبت الكاتبات دوراً هاماً في أدب الفانتازيا بدءاً من مؤلفات الروايات القوطية مثل كلارا ريف وآن رادكليف في القرن الثامن عشر إلى رواية فرانكنشتاين لماري شيلي (1818) التي تعتبر من أكثر نصوص الفانتازيا تأثيراً على الإطلاق. أما في القرن العشرين فقد استغلت الكاتبات النسويات إمكانيات التأمل التي تتميز بها الفانتازيا في نقد الواقع الذي يرينه واقعاً يسيطر عليه الرجل، ومحاولة طرح البدائل الممكنة له، فمثلاً نجد أن رواية ماري بيرسي "امرأة على حافة الزمن" (1976) تتخيل مستقبلاً تسوده المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، أما جوانا رس في "الرجل الأنثى" (1975) فتخلق عالماً يوتوبياً ليس فيه إلا النساء فقط.

ولما كانت الفانتازيا ترتبط باللاشعور والحلم والرغبة، فإنها يمكن أن تكون شكلاً أدبياً يقلب الموازين المعتادة ليبين ما خفي من كوامن النظام السائد، ومن الافتراضات الأساسية في المعالجة النسوية للفانتازيا أن عملية الكشف عن الجوانب الخفية في الواقع يمكن أن تتصدى للتعريفات الأبوية للواقع وأن تغيرها.

فانتازيا الواقع في واقعية فانتازية(1)

قراءة "نصية" في رواية : "كم بدت السماء قريبة" لبتول الخضيري:

منذ فترة لم أستمتع برواية بهذا القدر من المتعة/ وليس شرطاً بالطبع، أن تكون كل رواية (عظيمة) ممتعة. ولا كل رواية ممتعة عظيمة/ وترجع هذه المتعة، وربما، إلى جملة أسباب:

 أولها: أن الرواية ذات منحى سيري. والسيرة: مكان أو أمكنة، واجتماع وثقافة وصلات وجدانية…، واستعادة (الماضي) قد تكون مثيرة للمتلقي أكثر من الكاتب نفسه، خاصة إذا كان للمتلقي، صلة بالمكان والمناخ الروائي: الكاتب يسترجع ويكتب، لكن المتلقي يفاجأ وكأن كل ما يقدم يتلقاه أول مرة بعد أن نسيه، فالدهشة، إذن، من نصيب المتلقي لا الكاتب.

الثاني: هذه البلاغة الشعرية الجميلة في السرد والتصوير وإدارة الحوار وتداخل الخطابات والانتقال بينها بعفوية وسلاسة مما يؤكد مهارة تقنية عالية لدى الكاتبة، فضلاً عن تملك الكاتبة ثروة لغوية وخزيناً شعبياً ثراً، وقدرة مميزة في اختيار وانتقاء الألفاظ ووضعها في مكانها المناسب.

الثالث: أن الرواية تطرح موضوعاً ليس جديداً في الرواية العربية، لكنه تجربة ذاتية-أو هكذا يحسها القارئ، فيها قدر من الفرادة غير قليل.وأعني بالموضوع، تجربة معاناة الحياة في عالمين مختلفين، أو ما يسمى: لقاء أو صدام الحضارات: الشرق والغرب. أي بين أب شرقي وأم غربية، حيث دائماً صدمة اللقاء أو الصراع تقع في الطفلة: الطفلة من يتحمل كل ثقل هذا الصدام: الأب يريد شيئاً، والأم تريد شيئاً مختلفاً. وهكذا نجد الطفلة-والشابة فيما بعد- بين شد وجذب. بين مجموعة مختلفة متناقضة من الأوامر والنواهي لا تدري أيها تأخذ، وأيها تدع، ولا إلى أية "أخلاقية" تنتمي، أو يجب أن تنتمي: غريبة حيث تريد الأم الأجنبية (الإنكليزية). أم شرقية (عربية) بل (عراقية) حيث يريد الأب!

    وسبب رابع لهذا الاستمتاع، هو، أن الرواية هذه بقدر ما هي واقعية، رواية فانتازية، أعني تحويل الواقع إلى ضرب من الفانتازيا، أو هكذا يبدو. سواء كان ذلك في نمط المعيشة في (الزعفرانية) أو بغداد (الكرادة)، أو في مناخات الحرب (العراقية الإيرانية) أو مناخات لندن والتسكع في أحيائها وحارتها: كنسنغتون، سوهو، ميدان الطرف الأغر…الخ. وهكذا وصف الحرب-1991 عبر وسائل الإعلام الغربية، أو من خلال رسائل صديقتها "المدام".

    إن للروائية قدرة هائلة في الوصف والغوص إلى أعماق ودقائق الأشياء، سواء تفاصيل الحياة اليومية في العراق ولندن، أو ما يقع تحت بصرها، فضلاً عن قضايا أنطولوجية كعلاقة الفن بالحرب، والموت والحياة والحب، مما سنأتي عليه لاحقاً.

   وبناءً على ما تقدم تقص سيرة حياتها منذ أن كانت طفلة حتى سن الثلاثين.

(ثانياً): رواية حرب: حيث أن ثلثي زمن الرواية-وهو عمر البطلة-تستغرقه الحرب (حرب الخليج الأولى، حرب الخليج الثانية) وثم انعكاسات الحرب عليها) ذاتياً-عاطفياً-وعائلياً واجتماعياً.

(ثالثاً): رواية استشراقية: من حيث التقاء أو تنافر أو تصادم حضارتين: غربية وشرقية، ممثلاً هذا التصادم-كما قلنا-بالأم (الإنكليزية) والأب (العراقي). أما نقطة تصادم القطارين فهي: (الابنة-البطلة-الراوية). تقول مخاطبة والدها: "خلافكما أدى إلى اختلاطي بالعالمين، ماعدا البيت الذي كان في حد ذاته عالمين" (ص 13).

    أما من الناحية الفنية فيمكن وصف الرواية بأنها:

(أولاً): رواية أسطرة الواقع، أو الفانتازيا الواقعية، أو الواقعية السحرية-إذا شئنا استعارة المصطلح الذي اصبح خاصاً بالرواية الأمريكية اللاتينية.

(ثانياً): رواية التوازيات بمعنى أن البنية الروائية تقوم على أنساق الخطابات المتوازية-كما سنأتي لاحقاً.

(ثالثاً): رواية النهايات المفتوحة، أو النص المفتوح…فبقدر ما تبدو الرواية ذات بعد محلي، ذات بعد كوني، وبقدر ما تبدون الأشياء (السماء) قريبة، تبدون بعيدة. وبقدر ما يتموضع النص في حدود السيرة-المكان، ينفتح على الآخر والعالم، ويتواصل السرد عبر حركة الباص (ص27).

    وإذا لم تكون للكاتبة تجربة روائية سابقاً فإننا نفاجأ بروائية تولد روائية دون تمهيد مسبق وخرقاً للعادة، حيث العادة هي أن معظم المبدعين/شعراء وروائيين/يبدأون بأعمال يمكن وصفها بالابتدائية أو التمارين الأولية.

    أقول: روائية تولد روائية بكامل عدتها، مثل كائن يهبط من الفضاء، أو مثل شهاب يطلق نحو السماء، وسواء بدت السماء قريبة، أوبعيدة، فنحن ازاء روائية تمر من بوابة عشتار بكامل أناقتها!

    زمن الرواية: يستغرق زمن الرواية-إذا أخذنا بعمر البطلة/الرواية: (خريف آخر وعامي الثلاثون يوشك على الانتهاء) (ص 200) هو الزمن الذي يستغرق (30 عاماً) الأخيرة من تاريخ العراق (70-1999) السنوات العشر الأولى: (70-80) هي حصة الطفلة من المعاش في الريف أو شبه الريف (الزعفرانية)-جنوب بغداد-وربما بعضاً منه في بغداد-وفي جو من التناقض العائلي في تربيتها: أم أجنبية وأب عراقي. تقول الراوية مخاطبة والدها: (لم تتمكن أنت من منع أمي من إرسالي إلى تلك المدرسة، مدرسة الموسيقى والباليه)، وهي بالمقابل لم تفلح في إقناعك بعدم السماح لي بالنزول إلى المزرعة) (ص 13).

    في السنوات العشر الثانية تأخذ نصبيها  من تبعات الحرب (العراقية-الإيرانية) أو (حرب الخليج الأولى) كما اصطلح الغرب على تسميتها، ثم اتساع شقة الخلاف بين الزوجين-ووفاة الأب.

    أما السنوات العشر الأخيرة فتنتقل فيها مع والدتها المريضة بسرطان الثدي إلى لندن. لكن حرباً أخرى هي ما سمي بـ (حرب الخليج الثانية)-1991-تلقي بظلها عليها-ولو من بعيد-عبر وسائل الإعلام ورسائل صديقتها، ثم حرب أخرى، هي حرب أمها مع مرضها الذي يقضي عليها في النهاية.

    ومعلوم-هذا الزمن (عمر الثلاثين عاماً) الذي هو كما يصفه معظم الباحثين النفسيين والاجتماعيين..الخ بأنه مرحلة الطفولة والشباب-أشد سني الإنسان التصاقاً وتأثيراً فيه-ان لم نقل أنها هي التي تشكله في نهاية المطاف وهي المعين الذي يظل يعود ويمنح منه باستمرار. كما أنها-أي أحداث الثلاثين عاماً- هي ما شكل بنية الروايلة: انساقاً، وخطابات، وتضادات، وأفكار..الخ، كما ستلاحظ.

نظام التوازي: تقوم الرواية في بنيتها الأساس على نظام توازي المتضادات:

(أولاً): عالم الطفولة: الطفلة/ الرواية/ بنت البرجوازية// صديقتها الطفلة خدوجة بنت الفلاحين.

(ثانيا) عالم الريف (الزعفرانية) // عالم المدينة (بغداد).

(ثالثاً): عالم البياض: الأم البيضاء، وكل ما هو أبيض مثل الحليب والصودا وأزهار المشمش // العالم البني-التراب وكل ما هو هش كالفخار. تقول:

"الربيع في مزرعة المشمش، لولاه لكانت طفولتي مع خدوجة ترابية كلها..أكثر لون يحضر حين أذكرها هو لون التراب، مياه النهر الطينية، أوحال السواقي، بيوت اللبن المرقع بالقش..."تنور" الخبز. من طين ذي تدرج فهوائي باهت. أواني فخارية. "حب" الماء الطيني. ذرات التراب في كل مكان. هذا الغبار الذي يغطي عباءاتهم السود، ملاءاتهم، أثاثهم، أبقارهم، بل ووجوههم، كأنه سحر حيويتهم..كل شيء بلون التراب، حتى بشرتهم سمراء كالطين. ينتمي الجميع إلى العائلة البنية ذاتها. صبغة يتوارثونها بديمومة مثيرة." (ص 34-35).

(رابعاً): الخلق الفني: مدرسة الموسيقى والباليه + متحف الفنان سليم // حرب الخليج الأولى + موت الأب وعالمه مع العطور والمطيبات + تدمير النحات لمتحفه. يقول: (في الماضي، كنت أعرف في حياتي شعوراً يسمونه إشراقة الإبداع، أما الآن، فلا أجد غير دقائق انتعاش قصيرة في صراع مع الزمن يشبه صحوة الموت) (ص 146) + بداية صراع أمها مع المرض.

 

(خامساً): معاناة الأم لاستفحال مرض السرطان ثم موتها // حرب الخليج الثانية + فشل تجربة الحب مع "آرنو".

ولكن هذه العوالم والتوازيات المتضادة، لا تسير دائماً في خطوط مستقيمة، فغالباً ما يكون الخط منحنياً، فيتصادف أن يلتقي عالمان، حيث يشكلان عالماً ثالثاً-أي خليطاً من العالمين المتضادين في نفس الرواية. مثل: عالم طفولة الرواية الذي هو مزيج: غربي-شرقي. وكذلك  الأخلاقيات التي ورثتها أو أخذتها من الأبوين معاً. بمعنى أن اختلاطها بعالمين، مكنها من الاستفادة من فضائل –وربما من بعض سوءات-العالمين معاً!

الشخصية الرواية: رغم أن هناك شخصيات الأم، الأب، خدوجة، النحات، آرنو، المدام...إلا أننا يمكن أن نصف الرواية بأنها ذات الشخصية المركزية الواحدة: الرواية. وهذا يمنحها صفة الرواية السيرة من جهة، وصفة الحكاية من جهة ثانية. فالرواية هي التي تحكي حتى الحوارات التي تدور بين الشخصيات الأخرى، هي من يريها-باستثناء الرسائل التي تردها من بغداد.

