المُمَهِدُونَ لِدَوْلَةِ الفَسَاد. ؟!.

 محمّد جواد سنبه

لَمّ يعد من الصعب أنْ يشخص الإنسان العراقي، الذي يطلق عليه اصطلاحاً (المواطن العادي)، أسباب تداعيات الوضع العراقي، على مختلف الصعد، السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة. ويعود أمر عدم الصعوبة في التشخيص، إلى التجربة العمليّة اليوميّة المتكررة، التي يعيشها الإنسان العراقي. فهذه التجربة جاءت متلازمة مع عمليّة التغيير السياسي الجديدة، التي أفضت إلى العمليّة الديمقراطيّة في العراق، الذي لم يكن مؤهلاً لحدّ مّا للتعامل معها. فالديمقراطيّة تتطلب قواعد انتقاليّة معينة، يجب أنْ يمر بها أي شعب يرغب العيش تحت ظلالها، إنّ من مستلزمات العمل التغييري نحو الديمقراطيّة، يتطلب من الشعب أنْ يمر بمراحل ثلاث:

1.     شعب يؤمن لدرجة القناعة بفكرة الديمقراطية، ويناضل من أجل تحقيقها وتطبيقها بمختلف الوسائل المتاحة له.

2.     تنتج عملية الكفاح الشعبي، قيادات تحترم آمال وطموحات وتطلعات الشعب كلّه، وتؤمن بوجوب تحقيقها له. وعلى أقل تقدير، تنتج نخباً واعية، تلبي إرادة الشعب ورغاباته المشروعة، وتقدّر مسيرته التاريخيّة، في مناهضة الظلم والتعسف، لنيل حريته من حكام الاستبداد والجوّر.

3.     إنتاج السياسي الوطني الناجح المؤمن بأن الديمقراطيّة، هي السبيل الوحيد الذي يضمن تقدم الشعب، في ميادين الحياة المختلفة، وما السياسة إلاّ الجهد العلمي والعملي، الذي يوفّر عوامل الاستقرار، التي تكون منطلقاً لنهضة الشـعب وتقـدمه.

     إذن سيكون وجود السياسي في العمليّة الديمقراطيّة، هو الناتج الأخير الذي يضطلع بشكل كبير، بمهمة بقاء واستمراريّة وصيانة وديمومة العمليّة الديمقراطيّة، من خلال الكثير من الأنشطة التي يتكفلها، وفي مقدمتها تهيأة الشعب، وتحفيزه على الدوام لحراسـة مكـاسبـه، وعدم التنازل عن اختياراته، باعتبارها منجز تاريخي حصل عليها، جرّاء مسيرة طويلة من المعانات المريرة، قدّم عبرها الكثير من الشهداء على مذبح الحريّة. ومن الجدير بالذكر أنّ حراسة الشعب للديمقراطيّة (لاحقاً)، لا تكون بنفس الصيغة التي اختار فيها الشعب الديمقراطيّة (سابقا).

 فالشعب كان في الماضي يتأجج ثورة وعنفواناً، من أجل تغيير الواقع السياسي الذي كان يعاني منه. أمّا عند تطبيق الديمقراطيّة فالشعب يتحول من دور المنتج للتغيير، إلى دور مستثمر التغيير، على اعتبار أنّه قدم مـا عـليه، والمرحلة الآن مطالبة بتقديم ما له. هنا تكمن حساسيّة نقطة التحول التاريخيّة، فستكون هذه الفترة، بمثابة مرحلة تقيميّة لمسيرة العمل الجماهيري، وعلى ضوء هذا التقييم، تتأسس قناعات القاعدة الشعبية عن صحة اختيارها، وانتهاجها المسلك الصحيح في الزمن الماضي، والذي أفضى إلى شكل نظام الحكم في الوقت الحاضر.

 أو أنّ ذلك كان مجرد اندفاع متسرّع، غير مدروس، خالي من التعقل والحكمة، والشعب ضيّع العصفور الذي كان بيده، وهو الآن ينتظر ما على الشجرة. 

هذه هي باختصار مقدمات العمل الديمقراطي، وما يرشح عنه من نتائج لتلك المقدمات. وما نعيشه من أزمات في العراق، هو انعكاس للخلل الحاصل في مرحلة الوصول إلى الديمقراطيّة أو الإعداد لها.

