العبقرية والتميز في صناعة الرؤية

 شبكة النبأ: لعل كلمة صناعة قد لا تكون ملائمة لهذا الموضوع الذي يعني بالابداع كونه يتأتى من خصيصة يكتسبها المرء من خلال تجاربه الحياتية وتسمى بالموهبة، أي ان هناك تميز خاص في تجارب خاصة لشخص ما  انتجت مشاهدة وتاثيرا غير معتاد او غير مكرر لما يقوم به الاخرون.

وتاتي كلمة صناعة انما لكونها تتصدى لتجارب مبدعين او الاطلاع على تجربتهم  وكيف صاروا مبدعين.

ان الدراسات الاكاديمية مهما بلغت من التخصص فانها لاتنتج اديبا او روائيا او شاعر حقيقي مالم تكون هناك الموهبة، والموهبة ظلت الى الآن سر من الاسرار الانسانية وهبة الهية مبهمة، وقد اجريت كثير من المحاولات لسبر غورها الا ان تلك الدراسات والفرضيات لم تقع على نتيجة ناجعة.

لقد حاول الدارسون والباحثون لسنوات طويلة دراسة العبقرية من خلال احصائياتها الحيوية اعتقادا منهم ان اكوام البيانات كفيلة بالقاء الضوء عليها.

في دراسات اجراها هافلوك إيليس، لاحظ ان معظم العباقرة ولدوا لآباء تجاوزت اعمارهم ثلاثين عاما وامهات دون الخامسة والعشرين من العمر وصحتهم معتّلة، وافاد باحثون آخرون ان كثير منهم كانوا أناسا عاديين ـ ديكارت جاليلو نيوتن ـ بينما آخرون يتامى الأب ـ ديكنز داروين مدام كوري ـ وفي النهاية لم تستطع اكوام البيانات ان تلقي الضوء على أي شئ.

حاول ايضا الاكاديميون قياس الروابط بين الذكاء والعبقرية إلا ان الذكاء ليس كافيا، فمارلين فوس سافانت يعد معامل ذكائها العقلي الاعلى على الاطلاق إلا انها لم تسهم كثيرا في العلم او الفن بل كانت مجرد محررة عامود أسئلة واجابات في مجلة باريد، كما ان علماء الفيزياء العاديين يوجد لديهم معامل ذكاء عقلي اعلى من ريتشارد فينمان الحائز على جائزة نوبل والذي يقر كثيرون بانه آخر العباقرة الامريكيين رغم ان معامل الذكاء لديه يساوي 122 فقط.

واذن لا يتعلق جوهر العبقرية بإحراز 1600 درجة في اختبار القدرات او اتقان عشر لغات في سن السابعة.

فاننا لا نستطيع مثلا ان نعرف على وجه الدقة تأويل العبقرية التي يمتاز بها طه حامد الشبيب صاحب الروايات السبعة في المشهد الروائي العراقي، ولا ما يمتاز به الكتّاب امثال احمد خلف او محمد خضير او جاسم عاصي او عبد الخالق الركابي، وذلك بالنظر الى حياتهم الشخصية ومسالكهم البسيطة وتفاعلاتهم التي لاتنم على مستوى غير اعتيادي في التعاطي بالاراء المصيبة والخاطئة على حد سواء وانهم نتيجة لذلك يمتلكون ذكاءا اعتياديا لايتميز عن الآخرون.

وبالمحصلة خلص الامر الى ان الإبداع شئ مغاير للذكاء، فالفرد يمكن ان يكون مبدعا بدرجة متواضعة من الذكاء.

ويطرح عدد متنام من الباحثين ادلة تثبت إمكانية تحديد خصائص اسلوب العباقرة في التفكير، وقد توصلوا من خلال دراسة دفاتر ومراسلات وافكار اعظم المفكرين في العالم الى معرفة استراتيجيات تفكير مشتركة معينة مكنت هؤلاء العباقرة من توليد كم هائل ومتنوع من الافكار الجديدة والمبتكرة ومن ثم تكوين صورة شديدة الوضوح لطبيعة الإبداع وان هذه الستراتيجيات ليست مجموعة من الصيغ التدريجية لكنها توفر في مجملها إطارا قويا سرمديا للفكر الإبداعي. 

وهنا يكمن بعض السر في كون العبقرية ترى الاشياء برؤية مختلفة وعلى انساق واحتمالات متنوعة، فالعباقرة يفكرون بشكل منتج وليس بشكل استعادي تكراري فعندما يواجهون مشكلة ما يسألون انفسهم ما عدد الطرق المتنوعة التي يستطيعون بها ان ينظروا الى المشكلة وكيف يمكنهم ان يعيدوا التفكير فيها وما عدد الطرق لحلها بدلا عمّا كيف كانت تحل تلك المشاكل في الحلول التقليدية التكرارية المعروفة التي يستطيع أي شخص ان يتصدى لها.