    وبقدر ما تطبع مركزة الشخصية، الرواية بالذاتية: بعداً ورؤية وتحليلاً للوقائع والأحداث ومجريات حياتها وما يلابسها، لكنها من جهة أخرى، وبالقدرة الفائقة والمتميزة للرواية على تلوين السرد ومواصلته، أكسبت الرواية عنصر الموضوعية، والتشويق المهم بالنسبة للمتلقي من خلال أسطرة الواقع وإسباغ قدر كبير من الدهشة الشعرية في تصوير الأشياء وإحضارها. حتى أنني، وأنا من عاش الحربين (الخليج الأولى والثانية) بكل تفاصيلها ودقائقها اليومية، وما تزال حية في الذاكرة، أكاد أحسها وكأنها حدثت في عالم آخر. خذ-مثلاً-هذه الأوصاف التي تلتقطها من وسائل الإعلام:

v  "كانت خارطة العراق تحت القصف النار تشبه شجرة عيد ميلاد مضاءة" (ص 160).

v  أو ما أطلق عليه بـ (القصف السجادي): "ترسل تلك الحيتان العسكرية لتفتح أسفل بطنها في الهواء، فتسقط متفجرات تدمر أكبر مساحة ممكنة من ساحة العمليات، كأنها تتعاون على فرض سجادة قاتلة" (ص 161).

أو: "الجحيم علبة انفتح غطاؤها".

إن للروائية-بتول الخضيري-حساً وذاكرة عجيبة بالمكان، لا من حيث هو طوبغرافيا، بل من حيث هو طوبولوجيا بالدرجة الأولى. وليس من جانب إحساسها هي بالمكان حسب، بل وإحساس الآخرين به، حيث تلتقط هذا الإحساس وتقدمه كما لو كان إحساسها هي. وبالإضافة إلى ما مر ذكره عن لون التراب والبنية البنية لعائلة خدوجة، نلاحظ هذا الإحساس بالمكان من خلال أغاني الطفولة والمعتقدات الشعبية وغيرها، مثلاً:

         § تخاطب الأب والأم وعن نفسها: (لم تنته من قصة إيقادك إصبع بخور كل جمعة. وإشعالها شمعة كل يوم أحد. تدخن هي قبل الفطور، ولا تغسل أسنانها إلا بعده. أما أنت فتفضل مضغ علكة…أنا ألم النبق في دشداشتي، ثم أجلس تحت الشجرة أكله بمفردي).

         § وتقول: (سحر الشط يجرنا إليه رغماً عنا. حتى اضطروا إلى إخافتنا بأسطورة "السعلوة" التي تخرج من الماء لتبتلع الأطفال. تخيلت هذه "السعلوة" الخرافية بثدي واحد يتوسط صدرها. لم أضع ملامح أخرى لها في كوابيسي غير ذلك الثدي). (ص 33).

         § وهذا الوصف الدقيق المعبر لبيوت أهل خدوجة: (المنظر الخارجي لتلك الكتل الطينية الثلاث المركونة عند حافة النهر، يوحي بهياكل منسية قد تشعر الرائي من بعيد بإحساس الـ "لا شيء". لكنها كانت لي كل شيء. كنت أرقبهم..يبنونها بعلب السمن الفارغة. يصفونها طابوقاً من معدن، يحشون الفراغات باللبن والطين، ثم يسدون الفجوات والزوايا بأنواع مختلفة من علب الحليب الجاف وقناني قديمة وقطع حديد مستهلكة، عندما تسقط سهواً لطخة طين عن الجدار، تظهر كلمة "نيدو" أو وجه فتاة علبة "زيت البنت")( ص23).

الفنان الموهوب ليس هو من يتناول الأشياء المألوفة التي يراها كل أحد، ويقدمها كما يراها كل أحد. بل هو من يتناول الأشياء المألوفة، والتي قلما ينتبه لها كل أحد، ويقدمها كما لو كانت غير مألوفة ويراها الناس لأول مرة.

     والروائية الخضيري-لم تقدم غريباً غير مألوف، سواء ما يتصل بمرحلة الطفولة في الريف (الزعفرانية)، أو الانتقال إلى البيت الجديد في بغداد: (..في الرصافة، في المدخل السابع من شارع العطار، باتجاه محطة تعبئة نفط أبو قلام)!. أو تداعيات الحرب في العراق، أو بعد انتقالها إلى لندن وعلاقتها مع صديقها آرنو…والمشاكل بين الأبوين من ثقافتين مختلفتين..الخ. لا شيء غير مألوف، أو غير معروف، لكن الكاتبة تلتقط من هذه الأشياء المألوفة، ماهو، غالباً، غير مثير للانتباه، وتمرره أمام أبصارنا-كقراء-مثل شريط عجائبي وبإيقاع سريع. ومن هنا فإنها غالباً ما تترك الأشياء تفصح عن أفكارها، متحاشية، أي الرواية-أن تتخذ موقع الواعظ أو الفيلسوف.

     ومن هنا، أيضاً، نرى أن شعرية الرواية تتجلى في العناية بهذه الأشياء اليومية والتي نادراً ما تثير عناية أو انتباه أحد لشدة ألفتها، لكنها عبر السرد ومن خلال بدائع الوصف وتشكيل الصور، تفجر فيها شعرية اللامألوف.

    خذ مثلاً هذا الوصف الشعري لمقهى ورواده في أحد أحياء لندن: "ثمة مقهى يلتقي فيه الشباب الأجانب من كل بلد، طراز، لهجة، لون، مستوى ثقافي، مادي، ديني، حتى أطلق على المنطقة "حي السحالي" لشدة زحمتها، وخاصة عندما تطل شمس لندن البخيلة بين أسبوع وآخر فقط، يخيل إلي أن كل شخصين يشتركان في ظل واحد على الأرض يتبعها في مشيتهما"

وهكذا وصف شباب هذا الحي:

"صوت قبلة جعلني ألتفت. الشباب يتمشون وبعضهم يقبل بعضهم الآخر في الشارع. أزواج سك تعلقت ببعضها من أفواهها. الأفارقة يجرون خلفهم مؤخراتهم المشدودة بإيقاع خفي. الفرنسيون يتناولون جبنة من حليب الضفادع بكل أناقة وحداثة. طالب من أب أندنوسي وأم نرويجية، يرتدي عقداً من جماجم صفر بحجم الأظفر، يغازل ألمانية فستانها بجمال ذنب طاووس وصوتها بقبحه" (ص 154).

  ويمكن ملاحظة الإيقاع السريع للسرد وكأن الرواية في عجلة من أمر تدوين ما تريد خشية فقدانه أو ضياعه في زحمة الأحداث والألوان وغياهب الذاكرة.

  وفي ضوء ما تقدم-وما يلي- يمكن القول من الناحية اللغوية والتصويرية، أن الرواية كتبت بنفس شعري لا مثيل له إلا في النادر من الروايات العربية المعاصرة، على مستوى الوصف والعناية بالأشياء وتفاصيلها الصغيرة، واستثمار مخزون الذاكرة من أغان ومعتقدات شعبية…الخ. خذ مثلاً-هذا الوصف لحركة الأيدي وتعبيراتها في متحف النحات:

"…تزحف أيد مصنعة من جبس أبيض، بعضها مغطى بتراب السكون. يدان تتصافحان. يد متمرة وأخرى مسترخية. يد ترفع إشارة النصر، أخرى تنزف. الثالثة تتسول. يد تتضرع، يد على شكل قبضة غامضة، يد تفكر، أخرى تلعب، يد تعبت من الانتظار. قطعة ورق مكتوب عليها "دراسات" بجانبها يد تفيض حنانا" (ص 121).

أو وصفها لأحد التماثيل:

"جذبني ثانية التمثال الخشبي فاقد هوية الرجولة والأنوثة أو ربما جامع الاثنتين معاً" (125).

    وهذا الوصف الكاريكاتوري لأحدهم معاً يذكرنا برسالة التربيع والتدوير للجاحظ:

"إنسان مربع بدون محيط. ليس له طول ولا عرض، مساحة من هلام. تسترخي طيات جسمه بكسل، الواحدة فوق الأخرى، كأنها مدرجات تشكل من الأعلى رقبة بدون أبعاد" (182-183).

    ثم هذه المطابقات عن الساعات الأخيرة من بدء عدوان التحالف على العراق-1991-:

"خط النهاية هو منتصف الليل بتوقيت أمريكا، الساعة الخامسة فجراً بتوقيت أنكلترا. الساعة الثامنة صباحاً بتوقيت العراق. الأميركان يربطون شرائط صفراً حول أشجار البلوط شارة تمنى عودة أولادهم من المحنة المتوقعة. العراقيون يربطون شرائط خضراً على شباك الحسين يستدعون الحفظ من رب العالمين. تقوم في أبرد شهر، أبرد حرب في تاريخ العصر" (158).

    هذا فضلاً عن استدخال بعض أغاني الحرب العراقية-الإيرانية المشهورة، مثل: (إحنا مشينا، مشينا للحرب..) ومثل: (أنا أمك، كانت لي الكاع، وأنت وليدي..)..الخ (91).

    وفي الختام أود أن أشير إلى قضايا أثارتها الرواية، ولا أجد من المناسب تجاوزها. ولم أجد فرصة للتعرض لها فيما تقدم:

    أولاً: لم تكن الصدمة الحضارية-إن جاز القول-التي تلقتها الروائية وهي طفلة باختلاط عالمي الأم والأب، هي الوحيدة. بل تلقت، وهي شابة، الصدمة الثانية في علاقتها مع (آرنو) التي دفعت ثمنها، إجهاضاً لحملها. مؤكدة على أن المشكلة، أو سوء الفهم، في هذه العلاقة، يرجع إلى: "اختلاف نوع مشاكلنا) (198).

وبالتالي فإن اللقاء كان لقاء أغراب، وهكذا الافتراق، افتراق أغراب! (ص 198) وكأنها تؤكد المقولة: الشرق شرق والغرب غرب مهما امتدا لا يلتقيان، على أن البشاعة في هذه المسألة الأخلاقية تتمثل في قولها وهي تغادر المقهى، وتقصد آرنو: (تركت خلفي في المقهى سحلية أخذت تتقمص دور الخنزير) (ص 198).

    ثانياً: وفي هذا الإطار، أي عندما يبلغ الإحساس بالاغتراب مداه، يفقد الإنسان إحساسه بالانتماء لأي شيء، إلا إلى ظله جسده الذي يرافقه ما دام حياً-كما تقول الأم. الأم التي كانت شديدة التشبث بأن تربي ابنتها حسب أخلاقيات الغريبة. لكنها تفقد تحت وطأة المرض والشعور بالإخفاق الكامل لحياتها، والشعور بالإثم أيضاً، بعد أن (تركت الرب في كنيسة صغيرة في أطراف لندن) والتحقت بزوجها في الشرق. هذه الأم تفقد كل إحساسها بالانتماء لأي شيء سوى ظل جسدها تقول مخاطبة ابنتها:

"لم أعد أنتمي إلى هنا. عندما غادرت إنجلترا حينها قررت أن أحاول الانتماء إلى الشرق. لكن لم أنجح في انتمائي إلى الشرق رغم كل محاولاتي. الآن وقد عدت ثاني، أجدني لا أستطيع الانتماء من جديد إلى موطني الأصلي، كل شيء مختلف" (ص 166-167).

    وقالت مضيفة، بابتسامة عزاء يائسة:

"إنها فكرة بلهاء، قضية الانتماء، فنحن لا تنمي إلا لظل أجسادنا التي ترافقنا، ما دمنا أحياء" (167).

    ثالثاً: تقيم الكاتبة-كما قلنا-توازياً بين عملية الخلق الفني وعملية الهدم (الحرب). ومن خلال تجربتها في مدرسة الموسيقى والباليه، وثقافتها في الفن التشكيلي وتعرفها على الفنان النحات سليم…تجد نفسها في (مفترق خيالات). أي في وضع يشبه ذاك التمثال الخشبي فاقد الرجولة والأنوثة، أو ربما جامع الاثنتين معاً. بمعنى: لماذا نخلق ولما نموت؟ لماذا يجتمع فينا الخلق والموت في آن واحد؟ لماذا نخلق ثم ندمر ما خلقناه؟ ولماذا-بالنهاية-نسلم أنفسنا إلى الخدع في أننا سوف نستعيد زمناً أحرقته الحرب؟

    ذاك ما عبر عنه النحات سليم بقوله. (هذه الحرب جعلتني أفكر لماذا أنحت؟ لم أعد أسأل لماذا نعيش ولماذا نموت. هذا النوع من التساؤلات يرافق سنوات الحرب الأولى فقط، فبعد أن أفقنا من الصدمة، تبلور اليقين بأنها عجلة من نار لا مفر منها، والآن أجدني أبحث عن خدعتي. هل أستطيع أن أفلت بنحتي؟!. (ص 134)

    ثم يضيف قائلاً جواباً عن سؤالها: هل ستفلت بنحتك؟

    يقول: (لا أعلم لماذا أنحت. ألكي أخلق بيدي نماذج حياتية، حتى لو كانت جامدة، لكنها من صنعي أنا؟ ألأنها أشياء تشعرني بأنني أملكها. لأن عيني فقط هي القادرة على رؤيتها عندما يكون الطين كتلة صماء، فأزيح عنها الزوائد لتستحيل امرأة أحلامي مثلاً؟! همل هي لعبة خلق، أم تملك، أم هروب؟ أم لعبة أنانية مع الذات ليس إلا؟ كل هذه الأسئلة تزيد الدوامة القادمة تعقيداً؟! (ص 135).