 فالنقطة الأولى، لم ينتج عنها عملية الانفجار والثورة الشعبية على النظام السابق، وإنّما تمّ اختزال هذه المرحلة بالاحتلال الأمريكي للعراق.

والنقطة الثانية، أنّ القوات الأمريكيّة فرضت على العراق شخصيات، أبسط ما توصف به أنّها مرتبطة بها وأنها غير وطنيّة، وكان هذا الفرض متمشياً مع سياسة المحتل.

 إنّ أحداً لا ينكر بأنّ هنالك معارضة وطنيّة عراقيّة في داخل العراق، إلاّ أنّها لا ترقى إلى مصاف العمل المنظم، المعارض للنظام البائد. وإنّما كانت أماني وتطلعات داخل نفوس الوطنيين المخلصين، الذين يخشون البوح بها علناً، خشية بطش النظام البائد بهم، بيّد أنّهم كانوا يتكاشفون، بتلك التطلعات فيما بينهم سراً، عن طريق الصداقات والصلات والعلاقات الأخرى، التي تربط بعضهم ببعض.

أمّا على صعيد المعارضة الوطنيّة في خارج العراق، فقد كان لها حضور في الدول المضيّفة لها. لكن بعد احتلال الأراضي العراقية، من قبل قوات الاحتلال، لم يعطها المحتل الدور الذي ينبغي أن تنهض به، لأن للاحتلال سياسته الخاصة به، وأهداف هذه السياسة بعيدة أصلاً عن طموحات الشعب العراقي، ومعارضته الداخليّة والخارجيّة.

فالقضية قضية مصالح دول عظمى، وليس القضية قضية مبادئ انسانية، وتحرير شعب من ربقة الدكتاتورية. لذا أصبح خط سير الأحداث، يفرض على المعارضة الوطنيّة العراقيّة، أن تكون على مسافة من سياسة الاحتلال، فهي ليست راضية عنها، لكنها مستفيدة منها بالقدر الذي يخدم مصالح العراق، إنّ لم يكن آنياً، فبالتأكيد سيكون مستقبلياً.

 هذه الظروف القسريّة، التي فرضتها أصول الترتيبات السياسيّة العالميّة، على المعارضة الوطنية العراقية، شلّت الدور التاريخي الذي يحتم عليها أنْ تمارسه عملياً، ولم يبقَ أمامها غير المسير على طريقة مدارات إرادة الاحتلال، لكن باستخدام تكتيكات مرحليّة، تحاول المعارضة الوطنيّة (ولنسمها الآن القيادة السياسية الوطنيّة العراقيّة) عزل نفسها بشكل أو بآخر، عن الخط الذي رسمته لها سياسة المحتل، والتي كانت  تتوقع منها أنْ تنفذه بالكامل. هذا التمرّد على قوّة المحتل، جعل سياسيو الاحتلال يختلقون الكثير من الأزمات، كرّد فعل مباشر وعلني، يقول للقيادة السياسية الوطنية (حذار من اللعب بالنار)، وجراء ذلك أصبح العراقيون الابرياء يدفعون الثمن باهضاً.

 والخطأ الجسيم الذي ارتكبته القيادة السياسيّة الوطنيّة العراقية، ولا زالت ترتكبه لحد الآن هو، عدم مكاشفتها للشعب العراقي بخفايا الأمور، الأمر الذي جعل الشعب العراقي، يحمّلها لوحدها مسؤوليّة مآسية، وشديد معاناته، وعظيم أزماته، وما يلحق به من فضائع قتل وتدمير، سيّما أنّ التلويح بكشف المستورات من القضايا، تردد أكثر من مره على لسان السيّد رئيس الوزراء، بأنه سيكاشف الشعب، ويضع النقاط على الحروف وليته فعل، ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أمام أنظار العراقيين، ليزيل منهم  التشنج الحاصل، جرّاء الأحوال الأمنيّة المترديّة، أو استشراء الفساد الاداري في الكثير من مفاصل الدولة، فالشعب كثير العتب واللوم، على القيادة السياسية الوطنية العراقية، الأمر الذي جعله يفقد الأمل جدياً، بأي تحرك سياسي فعلي، يسهم بتفتيت الأزمات المتكالبة على هذا الشعب المظلوم. هذه كارثة كبرى يجب الانتباهُ إليها، لغرض ترميم ما يمكن ترميمه من أواصر الثقة، التي تربط المواطن الغيور بوطنه وأبناء جلدته من جهة،  و بالمسؤول الوطني وبالحكومة الوطنيّة المنتخبة من جهة ثانية.

