الحكمة العملية والتفاؤل باستعادة شعوبنا لحقها في تقرير مصيرها السياسي

بقلم آية الله السيد عمار ابورغيف

    يفاجأ كثيرون حينما يقال لهم ان الفكر السياسي يتأسس على قاعدة " الحسن والقبح "، وإشكاليات العقل العملي، وان الحكمة العملية في مفهومها الفلسفي والكلامي هي المنبع والفضاء الحيوي لنمو الفكر السياسي. لكن الأمر مختلف لدى المطلعين على تاريخ الفكر وتطورات المعرفة، هذا التاريخ الذي تشكل العناية به مفتاح فهم جذور الأفكار، وتميط اللثام عن كثير من الإبهام الذي يحيط بها. فالفكر الإنساني عامة ابن تاريخه، وقراءة أي فكرة من الافكار بمعزل عن متابعة تاريخها تعني مخاطرة في فهم هذا الكائن الذي ينمو ويتكامل ويتعثر عبر زمانه.

حينما كان العلم والمعرفة مدونة واحدة تكتب فصولها تحت عنوان " الحكمة" أو حبها "الفلسفة" كان تدبير المدينة صنو الأخلاق والتربية وإدارة الأسرة جزءاً من الحكمة العملية. لقد صنف الأوائل المعرفة الإنسانية والتي تعني عندهم "الحكمة" إلى حكمة نظرية وحكمة عملية، ونوعوا الحكمة العملية إلى أخلاق وتدبير المنزل وتدبير المدينة، وتدبير المدينة يعني على وجه التحديد المعرفة السياسية. وهذا التصنيف والتنويع ورثه الحكماء المسلمون عن حكمة اليونان، حيث جاء كتاب السياسة (تدبير المدينة) جزءاً من الحكمة العملية في مؤلفات أرسطو.

يقولون: أن سقراط أعتبر الحكم الديمقراطي عبثاً وسخفاً؛ لأن الديمقراطية المباشرة التي كانت تمارسها أثينا على طريقتها لا تنسجم مع مبادئ الفضيلة وقاعدة الحياة الأخلاقية التي تبناها سقراط، أعني (السعادة) التي تتحقق عبر المعرفة التي هي أسمى الفضائل وأفضل سبيل لأسمى أنواع الخير والسعادة. فسقراط ألهم أفلاطون في الجمهورية رفض الديمقراطية ؛ لأنها لا ترشح للحكم أهل المعرفة وأصحاب الكفاءة، ومن ثمَّ مال سقراط إلى تدبير المدينة من قبل أهل المعرفة والكفاءة، وبهذا اختار الأرستقراطية حكومةً على أساس قواعد حكمته العملية، والحال في جمهورية أفلاطون أكثر وضوحاً.

مدينة الخبراء: التي هي أولى المدن الفاضلة في الحكمة المدونة جاءت في محاورة افلاطون "الجمهورية" انطلاقا من قواعد الحكمة العملية، من مذهب الفضيلة لديه. فذهب إلى أن المعرفة والحياة الشيوعية هي أفضل الأسس وأصح أشكال ممارسة السلطة. أدرك افلاطون في شيخوخته تعذر جمهوريته المثالية، فكتب محاورة "القوانين" ليضع فيها نظام الحقوق والواجبات بديلاً لجمهورية الخير الأسمى، ونظام الحقوق والواجبات أحكام عملية وتشريعيات تحدد ما ينبغي وما لا ينبغي، ومن ثمَّ فهي من صميم الحكمة العملية.

استلهم الحكماء المسلمون اتجاه حكماء اليونان في درس إشكاليات الفكر السياسي ضمن البحث في الحكمة العملية وإذا استثنينا محاولة الفارابي في "المدينة الفاضلة"، التي تمثل محاكاة لجمهورية افلاطون بلغة أقرب للنص الإسلامي نلاحظ أن عطاء الحكماء في ميادين الفكر السياسي لم يتجاوز السقف الذي أختطّه علماء الكلام المسلمون لهذا الفكر، ولم يجد القارئ المعاصر في هذا الفكر ما يستوقفه أو ما يستحق الاهتمام من وجهة نظر معاصرة على الأقل.