    لكن هذه الدوامة تقوده في الآخر إلى تحطيم كل شيء: (نصف تماثيله تحطمت تحت مطرقته..) هكذا هي الحرب: قال: (-في الماضي كنت أعرف في حياتي شعوراً يسمونه إشراقة الإبداع. أما الآن، فلا أجد غير دقائق انتعاش قصيرة في صراع مع الزمن يشبه صحوة الموت) (146).

    وأخيراً، ورغم كل شيء، نقوم كما قالت الحكماء-حكماء الشعر وبالبلاغة وحسن الأداء- ليس المهم ما تقول، بل كيف تقول. ورحم الله الجاحظ أيام قال: المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والقروي والبدوي، وإنما الشأن في جودة اللفظ وصفاته وحسنه وبهائه وفي صحة السبك التركيب…الخ، أي كيف تجعل من الأشياء التي يعرفها العجمي والقروي والبدوي، جديدة، مدهشة وكأنه يراها لأول مرة. وذاك ما وجدناه في هذه الرواية الجميلة.

الرحّالة العربيّ بوصفه شاعراً

الفنتازيا في خطاب الرحالة العرب(2)

لن نقول جديداً إذا قلنا بأن أدب الرحلة في الثقافة العربية الإسلامية يقدِّم، في الغالب، وصفاً موضوعياً لمجموعة من المعطيات الجغرافية والإثنية والمعمارية واللغوية لتلك البلدان والمدن التي جال بها الرحالة العرب

إن درجة الموضوعية تظل في حالات كثيرة موضع تساؤل مشروع طالما أن الأمر يتعلق بمستوى المعرفة العامة السائدة في حقبة محددة من التاريخ. ثمة إذن (نسبية معرفية) إذا صح التعبير يجب وضعها في الاعتبار عند قراءة أدب الرحلة العربي

كما ثمة نسبية مماثلة (قيمية) و(أخلاقية) في توصيف الرحالة لسكان لا ينحدرون من ذات التقاليد الثقافية والأخلاقية لتقاليد ومعايير الرحالة. ففي وصفه لسكان إحدى الجزر الآسيوية المسلمة يندهش ابن بطوطة أشد الاندهاش من طريقة النساء المسلمات هناك في اللبس. إنه يعتبر الزي الذي اعتاد عليه معياراً نهائياً ومطلقاً لطريقة اللباس في العالم كله. وهو أمر ما زال يفعله الكثير من البشر في العالم، مشرقاً ومغرباً حتى يومنا هذا. سوى أننا نلاحظ أن هذا التقييم الأخلاقي قد تشذَّب وتحسَّن كثيراً لدى الرحالة مقارنة بتقييم مجايليه ممن لم يحتكوا البتة، أو قليلاً، بشعوب أخرى. تدلُّ هذه النقطة على أن وعي الرحالة العرب كان يتجاوز المعطيات القيمية المستقرة في ثقافته العربية الإسلامية بحيث أنه لم يعد يعاني من أي ضيق أفق، وأنه قد طوَّر انفتاحاً معقولاً على (الآخر). انفتاحٌ لم يكن سمة من سمات القرون الخوالي. هذا الانفتاح، بل هذا الاكتشاف لفكرة وجود (آخر) مغاير يتوجب قبوله، هي واحدة من الأفكار الأكثر جدة في تاريخ البشرية

كان الرحالة يقوم بنوعٍ من دور المستشرق ولكن من وجهة نظر معاكسة. ومثل مستشرق بداية القرن العشرين فليست المعرفة الموضوعية لوحدها ما كان يقوم في صلب انشغاله، لأن هناك شيئاً، قل أو كثر، من الفنتازيا، من المخيال، من الإسقاط الثقافي على حقل آخر، كما شيئاً من التعالي ومن الحلم الشعري الرومانسي في حالات أخرى من الاستشراق. إننا نعلم أن هناك الكثير من المشاريع الاستشراقية التي لم تكن تنتوي فحسب الاكتفاء بوصف ذي غايات مغرضة للعالم

العربي، وأنها كانت تتضمن هياماً رومانسياً بالشرق لا علاقة له بالضرورة بالنزعة استعمارية

إن هياماً حالماً مماثلاً كان يقع كذلك في عمل الرحالة العربي. فمن جهة لا نظن أن الدوافع والمحركات الأساسية للقيام برحلات كبرى مثل التي قام بها ابن بطوطة وابن جبير كانت فحسب استكشاف جغرافيا العالم وثقافاته القديمة، كما لم تكن تنطلق من دعوات تبشيرية ممولة من طرف حكومي، ولم تكن حتى تنطلق من وازع تديّن شخصيّ. لقد كانت تتضمن توقاً فردياً للانعتاق وجموحاً داخلياً عند الرحالة في جوبان الآفاق أكثر مما كان يوجد سبب وظيفي مباشر، إلا إذا اعتبرنا فريضتي الحج والعمرة، اللتين انطلقت غالباً بسببهما الرحلة، دافعاً وظيفياً

يقوم الرحالة العربي بسفرته منطلقاً من ضرورة ملحاحة في (ارتياد المجاهيل)، وهذه العبارة ذات دلالة كبيرة في السياق الحالي لأنها تبين أن المجهول هو أحد الأهداف المباشرة لعمل الرحالة. ارتياد المجاهيل و(معاينتها) لكي: "يتثقف به رأي من عجز عن سياحة الأرض" على ما يقول أبو دُلف في مقدمة رحلته. المجهول هو صيغة شعرية عن جدارة لأنه ينسجم ويتطابق مع بحث الشاعر في ملامسة الغامض في المكان كما في الخروج من الزمان عبر الحلم والحدس وجميع الكشوفات الروحانية الأخرى. تتضمن الرحلة كشفاً من نمط آخر، وليس المعرفة لوحدها، كشفاً شعرياً لأنها تتضمن بشكل أساسي

"نزهةَ الخواطر وبهجةَ المسامع والنواظر من كل غريبة أفاد (الرحالة) باجتلائها، وعجيبة أطـْرَفَ بانتحائها" كما يذكر ابن جُزّي الذي دوَّن رحلة ابن بطوطة

ليس الرحالة العربي مجرد رجل (يرحل)، ليس (راحلاً) أبدياً إنما تخفي صيغة التشديد (فـعـَّالة- رحَّـالة) برنامجاً أبعد من فكرة السفر السعيد، البعيد. ومثل (البحَّاثة) الذي هو ليس مجرد (باحث)، لأنه متعمق تعمقا شديداً بدقائق موضوع البحث، فإن (الرحّالة) متوغلٌ بشكلٍ وجودي بدقائق موضوع السفر، كأن الصيغة تعادل، مفهومياً، فكرة المغامر والمُسْتكشِف الجريء الذي يخوض الأهوال من أجل متعة الكشف الكبرى رغم ما قد تنطوي عليه من معارف جغرافية وبشرية وتاريخية جمة. تلامس المغامرة المحفوفة بالأهوال والمعارف، بدورها، مغامرة الشعر في ارتياد مجاهيل الكائن والكينونة كلٌّ من الشاعر والرحّالة يكتبان نصاً مشدوداً إلى الغرابة، إلى غير المعروف، إلى الغامض، إلى الذات في اصطداماتها المستمرة بالآخر، وإلى تشذيب معرفة الذات عبر احتكاكها بجسدٍ غير مماثِل ولا متناظِر. نصّاهما يتدفقان بالمفاجآت والحكايات الساحرة والمناخات العجيبة. وإذا ما اختلفت أدوات كتابة ذينيك النصين، نثراً وشعراً، فإنهما يلتقيان، من الداخل، في التوق إلى نقل طقس روحي خاص ووصف كينونةٍ مغايرة لدى الاثنين مدى شاسع يتوجب اختراقه، كلٌ بأدواته الخاصة. مدى أرضي، حسيٍ منطوٍ على مفاجآت متوالدة الواحدة من قلب الأخرى. إنهما يقلبان الآفاق: الشاعر حالماً حاذقاً مسحوراً بالأماكن، والرحالة مُسَرْنـَماً وصَّافاً للأماكن، الأول مأخوذٌ بحدوسات تقوده إلى يقين مترجرج، والثاني أرضيٌّ مسكون بفكرة الاكتشاف الذي سيقود إلى يقين معرفي. المعرفة هدفهما بوسائل ومناهج بحث تليق بطبيعة انشغالهما. الشاعر تشغله اللغة المنطوية على الفكر والرحالة الكشف المنطوي على التفكـُّر(المعمورة) برمتها حقل اختبارهما لفرق بين نصيهما يقع في طريقة الوصف، ففي حين ينحني الشاعر على تقديم أشياء المعمورة المحسوسة بصيغ استعارية، مُقَارِباً الملموس باللا محسوس، محاوِلاً الاقتراب من جوهر المعمورة، من العمق العميق للعالم، ومن معنى العالم بالنسبة للبصيرة، فإن وصف الرحالة يتبقى في إطار لغة معقولة منذ البداية، لغة سردية مهمومة بالموضوعي المحسوس والمعنى العقلاني، وبتقديم المشهد كما يراه البصر قبل أن تتدخل البصيرة في تأويله. نص الشاعر، إزاء نص قرينه الرحالة، هو توصيفٌ للداخلي الـمُثار بالمشهد المرئي، في حين أن متن الرحالة هو تقريرٌ لأوصاف الخارجي المبحوث عنه بشدة، المشدودة الرحال إليه، الخارجيُّ المقصود قصداً من أماكن نائية. هذا الفارق يمسُّ فكرة (الخيال) نفسها المعتملة في عملي الرجلين كليهما. فكلاهما يمتلك، في حقيقة الأمر، مخيالاً خصباً مُثاراً بالوقائع العيانية ومُسْتَفَزَّاً بمرأى المرئي. وإذن فان الفكرة الجوهرية لهذا المفتتح هي التالية: أن الشاعر والرحّالة المدفوعين بضرورات، خارجية وداخلية، قاهرة نحو كشف معرفي ما، يمتلكان مشتركاً ذا وسائل متباينة ألا وهو امتلاك (مخيلة) خصبة وحادة ونفَّاذة.

وإذا ما كانت (الاستعارة) ونتاجها المباشر الصورة الشعرية الأداتين الرئيسيتين اللتين نرى عبرهما كيف تشتغل (مخيلة) الشاعر، فإن (التخيُّل) ليس بعيدا أبداً عن عمل الرحّالة العربي بل يقع في صلبه. لا نمنح التخيُّل هنا بعْداً تعميمياً عريضاً، ولا نعني به البتّة تلك القدرة الموضوعية على تخيل المسافات، تقديرها وتقريبها، ولا نريد منه القدرة على التوقُّع والاستنتاج الحدسي بأدلة طفيفة وبظروف قاسية، بل نريد منه تلك العملية الاستعارية ذاتها والمجازية نفسها التي تتطابق، قليلاً أو كثيراً، مع استعارة الشاعر الذي يكتب قصيدة

نقول أن الرحالة كان رجلاً يحلم كذلك، ويلقي نصه ببلاغات واستعارات وخيالات كاملة، خاصة في أوائل الرحلات العربية المعروفة. لا يتوانى ابن فضلان (سنة 921م) عن أن يرى التالي.

"رأيتُ أفق السماء وقد احمرت احمراراً شديداً..فإذا غيم أحمر مثل النار قريب مني، وإذا تلك الهمهمة والأصوات منه، وإذا فيه أمثال الناس والدواب، وإذا في أيدي الأشباح التي فيه، تشبه الناس رماحٌ وسيوفٌ أتبينها وأتخيلها، وإذا قطعة أخرى مثلها أرى فيها أيضاً رجالاً ودواباً وسلاحاً، فأقبلتْ هذه القطعة تحمل على هذه كما تحمل الكتيبة على الكتيبة، ففزعنا من ذلك"

هذا الإسقاط الفنتازي يماثل بعض آليات التخيل الذي يُثار لدى الشعراء والرسامين وهم يستنبطون من الخربشات العشوائية وبقع الرطوبة على الحيطان والظلال الواقعة على الكتل الناتئة مادة لمخيلتهم ويرون (صوراً) لا علاقة لها البتة بالمرئي الموضوعي

لا يمكن أن يُقرأ نص ابن فضلان هذا إلا بقدرة (المخيال) على الاشتغال في عمل الرحالة الذي يطلق العنان لمخيلته، وهو يرى جغرافياً مختلفةً عن ما اعتاد عليه، مستحضراً، ربما بشكل لا شعوري، واقعه السابق المألوف.