إن الأنسان عندما يفكر تفكيرا منتجا يولد الكثير من الاساليب البديلة آخذا في الاعتبار الاساليب والمناهج ذات احتمال الحدوث الاضعف والاقوى على قدم المساواة ويكون الاستعداد لإستكتشاف كل المناهج هو الشئ المهم حقا، حتى بعد ان يعثر المرء على مدخل يبشر بالخير.

سئل اينشتاين ذات مرة عن الفرق بينه وبين الانسان العادي  فقال: إنك اذا طلبت من الانسان العادي ان يجد إبرة في كومة قش فسوف يتوقف ذلك الشخص عن البحث حينما يعثر على الابرة اما انا فسوف انقب في كومة القش كلها بحثا عن كل الابر المحتملة.

ان التفكير الاستعادي التكراري الجمود الفكري هذا هو السبب في اننا كثيرا ما نفشل عندما نواجه مشكلة جديدة تشبه بشكل سطحي خبراتنا السابقة ولكنها تكون مختلفة عن المشكلات التي سبق وتعرضنا لها من حيث هيكلها العميق وسوف يؤدي تفسير مثل هذه المشكلة عبر عدسات الخبرة السابقة بحكم التعريف الى تضليل المفكر.

ان التفكير التكراري يقودنا الى الافكار العادية المألوفة وليس الى الافكار الجديدة، ولو ظللت تفكر بنفس الطريقة التي دأبت عليها دائما فلن يوصلك ذلك إلا الى ما حصلت عليه دائما.

 يقول مايكل ميكالكو مؤلف كتاب كيف تصبح مبدعا:

اننا بحاجة الى ان ننوع افكارنا لكي ننجح، ففي الطبيعة لا يستطيع الجين الوراثي المفتقر الى التنوع تماما ان يتكيف على الاطلاق مع الظروف المتغيرة فتتحول الحكمة المشفرة جينيا الى حماقة إن عاجلا ام آجلا، وتكون العواقب وخيمة على بقاء الكائنات الحية، وتحدث عملية مماثلة داخلنا كافراد، فنحن جميعا نمتلك مخزونا ثريا من الافكار والمفاهيم المستمدة من خبراتنا السابقة، يمّكننا هذا المخزون من البقاء والنجاح والازدهار، ولكن بدون إتاحة الفرصة لتنويع الافكار وتصبح افكارنا المعتادة راكدة وتفقد مزاياها، وفي النهاية ننهزم في معركتنا التجديدية.

وتشبه العبقرية عملية النشوء والارتقاء البايلوجي حيث تتطلب التوليد المتعذر والتنبؤ به ولكّم ثري ومتنوع من البدائل والافكار الحدسية، يقوم العقل بالاحتفاظ بافضلها لإجراء المزيد من التطوير لها.

ومن الهام جدا في هذه النظرية انك بحاجة الى وسيلة ما لإحداث تنويع في افكارك وان هذا التنويع يجب ان يكون اعمى ليكون فاعلا بحق ويعني التنويع الاعمى الانحراف او الخروج عن المعرفة التكرارية المختزنة.

ولكن كيف يقوم العباقرة المبدعون بتوليد عدد هائل من البدائل والافكار الحدسية؟، ما السبب فيما يتسم به عدد كبير جدا من افكارهم بالثراء والتنوع؟، كيف ينتجون التنويعات العمياء التي تقود الى ما هو مبتكر واصيل.

اعتقد عالم الفيزياء والفيلسوف ديفيد بوم إن قدرة العباقرة على التفكير في افكار وخواطر مختلفة ترجع الى قدرتهم على تقبل التناقض او التضارب بين موضوعات متضاربة ومتعارضة او غير متوافقة، وقد تعرف د. البرت روثينبرج على هذه القدرة في كوكبة متنوعة من العباقرة والنابغين منهم انشتاين وموتسارت وإديسون وباستير وجوزيف كونراد وغيرهم.

يؤدي تدوير الاضداد الى خلق ظروف ملائمة تسمح بنشوء وجهة نظر جديدة، فقد قادت قدرة العالم بور على تخيل الضوء على انه جسيم وموجة معا وتوصله الى مبدأ التكاملية.

واذن فان اولى الخطوات الى التميز وصناعة الرؤية انك ترى مالا يراه الاخرون وتتمثل في الاشكال على نحو لا تستند فيه على التفكير التقليدي على أي حال.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 12 حزيران/2007 -24/جمادي الأول/1428