أما علماء الكلام المسلمون فقد انصبت جهودهم على درس قضايا الفكر السياسي في إطار نظرية " الإمامة" والأداة العقلية الرئيسية التي استخدمت في حقل الاستدلال هي قواعد الحسن والقبح العقلية، أي أحكام العقل العملي. وهنا لا بد من الإشارة إلى ما أكرره من القول: إن إشكاليات الحسن والقبح وعقلية مبادئ الأحكام العملية هي اصل ما طرحه التفلسف الإسلامي.أي أننا إذا أردنا أن نضع اليد على إنتاج أصيل وبناء في إطار الحكمة الإسلامية عامة علينا أن نتوجه صوب البحث المشهور لدى دارسي علم الكلام،" الحسن والقبح هل هما عقليان أم شرعيان؟".

إن البحث في أحكام الحسن والقبح بدأته المعارضة السياسية في تاريخ الفكر والحياة الإسلامية. وقد بدأ هذا البحث بروح نقدية جسور، لكن عوامل الإنحطاط التي أدخلت الفكر والحياة الإسلامية في عصور الظلام والتقهقر هي نفسها التي حولت البحث النقدي الجاد لمدرسة العقل الكلامية إلى قواعد مسمرة مصاغة على قد الإشكالية المذهبية حسب. مضافاً إلى الإشكال المزمن في أغلب البحوث الكلامية، أعني "الجدل" والدفاع، والإبتعاد عن البحث الحر، القائم على أساس النقد العقلي حتى نهاية المطاف.

أعتقد أن عودة الحياة للفكر السياسي في عالم الغرب مدينة بشكل أساس لروح النقد المؤسس الذي بعثها رجال عصر التنوير، وأوضح مثل لهم – فيما أقدر- هو الفيلسوف الألماني عمانؤيل كنت. حيث أدرك بعمق أهمية المشروع النقدي، فنهض بهذا المشروع الذي انصب على نقد "العقل"  وخص العقل العملي ما يستحق من الإهتمام.

لقد أدرك الأوائل من أسلافنا أهمية هذا المشروع، لكن عوامل متعددة، منها الإستقطاب والتدافع المصلحي والخوف من الجديد ولعبة السلاطين؛ ادت إلى إحباط المشروع العقلي في القرن الخامس الهجري وسيادة الروح الحشوية والقراءة الأحادية للنص. وقد تكرر مثل هذا الإحباط في إطار مدرسة الشيعة الإمامية بعدما طرح الوحيد الإسترابادي أفكاراً نقدية جادة للعقل، لكن الجوالذي إنطلق منه الوحيد والجو الحاكم على الأفق الفكري العام فرض طريقة سلبية تماماً في التعاطي مع مجمل ما طرحه الوحيد الإسترابادي في " الفوائد المدنية ". إلا أن فتح باب الإجتهاد في هذه المدرسة أتاح للعلامة الطباطبائي أن يطرح أفكاراً جريئة في هذا الإطار. كما لا يزال متاحاً للفكر الإجتهادي أن يخطو إلى الأمام.

إن قضية نقد العقل العملي وإعادة الحيوية لابحاث الحكمة العملية لا تقتصر أهميتها في حقل الفكر السياسي، بل تبسط أهميتها وخطرها على فكرنا العقيدي والفقهي والأُصولي. فالعقل العملي يشكل دعامة لابحاث حيوية أساسية في العقيدة والشريعة ويلعب دوراً مصيرياً في النظام الداخلي لحياة الشيعة الإمامية. كما يلعب هذا الدور في نظام الإستنباط الفقهي. فالعقل العملي والموقف منه يحدد الموقف من موضوع البحث في علم أُصول الفقه أعني "الحجية"، وفي أبحاث أساسية أخرى من بحوث الحجج والأصول العملية للإستنباط الفقهي ويحدد الموقف العملي لأول فتوى من فتاوى الفقه الإمامي وجوب البدائل الثلاثة على المكلفين كما يرد في الرسائل العملية " يجب عل كل مكلف أن يكون مجتهداً أو محتاطاً أومقلداً…".

