مصطلحات سياسية: الإسلام والسياسة

Islam et Politics, Islam and Politics

 

الإسلام والسياسة: Islam and Politics

شبكة النبأ: الإسلام متنوّع، في المكان وفي الزمان، لذلك ليس من المنطقي تحديد بنية سياسية متجانسة خاصة بهذا الدين القديم والذي يعتنقه نحو مليار شخص. لكن ضمن وجهة نظر مقارنة شاملة، يمكن تبيان صفات تميز مجتمعات العالم الإسلامي عن المجتمعات المحكومة بثقافات أخرى، وتعيق عمليات عولمة القيم أو المتخيلات. هناك أولاً الصفة التوحيدية للشرعية الإسلامية: وهذه تكمن عند الله وحده والذي لم يعطِ البشر (وبالتالي الأمراء أو رجل القانون) أهلية نشر العدل. أي أن هذا العدل لا يمكن أن ينبثق عن العمل التشريعي البشري: إذاً كي يصبح الأمير شرعياً عليه أن يبذل جهداً ليلتزم بالشريعة (القانون الإلهي) الذي يجده في كتاب القرآن، وفي السنة (أحاديث الرسول وأعماله)، وحتى في الاجتهاد (مسعى التأويل وفقاً للقانون الإلهي)، أو الإجماع (توافق مجتمع المؤمنين، أو على الأقل العلماء). ضمن التوجه ذاته، على الأمير أو الخليفة أن يحمي مجتمع المؤمنين (الأمّة) ويدافع عن الإيمان. يضاف إلى هذا المفهوم عن الشرعية أساس آخر يضمن سلطة الأمير: المواطنية، وقبل أن تكون عادلة، هي ضرورية للحماية من الفوضى والفتنة. هذه الناحية من الخطاب السياسي في الإسلام قد تبدو مصدر استبدادية وعشوائية؛ لكن الأمر يتوضح في المطلب الثاني الذي يعتبر أن الأمير الملحد يمكن أن يكون سبباً للفتنة ولذلك تجب محاربته حتى بالجهاد (جهد ديني لمحاربة الشر). هكذا تكتسب المعارضة ذات الطبيعة الدينية قيمة أكبر وتدفع الأمير لأن يستقي من قانون الله. وتجدر الإشارة إلى أنه يجب وضع هذه الرؤية إلى جانب هيكليات أخرى وسمت ولا تزال مصير العديد من الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي، إما بتأثير من العوامل الخارجية لاسيما استيراد النماذج السياسية الغربية، إما بتأثير التقاليد الطمأنينية وحتى المعلمنة ..

متعلقات

إسلام سياسي(1)

إسلام سياسي عبارة عن مصطلح سياسي وإعلامي استخدم لتوصيف حركات تغيير سياسية تؤمن بالإسلام باعتباره منهج حياة، واستخدم بكثافة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 واستخدم هذا المصطلح بكثرة في الحملة الدعائية لما سميت الحرب على الإرهاب. من وجهة نظر المسلمين يعتبر استخدام هذا المصطلح نابعا من عدم فهم و تعمق كافي في فلسفة الإسلام حيث يعتبر الإسلام من الناحية التأريخية الدين الوحيد الذي استطاع في عهد أنتشاره الأولي من تكوين نواة لمؤسسات اجتماعية و خدمية و سياسية على الصعيدين الداخلي و الخارجي على عكس الديانات الأخرى التي لم يتمكن مؤسسوا الديانة من تشكيل بدايات دولة.

الإسلام السياسي بالمفهوم الغربي يمكن تعريفه كمجموعة من الأفكار و الأهداف السياسية النابعة من الشريعة الأسلامية والتي يستخدمها مجموعة يطلق عليهم الأعلام الغربي "المسلمين المتطرفين" الذين يؤمنون ان الإسلام ليس عبارة عن ديانة فقط وأنما عبارة عن نظام سياسي واجتماعي و قانوني و أقتصادي يصلح لبناء مؤسسات دولة . يتهم خصوم الحركات الإسلامية هذه الحركات بأنها تحاول بطريقة أو بأخرى اعادة هيكلة الدول وتطبيق تحليل محافظ الشريعة الأسلامية . يلقى فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية بحذافيره في السياسة عدم قبولا من التيارات التي تسمي نفسها الليبرالية او ما يطلق عليهم في بعض الأحيان الحركات العلمانية. ورغم الانتقادات والحملات الأمنية والإعلامية ضدها تمكنت حركات الإسلام السياسي من التحول إلى القوة السياسية الأكبر والأقوى في الشارع العربي.

 كلمة إسلام سياسي

بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وجه الأعلام العالمي اهتمامه نحو الحركات السياسية التي تتخذ من الإسلام مصدرا لرسم الخطوط العريضة لسياستها وحدث في هذه الفترة الحرجة نوع من الفوضى في التحليل ادى بشكل او بآخر إلى عدم التمييز بين الإسلام كدين رئيسي و بين مجاميع معينة تتخد من بعض الأجتهادات في تفسير و تطبيق الشريعة الأسلامية مرتكزا لها. وعدم التركيز هذا ادى إلى انتشار بعض المفاهيم التي لا تزال آثارها شاخصة لحد هذا اليوم من تعميم يستخدمه أقلية في العالم الغربي تجاه العالم الأسلامي بكونها تشكل خطرا على الأسلوب الغربي في الحياة و التعامل.

يعتبر مصطلح الأسلام الأصولي Islamic Fundamentalism من اقدم المصطلحات التي تم استعمالها لوصف ما يسمى اليوم إسلام سياسي حيث عقد في سبتمبر 1994 مؤتمر عالمي في واشنطن في الولايات المتحدة بأسم " خطر الإسلام الإصولي على شمال افريقيا" وكان المؤتمر عن السودان و ما وصفه المؤتمر بمحاولة إيران نشر "الثورة الأسلامية" إلى أفريقيا عن طريق السودان . تدريجيا بعد ذلك و في التسعينيات وفي خضم الأحداث الداخلية في الجزائر تم أستبدال هذا المصطلح بمصطلح "الإسلاميون المتطرفون" واستقرت التسمية بعد احداث 11 سبتمبر 2001 على الإسلام السياسي.

يعتقد معظم المحللين السياسيين الغربيين ان نشوء ظاهرة الإسلام السياسي يرجع إلى المستوى الأقتصادي المتدني لمعظم الدول في العالم الأسلامي حيث بدأت منذ الأربعينيات بعض الحركات الأشتراكية في بعض الدول الأسلامية تحت تاثير الفكر الشيوعي كمحاولة لرفع المستوى الأقتصادي و الأجتماعي للافراد ولكن انهيار الاتحاد السوفيتي خلف فراغا فكريا في مجال محاولة الأصلاح الأقتصادي و الأجتماعي و يرى المحللون انه من هنا انطلقت الأفكار التي قامت بتفسير التخلف و التردي في المستوى الأقتصادي و الأجتماعي إلى أبتعاد المسلمين عن التطبيق الصحيح لنصوص الشريعة الأسلامية وتؤثر حكوماتهم بالسياسة الغربية  ولعبت القضية الفلسطينة والصراع العربي - الأسرائيلي واحتلال إسرائيل للضفة الغربية و قطاع غزة كل هذه الأحداث وتزامنها مع الثورة الأسلامية في إيران و حرب الخليج الثانية مهدت الساحة لنشوء فكرة ان السياسة الغربية مجحفة وغير عادلة تجاه المسلمين وتستخدم مفهوم الكيل بمكيالين.

يرى بعض المختصين الأمريكيين في شؤون الإسلام مثل روبرت سبينسر انه لايوجد فرق بين الإسلام و الإسلام السياسي وانه من غير المنطقي الفصل بينهما فالإسلام بنظره يحمل في مبادئه اهدافا سياسية  وقال سبينسر ما نصه "ان الإسلام ليس مجرد دين للمسلمين وانما هو طريقة وأسلوب للحياة وفيه تعليمات و أوامر من ابسط الفعاليات كالاكل والشرب إلى الأمور الروحية الأكثر تعقيدا .

 بدايات الإسلام السياسي

أتاتورك ألغى الخلافة الاسلامية في 3 مارس 1924

بالرغم من وجود دول و حكومات و أمبراطوريات و دويلات في التاريخ كانت تستند في أدارتها الداخلية و توجهاتها السياسية إلى الشريعة الأسلامية ولكن حركة الإسلام السياسي بمفهومه الحديث بدأت بعد أنهيار الأمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى وقيام مصطفى كمال أتاتورك بتأسيس جمهورية تركيا على النمط اﻷوروبي والغائه لمفهوم الخلافة الاسلامية في تاريخ 3 مارس 1924 والغائه الشريعة الإسلامية من المؤسسة التشريعية وقام ايضا بحملة تصفية ضد كثير من رموز الدين والمحافظين. وبدأت الأفكار التي مفادها ان تطبيق دين الإسلام في تراجع وان هناك نكسة في العالم الأسلامي بالأنتشار وخاصة بعد وقوع العديد من الدول الأسلامية تحت انتداب الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.

كانت ما أعتبره البعض النكسة الثانية للاسلام في العصر الحديث هو نشوء حركة القومية العربية على يد القوميون العرب و جمال عبد الناصر و حزب البعث العربي الاشتراكي والذي كان الأنتماء للقومية العربية و ليس الأنتماء لدين الإسلام هو المحور المركزي لهذا التيار وبدأت تدريجيا نشوء دول عربية و أسلامية مستقلة يظهر فيها تفاوت في مدى تطبيق الشريعة الأسلامية في رسم سياسة الدولة وكان المنحى العام في تلك الفترة هو نحو العلمانية ولم يكن هذا المنحى مقبولا لدى العديد من المواطنين الساكنين في الدول العربية وتم أستعمال القوة في نشر الأفكار القومية العربية و العلمانية في بعض الدول مثل مصر في عهد جمال عبدالناصر و العراق في عهد حكم حزب البعث.

 حركة ديوباندي في الهند

نشأت حركة ديوباندي في الهند كردة فعل على الهيمنة البريطانية في الهند حيث أنطلقت من قرية ديابوند الواقعة 150 كم من العاصمة نيودلهي على يد سيد أحمد خان (1817 - 1898) حركة أسلامية انتشرت في جنوب آسيا وكانت الحركة تتخذ من الفقه الإسلامي حسب المذهب الحنفي محورا مركزيا لها وتم بناء مدرسة دار علوم ديوباند في القرية عام 1866 وقامت المدرسة بتدريس مايعتبره العالم الغربي بالمفهوم الحديث الإسلام السياسي ويمكن تلخيص مبادئ هذه الحركة بالتالي:

التوحيد بالله

اتباع سنة رسول الإسلام محمد بن عبدالله في كل صغيرة و كبيرة.

حب الصحابة

تقليد وأتباع اقدم مدارس الفقه او الشريعة الأسلامية .

الجهاد في سبيل الله.

كان لهذه المدرسة الأثر الأكبر في نشوء حركة طالبان فيما بعد. كان مؤسس الحركة سيد أحمد خان يشعر بالقلق من كون المسلمين أقلية في الهند و كمواجهة للمد البريطاني في الهند نصح اتباعه بتقبل الثقافة الغربية بصورة محدودة مع عدم الأنفتاح الكامل على الغرب وكان يخطط لأنشاء مؤسسة تعليمية ضخمة توازي في ضخامتها جامعة كامبريدج وقام باصدار صحيفة باسم "تهذيب الأخلاق" وتدريجيا نشأت خلافات بينه وبين الهندوس من جهة و السلطات البريطانية من جهة أخرى وعندما بدأت بوادر الأزمة في 1876 نتيجة اصرار الهندوس على اعتبار اللغة الهندية لغة رسمية بدلا من لغة أردو عندها صرح احمد خان انه كان و لفترة طويلة يعتقد ان المسلمين و الهندوس هم أمة واحدة ولكنه مقتنع الآن ان هناك خلافات جذرية تمنعهما من ان يكونا أمة واحدة". بالرغم من ان حركة سيد أحمد خان لم تكن مسلحة ولم تتسم بطابع العنف إلا ان آثار و افكار هذه المدرسة كانت لها دورا كبيرا في نشوء دولة باكستان و حركة طالبان فيما بعد .

 حركة سيد أبو الأعلى المودودي

يعتبر سيد أبو الأعلى المودودي (1903 - 1979) من الشخصيات الدينية البارزة في تأريخ باكستان وكان المودودي متؤثرا بتعاليم حركة ديوباندي في الهند . كان المودودي ينادي لأقامة دولة أسلامية يتم فيها تطبيق للشريعة الأسلامية. في عام 1941 أنشأ المودودي مجموعة "جماعتِ اسلامی" أي الجماعة الأسلامية وكانت عبارة عن حركة أسلامية سياسية ويسيطر هذه الحركة في الوقت الحاضر على 53 مقعد من المقاعد البرلمانية البالغة عددها 272 في البرلمان الباكستاني . يعتقد بعض المؤرخين ان سيد قطب من حركة الاخوان المسلمين قد تأثر بافكار المودودي ويعتبر قطب و المودودي من مؤسسي تيار مايسميه البعض "الصحوة الإسلامية" .

