الإعتياد والتفكر

شبكة النبأ: الاعتياد على تحسس الاشياء بالمشاهدة والمعاصرة والاحتكاك والمعاشرة اليومية والمؤالفة عبر سنى الحياة يحول تلك الاشياء الى امور واقعية لا تثير الاهتمام رغم كونها مثيرة في اصلها وتحتكم على اهمية كبيرة من حيث المعاني التي تنطوي عليها.

فمن الادوات البسيطة المستخدمة في التفاعل اليومي في المطبخ الى الحديقة.. المستلزمات المكتبية.. لوازم الدراسة.. آليات العمل، وكذلك الاشياء المعنوية، والمفاهيم الادارية، التي تعني بتنسيق العمل، واساليب الاتصال بالآخرين.

كل هذه وغيرها الكثير قد لا تدعو الى التفكير بها، كيف وجدت؟، وماهية الفنية التي عملت وفقها؟، وما تشكله من قيمة عملية لتسهيل العمل والحياة.

وقد نعبث بها او نخربها، او نلحق بها اضرار دون الالتفات الى اهميتها الاصيلة، وكذلك عدم التفكير بالطريقة المغايرة: لو انها غير موجودة وماهي صعوبة الحياة بدونها؟.

لو اننا نفكر بالمنجز الانساني على الوجه الصحيح لإحترزنا على ادامة الاشياء بكونها جهود انسانية رائعة رفدت الحياة بما يخدم البشرية في مسيرتها باتجاه الافضل.

عندما يتفضل عليك احد الاصدقاء بشئ ما كأن يدفع عنك اجرة السيارة او يسهل عليك امرا من الامور فأنك تشعر تجاهه بالامتنان وتحاول ان ترد الجميل بعمل اجمل واكثر منه وقد تشعر بالاحراج من عمله الذي قدمه اليك سواء كان ذاك العمل معنويا او ماديا، فانك ملزم نفسك بالوفاء اليه وكأنه دين يثقل عنقك على الدوام، ولكن كيف تكون الاجابة عن اشخاص كانوا قد قدموا اليك افضالا لا تعد ولا تحصى كانوا يقدمون اليك الفطور ويغسلون ملابسك التي اشتروها هم وهكذا كلما تبلى تلك الملابس يسارعون بشراء غيرها ثم غسلوا لك جسدك عشرات الالاف من المرات وكفلوا لك عيشك وتحصيلك الدراسي منذ ان كنت ملفوفا في قطعة من القماش حتى صيروك رجلا وهم لا يزالون يغدقون عليك من رعايتهم وحنانهم والى آخر عمرهم في الحياة فهل ترى انهم يتساوون مع ذلك الفرد الذي تفضل عليك ربما مرة او مرتين؟.

الحقيقة ان اهتمامك اقوى اتجاه ذلك الفرد الواحد بسبب ان عمله ذاك لم يكن معتادا في حياتك ولذا فانك تشعر باهميته التي فاقت الاهمية الاخرى المظللة بالاعتياد والمعاشرة والتماس اليومي، ولذا فان التفكر يكون قد تضاءل وربما نحى في بعض الاشخاص الى الجحود ونكران الجميل وقد يتسم بالعنف والعناد والعقوق.

وهذا ينطبق الى حد ما على الحياة الزوجية في بعض الحالات الشائعة التي تصل الى الخلافات الزوجية وتؤدي الى خراب العوائل والطلاقات وتسيب الاطفال وسريان الامراض الاجتماعية ويعول اغلب ذلك الى الاحساس بالاعتياد وعدم التفكر باهمية تلك العلاقات التي تختلف بداياتها عن فترات الانغماس فيها الى درجة انها صارت واقعا معتادا يتسم بالاستمرارية وياخذ نبض الزمن المتوالي والنظام.

ولذا فقد قيل قديما مغني الحي لا يطرب فالحي السكني في راي اغلب ساكنيه لا يمكن ان يلد مبدعا متميزا كما في الاحياء البعيدة او الدول التي دونها البحار وهذا ناتج من نفس النظرة التي تستند على التماس المداوم عبر سنين عدة.