إذا أردنا أن نتجاوز المدونات النظرية لنرى الفكر في حياة الدولة وسلوك الحكام والمحكومين، نجد أن هناك مقاييس عملية تحدوالحكام في ممارستهم وأن حكمة الحاكم العملية يهبط به مستوى الأداء حيث تهبط، ويرتقي الأداء حيث ترتقي. وهنا قد يطرح بعض المتابعين إشكالية نجد تجلياتها في بعض ما يطرح على بساط البحث من دراسات ويحاول بعضهم أن يجد مستنداً له في كلمات الأوائل: هناك من يرى ان مستوى الأداء السياسي، بل مضمون الفكر السياسي، بل الحكمة العملية بأسرها يرجع إلى العقل النظري، وان العقل العملي من حيث الجوهر هو عقل نظري في الصميم. فالعلم والموقف المعرفي هو الذي يحدد مضمون الفكر السياسي.

المطلعون على الفلسفة العملية يدركون الإشكالية الحرجة إشكالية العلاقة بين الواقع والواجب، بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون. هذه الإشكالية التي وضع يده عليها "دافيد هيوم" في عالم الغرب اسس لها العلامة الطباطبائي بعد قرنين في حكمة الشرق. وقد اضحى مسلما لدى قطاع واسع من الباحثين (الذين يناصرهم إتجاه بحثنا) ان الواجب واحكام الأخلاق لا يصح استنتاجها من الواقع وأحكام عالم الوجود التكويني، فمنابع كلا الصنفين مختلفة، ونسق احكام كل منهما متفاوت مع النسق الاخر. لكن هناك علاقة ملتبسة تتطلب باستمرار فك الارتباط المتواصل بين هذه الاحكام،هذا الارتباط الذي تفرضه طبيعة الحياة الإنسانية.

الإنسان كائن حي يمارس حياته ويصدر أحكامه ويتعامل مع الأشياء ككائن واحد، لكنه يحمل معطيات وتحدوه أحكام، بعضها مستمد من عالم الخبرة والاخر ينبع من عالم القيم واحكام الواجب العملي، هذان العالمان اللذان يتحدان بوحدة السلوك الإنساني الظاهرية.

هناك من يرى ان المذهب البرجماتي الأخلاقي حينما يقرر ان الواجبات العملية تتحدد وفقاً للمنفعة واللذة ينطلق من موقف وجودي ونظرة خبروية متفائلة للانسان، هذه النظرة التي ينطوي عليها الفكر الليبرالي عامةً: " الأخلاق النفعية ترتبط برباط وثيق مع النظرة المتفائلة للانسان وإنه خير بطبعه، فالإنسان بطبعه يبحث عن اللذة والمنفعة، لكنه بحكم كونه خيراً ومتعادلاً بذاته سيكون طلبه للذة والمنفعة بشكل جمعي على النهج الصائب في الأعم الأغلب وستتطابق رعاية المصلحة والنفع العام مع رعاية العدالة"(1). ومن ثم ستكون الدعوة العملية للاخلاق البرجماتية مستندة الى النظرة الوجودية للانسان !

حينما نقرأ هذا النص قراءة نقدية سنلاحظ:

أولاً: ان رعاية المصلحة العامة مطلب أخلاقي أعلى قائم قبل الدعوة إلى الأخلاق البرجماتية في مفهومها الحديث، الذي يرى صاحب النص انها إنتاج النزعة الليبرالية،  التي اطلق عنانها عصر التنوير ! ومن ثم ستكون النظرية البرجماتية نظرية سلوكية تقرر ان تحقيق هذا المطلب الأخلاقي المتعالي ( رعاية المصلحة العامة) يتم عن طريق اطلاق العنان للمنفعة الفردية والدعوة الى استهداف هذه المنفعة من قبل الآدميين المتعادلين الاخيار بذاتهم وهؤلاء الاخيار سيرعون المصالح العامة . اذن هناك هدف أخلاقي قيمي اعلى  تدعي النزعة البرجماتية ان تحقيقه يتم عبر نهج سلوكي محدد ( اطلاق النزعة النفعية الفردية ) ، وهذا النهج ليس مفهوما قيميا، بل هو ادعاء يمكن التحقق من صدقه تجريبيا ،وهومن مقولة عالم العقل النظري ، لا عالم العقل العملي .