تعرض المودودي إلى الأعتقال بسبب انتقاداته الشديدة و المتكررة للسياسيين في باكستان من عدم اعتمادهم على الشريعة الأسلامية في رسم سياسة الدولة . من عام 1956 إلى عام 1974 قام المودودي بمجموعة من الرحلات لنشر افكاره على شكل محاضرات في القاهرة و دمشق و عمان و مكة و مدينة و جدة و الكويت و الرباط و إسطنبول و لندن و نيويورك و تورونتو .

 حركات الجهاد الإسلامي

ادى اعتقال سيد قطب و تنفيذ حكم الأعدام عليه مع 7 آخرين في في فجر الاثنين 29 اغسطس 1966 إلى نشوء نوع من بوادر الأنقسام في حركة الإخوان المسلمين حيث أستمرت قيادة الجماعة متمثلة في حسن الهضيبي في انتهاج نهج معتدل يدعو إلى الحوار  بينما بدأت بعض الفصائل التي تتبنى تغييرات جذرية في الخطوط العريضة للحركة بالظهور وكان محركهم الرئيسي الكتابات الأخيرة التي كتبها سيد قطب من المعتقل قبل أعدامه ومهد هذه الأحداث الطريق إلى نشوء حركة الجهاد الإسلامي في مصر في اواخر السبعينيات والتي تبنت مسؤوليتها عن اغتيال محمد أنور السادات وحاولت اغتيال وزير الداخلية المصري حسن الألفي و رئيس الوزراء عاطف صدقي في عام 1993 . يعتبر حركة الجهاد الإسلامي في مصر مسؤولا عن تفجير السفارة المصرية في باكستان عام 1995 و سفارة الولايات المتحدة في ألبانيا عام 1998 . كان أيمن الظواهري زعيما لحركة الجهاد الإسلامي في مصر في الثمانينيات ولكنه انظم إلى القاعدة فيما بعد . بعد نشوء هذه الحركة في مصر ظهرت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وكانت معارضة لمنظمة التحرير الفلسطينية و زعيمها ياسر عرفات .

 بعد الثورة الأسلامية في إيران

شهد مايسمى بحركات الإسلام السياسي من قبل البعض او مايسمى بالصحوة الإسلامية من قبل البعض الآخر نشاطا في الثمانينيات و التسعينيات ويعتقد معظم المحللين السياسيين ان هناك عوامل عديدة ساهمت في هذا النشاط منها فشل حركات القوميون العرب و التيار الشيوعي من تحقيق اي تقدم ملموس في الواقع الاقتصادي المتردي في كثير من الدول العربية اضافة إلى قيام الجمهورية الإسلامية في إيران و التدخل السوفيتي في أفغانستان وصعود محمد ضياء الحق إلى السلطة في باكستان و حرب الخليج الثانية كل هذه العوامل مجتمعة مع التوتر في علاقة السعودية مع إيران وخاصة بعد فشل مساعي السعودية من الحد من انتشار الفكر الأيراني بعد اعتمادها على صدام حسين و حرب الخليج الأولى ادى هذا إلى اعتماد السعودية أستراتيجية بديلة في منافستها مع إيران الا وهي الدعم المالي للمدارس الإسلامية القريبة من تفكير السعودية اضافة إلى الدعم المالي للمجاميع الإسلامية في البوسنة و الهرسك و افغانستان .

في التسعينيات اخذت ما يسمى بحركات الإسلام السياسي طابعا عنيفا في الجزائر و فلسطين و السودان و نيجيريا وكان الحدث الأكبر في هذه الفترة هو صعود حركة طالبان إلى الحكم في أفغانستان مما ادى بصورة عملية إلى تشكيل كيان جغرافي و سياسي وجد الكثير ممن يوصفون باتباع منهج الإسلام السياسي ملاذا و نقطة انطلاق فيها ومن ابرزهم تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن وفي تركيا فاز حزب التطور والعدالة ذو التوجه الإسلامي المحافظ بزعامة رجب طيب أردوغان باغلبية مقاعد البرلمان في تركيا في عام 2002.

 بعد 11 سبتمبر 2001

بعد احداث 11 سبتمبر 2001 حاولت الأدارة الأمريكية بقيادة الرئيس الأمريكي جورج و. بوش ايجاد طريقة للحد من انتشار ما يسمى الإسلام السياسي فقامت الولايات المتحدة باعلان الحرب على الإرهاب المثير للجدل الذي يرى البعض انه بطريقة او باخرى ادى إلى زيادة انتشار فكر الإسلام السياسي حيث انتشرت هذه الأفكار في دول كانت تتبع في السابق منهجا علمانيا مثل العراق حيث بدأت افكار الإسلام السياسي بالظهور بعد غزو العراق 2003 وبدأ الملف الشيشاني مع الاتحاد الروسي تاخذ طابعا أكثر عنفا و اصبحت بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق يظهر على حكوماتها ملامح إسلامية مثل أوزبكستان و كازاخستان و ترکمانستان و أذربيجان . يرى الرئيس الأمريكي جورج و. بوش ان الأصلاح الأقتصادي في العالم الإسلامي يعتبر عاملا مهما في الأنتصار في مايسمى الحرب على الإرهاب ولكن هذا الأصلاح يبدو بطيئا جدا في ساحات مايسمى الحرب على الإرهاب في افغانستان و العراق.

 الحركات الليبرالية في الإسلام

هناك العديد من الحركات التي توصف بانها حركات الإسلام الاجتهادي او حركات الإسلام التقدمي التي تعتمد على الإجتهاد او تفسير جديد او عصري لنصوص القرأن و الحديث النبوي ويزعم هذا التيار بانهم يحاولون الرجوع إلى المبادئ الأساسية للإسلام. يمكن تلخيص المحاور الرئيسية لهذا التيار بالنقاط التالية:

إستقلاية الفرد في تفسير القرآن و الحديث

التحليل الأكاديمي للنصوص والتعاليم الإسلامية المحافظة.

انفتاح أكثر مقارنة بالتيار المحافظ وخاصة في مسائل العادات و طريقة البس و الهندام.

التساوي الكامل بين الذكر و الأنثى في جميع أوجه الحياة.

اللجوء إلى أستعمال الفطرة اضافة إلى الإجتهاد في تحديد الخطأ من الصواب.

يرجع بدايات هذا التيار إلى اختلاط المسلمين مع العالم الغربي من خلال موجات الهجرة . ويرى هذا التيار ان التطبيق الحرفي لكل ما ورد من نصوص اسلامية قد يكون صعبا جدا إن لم يكن مستحيلا في ضروف متغيرات العصر الحديث . وهذا التيار لا يؤمن بصلاحية اية جهة باصدار فتوى و يؤمن هذا التيار بحق المرأة في تسلم مناصب سياسية وحتى ان تكون خطيبة في مسجد  ومعظم من في هذا التيار يحاولون فصل السياسة عن الدين ويفضلون مبدأ اللاعنف  .

يرى التيار المحافظ في الإسلام ان مصطلح "مسلم ليبرالى" هو صنيعة غربية ولايوجد على ارض الواقع مثل هذه التسمية وان من يحملون هذه الأفكار قد ابتعدوا عن المبادئ الأساسية لدين الإسلام بسبب تأثرهم بالعالم الغربي  .

الإسلام السياسي والغرب(2)

ما الإسلام السياسي:

إشكالية المصطلح:

إن عملية تعريف الإسلام السياسي وما يتعلق به من مصطلحات أخرى كالأصولية والصحوة الإسلامية والتطرف الإسلامي والإرهاب والإرهاب الإسلامي أو الإسلاموفوبيا تنطوي على إشكال مفهومي يعزى للتشابك, والتداخل بين هذه المفاهيم, والاختلاف بين الباحثين والأكاديميين في مقاربتها, رغم الخطوط العريضة التي تجمع ما بين جميع التعريفات.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد.”فأي إسلام نعنى, وأي إسلاميين؟ هل هو إسلام الأمة أم إسلام الخاصة؟ هل هو الإسلام الشعبي أم الإسلام الرسمي؟ هل هو إسلام الحكومات أم إسلام الحركات السياسية؟ وإذا كان إسلام الحكومات فهل هو إسلام السعودية أم إيران أم طالبان ...؟ وإذا كان إسلام الحركات السياسية؟ فهل هو إسلام الإخوان المسلمين أم حزب التحرير أم الجماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي؟

وإذا كان إسلام النخبة المثقفة, فهل هو إسلام سيد قطب أم أبى الأعلى المودودى أم هو إسلام حسن الهضيبى والقرضاوي...»1

ويرى المشاركون في ندوة التوجهات الغربية نحو الإسلام السياسي, التي عقدت في الجامعة الأردنية في نوفمبر عام 1998 بأنه نظراً للتعددية في الرؤى والتصورات والاستراتيجيات لدى الإسلاميين السياسيين فإنه من الأولى أن نطلق عليها حركات الإسلام السياسي بدلا من إفرادها بحركة واحدة للإسلام السياسي أو المسلمين. بل يذهبون إلى أبعد من ذلك ويقولون إن إضفاء صبغة السياسي على الإسلام تحدث خلطاً  وتشويشاً يتعلق أساساً بأن مصطلح  الإسلام  السياسي هو مصطلح يجزئ الإسلام كدين, وهو أمر يرفضه أتباعه ومعتنقوه2. بل حتى إن مصطلح  الشرق الأوسط نفسه فيه إشكالية, فنحن  شرق أوسط كما تسمينا الولايات المتحدة والغرب, أما فيما يتعلق بهدف ومضمون هذا البحث فإن الشرق الأوسط يشمل العديد من تجارب الإسلام السياسي ,إضافة إلى وجود إسرائيل كجزء من المنطقة وفيها حركة إسلامية ذات خصوصية3.

الإسلام السياسي:

يرى الدكتور إبراهيم أبو عرقوب بأن الإسلام السياسي هو الإسلام الذي يدعو إلى المزج بين الدين والسياسة في الشؤون المحلية والعالمية, ويرى في مبدأ«دع ما لله لله”, وما لقيصر لقيصر» شذوذا عن طبيعة الإسلام كدين شامل للدين والدنيا. فالإسلام السياسي, أو دعنا نقول حركات  الإسلام السياسي بمجملها لا تؤمن بفصل الدين عن الدولة وتسعى في استراتيجيتها وبرامجها إلى إقامة دولة إسلامية تطبق الإسلام كدين ودولة ونظام حياة4.

ولنا تعليق هنا وهو تحفظ على كلمة «مزج» والمزج بالمفهوم  المألوف يتم ما بين عنصرين غريبين ,فيما ينظر الإسلاميون على أن نظام الدولة هو جزء لا يتجزأ من الإسلام.

يقول عبد القادر عودة, في«كتاب الإسلام وأوضاعنا السياسة» و”الإسلام ليس دينا» فحسب ,وإنما هو دين ودولة. وفي طبيعة الإسلام أن تكون له دولة, فكل أمر في القرآن والسنة يقتضي تنفيذه قيام حكم إسلامي ودولة إسلامية, لأن تنفيذه كما يجب غير مأمون إلا في ظل حكم إسلامي خالص ودولة إسلامية تقوم على أمر الله . وقيام الإسلام نفسه في الحدود التي رسمها الله وبينها الرسول يقتضي قيام دوله إسلامية تقيم الإسلام في حدوده المرسومة, وذلك منطق لا يجحده إلا مكابر.”5.

وأكثر ما جاء به الإسلام  لا يدخل تنفيذه في اختصاص الأفراد وإنما هو من اختصاص الحكومات, وهذا وحده يقطع بأن الحكم من طبيعة الإسلام ومقتضياته وأن الإسلام دين ودولة6. ويؤكد على هذه النظرة التكاملية لتعاليم الإسلام بشأن الحكم والسياحة سيد قطب في تفسيره لآية«إنْ الحكم إلا الله, أَمَر إلا تعبدوا إلا إياه”7, فالآية من وجهة نظر قطب تربط ما بين الحكم والعبادة باعتبارها جزءاً منه, لا عنصرا خارجيا يتم مزجه بها.

“إن الحكم إلا لله» فهو مقصور عليه سبحانه بحكم الوصية, إذا الحاكمية من خصائص الألوهية, من ادّعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه وتعالى الوصية, سواء ادّعى هذا الحق فرد أو طبقة أو حزب أو هيئة أو أمة أو الناس جميعاً في هيئة صورة منظمة عالمية. وادّعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحد... ولكنه يدعى هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية, ويستمد القوانين من مصدر أخر... والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم  بشريعة الله, ولكنها ليست مصدر الحاكمية التي تعطى القانون شرعيته, إنما مصدر الحاكمية هو الله8.

فالإسلام السياسي عموما يركز على أن السياسة جزء من الدين وأن الممارسات الإنسانية وكافة جوانبها يجب أن تخضع للمعايير العقيدية, وتطبيق  المفهوم الجهادي للوصول إلى الأهداف المنشودة9.

كما يدعو الإسلام السياسي إلى إعادة البناء الأيديولوجي- الدنيوي للإسلام, بما يتلاءم مع التشريعات العقائدية بالإضافة إلى تفعيل سيادة العدالة واعتماد قواعد التعامل في النطاق الداخلي والممارسات الخارجية على النص القرآني10.