اذا الف الانسان شيئا اهمله لانه مفروغا منه حتى لو كان في الاهتمام به فوائد جديدة وقد يتوغل في اهماله الى درجة الانكار واذا وجد عليه شئ اهتم به وتفتق وعّيه فانه يخلط عليه من وعيه الذاتي بحيث ان اكثر من نصف ذلك الشئ انما هو حصيلة وعيه وجهده الخاص ثم يتوغل في الاهتمام به اللى درجة العبادة!.

فالانسان اباه وامه رغم انه وجد عن طريقهما وقدما اليه خدمات لا تثمن في الوقت الذي ما كان يفكر فيه غيرهما وهو في حاجة ماسة اليهما ولا يهتم بكل ما يقدمان من خدمات بعد ترعرعه وربما عنفهما في طلب ما يريد وكأنه يطالب بدين انكراه.

واذا طلب شيئا من غيرهما طلبه بتواضع واستحياء.

نهتم بحركة الاقمار الصناعية ونتابع منجزاتها باهتمام وترقبها كلما انتقلت من كوكب الى آخر بينما لانهتم بالارض التي نحن جميعا جزء منها!، ابتداءا واستمرارا وانتهاء، ولا نتدبر في عظمتها ككرة ضخمة منطلقة في الفضاء الغامض المجهول، بدقة وسرعة فائقتين، ولا نفكر بالشمس هذه الكتلة المشتعلة التي لولاها لإنطفأة الحياة برمتها على كوكب الارض.

يقول الشهيد السيد حسن الشيرازي:

(الاهمال للقديم والاهتمام بالجديد ناتج عن النزف العاطفي في اصحاب المقاييس المرتبكة اما اصحاب العقول المتزنة فإنهم يهتمون بكل شئ قدر استحقاقه من الاهتمام سواء كان قديما ام جديدا فليس المهم هو تاريخ ذلك الشئ وانما المهم ما نكتسب من الاهتمام به فلذلك يهتمون بخلق السماوات والارض ويفكرون فيهما حتى التملي من التفكير).

ويضيف السيد الشيرازي(رحمه الله)، ثم يصلوا الى درجة الاستنباط والدلالات وذلك لأن دلائل الاشياء هي اجدر بالاهتمام من ذلك الشئ نفسه لأنه طريق.

فالدلالة هدف والهدف اجدر بالاهتمام من الطريق، ففلسفة الكون اجدر بالاهتمام من الكون نفسه لأن الكون وجد تعبيرا عن فلسفة هي بالذات موضع اهتمام.

فالعلم المادي الحديث مهما اهتم بدراسة الكون واستنتاجه فإنه انما يهتم بالكون نفسه بينما اصحاب العقول المتزنة بدلالات الكون والفلسفة التي سببت إيجاد الكون وربطه ببعضه بهذا الشكل الحكيم الجميل.

والفارق بين العلماء الماديين والروحانيين في تقييم الكون هو الفارق بين الطفل والفيلسوف، في تقييم كتاب فلسفي، فالطفل يقيمه من خلال زخرفة الورق او الصور وجمال الخط.

بينما يقيمه الفيلسوف من خلال محتوياته.

وهكذا ياتي القرآن ليوجه اهتمام الانسان الى الظواهر الكونية.

( ان في خلق السماوات والارض واختلاف اليل والنهار ) ما يجدر بالاهتمام، ايها الانسان! وإن فيها (لآيات لأولي الالباب) التي هي العقول المتزنة التي تكتنه الاسرار، وهم(الذين يذكرون الله قياما) في حالات الاستقامة على الارجل، والسعي في الحاجات، (وقعودا) في حالات الانكباب غلى مختلف الاعمال،( وعلى جنوبهم)حتى وهم مسترخون او في انتظار النوم.

اي ربنا نجنا ان نكون متقاعسين عن دلالات هذا الكون، واجعلنا دائما ضمن الهدف العظيم.

فالانسان الذي لا تقوده دلالات هذا الكون الكبير ولم يستنبط منه هدف الحياة وبقى اعمى هائما في المتاهات سيحكم عليه بالنقائص( وما للظالمين من انصار).

فليست الامور التي يعتادها المرء تفقد اهميتها في ذاتها وانما المرء نفسه فقد الاحساس بها او انه اهملها وتغاضى عنها اي انه قد ترك الواجب والتكليف ونحى الى المتاهات التي هي اقل شانا واهمية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 11 تموز/2007 -26/جماد الاخرى/1428