ثانيا: ان النظرية الوجودية القائمة على الخبرة ، التي ترى الانسان خيرا بذاته تستبطن موقفا قيميا قبليا ، والا فما هو معنى الخير؟ وكيف يتطابق الخير مع رعاية المصلحة العامة؟ مالم يكن هناك فهم مسبق لمفهوم الخير ولآلية تطابقه مع رعاية حقوق الاخرين، ومالم يكن هناك ادراك قبلي بأن هناك حقوقاً وواجبات ، لما استطاع التنويريون ان يحملو سمة الخير على الانسان ، فالخير في التحليل النهائي يعني ما يتطابق مع نظام الواجبات الأخلاقية. واتجاه الاماني الإنسانية الرفيعة وان شجع على النظرة المتفائلة للانسان بانه خير بذاته لكن اكتشاف التنويرين لخيرية الانسان الذاتية امر لا تصدقه وقائع تجارب الانسان المريرة في ارجاء هذا الكوكب .

ثالثا : ماهي العدالة التي تتحقق عبر رعاية المصالح العامة ؟ العدالة مفهوم قيمي وهو مفهوم نسبي تابع، وليس مفهوماً قيمياً متعاليا يشكل مرجعية لمبادئ الأخلاق. ولو تجاوزنا اتجاهنا في تفسير العدالة تبقى العدالة مفهوما قيميا على كل حال، وحينما يتوخاها صاحب النظرية البرجماتية فهويفترض مسبقا قبل نظرته المتفائلة للكائن الإنساني نظاما للحقوق والواجبات يتحقق عبر ما ينبغي وما لا ينبغي فعله، ولا يستنبط هذا النظام من نظرته المتفائلة للكائن الإنساني.

ان اتجاه بحثنا مازال مصراً على ان منبع القيم مختلف عن منبع العلم والمعرفة، وان نسق قضايا واحكام كل منهما مختلف عن الآخر، وان العلاقة بينهما ليست علاقة استنتاجية، أي ان المقدمات العلمية لا تفضي الى احكام قيمة، لكن هناك علاقة بين الامرين، علاقة ملتبسة توهم كثيرا من الباحثين لشدة التباسها ان احكام بعضهما مستنتج من الآخر.

يرى بعض الباحثين(2) ان الاتجاه التجريبي في المعرفة توأم الايمان بالليبرالية كطريق لادارة الحياة السياسية في عالم الغرب. فالتجريبية تعني ليبرالية المعرفة، وهي احد اضلاع مثلث الليبرالية المتمثل بالليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية والليبرالية المعرفية، ومن ثم سوف يكون العنصر الجامع في مثلث الليبرالية هوالحرية والتحرر من قيود الاستبداد السياسي والاقتصادي والجزم المعرفي والمعطيات القبلية. والعنصر القيمي الوحيد الذي انتجه هذا المثلث هو النزعة البرجماتية التي استمدت من الليبرالية السياسية فرديتها ومن الليبرالية الاقتصادية نزعتها المصلحية ومن الليبرالية المعرفية عمليتها وواقعيتها التجريبية.

ومن ثم لا نستطيع ان نتصور ليبرالية سياسية دون ان يكون الى جانبها ليبرالية معرفية ! .

التحرر المعرفي والخلاص من الحجية الموهومة لليقين الذاتي سبيل تقدمنا وسر خلاصنا، ولكن الربط الحتمي بين الخلاص المعرفي من استبداد القبليات التي يجب ان تمحص، وبين الخلاص السياسي من استبداد الحكم امر لا يساعد عليه التحليل الحصيف لطبيعة العلاقة بين ما ينبغي وما لا ينبغي وبين ماهوكائن وواقع. مضافا الى تحفظنا على تفسير الخلاص المعرفي بالارتماء في احضان المذهب التجريبي.

لا تزال اثار الاقفال الذي يستبد بالنظرية التطورية (سواء في بيولوجيا الدارونية وفي علم الاجتماع التطوري وآثاره الجلية وعلى الفكر الماركسي التقليدي ام في تجلياتها عبر ابحاث توينبي ومن ثم لدى فوكوياما وصموئيل هنجنتون) بادية على النزعة الشمولية التي تسيطر على فكر اغلب الحداثويين وان تبرؤا منها. ان التقدم الإنساني ليس محكوما بوتيرة التكامل الشامل، فحياة الإنسانية لا تحكمها دوائر مسلسلة يتصاعد النموالحتمي بحلقات ومراحل، وأذا حصل النموالرشيد في حقل من حقول حياة الناس فلا يحتم ذلك ان يحصل مثل هذا النموفي سائر الحقول.