والإسلام السياسي  الذي يرى في الإسلام ديناً ودولة  يرى أن تراجع الدور الحضاري للمسلمين هو نتيجة حتمية ومنطقية لعدم تطبيقهم لجزئيات وتفاصيل الشريعة الإسلامية واستبدال هذه الشريعة بالقيم والمبادئ الغربية, وبالتالي فان أي دور مستقبلي للإسلام والمسلمين يجب أن يرتكز على تطبيق كامل للشريعة في المجتمع الإسلامي بكل مظاهرة بما في ذلك نظام الحكم11.

ومن هنا نخلص إلى أن الإسلام السياسي هو فهم للإسلام كدين شامل متكامل يحتوى على ما يصلح البناء عليه لإقامة مجتمع إسلامي متميز بهويته الإسلامية, حيث تطبق المعايير العقيدية والدينية على كل مناحي الحياة.

وبالمجمل فان حركات الإسلام السياسي هي تلك الحركات التي تصرح بهدف معلن هو السعي بشتى  الوسائل لإقامة هذه الدولة الإسلامية والتي تمتلك بنية تنظيمية علنية أو سرية وتحظى بدعم جماهيري يختلف من قطر لقطر وآخر من ناحية لأخرى من حيث الحجم والفاعلية لكنه صالح لان يتخذ أساسا لإقامة النظام الإسلامي المنشود12.

إنّ وراء تنامي حركات الإسلام السياسي أسباب تعود في أساسها  إلى أزمة السلطة وأزمات المجتمع في الوطن العربي في ما بين عامي 1964و1974 إذ تطورت أزمة السلطة في الوطن العربي  الذي فشلت فيه تجارب الوحدوية، والتجارب التنموية والمناهج السياسية، وبالإضافة إلى الحروب التي خسرتها الأمة في مواجهة الكيان الصهيوني. لقد تطورت تلك الأزمة من أزمة السلطة إلى بدايات أزمة مجتمع وتفاقمت في الثمانينيات13. والرؤية الأيدلوجية للحركات الإسلامية  تتنوع وتتعدد  ولكن الشيء المشترك فيما بينها هو ما يلي:

اعتبار الإسلام طبقة شاملة للحياة والدولة والمجتمع.

اعتبار التغريب وتبني العلمانية الغربية سببا للأزمات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع المسلم .

إن سعادة السلطة تتطلب العودة إلى الصراط الإسلامي  المستقيم، وهو البديل لكل من الرأس مالية والماركسية. 

إن إعادة تطبيق الشريعة الإسلامية سوف يؤدى إلى نشوء مجتمع أطر أخلاقية وعدالة.

من واجب جميع المسلمين التضحية والجهاد في سبيل الله14.

ويرى عموس بيرلومبتر أن ما يجمع الأصوليين من وجهة نظره هو وجود برنامج سياسي رغم تنوع وجهات النظر الأيدلوجية لديه, بحيث يكون الهدف الأسمى الذي يسعون إلى تحقيقه من هذا البرنامج إقامة دولة إسلامية  بشكل أو بآخر15.

وسواء كانت تلك الجامعات الإسلامية في مصر أو الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر أو حزب الله في لبنان أو حماس وإلى حد ما الجهاد في فلسطين والدعوة في العراق، والإخوان المسلمين والنفير الإسلامي أو جيش محمد في الأردن والإخوان المسلمين الذين أخلدوا إلى السكون في سوريا، فانهم يريدون نظاماً سياسيا تقليديا, يريدون جمهوريات إسلامية. إنهم واضحون كل الوضوح في هذا الصدد16.

الإسلام السياسي  وعلاقته بالصحوة الإسلامية:

يبرز  لدى التطرق لمفهوم الصحوة الإسلامية مشكلة أخرى. فعلى المستوى السطحي ينظر للصحوة الإسلامية على أنها عودة جماهيرية للدين في ظل  ظروف من القنوط واليأس من كل البدائل الأخرى. وأحيانا تتداخل الصحوة الإسلامية مع الإسلام السياسي بحيث يشير المصطلحان إلى مفهوم واحد، وهذه وجهة نظر يرفضها  العديد من الباحثين الذين يؤكدون أن الصحوة الإسلامية لا تعني الإسلام السياسي بشكل مطلق. بل أن الصحوة الدينية ظاهرة عامة أصابت المسلمين  والمسيحيين واليهود والبوذيين  والوثنين ...وبالتالي  فهي لا تقتصر على المسلمين وحدهم17.

ويرى فهمي هويدي  أن الحركات الإسلامية السياسية التي يقودها النخبة ليست هي الصحوة الإسلامية  التي وصلت إلى كافة شرائح المجتمع الإسلامي  بل وأدت إلى دخول العديد من غير المسلمين دين الإسلام , ومع ذلك فإن الظاهرتين تلازمتا وكانت الصحوة، هي الأعم، الذي نشأت من خلاله الظاهرة السياسية .

وترتبط الصحوة بالإرادة الذاتية الإنسانية، فهي تعنى معالجة الخلل العقيدي عند الإنسان المسلم  فيرأب الصدع  ويعدل السلوك بما يتواءم  والمعايير العقيدية, وليس شرطا أن يلج جوانب السياسة، وان كانت الصحوة تبدأ بالفرد وعلاج أحواله فإنها تمتد للأسرة والمجتمع الذي يبدأ بالبحث عن ذاته وينفض عن حضارته غبار الاستلاب الحضاري والعقيدي  ثم يخرج من هذا الخضم الإسلامي السياسي بتعدديته  واختلاف استراتيجيته ورؤاه18.

ورغم أن الاهتمام بالإسلام السياسي على المستوى العالمي لم يبدأ بشكل بارز إلا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين إلا أن الصحوة الإسلامية الحديثة تعود إلى أيام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا الذين لم يخوضوا في السياسة والأحزاب حتى جاءت حركة الإخوان المسلمين عام 1928 ونظمت الطروحات الإسلامية في حركة سياسية19.

ومن أبرز الأدلة على تجاوز الصحوة للمستوى الفردي للإصلاح وصولاً إلى مستوى المشروع الحضاري النهضوي إنها ارتبطت وإلى حد بعيد بحركات التحرر من الاستعمار, خاصة في المغرب العربي.

وبالمجمل فان ظاهرة الصحوة الإسلامية أقدم من الإسلام السياسي وهى عامة امتدت في شرائح المجتمع العربي والإسلامي لينبثق عنها فيما بعد الإسلام السياسي وما لحق به من اتهامات بمعاداة السلم العالمي والتقدم الحضاري.

العامل الاقتصادي ودوره في ظهور الصحوة الإسلامية :

يميل  علماء الاجتماع الغربيون إلى ربط زيادة الالتزام الديني عند الشعوب بالإحباط الاجتماعي والأزمات الاقتصادية الخانقة, فكأن الجماهير لا تجد ملجأ أمام عجزها المطلق عن حل هذه الأزمات إلا بالرجوع إلى دينها. ومن العلماء الذين يؤيدون هذا الطرح كارل ماركس وكاترل فيبر ودوركهايم20.

ومن الواضح أن الأمريكيين يميلون لهذا  التفسير للصحوة الإسلامية باعتبارها مهد الحركات الإسلامية التي تلقى قبولا متزايدا في الشارع العربي.

ويقول إدوارد دجرجيان في شهادة له أمام الكونجرس الأمريكي حول الشرق الأوسط عام 1993:

“وفي التحليل الأخير يجب أن نشير إلى أن  الحيف الاجتماعي وفقدان الفرص الاقتصادية والتعليمية والسياسية هو الذي يوفر للمتطرفين مساندين في كل بلد”21.

وفي خطاب الرئيس الأمريكي بل كلينتون أمام البرلمان الأردني عام 1994 أشار إلى أن الحركات المتطرفة تقتات على اليأس والفقر والإحباط باعتبارها عوامل وراء ظاهرة الصحوة الإسلامية.

“هذا هو النزاع الذي يكتنف الشرق الأوسط حاليا, فعلى طرف تقف قوى الإرهاب والتطرف التي تحيط نفسها بالكلام البليغ حول الدين والقومية, فيما تناقض في نفس الوقت تعاليم دينها وتخسر من محبة وطنها. قوى الرجعية هذه تقتات على الإحباط والفقر واليأس , وهى تؤجج نيران العنف وتسعى لتدمير التقدم في هذا المكان22.

ويؤكد فيصل الرفوع23 ذلك بقوله: إن للمتغيرات الاقتصادية الدولية دورا في تعميق الحس الإسلامي المعادي للغرب في ظل النظام الجديد والهيمنة الاقتصادية الأمريكية على وجه الخصوص. ويرى أن سلبيات هذا النظام قد انعكست بشكل كبير على الشعوب الإسلامية التي عانت الكثير من نتائج المعطيات الاقتصادية والاجتماعية. مما دفع بالإسلام السياسي إلى الواجهة متنطحا لهذه الحالة  والتي هي في نظر الإسلاميين تستهدف المسلمين أكثر من غيرهم. وبالمقابل أدى هذا الموقف إلى رد فعل غير عادل وغير حيادي من ناحية الغرب تجاه الإسلام السياسي.

ويرفض أبو عرقوب24 من جهته أية تفسيرات غربية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية لظاهرة الصحوة الإسلامية ويصفها بأنها«خاطئة لأنها تنطلق من عقلية غربية محضة ترى بأن العودة للدين والتمسك به هي مرحلة لمواجهة الأزمات التي تتعرض لها الشعوب، فإذا ما انفجرت هذه الأزمات عادوا كما كانوا عليه. إن عودة المسلمين للإسلام هذه الأيام هو لتحرير أنفسهم من الذل والظلم الذي عانوا منه على مدى سنين طويلة في ظل القومية والشيوعية والعلمانية والرأسمالية . لقد وجدوا  بان الإسلام هوا الحل لمعاناتهم”.

تعريف الأصولية الإسلامية :

الأصولية في الإسلام تعنى التمسك بأصول الدين والأصوليين هم العلماء المختصون بعلم أصول الفقه أو أصول الدين . فالأصولية في الإسلام مصطلح محبب وإيجابي بكل معنى الكلمة ولكنه استخدم في سياق خاطئ من قبل الغرب, فأصبح من أكثر المصطلحات والتعميمات الخاطئة شيوعا في أدبيات الغرب ونقاشاتهم حول  ظاهرة الإسلام السياسي.

ومن وجهة نظر أبو عرقوب فإن هذا الاستخدام السلبي للمصطلح محاولة مقصودة لربط الأصولية الإسلامية بالأصولية البروتستانتية باعتبارهما وجهان لعملة واحدة يجمعهما معاداة العقل والعلم والتقدم العلمي والعلمانية والحرية25.

ويقول تقرير للجنة الأبحاث التابعة لمجلس النواب في الكونغرس الأمريكي حول الإرهاب والحرب غير التقليدية، صدر في 3 أيلول 199226 ردا على اتهام الأصولية الإسلامية بالخطورة تجاه الغرب بأن« الأصولية الإسلامية بمعناها الحقيقي هي الالتزام السلمي وغير المؤذي بحرفية القرآن. إن الأصولية غير موجودة في الحركات الإسلامية المعاصرة التي تحمل أجندات تسعى من خلالها نحو الديمقراطية وتحرير الجماهير من الحكومات الفاسدة التسلطية”.

ولتوضيح وجهة النظر هذه يقتبس التقرير المذكور من مقال آخر في مجلة الشؤون الخارجية بقلم روبين رايت، الخبيرة المختصة في شؤون الشرق الأوسط. تقول:

“إن الحركات الإسلامية المتنوعة غالباً ما تسمى في الغرب أصولية، لكن معظم أتباعها في الحقيقة ما هم إلا أصوليون من ناحية الأجندات التي يتبنونها، فالأصولية عموماً تحث على الالتزام السلمي بالنصوص ولا تسعى لتغيير النظام الاجتماعي، وهي بدلاً من ذلك تركز على إصلاح حياة الفرد والعائلة...”.

فالأصولية إذن هي التمسك بالأصول، والدين الإسلامي في رأي الأكاديميين لا يقبل أن يكون المسلم على الصورة المرسومة في ذهن الغرب، وليس المصطلح رديفاً للتطرف والإيذاء المتعمّد والاعتداء على أرواح وأموال الأبرياء. وعليه فإن أي اقتباس لاحق في هذا البحث يشير إلى الأصولية بمعنى التطرف والإرهاب فإن فيه لبس في فهم المصطلح واستخدام له في غير سياقه.

ما المقصود بالتطرف الإسلامي؟

ربما يكون اصطلاح التطرف أقرب لمفهوم الإرهاب والعنف من مصطلح الأصولية، وإن كان لا يعني نفس الشيء تماماً.

فالتطرف سياسياً يعني الدعوة الفردية والجماعية إلى إجراء تغيير جذري في النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في البلد27. ويرى أبو عرقوب أن المتطرفين في نظر الغرب هم جميع المسلمين بغض النظر عن بلدانهم أو الجماعات التي ينتمون إليها أو لغاتهم أو قضاياهم أو مشاكلهم28، مستشهداً بقول لبورتشارد باوتشر الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية عام 199329.

“إن لدى الولايات المتحدة اعتقاد بأن المتطرفين هم جماعات مثل حماس وحزب الله أو أية جماعات أخرى تحاول أن ترفض عملية السلام وتحاول إعاقتها عن طريق العنف”.