أمّا النقطة الثالثة، وهي النتيجة الطبيعيّة لاختزال المرحلتين السابقتين لها، وعدم استكمال الأدوار الانتقالية السليمة للمراحل المتعاقبة، فبالتأكيد تكون المرحلة الأخيرة شوهاء ناقصة، وكأنها مولود خديج، لا يقوى على الاستمرار والنمو، لضعف امكاناته الذاتية في ذلك. لأنّ اختزال مرحلة تاريخيّة معيّنة، يعني عدم اكتمال فعلها بصورة تامّة، فيكون تأثيرها منقوصاً في زمن التطبيق، وأثرها ضعيفاً في المرحلة الاحقة، من السلسلة التاريخية للمراحل، لأنّ سنّة التطور التاريخيّة، تحتّم الانتقال التدريجي من مرحلة إلى أخرى، بشرط استكمال الشروط اللازمة التي تتطلبها المرحلة السابقة.

وكعمليّة تعويضيّة للنقص الحاصل، بخصوص انتاج السياسي، الذي يشغل المرحلة الجديدة وفق منظور الاحتلال للعملية السياسيّة، لجأ ذراع الاحتلال السياسي، إلى تقديم  الغثّ والسمين في هذا المضمار، وقد لعب الإعلام المسيّس من قبل إدارة الاحتلال، دوراً غاية في المكّر والدّهاء، فكان في كلّ فترة، يسلّط الأضواء على شخصيّات نكرة، لا يعرف عنها الشعب العراقي، إلاّ الصيت السيّئ، دافعاً إيّاها في خضم معترك ميدان السياسة. وكانت خاتمة المطاف، أن تشكّلت دولة الديمقراطيّة، باجهزتها التشريعيّة والقضائيّة والتنفيذيّة، والخلل يكمن في الكثير من مفاصلها، بسبب العناصر التي دسّت في هذه الزاويّة أو تلك. وبدأ مسلسل فضائح المسؤولين يطفو على السطح، (بالرغم من التكتم على الكثير منها وحجبها عن الناس)، ذلك ما يزيد في نفوس الناس حسرة، و في قلوبهم ألماً، ولسان حالهم يقول: (أ لهؤلاء صوتنا....؟؟!!).

 وبين الفينة والفينة، يسمع الشعب المظلوم في وسائل الإعلام أنّ هناك: (وزيراً مختلساً لأموال الشعب، أو نائباً في مجلس النواب، يعمل مع تنظيم القاعدة والارهابيين، أو نائباً تحركه مخابرات دولة من دول الجوار، أو عصابات أجيرة لرئيس كتلة سياسية، تريد الاجهاز على أعضاء البرلمان والحكومة وتقضي عليهم، أو العثور على بنادق قنص ومتفجرات وسيارات مفخخة، في منزل النائب فلان، أو رئيس مجلس النواب يتورط بالاعتداء على أحد النواب......  وآخراً وليس أخيراً، أنّ وزير الثقافة كان يعمل ذباحاً  قبل تسنّمه لمنصب وزارة الثقافة). فإذا كان هذا حال بعض القيادات السياسية المتقدمة، أو العليا في البلد، فهل يرتجى منها أنْ تقدم للشعب والوطن، ما يصلح أمريهما، أو يسعد حياتهما ؟؟. فهذه هي النتيجة الحتميّة، التي حملتها القوائم الانتخابية المغلقة، والتي في حينها مرّرت على الشعب العراقي، دون اعتراض يذكر، حتى من مراجع الدين، الذين شجعوا أو دفعوا الشعب، لانتخاب هذه القائمة أو تلك.

 إنّها تعكس الأمر الذي دبّر بليل، لوضع الشعب العراقي داخل دوامات لا قبل له بها، ولا حيلة له بالخروج منها، لأن العلّة والمرض، يكمنان داخل الجسد السياسي، الذي تم انتخابه ليحكم العباد والبلاد.