التقدم المعرفي له علاقة بنظام القيم في حياة الآدميين، لكن هذه العلاقة ليست استنتاجية، فالأخلاق ونظرية القيم لا تنتج معارف نظرية، والمعرفة النظرية لا ينبع منها نظام القيم. انما يساهم النمو المعرفي والتقدم النظري في اكتشاف آليات التطبيق ومعرفة السبل والوسائل الانجع في تجسيد القيم وتحقيق مثل الخير والعدالة ومبادئ الأخلاق. أجل يمكن ان يساهم التقدم المعرفي في الكشف عن القيم ومنابعها دون ان يتمكن هذا التقدم من ان يكون منبعا ومصدرا يحدد طبيعة القيم؛ واذ يبقى من المشروع ان نتساءل: هل النزعة التجريبية والمذهب المادي والأخلاق النفعية ساهمت في بناء عالم افضل؟ وهل ساهمت في تجسيد جوهر المشروع الليبرالي ( مشاركة الآدميين في القرار وانتزاعهم لحقهم الطبيعي في تقرير المصير ) وبناء عالم يؤمن بالانسان وحريته؟

وإذا كان الانسان هو القيمة العليا فهل اضلاع المثلث قادرة على ان تتوازن في تحقيق اماني الانسان بوصفه القيمة النهائية للوجود، فهل ينسجم المذهب النفعي مع حرية وسيادة بني البشر في ارجاء المعمورة ؟

علينا ان نشير الى:

1.     ان المذهب التجريبي ( بل مجموع ما اتسمت به حداثة الغرب من نظرة للوجود وللانسان ) حملته عقول لم يتعايش فيها الشك في القبليات وسيطرة المبادئ السابقة على التجربة مع نزعة التحرر من احتكار السلطة وحرمان الشعوب حقها في تقرير المصير.

خذ " جون لوك " مؤسس المذهب التجريبي الحديث، فهولم يكن ديمقراطيا بالطبع وقد قادت جذور امام التجريبية " دافيد هيوم" الى مواقف في السياسة اكثر رجعية من سلفه لوك وابعد ما تكون عن جوهر الفكر الديمقراطي ومبدأ مشاركة الناس في تقرير مصيرها، والملاحظة السريعة لتاريخ المدرسة العقلية للمعرفة بدءً من ارسطو تأكد تعايش سلطة القبليات في ميدان نظرية المعرفة مع الخلاص منها في فلسفة الأخلاق. فقد كان حكماء المدرسة العقلية في المعرفة اصحاب مذهب الاعتبار والمواضعة في ميدان الحكمة العملية، كانوا عقليين قبليين في المعرفة وكانوا بعديين تجريبيين في ميدان تدبير المدينة وتوجيه السلوك.

ثم خذ "هوبز"الفيلسوف الحسي تجد ان حسيته وماديته لا تأبى التعايش مع نزعته لدعم الحكم المطلق الملكي، الذي يتمتع بالسلطا العليا بمفرده، دون أن يتقيد سلطانه بأي حقوق شرعية لهيئات أخرى.

أما إمام المذهب العقلي الحديث "ديكارت" فقد سكنت في عقله المبادئ القبلية وسلطانها المعرفي مع أولى بوادر تسرب الليبرالية المعرفية في العصر الحديث كما يرى"برتراند راسل":

(( وفي غضون ذلك نفذت الليبرالية إلى الفلسفة. فقد جعل يقين "ديكارت" الأساسي، "أنا افكر، إذن فأنا موجود"، اساس المعرفة مختلفاً عن كل شخص هي وجوده الخاص، لا وجود الأفراد الآخرين أو الجماعة )) (3).

على مستوى العقل وفي افق المعرفة الإنسانية العام ليس هناك أي ضرورة منطقية تحتم تعايش الاذعان بالمذهب التجريبي معرفيا وبالليبرالية السياسية، وليست هناك أي ضرورة منطقية تفرض المساكنة بين التجريبية المعرفية النظرية وبين التجريبية ومذهب الخبرة العملية التدبيرية.فالخلاص كعنوان اشتقاقي يجمع المذهب التجريبي والاقتصاد الحر والليبرالية السياسية لا يمثل اشتقاقا لغويا، وبنفس الدرجة لا يمثل اشتقاقا معرفيا تساعد عليه القراءة المتأنية لتاريخ الحكمة والعقل.