ومما يميز التطرف من وجهة نظر الغربيين هو الجمع ما بين الدين والقضايا الوطنية والسياسية مثل فلسطين أو لبنان، وهو بالتالي يهدد المصالح الأمريكية وموجه بالأساس ضد الغرب وأمريكا وإسرائيل30.

الإرهاب الإسلامي:

إن كان التطرف حسب ما ذكر أعلاه يتعلق بالفكر والنظرة حول التغيير، فإن الإرهاب هو استخدام تكتيكات إرهابية لتنفيذ البرامج المتطرفة، على حد تعبير (تيم ويرث) مستشار وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

نشأت خلال السنوات الأخيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جماعات جديدة وراديكالية مثل حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني والجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، وهي جماعات تعتمد أيديولوجية إسلامية ولكنها تستخدم تكتيكات إرهابية لتنفيذ برامجها المتطرفة، وفي نفس مصر قامت الجماعة الإسلامية، وهي جماعة الشيخ عمر عبد الرحمن وهذه الجماعة ذات صلة وثيقة باعتداءات عنيفة على مسؤولين مصريين ومفكرين علمانيين وسياح أجانب بهدف زعزعة حكومة مبارك، إن استغلال هذه الجماعات للجدل السياسي لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى الخلط بين الإرهاب والإسلام في أذهاننا. ليس لنا مشكلة بالطبع مع الإسلام أو مع من يمارس تلك العقيدة. إن المشكلة هي مع استخدام أي شخص للعنف والإرهاب..”31.

فالإرهاب هو استخدام العنف بطريقة غير قانونية أو التهديد بالعنف ضد الأشخاص أو الممتلكات من أجل دعم أو تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو لإكراه الحكومات والأفراد والجماعات لتعديل سلوكهم أو سياساتهم32.

وللموضوعية فإن الموقف الأمريكي المعلن والعديد من الأكاديميين الغربيين يؤكدون أنه لا صلة بين الإرهاب بهذا المعنى والأخوان كديانة عالمية تنبذ العنف والإرهاب والتهديد، وفي كلام ويرث أعلاه دليل على ذلك.

ويؤكد على ذلك (جيمس ويلزي) مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية السابق في شهادة أمام مجلس الشيوخ عام 1993 حيث بقول :« إن استخدام المتطرفين الدينيين للعنف في الشرق الأوسط نزعة مغلقة، وإن غالبية هذه الجماعات لم تستهدف المصالح الأمريكية بشكل مباشر...33.

وعلى نفس المنوال يقول فيليب ولكوكس، المنسق الأمريكي لمكافحة الإرهاب:

“إن مرتكبي هذه الجرائم الوحشية هم أو يعتقد بأنهم متطرفون يسيئون للدين الإسلامي الذي يزعمون أنهم يعملون باسمه، لقد كرسوا جهدهم لتدمير عملية السلام العربية الإسرائيلية ودولة إسرائيل، علاوة على أن هذه الجماعات غارقة في كراهيتها للغرب وثقافته... إن الإرهاب ناتج عن الصراعات في الشرق الأوسط وهو ظاهرة عالمية”34.

ويقول الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون بأن« قليلاً من الأمريكيين يدركون عراقة العالم الإسلامي، إنهم يذكرون فقط بأن سيوف محمد عليه السلام وأتباعه هي السبب في انتشار الدين الإسلامي في آسيا وإفريقيا وحتى أوروبا، لقد تناسى هؤلاء بأن الإسلام لا يقر الإرهاب وإنه لم تمض إلا ثلاثة قرون منذ آخر حرب دينية في أوروبا«35.

ولسنا نرى ضرورة للتوسع هنا في أنواع الإرهاب وأشكاله، ما دامت الدوافع واحدة لاستخدام العنف، مهما تعددت الأساليب.

الخوف من الإسلام ( الإرهاب الإسلامي أو الإسلاموفوبيا ):

يرى الباحثون والمهتمون بالشؤون الإسلامية والشرق أوسطية بأن المشكلة في المفاهيم والفهم المتبادل بالإضافة لدور الدعاية الصهيونية وأعوانها في الغرب قد نجحت في النهاية في ترسيخ نظرة مشوهة للإسلام. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل وصل الأمر إلى إرعاب المجتمعات الغربية من كل  ما هو مسلم حتى ظهر في الغرب مصطلح إسلاموفوبيا Islamophobia، أو الخوف من الإسلام، وهو يعني بالنتيجة الخوف والرعب والكره للإسلام والمسلمين36.

ومصطلح فوبيا أو الإرهاب يعرف في علم النفس بأنه الخوف غير المبرر من شيء37.

وبالتالي فإن هذا الخوف غير المنطقي مبني على تاريخ مرضي مزور فالمصطلح بحد ذاته هو دفاع عن الإسلام، لكن الظاهر هو أنه منتشر بين الغربيين.

أهم ملامح ظاهرة الإرهاب الإسلامي فيما يلي:

النظر للإسلام وإلى الثقافات الإسلامية عموماً على أنها عقيدة جامدة تسير على وتيرة واحدة لا تغيير فيها ولا تجديد ولا تنوع ولا تقبل التعدد واختلاف الآراء.

الإدعاء بان الثقافة الإسلامية تختلف كلياً عن الثقافات الأخرى وأن المسلمين متشددون ويتقيدون بحرفية النصوص الدينية.

تصوير الإسلام بأنه خطر يهدد العالم على غرار النازية والشيوعية وأن الأصولية الإسلامية تشكل أكبر خطر يهدد السلام العالمي38.

وفي خطاب لسمو الأمير الحسن بن طلال أمام المؤتمر الثاني حول الأديان المعقود في أسبانيا، تشرين ثاني 1997 يقول:« ليس هناك من دين آخر يشكل ثقافة أي مجتمع آخر قد عانى من الاتهامات وتصويره بصورة شيطانية بقدر ما يعانيه الإسلام والثقافة العربية في عيون العالم، مع العلم الأكيد بأن أعمال الإرهاب والعنف يرفضها الإسلام والمؤمنين من أتباعه”.

يجب أن يلقى الإرهاب نفس المقاومة وبنفس الطاقة التي لقيتها المعاداة للسامية، وآمل أن نستطيع العمل معا لتنفيذ خطوات عملية تساعدنا في فهم الطريقة التي يستطيع من خلالها الدين أن يلعب دورا أكثر ديناميكية وإيجابية في ترويج السلام وإحداث تغيير في حوار العنف، والمساهمة بشكل فعال في الفهم المتبادل والحيلولة دون إساءة الفهم والصراع39.

المواجهة

بدأ الاهتمام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط بدايته الحقيقية بعد الحرب العالمية الثانية، أي منذ بروزها كقوة عظمى في العالم، وليس هذا هو السبب الوحيد. ويتم الجدل حول هذا الموضوع على عدة مستويات مختلفة : معيارية وفلسفية وحضارية وسياسية واقتصادية، وجغرافية سياسية، وفي دوائر اهتمام مختلفة: الصحافة ومراكز البحث وقاعات التدريس الجامعي والسياسة... ويبدو أن السياسة الأمريكية الخارجية وبخاصة تجاه هذا الموضوع تتميز بالأهمية العملية من حيث أثرها، وبالتعقيد من ناحية طبيعتها والعناصر التي تدخل في صياغتها، ووجهات النظر التي تلتزم لفهمها40.

وفي الحقيقة أنه لم يكن من المعهود أن يعبر الرؤساء الأمريكان عن آرائهم وسياساتهم نحو الإسلام في أحاديث علنية وتصريحات عامة حتى جاءت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وبدأ العامة في الولايات المتحدة يتساءلون كنه هذا القادم الجديد و بدءوا يهتمون بفهم الإسلام وبالتالي كان لا بد من تحديد سياسة عامة معلنة نحو كل ما يتعلق بالإسلام.

وتطور الأمر في الثمانينات والتسعينات وصار المسلمون في أكثر من موقف ومناسبة طرفا في قضايا عنف واضطراب، ووجدت الإدارة الأمريكية نفسها أمام ضرورة صياغة سياسة معلنة تجاه الشؤون الإسلامية خصوصا في عهدي جورج بوش وبيل كلينتون، وهذه السياسة تؤكد أن الولايات المتحدة لا تعتبر الإسلام إيديولوجيا موجهة ضد الغرب، بل تحترمه وتعتبره أعظم الأديان ولكنها ترفض العنف والاضطهاد واللا تسامح وخرق حقوق الإنسان بغض النظر عن المظلة التي تتم تحتها سواء دينية أو عرقية أو غير ذلك41.

وهذا الموقف كان واضحاً مثلا في خطاب الرئيس كلينتون أمام البرلمان الأردني عام 1994 حيث قال بأن قوى الإرهاب والتطرف تخالف دينها باعتماد العنف، مضيفاً بأن هذا الحال ضار بالأمة نفسها إذا سارت في الطريق الذي يرسمه لها الرجعيون الذين يمثلون من وجهة نظره مخلفات الماضي42.

يقول إدوارد تجرجيان مساعد الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى في شهادة أمام الكونغرس: «... إننا ننظر باحترام عميق إلى الإسلام بصفته تحضر في التاريخ. فالإسلام قد أثرى حضارتنا نفسها، وهو دين الكثير من المواطنين الأمريكيين. إننا نرفض الفكرة القائلة بأن التأكيد المتجرد على القيم التقليدية في كثير من أنحاء العالم الإسلامي لا بد أن يسفر عن نزاع مع الغرب. إننا لا نعتبر الإسلام العقيدة القادمة التي تحل محل الشيوعية الدولية. وهناك مظاهر معينة لما يسميه البعض الإحياء الإسلامي التي تثير القلق. ولكننا بحاجة إلى الوضوح فيما يتعلق بطبيعة ومصدر تهديدات ممكنة للمصالح الأمريكية، وبدون ذلك نقع ضحايا مخاوف في غير موضعها أو تصورات خاطئة».

لكن يبقى أن المسألة ليست بهذه البساطة، فالوقائع والتصريحات والتطورات السريعة التي تشهدها المنطقة أعقد من أن تبسط نظرة الولايات المتحدة للإسلام السياسي، ونظرة الإسلاميين للولايات المتحدة بالتالي إلى مستوى الأكليشيهات العامة التي تكرر في المواقف الرسمية وعند الضرورة.

الهوامش:

1- إياد البرغوثي، ورقة بحث بعنوان الإسلام والغرب: إشكالية الوحدة والصراع، مقدمة لندوة الاتجاهات الغربية نحو الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، الجامعة الأردنية، نوفمبر 1998.

2- هشام جعفر وأحمد عبد الله: ملامح ومعالم التحول في حركة الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، ورقة بحث مقدمة لندوة الاتجاهات الغربية نحو الإسلام –انظر المرجع السابق، ص1.

3- المرجع السابق، ص 3-4.

4- إبراهيم أبو عرقوب، الإسلام في نظر الغرب الأمريكي، ندوة الاتجاهات الغربية نحو الإسلام، ص4.

5- عبد القادر عودة، الإسلام وأوضاعنا السياسية، مؤسسة الرسالة ص79-80.

6- عبد القادر عودة، المرجع السابق، ص 80.

7- القرآن الكريم، سورة يوسف، الآية 40.

8- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، تفسير سورة يوسف،1990.

9- حامد ربيع: «المتغيرات الأساسية للوظيفة الدولية لأسلوب السياسي؟: إعادة البناء الإيديولوجي» قضايا دولية، العدد 310 ديسمبر 1995، معهد الدراسات السياسية. إسلام آباد، باكستان، ص33.

10- John Esposito, The Islamic Role in the Political and Social Development» p.6.

11-حسن جابر، الأمة والتحديات، الانبثاق الجديد، المنطقة، عدد 106، الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين، ص6-7.

12-رضوان السيد، الإسلام السياسي والأنظمة العربية، مجلة شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، لبنان، العدد 41، 1995.

13-سعد ناجي جواد، دور الصراع العربي-الصهيوني في تشكيل العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي، ورقة بحث مقدمة لندوة التوجهات الغربية نحو الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، انظر (1) ص12.

14-فيني مارو وليم، امتطاء النمر، ترجمة عبد الله جمعة الحاج، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 1996، ص23.

15-Amos Prlmubter, Washington Times, January 22,1993.

16-يارد اونيل، ندوة الحزازات الأثنية والعرقية والدينية التي عقدت في جامعة جورج واشنطن، 1992، وكالة الإعلام الأمريكية، نشرة الأنباء العربية، 27/11/1992.

17-Adel Daher, Philosophy vs. Islamic Fundamentalism, Al-Nadwah, Feb 1990, p.p 1920.

18-فهمي هويدي، حاضر الصحوة الإسلامية ومستقبلها، الندوة، كانون الأول 1988، جمعية لشؤون الدولية، عمان-الأردن، ص7-9.

19-المرجع السابق، ص8-9.

20-راشد الغنوسي وحسن الترابي: الحركة الإسلامية والتحدي، مكتبة دار الفكر، الخرطوم/1980، ص189-191.

21-رتشارد هرير دكمجيان، الأصولية في العالم الغربي، ترجمة عبد الوارث سعيد، دار الوفاء،المنصورة –مصر، ص26-27.

22-وكالة الإعلام الأمريكية، نشرة الأنباء العربية، 27/7/1993.

23-United States Information Agency, October 27,1994.

24-فيصل الرفوع، مرجع سابق، ص14.