والآن لابدّ من وضع آليّة أو حتى آليّات، لتصحيح الأخطاء السابقة، والانتقال إلى مرحلة جديدة، واضعين نصب أعيننا كل الأخطاء الجسام، التي دفع ثمنها الشعب العراقي، بدون ذنب أو جريرة، سوى وفائه لرموزه الدينية وتقديسه لها، وهي الآن يلفها الصمت المطبق، ولا يصدر عنها سوىّ بيانات الاستنكار على جرائم الارهاب، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فيذهب ضحية تلك الجرائم، عشرات العراقيين الأبرياء، بين كلّ طلوع شمس ومغيب.

أقول: إنّ الضرورة تحتّم، إجراء تنظيف للبيت السياسي العراقي، باستخدام القانون، منعاً للتمهيد لدولة الفساد والظلم، في العراق الجديد، فاقترح على أعضاء السلطة التشريعية المحترمين ما يلي:ــ

(يجب وضع تشريع في الدستور العراقي، يحدد عقوبة  قانونيّة معيّنة،  تتحمّل تبعتها القانونيّة الكتلة السياسيّة، التي رشحت (النائب في مجلس النواب، أو الوزير في السلطة التنفيذيّة، أو القاضي في السلطة القضائية، أو المسؤول المعين في مكان ما)، إذا ما ارتكب أيّ منهم عملاً، يلحق الضرر أو الأذى بالشعب العراقي، كلاً أو جزءاً، بصورة مباشرة  أو غير مباشرة، فان الكتلة السياسية التي رشحته، تتحمل مسؤوليّة ذلك الخلل، وتنسحب عليها الاجرءآت التاليّة بصورة تضامنية:ــ

1. تسحب الثقة من هذه القائمة، إذا تجاوز عدد أخطائها ثلاث مرات، وتعتبر كتلة غير سياسيّة، وتحجب عنها جميع الحقوق والامتيازات، بما فيها سحب جميع أعضائها من مجلسي النواب والوزراء، ويتم التعويض بدلاً عنهم، بعناصر وطنية مستقلة، لا تنتمي لأي جهة سياسية كانت. 

2. في حالة ارتكاب أي عضو منسوب لكتلة سياسية معيّنة، مكلف بواجب رسمي، خطأً من الأخطاء آنفة الذكر، يسحب مجلس النواب الثقة منه، ويعوّض مكانه شخص آخر مستقل، لا ينتمي لأي كتلة سياسية أخرى.

سيكون هذا الإجراء رادعاً لأعضاء الكتل بمجموعها، وسيكون أيضاً بمثابة الهاجس والرقيب، الذي يحمّل مسؤوليّة خطأ المسؤول المعيّن، لمرجعيته السياسيّة التي رشحته، فضلاً عن تحميل المسؤول نفسه عواقب خطئه. فيجب أنْ تبقى الكتلة السياسية و أعضاؤها، داخل دائرة المسؤولية القانونيّة، حتى يمكن ضمان أنْ يكون العمل السياسي عملاً جماعياً، يتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية فيه، فريق العمل بكل أعضائه. وبذلك  نبعد عن كاهل المسؤولين الوطنيين المخلصين، تبعات المسيئين من غير الوطنيين والمخلصين لهذا الشعب، لأن الشعب ينظر إلى العملية السياسية برمتها، كمنظومة عمل متكاملة متضامنة فيما بينها، يأمل منها أنْ تقدم له الخير والعمل المميّز. وفق هذا التصور ستحصل عملية عزل الفاسد عن الصالح، ليتمكن الصالح من أخذ دوره في عملية البناء الوطني، وتحقيق ما يصبو إليه الشعب العراقي، من تقدم وحرية وازدهار.

 ولا مناص هنا من التذكير بأنْ يكون الميزان الاساسي في التقييم، اعتماد المعايير الوطنية بدون اقحام مراجع الدين، أو رجال الدين في السياسية، لقطع الطريق مبكراً عن عمليات التزييف والتدليس، التي تخلع القداسة على البعض دون البعض الآخر، فهناك فرق كبير بين اللجوء إلى الدين الاسلامي الحنيف لرسم السياسة، وبين اللجوء إلى رجل الدين لرسم السياسة، وساتكلم لاحقاً ان شاء الله تعالى عن هذا الموضوع، والله سبحانه من وراء القصد.  

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 2 تموز/2007 -15/جماد الاخرى/1428