في فقرة أخرى لابن فضلان نفسه نقع على وصفه التالي لشدة البرد وكثافة الصقيع:

"فإذا دخلت إلى البيت نظرتُ إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج حتى كنتُ أدنيها من النار"

مرة أخرى يتباعد المشهد الموضوعي عن موضوعيته ويقفز إلى حقل شعري يتوسل بالخيال لكي يقول وطأة الحالة الموصوفة. لا تعاود هذه الكتابة وصف الواقع بقدر ما تقول فنتازيا حادة عن الواقع

الفنتازيا عينها سنلتقيها في رحلة أبي دلف وفيها يصف هذه البركة:

"وهناك قرية تعرف بقرية الجمالين فيها عين تنبع دماً لا يشك فيه لأنه جامع لأوصاف الدم كلها". ونقرأ له كذلك عن ماء أصفهان: "ولمائها خاصية في إظهار البغاء والأبنة قل من يسلم من ذلك إلا من أقل شراب الماء بها"

هل كان أبو دلف يعني ما يقول؟ أم أنه كان في سياق فنتازيا محمومة صورت له المشهد الموضوعي على هذه الشاكلة، وهل كان، مثله مثل الشاعر، مقتنعاً (برؤياه) إلى درجة اليقين التام؟

كان في الغالب الأعم مقتنعاً برؤيته ورؤياه، خاصة وأنه لم يكن بدعاً في تراث الجغرافيا والرحلة العربيين اللتين شهدتا، على مستويات أخرى، قناعات فنتازية لم تكن تتابع، وبشكل متناقض، المعلومة المعرفية والمختبرية السائدة في زمانها نفسه. فالمسعودي لم يكن يتواني عن رؤية تمثال أبي الهول كطلسم لدرء الرمل عن مصر بينما كان العقلاني ابن خلدون يؤمن أن الطلاسم والحجابات السحرية يمكن أن تؤدي إلى نتائج في تغيير مجرى الأحداث والمشاعر والتواريخ. ناهيك عن قناعات مؤلفينا القدامى بوجود (مدينة النحاس) وتعليقاتهم الوفيرة عنها. لكن لنبقَ في سياق الرحلة والرحالة، ولنر كيف أن الفنتازيا لدى الرحالة تتدخل، مرات، في ما يُفترض وصفاً محايداً للمكان وللشعوب. ولنرَ أن هذه الفنتازيا ذات طبيعة شعرية قبل أن تكون هذيانات مجانية علينا أن نقرر قبل كل شيء أننا نتحصل على متعة فائقة عند قراءة أعمال الرحالة العرب والمسلمين. متعة قادمة بالضبط من اختلاط الموضوعي بالذاتي وبشكل شعري. هذا الاختلاط هو واحد من أعمال (الشعرية) في ظننا

وفي الغالب فإن متعة من ذاك القبيل كانت تعتمل في قلوب الرحالة هم أنفسهم عند إقدامهم على كتابة نصوصهم وفي أثناء تجوالاتهم قبل ذلك بسبب المتعة العالية المستحصلة من العالم الجديد أمام ناظري الرحالة، فإن اختلاط الذاتي بالموضوعي يقود إلى إضفاء سمات وعلائم على الواقع ليست من طبيعته وإنما من طبيعة المتعة ذاتها. إننا نعرف أن الكذابين يمتلكون مقدرة معتبرة على التخيُّل وإننا نعرف الآن أن الرحالة، من دون أن يكونوا كذابين بالضرورة، كانوا يمتلكون المقدرة ذاتها. كلاهما مأخوذان بمتعة السرد التي توقظ في أذهان مستمعيهم وقرائهم مواطن سرية فريدة النوع، مواطن تلامس عرضاً المتخيَّل.

كان بإمكان منطق رحلة طويلة تجوب عوالم نائية ليست البتة في متناول أيٍ من الشعوب القديمة، أن يؤدي إلى الاختلاط الموصوف، خاصة وأن الرحالة كان غالباً رجلاً فلنقل عادياً، بمعنى أنه لم يكن رجلَ علمٍ يتنقل من أجل هدفٍ علمي، محض جغرافي، مثل الأدريس الذي أرسله ملك صقيلية لتقصي أنواع النباتات في المعمورة المعروفة يومها.

ففي شذرات رجال العلم والمعرفة جوّاببي الآفاق مثل العظيم المقدسي، لا نكاد نعثر في أي مكان من كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) على استعارة أو مخيال أو مجازٍ أو فنتازيا. على العكس فإننا إزاء وصف صارم لكن غير متجهم البتة، معرفي، عارف ويكاد يكون طليعةً حقيقيةً لعلم الأنثروبولوجيا المعاصر. كان المقدسي منتبهاً إلى اختلاف اللهجات واللغات والمكاييل والأعراف بل طرق البناء في أماكن مختلفة من العالم القديم. لا نقاوم أنفسنا بالاستشهاد بنص دالٍ له سبق لنا الاستشهاد به في مقالة أخرى وفيه يقول بأنه قد جاب

"المفاوز والبحار والمدن المذكورة والطرق المستعملة وعناصر العقاقير والآلات ومعادن الحمل والتجارات والمكاييل والأوزان والنقود والصروف وصفة الطعام والشراب والثمار والمياه والمفاخر والعيوب ومواضع الأخطار في المفازات والسعة والخصب والمشاهد والمراصد والخصائص والرسوم والممالك والحدود والمصارد والجروم والمخاليف والزموم والصنائع والعلوم والمناسك والمشاعر، وحضور مجالس القصاص والمذكِّرين، مع لزوم التجارة في كل بلد، والمعاشرة مع كل أحد، والتفطن بمساحة الأقاليم حتى أتـْقَنَها، ودورانه على التخوم حتى حررَّها، وتنقـُّله مع الأجناد حتى رتـَّبها، وبحثه عن الأخرجة حتى أحصاها، مع ذوق الهواء، ووزن الماء وشدة العناء، ثم أنه سُميَ بستة وثلاثين اسماً وخوطب بها مثل (مقدسي) و(فلسطيني) و(مصري) و(مغربي) و(خراساني) و(سَلَمي) و(مقرىء) و(فقيه) و(صوفي) و(ول)ي و(عابد) و(زاهد) و(سيَّاح) و(ورّاق) و(مجلد) و(تاجر) و(مذكـِّر) و(إمام) و(مؤذن) و(خطيب) و(غريب) و(عراقي) و(بغدادي) و(شامي) و(حنيفي) و(متؤدب) و(كُرّي) و(متفقه) و(متعلم) و(فرائضي) و(أستاذ) و(دانشومند) و(شيخ) و(نشاسته) و(راكب) و(رسول)، ولم يبق شيء مما يلحق المسافرين إلا وقد أخذ منه نصيباً -غير الكدية- فقد تفقه وتأدب واختلف إلى المدارس، وتكلم في المجالس، وأكل مع الصوفية الهرائس، ومع الخانقانيين الثرائد، ومع النواتي العصائد، وطـُردَ في الليالي من المساجد، وساح في البراري، وتاه في الصحاري، وصدق في الورع زمانا، واكل الحرام عيانا، وصحب عُباد جبل لبنان، وخالط حينا السلطان، وملك العبيد، وحمل على رأسه الزبيد، وأشرف مراراً على الغرق، وقُطع على قوافله الطرق، وخَدَم القضاة والكبراء، وخاطب السلاطين والوزراء، وصاحَبَ في الطرق الفُسـّاق، وباع البضائع في الأسواق، وسُجن في الحبوس، وأخذ على أنه جاسوس، وعاين حرب الروم في الشواني، وضَربَ النواقيس في الليالي، وجلـَّد المصحف بالكراء، واشترى الماء بالغلاء، وركب الكنائس والخيول، ومشى في السمائم والثلوج، ونزل في عرصة الملوك بين الأجلـِّة، وسكن بين الُجهَّال في محلة الحاكة، وكم نال العز والرفعة، ودُبـِّر في قتله غير مرة، وحج وجاور وغزا ورابط، وشرب بمكة من السقاية السويق، وأكل الخبز والجلبان بالسيق، ومن ضيافة إبراهيم الخليل وجميز عسقلان السبيل، وكُسيَ خلع الملوك، وأمروا له بالصلات، وعري وافتقر مرات، وكاتبه السادات، ووبخه الأشراف، وعُرضتْ عليه الأوقاف، وخضع للأخلاف، ورُمي بالبُدَع، واتهم بالطمع، ودخل في الوصايا وكيلا،ً وأمْتَحَن الطرارين، ورأى دول العيارين، واتبعه الأرذلون، ودخل حمامات طبرية والقلاع الفارسية، ورأى يوم الفوّارة وعيد برباره وبئر قُضاعه وقصر يعقوب وضياعه".

ولأن يتأمل، في نهاية المطاف، اللغة نفسها وتغيراتها في المكان، فإن المقدسي لا يعدم أن ينتقل من الجغرافيا إلى اللسانيات وهو يعدد بعض المسميات حسب اختلاف الأقاليم. إن الرغبات تستفحل وان الكائن يتفتح عن أنوات متعددة، فضولية، ويصير، في اللغة النثرية، شاعراً، يقول مزاجه وهواجسه الداخلية.

على أن المسافة بين الرحالة، أي الرجل شبه العادي المهووس بلذة المغامرة وبين رجل العلم والمعرفة المدقق هي مسافة يجب أن تؤخذ بالحسبان عند قراءة الفنتازيا المبثوثة في كتب أوائل الرحالة العرب. منهج الكتابة نفسها يختلف بين أبي دلف أو ابن فضلان وبين المقدسي. ففي حين أن ثمة تتابعاً لمسارات الرحلة مليء بشذرات وصفية للأماكن التي مرَّ بها الرحالة، هناك منهج وصفي أكثر صرامة لدى رجل العلم الموسوعي مثل المقدسي الذي كان يتنقل رحالةً هو بدوره في العالم القديم. منهجه يقوم على أساس معرفة ما قاله من سبقه والتأكد منه عياناً في الغالب بينما كان منهج أوائل الرحالة يتجاوز ويتجنب هذا الأساس مانحاً نصه طبيعة جمالية مختلفة ناثراً فيه ذلك الاختلاط الموصوف وتلك المتعة الفائقة ومنتجاً بالتالي بعض الفنتازيا.

تنجم الفنتازيا في تلك الأعمال عن عدم وجود معيار علمي مثل الذي يحكم المقدسي. لنلاحظ أن عدم امتلاك المعيار العلمي كان يعني غالباً غياب المعيار الأخلاقي بالمعنى العريض للكلمة. غيابه يبيح للرحالة بعض (التجاوزات) في وصفه مسبغاً أحلامه ورؤاه الشخصية على الحقل الموصوف. وهو أمرٌ لم يكن المقدسي، على ما يبدو، ليبيحه لنفسه بتاتاً. فلنتابع هذه الفرضية مستمرين بطرح أسئلة من قبيل: ألم يكن المقدسي مستمتعاً برحلاته بالقدر الذي كان فيه ابن فضلان يستمتع بها مثلاً؟ ولماذا تظهر لدى ابن فضلان فقرات تمرق نحو الفنتازيا ولا يظهر شيءٌ مشابه لدى المقدسي؟ إننا نظن، مرة ثانية، أن استهدافات الرحالة لم تكن من ذات طبيعة أهداف رجال العلم الرحالة.

في روح الرحالة هناك (وهْمٌ) مشروعٌ من طينةٍ شاعرةٍ تضع للمخيال وللذات الواصفة مكاناً بارزاً لا يوجد ما يشابهها في عمل رجال المعرفة الصرفة. هذا التفارق حاضرٌ حتى يومنا هذا ونحن نرى انفلات الشاعر الذي يريد الذهاب إلى الحكمة عبر أقانيم غير مألوفة مقارنة بصرامة العالِم الذي يذهب إليها عبر وسائل مقوننة ومعقلنة. الفارق يقع إذن في الوسائل. وهذه غير محايدة لأنه يمكنها أما أن تقود إلى الشعر أو إلى الفكر، مع معرفتنا أن الفكر يلتقي بالشعر في أماكن محددة جد عميقة. ومثلما هناك شعران: شعر مستندٌ على الفنتازيا، على الحُلُمِيّ والمتخيَّل الصرف، وشعرٌ آخر يقوم على البساطة الخلاقة، على جملة حكمية أو الحكمة المطلقة المقالة بعيداً عن أية استعارة وحلم وبلاغة، فإن هناك نصين لنمطين من الرحالة: نصٌ يقول الحلمي والمتخيَّل حتى لو زعم وصفاً موضوعياً محايداً، ونصٌ ثانٍ يقول البسيط، الجميل المكتوب بلغة عذبة حتى لو أنها كانت لصيقة بالعلوم الصِرْف في طبعتها القديمة..

الخيال والأطفال(3)

عندما نتحدث عن الخيال، فهذا يعني إننا نتحدث عن عملية عقلية عليا، تتداخل مع عمليات عقلية عليا اُخر، وعلينا أن نفرزها عنها.وفي محاولةٍ لفرزها فإنه يمكن تمثيل التفكير على متصلContinuum يكون في طرفه الأول التفكير الواقعي  Realistic Thinkingوفي طرفه الثاني التفكير الخيالي Imaginative Thinking.

نقصد بالتفكير الواقعي، التعامل مع الظواهر موجودات عيانية أوحسية تخضع الى المعايير المنطقية والعلمية ومرتبط بإستجابات الفرد للمواقف الخارجية، يسيطر عليه العقل والحقائق.أما التفكير الخيالي فهو نشاط عقلي تتحرر فيه الخبرات الذاتية لتأخذ شكل إفتراضات أو صور عقلية أو مقارنات، لا تخضع في الغالب للعقل أو للمنطق، ولاتكون فيه الظواهرموجودة أمامنا، بل تأخذ شكل صور بصرية.ومع أن دراسة الخيالImagination لايزال الغموض، فأن علماء النفس حددوا ثلاثة انواع منها هي:

1-الخيال العمليPractical Imagination:وهذا يتبدى في صنفين:الاول:المنتجات الصناعية مثل الازياء، والأثاث، والسيارات.والثاني:النتاجات الفنية،كالموسيقا، والمنحوتات، واللوحات.وفي كلا هذين الصنفين تكون النتاجات قابلة للملاحظة أو التحسس بها، ويتطلب إنجازها توفر القدرة والمهارة والذكاء.