25-أبو عرقوب، مرجع سابق، ص12.

26-المرجع السابق، ص4.

27-The Link, Vol. 26, No. 1,Feb-March 1993.

28-Encycolpedia of Sociology, Dusking Publishing Group.Connecticut, 1974.

29-أبو عرقوب، مرجع سابق، ص81.

30-وكالة الإعلام الأمريكية، نشرة الأنباء العربية، 3/7/1993.

31-جوديث ميلر: تحدي الإسلام الراديكالي، مجلة لشؤون الخارجية، 1993، مقتبسة في وكالة الإعلام الأمريكية ، نشرة الأنباء العربية، تاريخ 27/2/1994.

32-وكالة الإعلام الأمريكية، نشرة الأنباء العربية، 5/2/1993.

33-المرجع السابق، 28/9/1995.

34-المرجع السابق، 22/4/1993.

35-المرجع السابق، 18/7/1995.

36-ريتشارد نيكسون، الفرصة السانحة، ص138.

37-المنتدى، منتدى الفكر العربي، متابعات فكرية، العدد 140، ص8.

38- Clifford T. Morgan,A Brief Introduction to Psychology, Tata McGraw-Hill Publishing Co. Ltd. New Delhi, 1987, p.351.

39- المنتدى، مرجع سابق، ص9.

40- المرجع السابق،المجلد الثامن، العدد 4 ، تشرين الثاني 1997 ، ص4-5.

41-MugtaderKhan, Policy Entrepreneurs: The Third Dimension in American Foreign Policy Culture, Middle East policy,5(3) 140- 154.

42-فتحي ملكاوي، دور الأكاديميين في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الإسلام السياسي، ندوة الاتجاهات الغربية نحو الإسلام، الجامعة الأردنية، تشرين ثاني 1998، ص13.

تجارب دول المغرب العربي مع الأحزاب الإسلاموية:

ترويض الإسلامويين من خلال إشراكهم بالحياة السياسية(3)

سعى أصحاب القرار في الجزائر إلى تجزئة المعسكر الإسلاموي وتهميش جبهة الإنقاذ الإسلامية وسمحوا منذ منتصف التسعينات لثلاثة أحزاب إسلاموية بالمشاركة في الانتخابات. يمثل الإسلامويون جزءا هاما من مجتمعات بلادهم. إبعادهم عن المشاركة في الحياة السياسية سيكون على المدى البعيد وخيم العواقب، حيث سينجم عن ذلك جمود إصلاحي وما يترتب عليه من ظهور طاقات نزاعية، كما تبين إزابيل فيرينفيلس في تحليلها التالي.

تملك الأحزاب الإسلاموية في كل من الجزائر والمغرب منذ عدة سنوات إمكانية المشاركة في العملية السياسية، وهذا الأمر أكسبها مزيدا من البرغماتية والقدرة على اعتماد حلول الوسط. الحال في تونس على عكس ذلك إذ أدت استراتيجية عدم التسامح المطلق المتبعة حيال الإسلاميين إلى تعزيز أواصل الطابع الاستبدادي للدولة على نحو فائق.

عمدت أجهزة الإعلام الغربية بعد فوز حماس في الانتخابات البرلمانية التي جرت في فلسطين مرارا إلى مقارنة ذلك بالنجاح الساحق التي كانت جبهة الإنقاذ الإسلامية قد أحرزته في الانتخابات التي جرت الجزائر عام 1991.

لكن مثل هذه المقارنات تتسم بطابع إشكالي، لا سيما وأن الضرورة تقتضي فهم النجاح الذي حققته حماس في سياق وضع الاحتلال الإسرائيلي. هذا وإن كان هناك ما يبرر الإشارة إلى المثال الجزائري ولكن لسبب آخر تماما. حيث يمكن اتخاذ الجزائر عبرة لوقائع وخيمة العواقب نجمت عن استراتيجية فاشلة قوامها قمع حركة شعبية إسلاموية.

فبعد أن حاز الإسلاميون في الجزائر في ذلك الحين على نجاح ساحق في الانتخابات عمد الجيش إلى إبطال مفعول الانتخابات ومنع جبهة الإنقاذ الإسلامية. وقد اندلعت نتيجة لذلك حرب أهلية أودت بأرواح قرابة 150000 شخص.

في هذه الأثناء تعلمت القيادة الجزائرية من أخطاء الماضي وأخذت ابتداء من عام 1997 تعمل موازاة لمحاربتها للإسلاميين المتطرفين على انتقاء أحزاب إسلاموية معينة بغرض المشاركة في العملية السياسية طالما التزمت تلك الأحزاب بالقواعد التي سنها النظام الحاكم.

استراتيجيات في منتهى الاختلاف

لو ألقينا نظرة على الدولتين المجاورتين للجزائر، تونس والمغرب، للاحظنا مدى الاختلاف القائم إزاء تعامل النخب الحاكمة في دول المغرب العربي مع التحديات النابعة من الحركات الإسلاموية التي بدأت في تعزيز مراكزها منذ الثمانينيات.

جاء خيار الملك الحسن الثاني في عام 1997 بالموافقة على مشاركة الإسلاميين في العملية السياسية وإن على أسس انتقائية لأسباب عدة أهمها تفاقم حالة العنف في الجزائر. وكان الملك قد وضع في حسابه تكريس التجزئة في صفوف الحركة الإسلاموية و"ترويض" التيار الإسلاموي الذي أسبغ عليه لتوه الصفة الشرعية.

منحت الصفة الشرعية للأحزاب الإسلاموية التي اعترفت بالدور المزدوج الذي سن عليه الدستور بشأن الملك أي بكونه زعيما دينيا من جهة وصانعا للقرار السياسي من جهة أخرى. وقد شمل ذلك حتى الآن حزبين اثنين هما حزب العدالة والتنمية الذي بات منذ عام 2002 ثالث أقوى الأحزاب الممثلة في البرلمان، وحزب البديل الحضاري الذي اكسب السمة الشرعية في عام 2005.

لكن قرار الحظر ما زال يسري على حركة إسلامية قوية هي حركة العدل والإحسان لسبب رئيسي هو رفضها للملكية في كيانها الآني، هذا وإن تعاطت الدولة مع نشاطات تلك الحركة في الأغلب بروح التسامح.

تجزئة المعسكر الإسلاموي

اختار صانعو القرار السياسي في الجزائر ( علما بأنهم كانوا كلهم تابعين للجيش إلى أن انتخب بوتفليقة رئيسا للدولة في عام 1999) على مر سنين الحرب الأهلية نمطا من التعامل مع الأحزاب الإسلاموية شبيها بالخيار المغربي.

فانطلاقا من مساعيهم الرامية إلى تجزئة المعسكر الإسلاموي وتهميش جبهة الإنقاذ الإسلامية والنهوض بمشروعيتهم الواهية عمدوا منذ عام 1997 إلى السماح لثلاثة أحزاب إسلاموية بالمشاركة في الانتخابات وهي حزب النهضة وحركة الإصلاح الوطني الذي يتبوأ حاليا المرتبة الثالثة بين الأحزاب الممثلة في البرلمان وحركة المجتمع من أجل السلام.

هذا وقد أدخلت حركة المجتمع من أجل السلام عام 1997 في الائتلاف الحكومي لتحتل فيه خمسة مقاعد وزارية من مجموع 41 مقعدا. وكانت هذه الحركة وحزب النهضة قد فشلا في منافسة جبهة الإنقاذ الإسلامية في انتخابات عام 1991.

عادة يمنع بعض الأفراد والجماعات القادرة على تعبئة الجماهير على نحو كبير من المشاركة في العملية السياسية. هذا يشمل على نحو خاص الفعاليات السابقة لجبهة الإنقاذ بمن فيهم حتى من أصبح يدين اليوم صراحة بالنهج الديموقراطي.

انزلاق تونس نحو النزعة الاستبدادية

سلكت تونس في عهد الرئيس بن على في واقع الأمر طريقا معاكسا لذلك. فبعد انقضاء فترة وجيزة من إشراك الإسلامويين ولو جزئيا بالعملية السياسية في نهاية عقد الثمانينيات بدأ بن على يلجأ منذ عام 1990 إلى استخدام استراتيجية عدم التسامح المطلق تجاههم.

سبب ذلك النجاح الكبير الذي حققه في انتخابات 1989 البرلمانية مرشحون مستقلون ينتمون إلى حزب النهضة الإسلاموي غير المعترف به من قبل الدولة. أفرز ذلك موجات من القمع ما زالت قائمة حتى هذا اليوم. هذا ولا يوجد في تونس أي حزب إسلاموي معترف به من الدولة كما أنه لا يسمح لذوي النزعات الإسلاموية بالقيام بنشاط سياسي ولا حتى بتنظيم صفوفهم بهدف القيام بالأعمال الخيرية.

لو اقتصر مقياس نجاح الاستراتيجيات المختلفة الصادرة عن تلك الدول تجاه الإسلامويين فقط على تحقيق الأهداف المرسومة من الدولة لا سيما الهدف المتعلق بإضعاف الإسلامويين لاتضح لنا بأن سياسة القمع التي تنتهجها الحكومة التونسية في هذا السياق هي الاستراتيجية الأكثر نجاحا.

ففي تونس لا يوجد للإسلامويين على الصعيد العلني العام أي وجود على الإطلاق، كما أنه يصعب عليهم إعادة تنظيم صفوفهم في ظل مناخ الحظر المفروض عليهم. أما في المغرب فقد أفلح الناشطون الإسلامويون في تكريس المزيد من المكاسب. وربما كان بوسع حزب العدالة والتنمية أن يحقق نجاحا باهرا في الانتخابات البرلمانية التي ستجري في عام 2007.

بالنسبة للإسلامويين الجزائريين فهم يرزحون الآن تحت وطأة التجزئة مما أضعف بالتالي مركزهم السياسي مقارنة بأعوام قليلة مضت. لهذا فإنه حتى في حالة إجراء انتخابات نزيهة وحرة لن يكون بمقدور أحد هذه الأحزاب الإسلاموية القائمة في الجزائر إحراز النجاح. هذا وإن كان بوسعها أن تحقق نجاحا فائقا فيما لو دخلت الانتخابات لا كأحزاب متفرقة بل كجبهة موحدة.

النموذج التونسي يعيق الديموقراطية

في حالة اعتمادنا لمقياس تفريقي لتقييم نجاح سواء الاستراتيجيات القائمة على إشراك الإسلامويين بالعملية السياسية أو تلك المبنية على القمع ولو طرحنا بعد ذلك السؤال على كيفية انعكاس كافة هذه الاستراتيجيات على الطاقات الإصلاحية لكل من هذه الأنظمة السياسية على حدة وعلى النوايا التي يحملها الناشطون الإسلامويون في نفوسهم لتبين لنا بأن الصورة النابعة من ذلك ذات طابع معقد.

في هذا السياق يتضح لنا أيضا الجانب الآخر السلبي لتجربة تونس "الناجحة"، ففي إطار مكافحة التيار الإسلاموي تحوّلت تونس في غضون السنوات الخمس عشرة الماضية من دولة قائمة مبدئيا على الديموقراطية إلى دولة أصبحت أكثر الأنظمة العربية استبدادا.

إذ تزامن اضطهاد الدولة للإسلامويين مع مساس عام للحريات السياسية والحقوق المدنية شمل كل المواطنين التونسيين. فقد كاد المعارضون العلمانيون أيضا لا يملكون إمكانيات تذكر لتنظيم أنفسهم وأصبحوا دوريا عرضة للاعتقال ولحملات غوغائية موجهة ضدهم من قبل أجهزة الإعلام المسيّرة من الدولة.

إذن فإن المثال التونسي يبرر الاستنتاج بكون حظر نشاط الإسلامويين يعيق التطور الديموقراطي نفسه، نظرا لكون مثل هذه السياسة تؤدي بالضرورة إلى نشوء هياكل استبدادية وتجميد ميكانيكية المنافسة السياسية. بالإضافة إلى ذلك فإن التجربة الجزائرية في بداية تسعينيات القرن الماضي تدل على أن أنماط الحظر الشبيهة بالوضع في تونس والتي يرافقها انفجار في الأوضاع الاجتماعية والسياسية تفرز مواجهات مبنية على العنف.

نحو سياسة برغماتية

على عكس الحال في تونس نجمت بصورة مزدوجة نتائج إيجابية عن إشراك الإسلامويين في الجزائر والمغرب في العملية السياسية. فمن خلال ذلك تغيرت أولا النوايا والأهداف التي تتبناها الأحزاب الإسلاموية في هذين البلدين. صحيح أن هذه الأحزاب ما زالت تنطلق في أعمالها بلاغيا من علوم الدين، لكن الأحزاب الإسلاموية المعترف بها من الدولة تتعامل على أرض الواقع على نحو لا يكاد يختلف عن الأحزاب الأخرى أي غير الإسلاموية.

فهي تتصرف في الحياة السياسية اليومية في المقام الأول على قاعدة المعايير التي يحددها الصراع من أجل النفوذ السياسي. كما أنها أصبحت على استعداد للتنازل بصورة متزايدة عن بعض تصوراتها الاجتماعية والسياسية النابعة من القيم الدينية طالما كان ذلك في خدمة المصالح الوطنية أو في خدمة مصالحها الذاتية.