اذا كان الخلاص من السلطة يعني تحرير الاقتصاد من سلطة الدولة وتحرير السلوك من سلطة الاخر وتحرير المعرفة من سلطة القبليات وتحرير الناس من سلطة الاستبداد السياسي، فالمعرفة، وهي انتاج يتوالد، حرة طليقة لا تمثل أي سلطة، المعرفة نتاج حر في افق العقل الإنساني، انما تصبح سلطة حينما تكون منتجاً، وحينما تكون المعرفة منتجا ً للتوظيف فكل مذاهب الفكر يمكن استخدامها سلطة تعسفية تخدم مصالح الاستبداد.

ألم يستخدم مذهب الجبرية وفقدان الانسان ارادة الاختيار الى جانب مذهب الارجاء واشاعة روح التسامح في القرن الاول الهجري لدينا، نحن المسلمين ؟ ألم تمارس قوى الديمقراطيةوالتنوير ابشع اشكال الاستعمار الثقافي والعسكري والاقتصادي بأسم تحرير الشعوب …؟ فالجبرية ببشاعتها والارجاء بروحه المتفائلة والتنوير والديمقراطية كأهداف انسانية تقدمية يمكن جميعها ان تكون ادوات بيد السلطان.

2.     تأسيسا على ما تقدم نستطيع ان نتفائل على مستوى الفكر السياسي ونستطيع ان نتعامل مع معطيات المعرفة المنتجة في العالم الاخر تعاملاً نقدياً بناءا ً. لنا التفاؤل بمشروع تأسيس الدولة المؤمنة بحرية الشعوب في تقرير مصيرها، ونحن ابناء هذا الشرق الزاخر بالقيم والمفاهيم ذات الطابع القبلي معرفيا ودينياً، يسوّغ هذا التفاؤل ان نيل الديمقراطية غير مشروط منطقياً بتغيير مجمل بناء شعوبنا الثقافي، بل تستطيع ان تنهض هذه الشعوب في مشروعها النهضوي السياسي على قاعدة قراءة مستنيرة لتراثها وقيمها، دون ان تكون مجبرة على المحال في تغيير ما لا يصح تغييره عقائدياً ومعرفياً.

ليس هناك حتم تاريخي تواجهه شعوبنا يضعها بين خيارين، خيار المضي قدما في قبول القهر والاستبداد السياسي، والاستمرار في حرمانها من حقها الطبيعي في تقرير مصائرها واختيار النظام والحاكمين، وخيار التنازل عن منظومتها القيمية ورؤاها الوجودية والمعرفية.

لا التاريخ يشترط ولا المنطق يحتم ان يكون خيار الديمقراطية توأم الايمان بمذهب المنفعة الأخلاقي، والراضع اللصيق من المذهب التجريبي المعرفي. ومن ثمُّ نواجه استحالة عملية في تطبيق الديمقراطية لان ديننا وفلسفتنا الأخلاقية اقرب لمذهب الواجب، وان حكمة اسلافنا الصق بالمذهب العقلي المعرفي.

ان مذبح الديمقراطية والاستنارة في عالم الشرق الزاخر بآيات الابداع يكمن في اداء رواد تطبيقها، وعدم تأهيلهم لأخطر الادوار التاريخية التي يمارسونها.لا دين الشرق ولا حكمته عوائق امام الديمقراطية والتحديث، انما العائقان الرئيسيان المتدافعان على طول خط هذه الجدلية هما: القراءة المغلقة للدين لحكمة الشرق، والحداثيون الراديكاليون الذين لا يألون جهداً في مواجهة الدين واستهدافه، وفي السخرية المراهقة من حكمة الشرق بكل ما لديها من جلال ورفعة ومن هنات تستدعي التطوير والنقد.

..............................

1-     عبد الكريم سروش، الخلاص من اليقين واليقين بالخلاص. مجلة كيان الفارسية العدد 48،ص 3-4،5.

2-     نفس المصدر.

3-     تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث،برتراند رس،ترجمة د. محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصرية 1977.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 10 تموز/2007 -25/جماد الاخرى/1428