2- الخيال اللغويLinguistic Imagination : وسيلة الخيال هنا اللغة أو الكلمة.ويتبدى هذا النوع من الخيال لدى الشعراء، والروائيين، والكتاب، والخطباء لإستثارة الجمهور.والمهارة هنا تكون في السيطرة على اللغة.

3- الخيال التمثيليRepresentational Imagination :يعتمد هذا النوع على الصور البصرية للأشياء التي لا تكون موجودة أمامنا، ولكن نراها بعين العقل، ويأخذ شكلين:الأول تخيل صور لخبرات كنا مررنا بها(المدرسة الابتدائية التي درسنا فيها مثلاً)، والثاني تصور أشياء لم نتعرض لإدراكها مطلقاً(الجبال الثلجية في القطب مثلاً).وهذا النوع من الخيال ليس مهماً كالنوعين الأول والثاني.

والخيال بالمعاني التي ذكرناها شرط لازم من شروط التفكير الإبداعي سواء في الفن ام في العلم.

لقد أفرزنا الآن التخيل أو الخيال عن التفكير الواقعي، وعلينا ان نفرزه عن مرادف آخر له هو الفنتازياFantasy،التي تعني في مصطلحات علم النفس (التفكير التوحدي)Autistic Thinking ويعني:الاسترسال في التخيل تهرباً من الواقع.ويأخذ عدة أشكال منها :الفنتازياFantasy والإستغراق في التفكير الحالمReverie ، والتفكير المرغوب فيهWishful Thinking وأحلام اليقظةDay-dreaming .والفرق بين التخيل والتفكير التوحدي هو أن التداعيات في التفكير التوحّدي تكون محددة بالكامل من تنبيهات داخلية من قبيل الحاجات والرغبات والصراعات،فيما يكون التخيل هو أيضاً تداعيات، ولكنها مستثارة من تنبيهات خارجية، تأخذ شكل مشكلة او مهمة محددة، ويكون فيها عامل السيطرة موجوداً.

          إن كلا النوعين من الخيال،  ولنقل عنهما (الخيال الفعّال) و(التفكير التوحدي) أو الفنتازيا، موجودان لدى الأطفال، ويتباينان بتباين مراحلهم العمرية.غير أن خيال الاطفال، بخاصة في مرحلة الطفولة الاولى يتصف بخاصية متفردة،هي أن الأطفال ميالون الى عزو سمات بشرية الى الحيوانات والى الطبيعة التي لا حياة فيها،وغالباً ما يخلقون كائنات وقوى متخيلة، بعضها محب للخير وطيب وبعضها الآخر عدائي وشرير .

وتقع علينا مهمتان:الاولى،تنمية الخيال الفعال لكونه شرطاً من شروط التفكير الابداعي، في الفن بمجالاته كافة،أي الموسيقا، والشعر، والرسم، والرواية، والتمثيل،وفي العلوم التطبيقية كافة بخاصة الهندسة والفيزياء والكيمياء.أما المهمة الثانية فهي تجنيب الاطفال التفكير التوحدي لكونه يؤدي الى مخاوف وهمية مرضية.

وهناك ثلاث مؤسسات أو مصادر أساسية تقع عليها هاتان المهمتان،هي:الأسرة، والمدرسة، ووسائل الاعلام.ففيما يخص الاسرة، فإننا نخشى منها أن تكون مصدراً للمخاوف الخيالية الوهمية لدى الاطفال.فكثيراً ما يقول الوالدان أشياء مخيفة في وجود الطفل كما لو كان غير موجود أو كان اصم، أو يتحدثان أمامه عن صعوبات الحياة بشكل مضخم، وبتشاؤم من المستقبل، ويشكوان قساوة الأيام، ويصوران الاطفال كما لو كانوا بلوى وقعت فوق رؤوسيهما. ومثل هذه الامور تجعل الطفل يلجأ الى التفكير التوحدي هرباً من الواقع.وعليه فإن ميل الطفل الى الاستغراق في الفنتازيا يعد مؤشراً عن أزمة او اضطراب نفسي،وعلينا أن ننبه الأسرة الى أن هذا العرض (الإستغراق في الفنتازيا)هو جرس إنذار مبكر يعلن عن بداية الوقوع في الشيزوفرينيا.

امّا المدرسة ووسائل الاعلام فعليهما تقع مسؤولية تنمية الخيال الابداعي لدى التلاميذ.وأهم شرطين فيما يخص المدرسة،أن تكون غنية بتنبيهاتها، وأن يكون معلم مادة التربية الفنية فيها يمتلك الخبرة الأكاديمية في تنمية الخيال الفعّال والابتكاري.وهناك ما يشير الى ان قسم التربية الفنية بكلية الفنون الجميلة سائر في هذا الاتجاه، الذي ندعو الى تعزيزه وتوسيعه، وأن تكون كليات التربية الفنية في بلادنا قنوات لتخريج ملاكات تمتلك الخيال ولديها القدرة على تنميته في التلاميذ الذين يدرسّونهم.وهذه دعوة الى إدخال برامج للتدريب على الخيال الابداعي أو الابتكاري بطرائقه المعروفة (عصف الدماغ مثلاً) ضمن مواد مناسبة في أقسام التربية الفنية بكليات الفنون الجميلة،وتثبيت مادة اسبوعية أو نصف شهرية من حصص مادة الرسم في المدارس الابتدائية والمتوسطة والاعدادية،تخصص للتدريب على الخيال وحل المشكلات،وذلك بالتقاط مشكلة تخص المدرسة أو المنطقة أو القرية أو المدينة،واقتراح أكبر عدد من الحلول لها،وكذلك طرح موضوعات أكبر واستثارة خيال الأطفال في ايجاد حلول لها.

أخيراً،ننبه الى أن الخيال عند أطفالنا في الوقت الحاضر هو على الأرجح،إما أن يكون معطلاً أو مشلولاً،واما أن يميل الى أن يكون من نوع التفكير التوحدي الذي يأخذ في الغالب شكل المخاوف الخيالية الوهمية والصدمات النفسية المستقرة في ذاكرة الأطفال عن الحروب السابقة،وما يشهدونه الآن يومياً من خطف لهم وانفجارات وحالات رعب،تزيدها القنوات الفضائية تضخيماً بالصوت والصورة.وعليه فأن مهمتنا الأساسية الآن،وأعني بذلك المدرسة ووسائل الاعلام،هي الضغط على زر الخيال الفعال لدى الأطفال،لدوره الكبير في صنع حضارة المستقبل.فمعظم انجازاتنا المتحققة التي تسحرنا بالدهشة،مثل الوصول الى القمر،كانت قد بدأت أصلاً من خيال.

السرد بين الفانتازيا والواقع(4)

إبراهيم عيسي يمثل في مصر ظاهرة صحفية وأدبية مثيرة، فقد أصبح رئيس تحرير أهم صحيفة معارضة الدستور وهو في الثلاثينيات من عمره، واخترق مجال الرواية منذ كان في العشرينيات برواية 'العراة' التي اعتبرها الأزهر عملا فاضحا وأشار بمصادرتها عام 1992، ثم استمر في شغبه الصحفي والأدبي في كتابات مدهشة، يمتزج فيها التحقيق الساخن بالخيال الجموح، ليخوض معارك سياسية وثقافية مدوية، خلفت عددا من الكتب والأعمال السردية، وقد أصدر مؤخرا روايته السابعة 'أشباح وطنية' يتحدي بها مفاهيم النقد السائدة، ويصدم ذائقة القراء بلون جديد يحارون في تصنيفه وتقييمه، لأنه يعتمد علي تراكم المعلومات عن أسرار السياسة وفضائح المجتمع وفساد الطبقة الحاكمة فيه، لكنه يغلف ذلك بإطار من الفانتازيا العبثية، مستعينا بالخيال الشعبي عن مشاهد القيامة وعذاب القبر وقصص الأشباح والأرواح، بحيث تتناوب في الرواية، وهي محكية بضمير الغائب المحيط بكل شيء علما، استرجاعات شخوصها، وهم مجموعة من الشباب والفتيات يمثلون هذه الطبقة العاتية، مع أحداث رحلة كابوسية مرعبة إلي إحدي قري الساحل الشمالي، دون أن تخضع عملية التضفير السردي.. بين المستويين لمقتضيات الاحكام الفني والضرورة الجمالية، مما يترك لدي القاريء شعورا بفائض المعلومات التي لم تستدعها ذاكرة الشخوص وانما امتلأت بها سجلاتهم من منظور محايد ان لم يكن معاديا لهم، مما يجعلها مجرد استطرادات سردية خارجة عن السياق الداخلي، تتبادل الظهور مع أخيلة عبثية، تستخدم فكرة العفاريت الشعبية لتنتقم بها من جرائم أبناء الطبقة المتسلطة، بأكثر مما كان يحرص عليه الأدب الهادف الملتزم من نزعات أخلاقية في أشد مراحل انتصار الأيديولوجيات مباشرة، ومهما كان هذا الهدف نبيلا فإن الطريق إلي تحقيقه يتطلب الإفادة من تجارب الأجيال المتعاقبة في الابداع والنقد علي السواء.

بذرة الفانتازيا

تشتعل جذوة الفانتازيا في الرواية منذ بداية الرحلة التي يتجمع فيها ثلة من أبناء الطواغيت الكبار لقضاء عطلتهم في احدي القري السياحية التي تغص بالقصور، احتفالا ببراءة أحدهم عن طريق الرشوة من إثم سحق أسرة صغيرة تحت عجلات سيارته 'الجيب شيروكي'، وقد خرجت المجموعة في سيارتين من النوع ذاته، قادت الأولي 'عزة' وهي مذيعة تليفزيونية ضالعة، سلكت طريق العلمين الجديد الخالي من الحركة، لكنها ما لبثت أن 'ضغطت بعنف علي فرامل السيارة حتي فزع الجميع من صوت الاحتكاك الهادر للعجلات علي الأسفلت، وترنٌحت السيارة يمينا ثم لفت نصف دورة إلي اليسار وسط صراخ مشروخ من غادة، وزعيق مجنون من تامر الذي اصطدم رأسه في سقف السيارة، بينما ارتمت زجاجات بيرة وعلب طعام علي الأرض مبعثرة ومفتتة، أغرقت ولوثت الملابس والمقاعد، بينما كان صوت عزة مثل صوت قطع جوافة انحشرت في موتور خلاط غليظ وعميق وعريض، ورعشة محمومة تسطو علي مقاليد جسمها كلية، فخرجت الحروف تدفع بعضها وتضرب حرفا بحرف، فتاهت الجملة التي قالتها اضطرابا وارتجافا..

أشباح، ناس لابسة أسود، جلاليب سوداء وعبايات فوقها تحزم رأسها بشال أخضر، ملفوف زي الصعايدة،.. تطير أمام السيارة، تصعد علي مقدمتها، وترقص وتنقر الزجاج كأنها مناقير غربان سوداء كالحة'.

كان زملاؤها يعرفون أنها مصابة بحالة مرضية، حيث تتراءي لها أخيلة موهومة، فانبري أحدهم وهو تامر كي يقود السيارة بدلا منها، متهما إياها بأن نوبة الضلالات والأوهام قد عاودتها، لكنه لم يلبث أن رأي بدوره الأشباح ذاتها وهي ترقص وتضرب سطح السيارة، ثم ارتفعت عجلات السيارة كأن يدا تمسك بها من مؤخرتها، وتساقط الجميع علي زجاجها الأمامي ليتهشم منفجرا مفتتا، اختفي الأسفلت من تحتهم وتعلقت السيارة في الهواء ثم انهارت إلي رمل كاسر علي جانب الطريق'. ولولا أن أدركتهم السيارة الثانية لتنقذهم وتمضي بهم جميعا إلي الرحلة لما استكملوا طريقهم الذي سيحفل بالعجائب التي كانت 'ضلالات عزة' كما يطلقون عليها هي البذرة الأولي لها قبل أن تصبغ رؤية الجميع.