من خلال مشاركة الإسلامويين بالعملية السياسية أصبح برلمانا المغرب والجزائر أشمل تمثيلا لتوجهات الشعب من السابق. يأتي بالإضافة إلى ذلك أن للأحزاب الإسلاموية مصلحة ذاتية حيال المنهج الديموقراطي تفوق الحال لدى غيرها من الأحزاب الأخرى لكونها تدرك بأنها قادرة على إحراز نتائج طيبة في الانتخابات طالما كانت نزيهة حرة.

لهذا فقد بادرت حركة الإصلاح الوطني في طرح مشروع لإصلاح قوانين الانتخابات يهدف إلى تكريس مقدار أكبر من الشفافية. لعل جانبا من الإسلامويين ما زالوا يحبذون في السر خيار التعبئة الكاملة بهدف تحقيق الفوز المطلق للنهج الإسلاموي، هذا وإن أصبح النواب الإسلامويون يتحسسون على نحو متزايد ضرورة التعاطي مع الجماعات الأخرى القوية والمنطلقة من أرضية فكرية مغايرة لهم وباتوا على قناعة بأنه ليس بوسعهم إخضاع تلك الجماعات ببساطة لسيطرتهم. هذا التحول يتضح من خلال المحادثات التي يجريها المرء مع نواب إسلامويين.

موقف محافظ من المسائل الاجتماعية

الغريب في الأمر أن هناك تقاربا كبيرا في الرؤى إزاء أجندة الإصلاح السياسي بين الإسلامويين وبين أطراف خارجية مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومؤسسات بريتون وود فيما يتعلق بالمطالبة في ممارسة نهج حكومي نزيه وفي تكريس دولة القانون ومكافحة الرشوة وضمان الشفافية ومحاسبة المسؤولين.

أما في القطاع السوسيولوجي فما زال الإسلامويون يتعاملون بروح بعيدة عن التقدم. ففي المغرب عمد حزب العدالة والتنمية على سبيل المثال إلى اعتماد قانون العائلة التقدمي الجديد في عام 2003 لسبب وحيد فقط هو أن اتخاذه لأي موقف آخر تجاه هذا القانون كان سيعني انتحاره السياسي وذلك على ضوء وقوع الاعتداءات في الدار البيضاء حينذاك. ينبغي علينا أن نلاحظ أيضا بأن حزب العدالة والتنمية يقترب في سياق التصورات الأخلاقية التي يدين بها من صلب القيم المحافظة للمجتمع أكثر من الحال لدى النخب المغربية ذات النزعة الغربية.

بغض النظر عن كون الإسلامويين يشكلون مفتاحا للإصلاح أم لا فإن هذا في حد ذاته غير ذي أهمية بالنسبة للسؤال عما إذا كانت الضرورة تقتضي مشاركتهم في العملية السياسية. لكن هناك حقيقة ثابتة هي أن الإسلامويين يمثلون جزءا كبيرا هاما من مجتمعات بلادهم. لهذا فإن إبعادهم عن المشاركة في الحياة السياسية سيكون على المدى البعيد وخيم العواقب من الناحية السياسية، حيث سينجم عن ذلك جمود إصلاحي وما يترتب عليه من ظهور طاقات نزاعية لا سيما في حالة اندلاع الأزمات ذات الطابع الاقتصادي.

الإسلام السياسي ولعبة الشيطان:

حقائق الدوافع المالية والتحالف مع الأنظمة!(4)

أكثر من سؤال يثيره كتاب "لعبة الشيطان" للأمريكي روبرت دريفوس وقبله كتاب "كريستين سمث" عن كيفية تحالف قوى أموال الجناح اليميني الإسلامي مع قوى الأقليات الحاكمة حين تتعرض للتهديد، الكتاب عرض تاريخي طويل الأمد لصعود هذا التيار اليميني الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر، وصولاً الى أيامنا الراهنة، ولأن هذه المدة الزمنية أكثر طولاً من أن يحتوي تفاصيلها كتاب واحد، فمن الممكن أن يشوبه التعميم المفرط أحياناً، بل الخلط بين التيارات الإسلامية واتجاهاتها ولكن تبقى هناك أسئلة مشروعة وأجوبة موثقة عن دور هذه التيارات الإسلامية اليمينية، وأبرزها جماعة الإخوان المسلمين في تنمية وتطوير قدرات مالية عملاقة استناداً الى تمويل نظم تبادلها الانتفاع في تجنيد قوى كلا الطرفين ضد الحركات الوطنية من قومية ويسارية شغلت ساحة الصراع الاجتماعي- السياسي طيلة القرن الماضي· بالطبع هذا ليس إلا جانبا من القصة أما الجانب الآخر فهو تعامل مخابرات الدول الأجنبية وبخاصة فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة مع هذه التيارات وقدراتها على توجيهها نحو ساحات معاركها، فعلى غرار ما فعل البريطانيون من توجيه لهذه التيارات اليمينية الإسلامية ضد المنافس الروسي في أفغانستان في القرن التاسع عشر وفي البلدان العربية إبان الصراع مع الدولة العثمانية وإيران في القرن التاسع عشر تكررت التجربة مع الأمريكيين الذين حرصوا منذ أوائل الخمسينات على دعوة ممثلي هذه التيارات الى مؤتمرات تديرها وتشرف عليها منظمات تابعة للمخابرات المركزية الأمريكية، واستطاعت أن تثمر في تجنيد هذا اليمين الإسلامي في معركتها ضد الاتحاد السوفييتي وضد الحركات الوطنية العربية وتشوه طبيعة الصراع في المنطقة العربية وتنقله من صراع بين قوى الاستعمار الغربي وقاعدته إسرائيل الى صراع ضد السوفيات والصين·

ما تشهده المنطقة العربية حالياً، حيث تتحالف قوى اليمين الإسلامي السياسي مع الحكومات ضد معارضة وطنية مدعومة بقوى المال والامتداد المسموح به رسميا في كل جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية يرسخ ألوان الصورة نفسها وكأن الليلة لا تشبه البارحة، بل هي نسخة عنها، ونسخة دقيقة تجد فيها المخابرات الغربية فرصة للدخول في لعبة مشتركة مع هذا الذي يسميه كتاب "دريفوس شيطانا" ولكن تتبع الوقائع التاريخية يبرهن على أن هذا الشيطان كان مطيعا أكثر من شيطان المصباح السحري، فقد خدم السياسات الغربية في البلدان العربية حين وجه قواه ضد كل قوى التحرر مهما كانت ألوانها ودخل في مغامرات خارجية مهدت لامتداد النفوذ الغربي أو ساهمت فيه كعنصر فعال، في آسيا الوسطى، وفي تقسيم يوغوسلافيا السابقة وتحويلها الى دويلات·· خاضعة لحلف الناتو وهو يستعد الآن كما تشير التقارير المتسربة عن التوجيهات السرية لإشعال الحروب الأهلية في البلدان العربية وتقسيمها، الى الانضمام الى حملة تفتيت الأوطان الى "دويلات" طائفية·

في الكتاب إشارة ذات مغزى الى أن درس التحالف مع قوى الإسلام السياسي اليميني المتضخمة ماليا والتي توفر لها فرص النمو الديناصوري حكومات تخشى كل تغيير نحو الديمقراطية والمشاركة الشعبية في القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، هو درس متناقل، أي أنه موضع تبادل فحين تحتاج دولة خليجية مثلاً الى تدعيم وضعها ضد قوى المعارضة الوطنية، تلتفت الى الدرس الذي قدمه النظام الأردني حين سانده الإخوان المسلمون في الأردن ضد المقاومة الفلسطينية مساندة مطلقة في أواخر الستينات والى نظام السادات الذي سارع التيار نفسه الى مساندته ضد حركات التغيير المصرية·

ولا ننسى بالطبع أن هذا التيار نفسه بالتحالف مع بعض الحكومات العربية ومن مراكزه الدولية في ألمانيا وسويسرا وبريطانيا واجه بقوة حركة التحرر العربية التي كانت الناصرية عنوانها في الخمسينات والستينات·

في هذا الضوء لا يبدو أن اللعبة قائمة مع الشيطان كما يريد أن يوحي الكاتب بل هي لعبة شيطانية بمجملها مازالت نافعة ومتمددة منذ مئة عام تقريبا، وحتى الآن·

رؤية سوسيولوجية في الإسلام السياسي(5)

ثمة هوة كبيرة بين الماضي الإمبراطوري الإسلامي الذي تشد إليه الرحال دائماً من قبل الخطاب الإسلامي الاحتجاجي والتحشيدي، كذلك الخطاب القومي، وبين الحاضر العربي المجزأ والمهدد بمزيد من الاحتلال والتفتيت، وما بين الماضي التليد والحاضر البليد. إذ أن الخطاب الإسلامي الاحتجاجي/التحشيدي يقوم بردم الهوة من خلال الخطابة والقول إن تخلفنا يرتد إلى بعدنا عن الإسلام من جهة، وهذا هو حال الشيخ على مسار تاريخي طويل يمتد من الأفغاني إلى محمد عبده إلى معظم شيوخنا المعاصرين، ويرتد من جهة أخرى وهي الأهم إلى تآمر الآخر علينا، والمقصود بذلك تآمر الغرب وجبروته، وهذا ما يفسر من وجهة نظر الكثير من الباحثين المعاصرين، هذا الدفع بالحلول إلى عنق الزجاجة واللهث وراء المعادلات المستحيلة الحل التي لا تتصور إمكاناً لنهضة الأنا إلا بغياب الآخر وذلك على صعيد الخطاب الإسلامي في أشد أشكاله الفكرية تطرفا، والتي لا تتصور مكاناً لائقاً للمسلمين إلا بقيادة العالم والقوامة عليه، وذلك عبر خطاب تضخيمي يعزي للعرب صفات قيادية أزلية ؟ وفي الحقيقة فإن هذا الخطاب لم يكن حصراً على الخطاب القطبي المنتج للإيديولوجيات الأصولية في أشد أشكالها تطرفا، بل تعداه إلى خطابات إسلامية تنويرية بقيت مندفعة إلى ما يمكن تسميته بحقل الميثولوجيا النهضوية المفلسفة.

ففي كتابه "الاستغراب" لا يرى حسن حنفي إمكاناً لنهضة الأنا إلا على حساب الآخر، إنه يحيلنا إلى ما يسميه بالدورة السباعية التي مدتها سبعمائة، ففي نهاية كل سباعية تنهض الأنا وينحسر الآخر، ثم تكتب النهضة للآخر على حساب الأنا وهكذا دواليك.

في الحقيقة، إن التصور الذي لا يرى إمكاناً لنهضة الأنا إلا بغياب الآخر، يظل مضمراً بأمرين، الأول: إنه يعزي قصورنا التاريخي إلى وجود الآخر حصراً، وبذلك يظل مضمراً بالعقلية التآمرية التي تتصور الغرب دائماً بموقع المتآمر على الأمة الإسلامية ورسالتها الخالدة، وهي التحليلات التي غزت الخطاب الجهادي والإسلامي عموما بعد زلزال الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر والثاني: تنحيته لكل ما من شأنه أن يكون نقداً ذاتياً يشير إلى مكمن الداء الذي سبق تاريخ التآمر الغربي والذي كان بمثابة نتيجة لهذا التخلف التاريخي.

مع إقراره بـ "الأدواء التي سببها لنا مثل هؤلاء الأعداء" إلا أن عبد الوهاب المؤدب يرى في كتابه "أوهام الإسلام السياسي" الصادر في سياق زلزال الحادي عشر من أيلول، أنه من الضروري دحض هذه الفرضية التي ترجع الداء اللاحق بنا لفعل الآخر لأنها بذلك تنزع المسؤولية عنا، أضف إلى ذلك أنها تحول بيننا وبين نقد الذات، بصورة أدق، لا تجعلنا نرى مكمن الداء، من هنا أهمية دحض هذه الدعوى القاطعة كما يرى، كعمل سابق على ما عداه، وكعمل يعلمنا كيف نلتفت إلى قدرنا المسؤول.

من جهة أخرى، لا يرد عبد الوهاب المؤدب تخلفنا إلى الإسلام كجوهر، فليس الإسلام هو أصل الداء والمصيبة، بل المصيبة هي بما فعله المسلمون أنفسهم بالإسلام. والكاتب يوظف منذ البداية عجلة وخفة منهجه للكشف عن أصل الداء وبالتالي وصف الدواء للخروج من عنق الزجاجة، ومن دوامة التخلف الحضاري، لا بل انه يتيه فخراً في منهجه وانجازه هنا الذي يعزي التخلف إلى ما فعله المسلمون بأنفسهم وبإسلامهم.

من وجهة نظر عبد الوهاب المؤدب، أن الأصولية الإسلامية هي الداء، وهو لا يفرق بين أصولية وأخرى، فالكل سواسية، الأخوان المسلمون والجماعة الإسلامية وكل التيارات التكفيرية الجهادية، على طريقة نصر حامد أبو زيد كما مر معنا، وهو ما لا يستقيم والبحث العلمي، لكنه يستقيم مع الظرف الذي يولد هذا النوع من الكتابة التي ينشدها المؤدب؟.