المعلومات الصلبة

لابد لي أن أبدي إعجابي بالصورة الحية الطازجة التي بثها الكاتب في الفقرة السابقة، عندما شبه حشرجة صوت عزة 'بصوت قطع جوافة انحشرت في موتور خلاط غليظ وعميق وعريض' لكني أستميحه عذرا في استخدام التشبيه ذاته لمجموعة الحكايات والقصص والاسترجاعات التي تعج بها الرواية عن أبناء الطبقة الجديدة من أبطال الرحلة ومن يضعه سوء الحظ في طريقهم 'إذ لم يعد أحد منهم طفلا أو مراهقا من زملاء النادي أو الجامعة، كانوا يلتقون في مآدب واحتفالات أهلهم في الأعياد والمناسبات المعدة خصيصا للتصوير في الصحف، حتي يبدو تكاتف الأغنياء وتحالف أصحاب النفوذ من السياسة إلي الاقتصاد ورجال المال' لكن لكل من جلال ووائل وتامر وكريم وصبري وغادة وسارة وعزة صحيفة سوابقه السوداء التي يوزعها الكاتب علي هواه علي مشاهد الرحلة بمبادرة منه في استرجاعات لاتعتمد علي تداعيات ذواكرهم ولاتنجح في تشخيص دواخلهم، بل تمثل قطعا للسياق وانتقالا مفاجئا للماضي، وتضخما مثيرا بالمعلومات الصلبة التي لايقوي موتور الرواية علي تذويبها في رحيق متجانس حلو أو حامض.

ويكفي أن أشير فحسب إلي عدد من هذه القصص والحكايات الجنينية المختزلة، وإشاراتها إلي وقائع متداولة في الحياة الثقافية والصحفية المصرية تكفي أية واحدة منها لتشكيل فضاء روائي فسيح مفعم بالدلالات، لكن تكدسها يحرمها من السيولة والتدفق، مثل قصة جلال ابن امبراطور الصحافة وإدمانه للشم، وصبري ابن المكوجي وإتقانه للطبخ وغواية سيدات المجتمع الذي يزعم الرقي، ووائل نجل ترزي القوانين العتيق الذي سحق الأسرة عمدا بسيارته وأجبر أبوه أهل القتلي علي قبول الدية وتسوية القضية، وكريم وقصة التوكيلات التجارية وعلاء زعيم الشواذ مع أنه نجل اللواء الكفراوي بطل الحرب سابقا، وأسرار الصحافة ونادي طائرة الرئاسة، والصعود الطبقي عبر شارع الشواربي وتهريب البضائع، وقصة رئيس تحرير الصحيفة القومية الكبري الذي كان مندوبا في المطار، وقصة محمود داود الدبلوماسي المهرب للماس واللاجيء الأفريقي وشبكة علاقاته، وابن المستشار الذي انتحر عندما أطلعه زملاؤه علي شريط فيديو لمساومات السيدة والدته علي شرفها وشرف زوجها، وقصة الراقصة الروسية التي عيرتهم بحبها لمصر أكثر منهم فتركوها تغرق بجوار اليخت دون أن ينقذوها إلي غير ذلك من عشرات الحكايات عن خفايا السياسة والصحافة ودنيا الأعمال، وهذا كله كنز من المعلومات الحقيقية التي لايشك القاريء في أن نسبة عالية منها صحيحة وموثقة، لكنها لم ترق في جملتها لتصبح متخيٌلة محتملة تمثل الواقع فنيا لاصحفيا. وهنا تكمن مشكلة الرواية الحقيقية، فلا يكفي أن تكون الأحداث منتزعة من صلب الحياة وملخصة لمجريات وقائعها، بل لابد لها من الصبغة الفنية التي تتمثل في التوزيع المتوازن علي المواقف، والبوح الحميم بخطوات الضمير، والضرورة النابعة من التصميم الداخلي العضوي للعمل الفني، مما يشع بضوء الفن علي المواقف، ويجسد روح الشخوص كي يصبح حينئذ أبلغ من التاريخ وأشد نفاذا إلي جوهر الحياة ومعناها الحقيقي. الأشباح الوطنية وتفسيرها:

تحفل الرواية الصادرة عن دار ميريت إلي جانب ذلك بمشاهد الرعب التي تتولاها العفاريت والأشباح لتعذيب هذه المجموعة، في ليلة متطاولة منذ وصولهم إلي القرية الخاوية حتي العثور علي جثثهم في اليوم التالي، وتقديم وكيل النيابة المختص لتقرير مفصل عن إصاباتهم وتشوهاتهم واستغاثاتهم، بعد معاينته للمواقع، واطلاعه علي صور الكاميرات المثبتة في شوارع القرية المهجورة في الشتاء، وسماعه لتسجيلات تليفوناتهم المحمولة بالصوت والصورة والمدهش الذي يمثل مفاجأة الرواية الختامية أن هذه الأشباح لاتظهر في الصور، وان كان صوت بعضها يرن في أعماق وكيل النيابة منبعثا من أحد التسجيلات، فالعفاريت لاعبت هؤلاء الشباب بقسوة غليظة دامية، فلسطت عليهم أدوات التعذيب والترويع في حرب غير متكافئة، حيث أخذت الصنابير تتفجر بالمياه وتخرج منها أسماك صغيرة تتسرب إلي أجسادهم وتنفخ بطونهم، كما أغرت بهم الأمواج في الشاطيء لتعابثهم وتنقض عليهم مثل 'السونامي' الذي لايدع شيئا أمامه قبل أن تنحسر عنهم أحياء، وكيف أخذت هذه الأشباح تقذف بأحدهم لتعلقه مشبوحا في إعلان أحد المحلات التي كان أول من افتتح فرعا لها في مصر، ثم تجسدت لهم العفاريت في أفواج هائلة من الثعابين وأدخلتهم في ممرات مظلمة بعد أن طمست أبوابها وأخذت تمشي علي رؤوسهم كأنها خلية نحل وتحتل عيونهم لتخرج من أنوفهم وآذانهم دون أن تلدغهم، ثم تنهال عليهم كرات الدخان والنار وأفواج الخراتيت فاذا ما صدرت عن بعضهم استغاثة مكروبة أجابتهم مجموعة أخري من أرواح قضاة قتلوا في حادثة سير لأنهم تجاسروا علي مخالفة الحكومة في قضاياها في مشاهد تزيد من رعبهم وعذابهم الذي لايتعين بخيالات 'ألف ليلة' بل بقصص الثعبان الأقرع وعذاب القبر ثم تطلب منهم أرواح القضاة أن يعتذروا ويتأسفوا علي ما ارتكبوا في حق المجتمع من آثام، أي أن هذه الأشباح في جملتها تمثل فيما يبدو صوت الوطن وضميره الذي ينتقم منهم بهذا الشكل العجائبي المثير.

لكن التفسير الذي يشرح كل ذلك يتولاه وكيل النيابة في عرضه للوقائع بعد إعادة بنائها أمام وزير العدل وآبائهم الكبار حيث يقول: 'لقد تعاطت الشلة قبل ساعات من وصولها للطريق السريع عقارات هلوسة متطورة، مما جعلهم يتصورون وقائع وأحداث ومشاهد متخيلة تماما، لقد قتلوا أنفسهم بالخوف والفزع من أشباح رأوها نتيجة هذه العقاقير في نوبة جنون مشترك' واذا كانت هذه النهاية البوليسية تشبع الحسٌ الأخلاقي للكاتب في فضح جرائم الواقع وتخيٌل عقوباتها بهذه الطريقة فإنها تطرح أسئلة نقدية وجمالية عن دور الفانتازيا في الأدب، ومدي ما تتيحه من تخليق نماذج بشرية متطورة، وعن شروط توظيف المعلومات الصحفية في صياغة أنساق سردية متماسكة تضمن شروط التلقي الجمالية التي تحققها الأعمال الابداعية المؤثرة.

فضح الواقع عبر الفنتازيا التراثية(5)

 يفاجئنا الروائي احمد رفيق عوض مرة اخرى، يذهب بعيداً من أجل أن يأتي بالفريد والمدهش، يذهب الى التاريخ والى النوم والى الحلم والى "بلاد البحر"، ليعجن

ذلك كله في تضاعيف نص مختلف حقاً، وليتحول ذلك كله نصاً يدين حضارة القتل والاحتلال من جهة، ويتخلص من بكاء الضحية ورثاء نفسها من جهة أخرى.

رواية ""بلاد البحر"" تتكئ على موروث عربي اسلامي في شكلها، فهي تلتقط شكل المنامة ـ باعتباره شكلاً تراثياً ـ، أي انها تستخدم شكل الحكي كما استخدمه الأجداد ذات مرة. هذا الشكل الذي يقع في منتصف المسافة بين الواقع والفانتازيا، وبين الممكن والمستحيل، وبين الارض والسماء، سمح للروائي ان يحكي بحرية شديدة، وان يلتقط من النثر والشعر، والخيال والواقع ما يريد. 

أحمد رفيق عوض لا يريد ان يغادر تراثه او يدمّره، وهنا يحاول ان يعيد إنتاجه وان يستفيد منه الى أقصى حد. ان الحكاية التي انحدرت الينا من الف ليلة وليلة وقبلها كليله ودمنه وما بينهما من سير وحكايات، لتقدم لنا بوضوح ان الحكاية التراثية انما استخدمت الفانتازيا لتقول الواقع، إدانة كان ذلك أم استعارة.

ان شكل الحكي مهم في رواية "بلاد البحر"، واذا كانت الرواية تهدف، ضمن أهداف اخرى، الى تعرية مقولة الغرب المصقولة والمنتشرة والمفروضة فرضاً، فإن من اهدافها الاخرى هو شكلها ايضاً، بمعنى ان شكل الحكي شكل عربي تراثي، وكأني بالروائي يريد ان يجادل الغرب بوسيلة لم يتعلمها منه، وان يقول إن الرواية وباعتبارها في نهاية الأمر حكاية ـ لم تبدأ من الغرب ولم تصدر عن الطبقة البرجوازية الغربية بعيد الثورة الصناعية ـ كما قرأنا ذلك دوماً ـ وكأني بالروائي يقول إن روايتنا العربية الاسلامية بدأت منذ تمدد الدولة العربية الاسلامية بعد القرن السابع الميلادي. وليس من حق احد أن يحتكر التاريخ او ان يحتكر حكايته او خط سيره، أو أن يحتكر مركزيته. ليس للتاريخ بؤرة واحدة، هناك بؤر متعددة ولكل منها إشعاع ومسار مختلف. واذا كان الشكل هو التاريخ، والسرد هو الموقف، فإن استخدام الروائي للشكل يعني أنه اختار المنطقة التي يريد أن ينطلق منها او أن يبني فيها. لقد اختار شكلاً محدداً بعينه، شكل المنامة، الشكل الذي يظهر في لحظات الانهيار وفترات الهزيمة وأوقات الانكسار. إختار ان يذهب الى حيث النائم يحلم، أو الى حيث الضعيف يتأمل. وكان الروائي واضحاً في ذلك، عندما انطلق من لحظتين محددتين في التاريخ، وأقصد بهما، لحظة كتب الشاعر ابن القيسراني منامته بينما كانت بلاد الشام في معظمها تحت الاحتلال الصليبي، ولحظة كتب الوهراني منامته بينما كانت دولة الفاطميين تتهاوى أمام الايوبيين. اذن، كانت المنامات تعبيراً عن ردٍ على الهزائم والانهيارات. إن استعارة الروائي احمد رفيق عوض هذه الاجواء ليس فيها مصادفة ولا عفو خاطر. هناك تخطيط شديد، ورغبة في إعادة الانتاج بطريقة فاعلة وقوية على رغم كل الهزائم. يجب أن نسجل للروائي جرأته وذكاءه وتخطيطه النافذ، ذلك ان في ذلك نوعاً من مشروع ثقافي يقوم به الروائي، متجاوزاً مهمة الحكّاء الى مهمة الُمنَّظر لفكر جديد ومستقبل مشرق. واذا جمعنا ما كتب من روايات حتى اللحظة، فإن هناك ما يرسم ملامح هذا التنظير الذي نتحدث عنه.

شكل المنامة الذي اختاره المؤلف كان شكل الجنون الذي يريد نسف "العقل" وأسلوب اللامنطق أمام "المنطق" الذي يذل ويحتل ويقتل باسم "العقل" و "العلمية" و "الحضارة". المنامة كانت بشكل أو بآخر رغبة في عدم رؤية الواقع او عدم الاستسلام له او حتى التعامل معه. وليس من باب الصدفة ان جميع اشخاص رواية "بلاد البحر" تصرفوا بحسب "احلامهم" لا عقولهم.

شكل المنامة كان جزءاً من رؤية شاملة اذن، وفي هذا الصدد، لا بد من ملاحظة ان الروائي احمد رفيق عوض له حساسية خاصة تجاه شكل روايته منذ "العذراء والقرية" وحتى ""بلاد البحر""، إنه يستخدم الشكل استخداماً حكيماً ومناسباً لمضمونه، بحيث لا ينفصم الشكل عن هدفه، ولا يخالف المضمون طريقة سرده. اختيار الشكل هو اختيار الوقت والزمن. ان هذه العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون، تجلت في "بلاد البحر" كأجمل ما يكون، التي تدفقت على مدى 274 صفحة من دون توقف، ومن دون تقسيمها الى فصول او فقرات، ومن دون مقدمات، ومن دون تمهيد. كانت كل المجريات تتدفق وتنفجر من دون سابق انذار، تماماً، كالأحلام التي تتقدم الينا من دون تفسير او إنذار. وكالأحلام ايضاً، فليس هناك اعتبار للزمان والمكان وقوانينهما.