لا يكتفي المؤدب بالإشارة إلى الأصولية كداء، بل يؤثر البحث عن "أصل الأصولية وفصلها" أي جينالوجيا الأصولية على طريقة نيتشه، وفي بحثه يعود بنا إلى أحمد بن حنبل وصولاً إلى محمد بن عبد الوهاب مروراً بابن تيمية كحلقة وصل، وصولاً إلى حسن البنا، ليحكم على خطاب البنا الذي هو مؤسس الأصولية المعاصرة، وبدون أي تحليل، بأنه يصلح لأن يكون "انموذجاً للهذيان المعادي للغرب" ويضيف:"في نص البنا يمكن تبين زخم المعاداة للغرب الذي يجري التعبير عنه عبر خطاب بدائي يعرف اقتناعاته كأنها من المسلمات" والنتيجة التي يقودنا إليها أن هذا الخطاب الإسلامي المعادي للغرب شكل محوراً لنشر الكراهية، وهو أحد أعراض داء الإسلام، الذي يدفعنا إلى باحة خطاب إسلامي "مثير للشفقة "ونموذجاً" للأطروحات الساذجة التي تلقفتها الآذان المتلهفة لأشباه المتعلمين الذين يتآكلون حقداً "وحقداً بالطبع على الآخر الغربي الذي غلبهم في عقر دارهم، فثمة إحساس بالفجيعة يغلب على خطابات وسلوك أغلب المسلمين، الفجيعة من فقدان الغلبة التاريخي، والأهم من غلبة الآخر الغربي.

إن المؤدب لا يؤسس لخطاب سوسيولوجي في دراسة الظاهرة الأصولية، وكان له أن يستفيد كثيراً من هذه الإنجازات في الغرب، ولذلك نراه يحصر الأصولية في الجانب السيكولوجي، فالأصوليون الذين ما فاقوا من صدمة الغرب، يظهرون بامتياز في خطاب المؤدب كحساد نموذجيين للغرب وهذا هو مصدر كره الغرب عند الأصولية، وهو بذلك يقتفي خطى شيخ المستشرقين برنارد لويس في كتابه "الإسلام والحداثة: ما الخطأ الذي حصل" الذي يظهر العرب كحساد نموذجيين للحضارة الغربية، وهذا ما يقوله أيضاً توماس فريدمان وبخفة عالية، فالحسد والكره وحدهما يقفان وراء سلوك الأصولية في أحداث الحادي عشر من أيلول والأسباب ليست سياسية تتعلق بسلوك الولايات المتحدة بل لأسباب ثقافية تنهل من رحم الأصولية الممتد من أحمد بن حنبل إلى ابن تيمية إلى الأفغاني وصولاً إلى حسن البنا الرحم الأصولي الذي جاء منه الجميع.

من هنا ليس غريباً أن يكون الجواب في الخطاب الإعلامي في الغرب الذي يستقي مواده من كتابات من هذا القبيل على لماذا يكرهوننا بالجواب لأنهم يحسدوننا ؟.

لا يرى عبد الوهاب المؤدب في خطابه الذي يدعي ويزعم فيه النجاعة، إلا الأصولية الإسلامية باعتبارها مصدرا للشر، وبذلك يغفل خطابه عن ما عداها من الأصوليات التي قد تكون أكثر تطرفاً منها كالأصولية الهندوسية كذلك الأصولية المسيحية، ومع أن الأصولية باتت ظاهرة تاريخية وكونية عامة، إلا أن المؤدب لا يرى كما أسلفت إلا الأصولية الإسلامية التي هي أصل الداء ومكمن البلاء معاً.

في كتابه " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، راح الباحث الإسلامي محمد أركون يعزي انتشار الأصولية في أوساط الشباب المسلم المتعلم تعليماً عالياً، إلى حالة سيكولوجية نفسية يمكن دراستها من منظور الاكتشافات الجديدة الخاصة بـ " الإنسان العصبي" الذي يمكن الحجر عليه، أما عبد الوهاب المؤدب الذي يسوق استنتاجاته السريعة على عجل، فهو يعزي انتشار الأصولية المعاصر إلى الحقد الدفين على الغرب والذي هو ناتج إسلام مفجوع بغلبته، فالحاقد هو إنسان عصبي يمكن الحجر عليه أو تمديده على سرير التحليل النفسي وتقطيعه عنوة لمعرفة مكامن الحقد التي تاه عنها المؤدب ولما يهتدي إليها بعد

دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي

الإسلام والسياسة(6)

سجل الإسلام حضورا متجددا في ميدان العلاقات الاجتماعية والسياسية في البلاد العربية المعاصرة كفاعل كبير في صوغ مشهدها العام وفي توليد ديناميات جديدة فيها، ولم تعد السياسة تملك أن تعبر عن نفسها في العقود الثلاثة الأخيرة بمعزل عن الدين -تماهيا كليا أو توظيفا جزئيا- ليس فقط بالنسبة للذين أتقنوا دائما الصلة بينهما كالإسلاميين، بل حتى بالنسبة للذين جربوا باستمرار فك تلك الصلة دفاعا منهم عن دهريتهم السياسية.

-اسم الكتاب: الإسلام والسياسة: دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي

-المؤلف: عبد الإله بلقزيز

-الطبعة: الأولى 2001

-الناشر: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ المغرب

لقد كرست تجربة الدولة العربية الحديثة في فترة الاحتلال ثم الاستقلال عملية إزاحة صريحة للدين من المجال السياسي، وكرست أيضا حكم نخبة حديثة غربية الولاء الثقافي، وأحرزت الحداثة الاجتماعية والسياسية والثقافية نجاحا هائلا في المجتمع العربي المعاصر، وهو نجاح مس نظام القيم ومنظومة الأفكار، وترشح تيار كوني جارف يعظم المادة على حساب الروح، وفجأة انهزمت الحداثة أمام التقليد في الدولة والمجتمع.

ولكن موجة الحداثة والعلمانية لم تستطع -وإن طغت- حجب وقائع وحقائق راسخة في التكوين الثقافي للمجتمع العربي تحتل الفكرة الدينية فيه موقعا مميزا في منظومة الأفكار لم تغيره موجة التحديث.

والمسألة السياسية كانت دائما جوهرية في الإسلام لم تفتعلها الحركات الإسلامية المعاصرة، فالتاريخ الإسلامي يشهد تلازما بين السياسة والدين، ويصدق ذلك على العصر الحديث، فقد تداخلت عوامل الدين والوطنية في تشكيل وجدان سياسي عام، وبالتأكيد فإن غياب الحريات السياسية سيؤدي إلى استثمار الدين في المواجهة أو في البحث عن مجالات بديلة للعمل.

إن الإسلام -بالتعريف- عقيدة وثقافة وحضارة، وأما الحركات الإسلامية فهي حركات سياسية بلا زيادة أو نقصان، فلا إسهام فعلي لها في التراكم الفقهي، ولم تقدم نفسها بوصفها مدارس معرفية جديدة بل بحسبانها تيارات سياسية، ولو نظرنا إلى إسهاماتها الفكرية قياسا بإسهام الإصلاحية الإسلامية في القرن العشرين لوجدنا أن الفارق يمنع القياس من كل الوجوه.

ويخشى أن يؤدي التماهي بين الحركات السياسية الإسلامية وبين الإسلام إلى تبعات ومحاذير منها تحميل الإسلام كعقيدة أوزار أفعال غير راشدة تأتيها حركات "الإسلام السياسي" وتحريف معنى الإسلام بتحويله من عقيدة جامعة للأمة إلى أيدولوجيات سياسية لفريق منها، وتكريس نظام كهنوتي يأباه الإسلام.

وهذا لا يعني تجاهل إنجازات الحركة الإسلامية المعاصرة وتضحياتها، فقد بذلت وحققت الكثير في صون هوية الأمة وتحرير الأرض من الاحتلال ومواجهة الاضطهاد والتهميش، ثم هي قوة سياسية رئيسية بين الشعب العربي استعادت بعض توازنات علاقات الصراع الداخلي بين المجتمع والسلطة.

وأضافت الحركة الإسلامية إلى العمل القومي والسياسي والإصلاحي بعدا دينيا استنهض طاقات الأمة وعبأها، وكسرت احتكار الدين الذي كانت تمارسه السلطة السياسية لتجعله عملا شعبيا واسع النطاق، واستعادت الأمة هذا الكنز الروحي المصادر وأعادت حيويته الوظيفة الاجتماعية والتحررية للإسلام ليكون سلاح المستضعفين في مواجهة الطغيان والاستضعاف.

الدين والدولة

يرى المؤلف أن السجال الدائر بين علمنة الدولة وتطبيق الشريعة الإسلامية هو في حقيقته سياسي وصراع على السلطة وليس خلافا فكريا وفلسفيا، والنظر إليه بغير ذلك يشبه دراسة وتحليل الخلاف بين الخوارج والمرجئة والشيعة على أنه في أساسه وجوهره على الإيمان والتفكير. لقد صدرت السياسة مشكلاتها إلى حقل الثقافة والفكر، بل استعارت هذا الحقل لتعبر عن نفسها، ومن المفيد لنا -نحن المعاصرين- أن نستفيد من درس الفرق والمذاهب فلا نكرر الخطأ عينه وهو استنزاف الوعي في مشاكل لا تحلها إلا السياسة، ونستفيد من درس "الفتنة الكبرى" حتى لا نعيد إنتاج فتنة فكرية وحرب أهلية جديدة.

لم ترسم النصوص الدينية شكلا للنظام السياسي وآليات عمل الاجتماع السياسي للمسلمين، والمرجع الوحيد في ذلك هو التجربة النبوية في دولة المدينة وتجربة الخلافة الراشدة فيما بعد، وهي دولة لم تقم على أسس دينية بأي من المعاني التي تفهم من عبارة الدولة الدينية، ولكن هذا الغياب للتشريع الديني في المجال السياسي فتح المجال للاجتهاد لاقتراح نظم وقواعد وقوانين ليس منصوصا عليها بدليل أن غياب التشريع لم يمنع المسلمين من إقامة دولة ومن توسيع جغرافيتها ومن تأسيس فقه للسياسة واكب الدولة.

وحدثت تحولات كبيرة بعد الخلفاء الراشدين في أنماط الحكم واختيار الحكام، ولكن لم تتعرض ثوابت النسق الإسلامي السياسي لتغيير جوهري بل حوفظ عليها وأعيد إنتاجها.

الاجتهاد والبدعة

أقر الإسلام -كما العقل الإسلامي- بالتطور والتحول واحتسبه ناموسا في الوجود ورتب على الإقرار به قاعدة فكرية تناسبه هي وجوب العمل بمبدأ التجديد، ويشهد تاريخ الاجتماع السياسي وتاريخ الفكر الإسلامي بالدرجة المتقدمة للاجتهاد التي تجلت في الفقه الإسلامي وأصوله والفلسفة الإسلامية. ثم أغلق باب الاجتهاد وتوقف الإبداع الفكري لأسباب سياسية وحضارية، وتبع ذلك موجة تقليد رأت في الاجتهاد بدعة يجب محاربتها.

وقد يصعب الفصل في التمييز بين الاجتهاد والبدعة، وقد أنشأت صدمة الحداثة وما رافقها من احتلال أجنبي وغزو فكري وثقافي مغالاة في الفكر والممارسة ووجد الوعي الإسلامي نفسه في موقف دفاعي لم يستطع دائما أن يتحرر من أحكامه تحررا إيجابيا. ورغم أن الحركة الإسلامية المعاصرة سلكت الدعوة إلى رفض التجديد فإن سلوكها كان أحيانا اضطراريا، وإلا فلن نستطيع أن نفهم المنزع الثوري العنيف في أفكار جمال الدين الأفغاني وسيد قطب على سبيل المثال.

الغلو والتكفير

ترد كثير من الدراسات ظاهرة العنف الإسلامي إلى الطبيعة المغلقة للنصوص الدينية الإسلامية والفكرة الأصولية عن الجهاد التي تشرع للعنف وترفعه إلى مرتبة الواجب، ويتجاهل هؤلاء الدارسون أنهم إزاء ظاهرة اجتماعية في المقام الأول، ولذلك فإن فهمها وتحليلها يقع في محيط علاقات الاجتماع المتشابكة التي تصنعها وليس بالانصراف إلى تحليل نصوصي جامد يتوهم الواقع محض إفراز تلقائي للفكرة. وهم يختارون من النصوص ما يؤيد فكرة معدة مسبقا ولا يذهبون في التحليل النصوصي إلى نهايته الطبيعية. ويتكرر التجاهل للأمثلة والنصوص على صعيد وعي واستحضار وقائع التاريخ.

إن عناصر الشبه والقرب بين أفكار التكفير القديمة وأفكار التكفير الحديثة قائمة ومتكررة وثابتة وإن تباينت في الإخراج والعبارة، والسبب في ذلك أن التكفير واحد في النوع وإن اختلف في التفاصيل، فالعناصر التأسيسية للتكفير هي سياسية ترتبط بمجمل المصالح الاجتماعية التي تجد في فكرة التكفير واسطة من وسائطها إلى التحقق، ومعرفية تتعلق ببديهيات غير مفحوصة تدفع أصحابها إلى اعتناق التكفير باعتباره صوابا.