كان على مضمون الرواية ان يتصدى لمقولة الهزيمة المتّصلة، ولمفاعيل التغيرات الكبرى، والأهم من كل ذلك، كان على مضمون الرواية ان يتصدى لأكثر المقولات قوة ومضاء، وأعني بها مقولة الغرب الحديث، وموقف هذا الغرب من نفسه ومن الآخرين، ومن كل تلك المقولات الناصعة حول الحرية والإرهاب والحضارة وحقوق الانسان والليبرالية والجندر. وهذه هي معركة الرواية الحقيقية. كانت معركة الرواية الحقيقية تتمثل في رصد الغرب هنا، في فلسطين، في بلادنا، "بلاد البحر"، التي ضاعت ذات مرة، وتضيع مرات ومرات كل يوم، فإن الرواية التي بين ايدينا تقول إن ذلك بمثابة فضيحة العالم الاخلاقية كله، فضيحة الغرب وأناقته وحرياته وديموقراطياته، وفضيحة العرب الرسميين وشعاراتهم، وفضيحة كل البنى الاجتماعية والثقافية والفكرية السائدة، فضيحة كل شيء في نهاية الأمر. الرواية تقول باختصار إن الغرب كاذب في كل ما يدّعي، لسبب بسيط تماماً، هو انه سوّغ وسّهل وبرّر ورسّخ ضياع وطننا، وانه كاذب، لانه يعود الينا كل مرة بادعاء جديد وذريعة جديدة، وهو كاذب لأنه منافق في سياسته وفي ادبه وفي فنه المتعلق بنا، وهو كاذب، لانه لم يعلمنا الديموقراطية ولا الحرية، وانما علّمنا ان نحرق مدننا ـ كما فعل الاشرف خليل بن قلاوون في مدينة عكا ـ. لا بد هنا من التوقف قليلاً أمام اختيار الروائي الكبير لهذا الحدث ايضاً، إن تسليط الضوء في الرواية على حادث حرق عكا ليظهر لنا مرة اخرى تخطيط الروائي لمشروعه الذي يؤسس له. ان حرق عكا في العصور الوسطى كردٍ على الحروب الصليبية الاولى، يشبه الآن الردود العنيفة التي نراها في منطقتنا رداً على هذه الهجمة الفظيعة التي نشهدها في تفاصيل حياتنا. كانت هذه هي الجملة البؤرية في رواية "بلاد البحر". فضح الغرب وحضارته في بلادنا، واستنساخ الذرائع ذاتها واعادة انتاج الادعاءات نفسها. ولأن الامر كذلك، فقد ذهب الروائي الى كل المناطق الشائكة في المشهد كله، الاحتلال والاستيطان والسلطة الوطنية والتركيبة الاجتماعية والثقافية الحديثة والهجينة، وعلى رغم أن في الامر سخرية شديدة الا أن الروائي لم يستطع ان يسخر من شيء، كان مشغولاً بأجواء أشبه ما تكون بشعور مَنْ يمشي على حافة قبره، أو كالمطل على حافة الانهيار.

والرواية واضحة وحادة وقليلة الحيرة على رغم كثرة الاسئلة وفتح أبواب السجال. تقول الرواية إن الغرب هذه المرة نجح في حملته العاشرة لانه ببساطة استطاع ان يجرّعنا أفكاره، هذه المرة لم يحتلّ الارض فقط وإنما احتلّ العقل والوجدان، هذه رواية تكتب تاريخ الحملة الصليبية العاشرة علينا، حملة طويلة وعميقة وشديدة الأثر، لأنها ـ وبعد استفادتها من الحملات السابقة ـ استطاعت، إلى حدّ كبير، أن تجعل منا عبيداً نؤمن بها ونؤمن بمقولاتها.

وبهذا تكون هذه الرواية شديدة الأهمية ورائدة في أنها تصدر من هنا، من فلسطين أولاً، وفي انها تجاوزت لغة المواربة والدجل والشعوذة. رواية مواجهة، واجهت فيها ذاتها مقابل ذوات الآخرين، وذهبت مباشرةً الى مقاصدها وأهدافها، مستخدمة في ذلك تراثها ومرجعياتها الاصيلة.

عن الرواية الغرائبية: (مولد غراب) فانتازيا جادة(6)

تظل الفانتازيا في الاعمال الادبية، تشكل حالة من حالات الدخول الى الواقع وتمثله بطريقة تتخذ من الغرائبية واللامنطقي وسيلة لها لغرض الاكتشاف والوصول الى الغاية المرتجاة. والسعي المحموم الى خلق الصدمة من شأنه ان يجعل المتلقي غارقاً في منطقة الدهشة التي تمثل في حد ذاتها نزوعاً معرفياً لا سيما ان الدهشة او اثارتها، تعتمدها جذور الفلسفة الاولى للانسان. ان خلق الاستجابة الواعية كما يقول (ايرز) يخلقه الاثر الذي يمتلك منذ البدء المتلقي وفق التاثيرات الحادة، ويضمن حالة من التواطؤ والتعاضد معه.

ان الفانتازيا التي تمتلك اشتراطات توظيفها وبراعتها تكمن في خلخلة النسق التقليدي والبنية الاتفاقية، والخروج بالاثر الادبي الى العوالم اللاواقعية التي يحكمها منطق المتوقع واللامتوقع الذي ليس بالضرورة ان يعبر عن الواقع او يمثله بكل حدوده. والفانتازيا حينما تدخل في الاثر الادبي بامكانها ان تحلق به اذا ما جاوزت الافتعال، أي ان لا تسقط في الاستعارة والمغايرة لذاتها فحسب، أي ما يمكن تسميته بالفانتازيا من اجل الفانتازيا. ربما كان لهذا الاستهلال اهميته حين يكون العمل الذي نحاول ان نسقط قراءتنا عليه هو عمل ينطوي على اشتغال فانتازي. لذلك فان رواية (مولد غراب) للقاص وارد بدر السالم تتمحور في مجملها حول فانتازيا حادة، حين يضعنا القاص منذ الاستهلال الاول امامها وكأننا نرتقي الزورق الذي يجلس فيه الرجلان الملثمان اللذان يقطعان المسافات في عمق هور العكر للوصول الى السيد عنبر لاطلاعه على الحدث الجلل الذي شهدته قرية (الشيخ حسن ال خيون) والذي يتلخص في ان (غراب) وهو رجل غامض الاصل يبلغ الثلاثين من العمر حامل مثلما النساء. واللجوء الى السيد عنبر كان من باب ايجاد الحل المناسب لهذه الفضيحة.

"جئناك يا سيد وفينا امل ان تمنحنا من بركاتك وتفك عن رقابنا قيد العار، فالشيخ لا يرضى بالحلول. والاجاويد تعبوا، الرجال لا يعرفون كيف يتصرفون، ولم يبق لنا اولاً واخيراً الا الله سبحانه وتعالى وانت يا ولينا الكريم.. اكرمنا يا سيد.. فالفتنة ستحصد منا رجالاً ورجالاً..." الرواية 33.

وهذا الحدث اثار في قرية ال خيون الفزع والشعور باللعنة والاحباط والخزي حيث بدأ الناس يتناسلون الفتاوى والروايات وكل واحد ينطلق من دوافعه ونظرته الى الحياة ويبحث عن المبررات التي تدفع عن القرية التهم التي تقلل من شأن القرية وسكانها، فاصحاب الدين يعزونها الى لعنة سماوية:

" يا رجال.. اتقوا الله... هذا قضاء وقدر.. لا تكفروا بمقدرة الله.. فليخرج ملعوناً من يشك بهذه المقدرة.." ص17.

بينما يذهب آخرون الى ان الشيخ حسن مسؤول عن هذه الخطيئة بإيوائه الشيخ الغريب (غراب) قبل ان يتسلم المشيخة على آل خيون:

" لا نحصد ما زرعه الشيخ حسن.. البلية بسببه.." ص19. ان الرواية هذه باستلهامها فكرة اللعنة، اختزلت الهم الجماعي الذي يتجه الى الخلاص، وحين تسقط في ايدي رجال القرية اية معالجة على مستوى الواقع الاجتماعي فانهم يتجهون بمن فيهم الشيخ حسن الى سلطة اخرى لتفصل الواقع عن الوهم وتقدم الحل الامثل، لذلك كان اللجوء الى سلطة السيد عنبر السلطة التي يقر بها المجتمع الفلاحي. لذلك فان الشيخ حسن كان بمقدوره تقديم حل للازمة بطريقته الخاصة ولكنه ادرك ان أي تصرف سيجعله في موقع الريبة والاتهام فاوحى لرجاله بان القضية تتطلب تدخل سيد الاهوار وصاحب الكرامات السيد عنبر. والرواية استثمرت التناقض واشتغلت عليه وعمقته، فالواقعة حدثت في بيئة الماء الذي هو رمز الطهر والنقاء في المرجعيات الدينية والمثيولوجية وحتى العلمية ولكي يشاكس الروائي عقل متلقيه جعل اللعنة تجاور الماء، لتكون الغلبة للنقاء الذي مثله الماء. والرواية في مجملها لم تقع في الثرثرة والتفاصيل غير الضرورية، فالروائي كتب نصاً متماسكاً واختزالياً ساعدته في ذلك وحدة الحدث وقلة الشخصيات والاجواء المتوترة والغامضة لا سيما شخصية المرأة الملتفة بعباءتها والتي يومئ بها الروائي الى فكرة الخطيئة. وما جعل الرواية مكتنزة في فكرتها ان النهاية لم تكن مغلقة او نهاية تصالحية في امر لا يقبل التوفيق والتصالح، فان حدثاً كالذي شهدته قرية (آل خيون) لا يمكن ان تستمر الحياة معه وتسير بشكل طبيعي، لذلك لجأ الروائي الى النهاية المسؤولة وترك الكثير لذهن وانفعالات المتلقي انطلاقاً من مبدأ كسر المتوقع.

فضاءات السخرية ومدارات الفنتازيا

فى مجموعة ( انحراف ) القصصية(7) 

يعتبر الأديب مصطفى إبراهيم آدم واحداً من الأسماء الأدبية اللامعة فى سماء المشهد الثقافى السيناوى خاصة والمصرى عامة, وتجئ أهميته الثقافية والأدبية من مسائل عديدة أهمها اشتغاله بكل صنوف الكتابة الإبداعية

كالقصة والشعر والدراسة الأدبية واللغوية والمقالة والتراث الشعبى, وأخيراً وليس آخراً فن الزجل, وهو أيضاً على وشيجة بالناس وقريب من همومهم, لكونه يعمل محامياً, وإن لم ينشر له حتى الآن أى كتابٍ مطبوع, فعند حسن ظنى انه يتعاطى ذلك الإبداع الجميل بمزاجية عالية من حينٍ إلى آخر, ولعله يؤثر أن يترك نفسه وروحه وليس أدل على ذلك من مجموعته القصصية الغير منشورة, " المخطوطة الأولى" "انحراف" والتى سنتناولها فى هذه الدراسة.

وما يلفت الانتباه أنه على عكس ما درج عليه الكُتَّاب فى تصدير كتبهم, فإن مصطفى آدم يقدم لمجموعته بتوطئة بعنوان "الأوضة الفاضية", ولعله العنوان السابق لمجموعة"انحراف", وهكذا يجمع مصطفى آدم بين الأمل والغد ليرسم عالماً جديداً تسوده كل القيم الإنسانية النبيلة من بساطةٍ وحب وعطاء, يتصدى لكل أشكال الزيف والتشوه الأخلاقى والاستغلال والخيانة, وما أصدق تعبيره " وما أشبه الأقفاص الصدرية بالغرف الجرداء الفارغة المحتوى", ولعل ما يزيد الطين بلة أن الفقر والمرض والجهل فى عصر تعدت فيه الحضارة العالمية حدود الاستحالة يولد الكثير من صنوف الصدمات والنوبات العصبية, وتبقى البيئة الشرقية هى المستودع الأول لهذه الشخصيات الغريبة رغم اختلاف مشاربهم وثقافاتهم" المقدمة ".

السخرية

محاور كثيرة جداً وغنية يطرحها القاص مصطفى آدم فى هذه المجموعة القصصية أهمها السخرية من الواقع المعاش, والمرأة والحلم والأغنية, والشعر والشعرية والواقع البيئى, وتناغم القصصى بالشعرى, وتحتل الفنتازيا والسخرية مرتبة الصدارة فى مجموعة "انحراف" القصصية, التى يخصصها الكاتب للقصة القصيرة, ونؤكد أنه من النادر أن يقدم قاص على تخصيص مجموعة لهذا الشكل الفنى وهى نقطة إبداعية جريئة تسجل لصالح القاص, وذلك فى تقديمه أطر فنية جديدة بشكل عام.

وفى هذه المجموعة القصصية"انحراف" تأتى السخرية من داخل العمل وليس من خارجه...... إنها تنبع من الحدث والموقف, تجئ بسيطة كالماء..... واضحة كطلقة مسدس, لذلك فإنها تدهشنا, وتسعى لإعادة الكثير من التوازنات المفقودة داخلنا كما أنها تذكرنا بشكل أو بآخر بسخرية الكبار فى ميدان القصة القصيرة أمثال عزيز نسين ويوسف ادريس ومحمد مستجاب ومحمد الراوى وغيرهم.

تتصدر قصة"الغرفة الفارغة" قائمة السخرية بلا منازع ........ تحفر عميقاً فى الوجدان والقلب, وتفجر كثيراً من الطاقات والآلام المخبوءة فينا, بفعل مغالطات صارت سائدة, وتنذر بسحب بساط الحياة الجميل من تحت أقدامنا ولنتابع مشهد من قصة"الغرفة الفارغة":-

" ما زال خاطره مفعماً بالأسئلة , ترك لسيارته العنان, راح فى سباته المعتاد, ألصق المقعد بجسده المفعم بالوشم الجهنمى على كتفه اليسرى, هكذا أطلق كبيرهم بالحجز عليه لقب "الشخِّير" حال سماعه أولى دفقات النغم الرجَّاج الذى يتميز به فى سيمفونية المنام, طلب منه نفسين أقوى كمان وكمان, يصطدم بإشارة مرور قاتلة تبعده عن رفيقه المسجل خطر أمن عام, المسافات الضوئية تبتلع الذكريات".

وفى قصة "صراع" سخرية مريرة من الاتكالية والإهمال واللامبالاة والتخلف الفنى والثقافى....... إنها لوحة سريالية لفن من فنون الرسم المتعارف عليه عالمياً, ورغم ذلك يرى الشيخ أن لوحة الفتى هى مجرد لوحة مستهلكة وسيئة وشخابيط ابتلعتها كل المساحيق والألوان ولا يأبه إلا برائحة الكفتة والكباب.

ولكن عند كاتبنا وعالمه الساخر جداً نرى أن الكاميرا "الخفية" للقاص سوف ترصد سلوكاً آخر متغايراً جداً فى قوله" رصيف الإبداعات المتنوعة داخل إتيليه الفتى الشغوف بفنون الصراعات الجنونية لمختلف التيارات التشكيلية المتدفقة فى الفضاء, يسبح كلاهما فى دخان الكثافة السكانية المترامية الأطراف", ليثبت بقوله على لسان الفتى" لم تلد السريالية مثلى, تعال يا شيخ أرنى بضاعتك كى تشهد لى بوسام المقارنة".

وهكذا يسخر القاص من انقلاب مفاهيم الجمال فى الحياة المعاصرة, وحفاوة الناس بالأكل والشرب وملئ البطون, وينسون غذاء العقل والروح ... حتى فى عالم الرسم والفن يعنى الناس بالقبح بدلاً من لمسات الجمال.

الفنتازيا والإدهاش

تأتى أهمية مجموعة "انحراف" من ذلك الكم الهائل من الفانتازيا التى تحفل بها قصص مصطفى إبراهيم آدم, وهذه الفانتازية ليست كمية فحسب بل هى نوعية أيضاً, ولا تأتى من خلال معطيات تجريبية غريبة, وإنما تنبع من رؤية إبداعية أصيلة عند الكاتب الذى يستفيد بوضوح من خلال خبراته المعرفية والثقافية, ومن خلال فهمه لطبيعة النص القصصى القائم على الإدهاش والمباغتة, ولا سيما فى نهاية قصصه التى تأتى على غير العادة وعكس ما هو منتظر و متوقع.

إن القفلة القصصية بقدر ما تحمله من تفجير فى اللغة والحدث, فإنها فى الوقت التي تغلق فيه القصة بقدر ما تفتح أمام القارئ والمتلقى عوالم مدهشة من التساؤلات والاحتمالات, وهنا ينتهى دور الكاتب ليبدأ دور المتلقى فى البحث والمعرفة فيما وراء السطور والكلمات, وبهذا الشكل يساهم الكاتب مصطفى آدم والمتلقى معاً فى صياغة المعرفى والجمالى فى فن القصص من جديد, وتتجلى الفانتازيا فى أبهر صورها فى قصة "الدوران" وهو رمز شفاف وموظف خير توظيف, يلقى علينا بظلاله الدلالية, ليفتح أمام القارئ عالماً آخر من الأسئلة والتداعيات المعرفية " هدأ السائق سرعته قائلاً :- دقيقة حداد , استهل مع الركاب قراءة الفاتحة على ضحايا دوران الكوارث, عندما عاد الأتوبيس فى الانطلاق بسرعته المعتادة, طلبت السيدة وعيناها على الدوران المشئوم أن تنزل, أو أن يهدأ من السرعة, للمرة الثانية استجاب لها وهو يلقى على عينيها نظرة تحقيق جلية, وودع مقلتيه واسترسل فى الصمت"( من قصة الدوران).

إن لقاء شفرتى السائق بالسيدة هنا يغتال حلم الحياة الجميل, ينهيه بلحظة واحدة, وتجئ النهاية الفاجعة كابوساً ثقيلاً عصياً على الفهم والاستيعاب من خلال وداعه الصامت من مقلتيه للسيدة.

وقريباً من هذه الأجواء الانتقادية التى تمزج بين سخرية الواقع المعايش وفانتازيا الحقيقة, تجئ قصة "الفارس والضحية" لتدين نمطاً من العلاقات الشاذة القائمة على الانتهازية والنفعية وإشباع النزوات.

" أوجس فى نفسه خيفة, يحسبها فى سريرته فخاً منصوب له بإحكام, شاركت القتيلة فى حياكته, مع تقلب الفصول الأربعة صرخ بأعلى الأصوات, لم يعد عندى شيئاً أخفيه من الأسرار, لا أريدك, لا أريدك, سأنتقم منك لا محالة"( من قصة الفارس والضحية).

وفى قصة "العدوانى" تلعب الفانتازيا لعبتها فى القفلة القصصية التى تأتى على عكس ما هو متوقع, وتفتح أمام القارئ عوالم من الدهشة والتساؤل حول واقع السرقات الأدبية والثقافية, وأسباب تفشيها حولنا, ومصيرها فى عالم باتت تحكمه المصالح المادية, ويهدد ذلك بتدمير كل ما هو جمالى وأساسى فى حياتنا ........ من سرقة للفكر والعقل والقلم.

" يقفز مع المذيع فى القراءة, يعكف جاهداً على تحضير رسالة الماجستير المقتبسة من التراث الشعبى عن مدى تأثير الأحلام فى نفوس الناس البسطاء, تتغلغل الرؤى فى نخاع سلوكياتهم, لدرجة الخوف حتى الموت من تفسير مشاهد الضحك والرقص وأعراس الفرح مع المرأة المجهولة, فى أحلام المنام, عدد الأشياء الخطرة على سبيل المثال لا الحصر:- النحل - الديك – الإبريق – البحر- السجن – القبر ....... اختتم المذيع, سعدنا أعزائى المستمعين مع قصة أديبنا الراحل ...... انسحب منصعقاً إلى الباب يجر فلول الاضطهاد المتراكم, سرقونى أولاد ال ......., قتلوا ما تبقى فى كيانى من طموحات العبير, أمطرت عيناه وابلاً أسوداً من صخور الجرانيت المشتعل" (من قصة العدوانى).

والمتميز هنا أن الفانتازيا لا تأتى من خارج العمل, ولا من خارج الواقع المعيشى, بل هى تنبع أصلاً من مفارقات جادة باتت تحكمنا, وتسلط سيوفها القاطعة على رقابنا, والقاص هنا لا يتدخل, ولكنه يكتفى بالتلميح والإشارات, وجل همه أن يضعنا أمام مفارقات على غاية من الحدة, ويترك لأخيلتنا العنان لنفكر ونتساءل, نحاور النص ونتفاعل, وبعيداً عن الشعارات والاستعراضات اللغوية المزيفة, وكل التقنيات الممجوجة والمستوردة من الغرب فى أغلب الأحيان, تجئ قصص مصطفى إبراهيم آدم بلحمها ودمها النازف والمبعثر فى كل الاتجاهات, لتضعنا فى بؤرة الحدث المتأزم حياتياً ومعرفياً, إنه السهل الممتنع, تلك المعادلة التى لا يقدر على إنجازها إلا من امتلك ناصية الموهبة الحقة, وأخلص لها كل الإخلاص.

حديث القاص مصطفى إبراهيم آدم فى هذه المجموعة القصصية عن الذكريات والطفولة, معادل موضوعى للفرار من أزمة المدينة الحديثة, بكل عقوقها وإنكارها للجميل والأصيل فى الإنسان وعبر سلسلة من الذكريات والتداعيات, ينقلنا القاص إلى عالم غنى بقيم الحب والجمال والعشق, عالم نحن فى أمس الحاجة لنتعلم منه كيفية التصدى لكل التحديات التى تعصف بنا ....... وتسعى جاهدة لتنقلنا إلى عالم التشيؤ والتقزم والاضمحلال ونسيان المكان والتاريخ.

وقصة" عصفور الريسة" بكسر الراء وفتح السين مدهشة إلى أبعد الحدود فى بساطتها, موجعة أيضاً فى تفاصيلها, وهى تتأرجح بين الأبيض والأسود, تحكى ماضٍ زاهٍ جميل, وحاضر مفعم بالإثم والفجيعة!.

" اغرورقت عيناه بالدمع الهصور, جفف جفونه بالسباحة إلى منبع البحر الكبير, ناشده متوسلاً أن يخلى بينه وبين نخيل الريسة المتناثر الجذوع, أين منك أيها الشاطئ الأسطورى؟, لم يتحد الأعداء غيرك, ما بال أشجارك وأطيارك متهالكة, متأكلة, محروقة, مفتتة؟, ماذا حل بك؟ ينعى ما تبقى منها بنخر السوس"( من قصة عصفور الريسة).

تستهوى القاص مصطفى إبراهيم آدم التفاصيل القصصية الدقيقة, فنراه يكتب ويطيل, حتى تظن أنه قد نسى نفسه وروحه والقصص القصيرة التى عقد العزم على الاشتغال بها, ولكن الحقيقة غير ذلك, فعلى الرغم من إطالته بعض الأحيان, إلا أننا فى النهاية نرى أنفسنا أمام قصة قصيرة جيدة, ورغم الإطالة فى بعض النماذج مثل:- ( الشك القاتل, العدوانى,انحراف, كل شئ على ما يرام, طائر الدوح), فإن هذه الإطالة التسجيلية لا تعيب السرد فى شئ, لأنها تعتبر من قبيل توثيق الحدث, وتأكيداً لصدق المعاناة بوضع أكبر كمٍ من الأملاح علىالجرح المشتعل.

وعلى عكسها تأتى بعض القصص مضغوطة فى قالب فلاشات سريعة يكون الهدف من ورائها بث حكمة هنا أو موقف وجدانى هناك, ومن مثل ذلك القصص التالية:- (سواء السبيل, المئزر المنعش, لعم, المقبور, الغريق, شعور, طعم الحياة, الفارس والضحية, المدخنة), وقد يدهش المتلقى من الطابع الفلسفى الذى يستشفه من بين السطور.

إن مجموعة "انحراف" القصصية للكاتب مصطفى إبراهيم آدم بعدد واحد وعشرين قصة قصيرة, تصور دون أدنى مبالغة - وبلغة متجانسة بسيطة وغير مبتذلة- البُعْد الفلسفى الراقى والامكانات الإبداعية اللامتناهية, والمخزون الثقافى الذى لا ينضب عند الكاتب, أما عن توظيف بعض من التقنيات السردية فقد جاءت متوافقة ومتسقة مع خط السرد العام, ورصد الكثير من التفاصيل التى آثرت النص, وعملت على تكثيف اللحظات المرصودة برمتها, وجعلها مشبعة شكلاً ومضموناً, كما أن الضمائر المستخدمة جاءت تارة فى كثير من قصص النص بضمير المتكلم, وأخرى بضمير الغائب, والضمير الأخير قد جاء مناسباً لطبيعة السرد, فكان الكاتب موفقاً لحد بعيد فى اختياره .... أما قصة" الغرفة الفارغة" على وجه التحديد فلم يكن سوى ضمير الغائب صالحاً لطبيعة ومستوى النص.

فى النهاية نقول أن الكاتب مصطفى إبراهيم آدم أفلح واستطاع أن يقدم لنا فى هذه المجموعة القصصية"انحراف" نصاً ثرياً من خلال تراكيب لغوية هادفة إلى إبراز مستوى التداخل بين الذات والآخر, ومن خلال توظيفه لمستويات الشعور واللاشعور فى آن واحد, وتبقى بلاغة اللغة وجزالة اللفظ عند الكاتب وسيلة أخرى فعالة لاستشفاف طبقات الوعى الفردى والجمعى.

...................................................

المصادر/

1- طراد الكبيسي/ موقع الكاتبة بنول الخضيري

 2- شـاكـر لعيبي/ جريدة الشرق الاوسط

 3- أ.د. قاسم حسين صالح/ جريدة  المدى

 4- د. صلاح فضل/ جريدة اخبار اليوم المصرية

 5- المتوكل طه/ جريدة السيادة

 6- محمد درويش علي/ جريدة  المدى

 7- حسن غريب أحمد/ منتدى القصة العربية

8- النسوية ومابعد النسوية/سارة جامبل

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 18 تموز/2007 -3/رجب/1428