إن الإيمان بحيازة الحقيقة المطلقة هو الطاقة الحيوية التي تتزود بها فكرة التكفير وتستمد منها الشرعية. ونعيش اليوم تدهورا حادا في رؤية الفكر الإسلامي إلى مسألة السلطة الدينية والسياسية في الإسلام، ونشأ جيل إسلامي جديد مقطوع الصلة بالتراث الإسلامي الإصلاحي، وتشكل لدى إسلاميي ما بعد الإصلاحية جموح متزايد للدفاع عن ممارستين شاذتين: ممارسة السياسة في الدين بإخضاع الإسلام إلى مطالب السياسة والمصلحة والصراع، وممارسة الدين في السياسة عن طريق بقاء موقع قوي فيها باسم المقدس.

العقيدة والسياسة

أغفلت معظم الدراسات والكتابات التي تناولت الظاهرة الإسلامية الأسباب التي كانت في أساس القيام المتجدد للسياسة على الدين والأسباب التي تدفع جمهورا متزايدا للتعبير عن مطالبه السياسية والاجتماعية تعبيرا دينيا، والأسباب التي تفسر الطلب المتزايد على الرأسمال الديني في حقل السياسة والصراع الاجتماعي، وشغلت غالبا في توظيف سياسي غير ذي قيمة بمعيار المعرفة الموضوعية.

يحتاج التفكير في "الإسلام والسياسة" وفي عناوين هذه العلاقة إلى مقاربة معرفية تحلل الخطاب إلى مقدمات وفروض، ومنهج ورؤية، ثم مقاربة سوسيولوجية تحاول فهم ما وراء الأفكار أي جملة الملابسات والشروط الموضوعية التي قادت إلى التعبير عن أفكار بعينها.

يعبر الإسلاميون في عملهم السياسي عن وعي حاد بأهمية استثمار المقدس الديني وتوظيفه في المعارك الاجتماعية المختلفة وخاصة في المعركة السياسية من أجل السلطة، وربما نجحت الحركة الإسلامية بهذا التسييس الواسع للإسلام في إعادة بعث بعض أسباب قوته وإشعاعه في العالم المعاصر، ولكن الإسلاميين بذلك يخرجون بالمسلمين من عهد الأمة والجماعة إلى عهد الانقسام السياسي والنفسي.

إن تجربة الأيدولوجيات التي سبقت الإسلاميين وسادت في ساحة الأمة كالليبرالية والقومية والاشتراكية يقود إلى مقولة أن التيارات الإسلامية حالما تدخل تجربة السلطة ستتخلى عن مثاليتها وتحرق أيدولوجيتها السياسية، وهذا ما يبدو اليوم في إيران والسودان على سبيل المثال. والأيدولوجيا تمثل على الدوام شكلا من أشكال التمثل المثالي للواقع وبالتالي فهي ستظل دائما بعيدة عن أن تترجم نفسها حرفيا في تجربة سياسية متحققة.

المشروع السياسي الإسلامي

يقترن ميلاد المشروع الإسلامي المعاصر زمانا بأفول المشروع السياسي لقوى الحداثة العربية بطبعاتها العقائدية المختلفة. وينتمي الخطاب السياسي الإسلامي في القواعد والمقدمات والمفاهيم إلى الخطاب السياسي المعاصر، فهو خطاب دعوي تبشيري تحريضي يميل إلى إنجاز تواصل سهل مع جهوده يحقق له الظهور والنفاذ.

والمشروع السياسي للحركات الإسلامية هو رفضوي في المقام الأول، فهي تملك برنامج ثورة وهدم دون أن تملك برنامج تأسيس وبناء. ويمضي المؤلف في ملاحظة أوجه الشبه والعلاقة بين المد الثوري الإسلامي والثوري الاشتراكي في رفض الإصلاح والحلول الوسط، بل ويرى كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب نسخة إسلامية معربة عن كتاب لينين "ما العمل؟"، وينبه إلى التأثر الشديد لسيد قطب بالاشتراكية في كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام".

الإصلاحية الإسلامية والحركة الإسلامية

يميز بلقزيز بين اتجاهين أو تيارين إسلاميين هما الإصلاحي والنهضوي الذي يعبر عنه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد بلحسن الحجوي في المغرب، وبين تيار الصحوة الإسلامية ويعبر عنه حسن البنا وسيد قطب وعبد السلام ياسين في المغرب وتقي الدين النبهاني (حزب التحرير الإسلامي).

وقد حدثت قطيعة كبرى بين التيارين فاشتغل الثاني منهما بالسياسة والأول لم ينغمس بها، ولكن المفارقة المثيرة أن وعي الإصلاحيين كان إلى الوعي السياسي أقرب من وعي" الصحويين" رغم أنهم (الإصلاحيون) تمسكوا بموقعهم الفكري كدعاة إلى مشروع إصلاحي مجتمعي، ولم تكن مطالبهم متواضعة ولكنها واقعية، ومحكومة بمراعاة حقائق التحول الكوني الجديد الناشئ في امتداد ميلاد المدنية الغربية.

وأما "الصحوية" فقد ظلت مثالية غير معنية بالبحث عن الممكنات في مضمار البناء الفكري والاجتماعي، ولم تقدر على التحرر من وهمها الإرادي في اجتراح المعجزات رغم أنف الواقع.

لقد كانت حركة "الإخوان المسلمين" بقيادة مرشدها حسن البنا تلميذ رشيد رضا محاولة في التعبير السياسي عن الفكرة الإصلاحية الإسلامية، لكنها انتهت في هذه المحاولة من التعبير عنها في مشروع سياسي حزبي إلى إجهاضها كمشروع فكري، فقد أدت اتجاهات الجيل الثاني في الحركة (سيد قطب، ومحمد قطب..) المرتكزة إلى أفكار أبي الأعلى المودودي إلى نشوء بنى سياسية متطرفة أساءت استخدام فكرة الجهاد وفتحت المجال السياسي والاجتماعي (التكفير والهجرة وجماعة الجهاد..)، وجاءت تجربة المقاومة الأفغانية للاحتلال السوفياتي لتعطي زخما لهذه الحركات على صعيد قدراتها المادية الضاربة بعد أن زودتها الثورة الإيرانية بالطاقة الفكرية والنفسية.

وقد حاولت بعض الاتجاهات في الحركة الإسلامية استعادة طبيعتها الإصلاحية إدراكا لخطورة التطرف والعنف في مجتمع وسطي معتدل كالمجتمع العربي وفي ظل توازنات قوى مختلفة لصالح السلطة والعودة إلى أفكار المؤسس حسن البنا منطلقا فكريا وسياسيا كما حدث في السودان بقيادة الترابي وفي تونس بقيادة راشد الغنوشي اللذين مثلا أعلى حالات الانفتاح والاجتهاد في الفكر الإسلامي "الصحوي" المعاصر، ولكن الترابي سقط سريعا في الإغراء الانقلابي العسكري ناقلا ميدان الدعوة من مؤسسات المجتمع المدني إلى السلطة مغامرا بتصفية تراثه الفكري الاجتهادي.

وثمة مثقفون إسلاميون كثيرون ينتمون إلى الإخوان المسلمين أو ممن جاء إليها من ضفاف الفكرة القومية والاشتراكية مثل محمد الغزالي ومحمد سليم العوا وطارق البشري ومنير شفيق يؤمنون بالعودة إلى مشروع الفكر الإصلاحي واستئنافه وتطوير الوعي الإسلامي بمتغيرات العالم.

هل في وسعنا أن نغامر بالاستنتاج أن الدعوة الإصلاحية على وشك أن تطل من جديد وأن تستأنف مشروعها الفكري الذي تعرض للاحتجاز؟!

لغة الإسلام السياسي(7)

يقدم برنارد لويس في كتابه هذا بحثا في بنية النص الإسلامي وآلياته واحتمالاته ومساراته في لغته مستخدما منهج تاريخ الأفكار، ولويس هو من أشهر أساتذة تاريخ الإسلام في الجامعات الأميركية وهو يهودي بريطاني، ومن كتبه الأخرى كتاب "مستقبل الشرق الأوسط" الذي نشر عام 1997 وترجم إلى العربية عام 2000.

-اسم الكتاب: لغة الإسلام السياسي

-المؤلف: برنارد لويس، ترجمة: عبد الكريم محفوظ

-عدد الصفحات:187

-الطبعة: الأولى 2001

-الناشر: : دار جفرا للدراسات والنشر، دمشق

المجاز والتلميح

حدثت في إيران عام 1979 سلسلة من الأحداث التي أدت إلى تغييرات عميقة الجذور في الحكم والمجتمع في إيران، واعتبرها أصحابها ثورة تقدم نفسها بلغة الإسلام، أي أنها حركة دينية بقيادة دينية وتوجه النقد للنظام القديم على أساس ديني وتطرح مخططات دينية لبناء المستقبل.

إن الإسلام على علاقة سياسية وثيقة بالدولة باطنيا وظاهريا في آن واحد معا، والإسلام في كل الدول ذات السيادة وذات الأغلبية الواضحة دين الدولة، إذ تتضمن معظم دساتير تلك الدول بنودا تؤكد فيها أن الإسلام مصدر رئيسي من مصادر التشريع. فما القوة أو الجاذبية التي ينطوي عليها الإسلام كاستحقاق ولاء وإغراء ثوري في آن معا؟.

وما يزال الإسلام بالنسبة لمعظم المسلمين أكثر أسس السلطة رضا وقبولا أو الأساس الوحيد المقبول في حقيقة الأمر إبان الأزمات، ولا يمكن لسلطة أن تحقق هيمنة سياسية على ساحة شاسعة ولفترة طويلة جدا إلا حين تستمد السلطة الحاكمة شرعيتها من الإسلام أكثر مما تستمدها من دعاوى قومية أو وطنية أو أفكار غريبة، فالإسلام مازال يقدم في الحياة السياسية أوسع صياغة للأفكار وأكثرها إدراكا للمعايير والتقاليد الاجتماعية. ويوفر الإسلام منظومة رموز من أكثر المنظومات فاعلية للتعبئة السياسية.

الجماعة السياسية

استوعبت الكتابات الإسلامية في مجال السياسية الفلسفة السياسية السابقة وأنتجت أدبا فلسفيا جديدا وأصيلا والشريعة السياسية تستند على الوحي فهي ليست عرضة للتغيير والتبديل، ولكن ثمة خلافات ظهرت في تأويل النصوص، وكان ثمة قبول واستيعاب لهذا الاختلاف.

وهناك فهمان مغلوطان شائعان عن الفكر السياسي الإسلامي والحكومة الإسلامية أولهما يتصور أنهما ثيوقراطيان تحت هيمنة رجال الدين، والثاني يتصورهما دكتاتوريين استبداديين، ولكن هذين الحكمين يستندان على سوء الفهم ليس إلا، فالإسلام يخلو من طبقة الكهنوت أو أي وساطة بين الله والعبد، كما يخلو من أية هيئة كهنوتية هرمية البنية، ولا وجود في التاريخ الإسلامي لنظراء البابوات والكرادلة، وكان نظام الملات في إيران المعاصرة منفصلا تماما عن السوابق الإسلامية.

وتصوير الحكومة الإسلامية على أنها نظام دكتاتوري يكون الحاكم فيه طاغية مطلق الصلاحيات هو تصوير زائف وليس صحيحا، فالشريعة الإسلامية ما خلعت على الحاكم سلطة مطلقة، فسلطة الحاكم رغم أنها العليا فإنها تخضع لتقييد هام جدا يأتي من التصور الإسلامي للشرع، فالدولة في التصور الإسلامي يؤسسها الشرع ويصونها، وواجب الحاكم إنما هو الدفاع عن الشرع وإعلاء شأنه والحفاظ عليه وفرضه.

ونشأت هنا مصطلحات مثل "الإمامة" و"الخلافة" ومنها الإمام والخليفة، والسلطة والسلطان للدلالة على الحكم والحكومة والحاكم، والمدينة، ولكن أعم المصطلحات هو الدولة.

الحكام والمحكومون

يستخدم مصطلح الخليفة والخلافة في العربية للدلالة على الملك، وجاءت في القرآن الكريم في الحديث عن آدم "إني جاعل في الأرض خليفة" وعن داود "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق" وقد كان داود ملكا "وآتاه الله الملك والحكمة" ووردت الكلمة أيضا بمعنى الورثة.

وكلمة سلطان من السلطة أطلقت لأول مرة على الوزراء، أطلقها هارون الرشيد على وزيره، ولكن اللقب صار يطلق على الخلفاء وتفردوا به، وفي دولة المماليك كان خليفة وسلطان فالأول من العباسيين والثاني من المماليك، وهو نظام يشبه كثيرا نظام الملك في بريطانيا ودول أخرى أي الملك ورئيس الوزراء وتكون السلطة الفعلية بيد رئيس الوزراء أو السلطان، وقد اعتمد العثمانيون الأتراك لقب السلطان رسميا، وقد أطلق لقب السلطان على حكام في ظل الخلافة العباسية كالأمويين وآل زنكي، وفي الدولة العثمانية كان اللقب يعطى أيضا للنساء مثل خاتم سلطانة أي ابنة السلطان والأم السلطانة أي والدة السلطان.

واستقرت دلالة السلطان في الدولة العثمانية على رئيس الدولة ومازال اللقب معتمدا في دولة عمان. واستخدم لبعض الوقت في مصر في عهد بعض ملوك أسرة محمد علي واستخدم أيضا في المغرب، واستخدمه لفترة قصيرة من الزمن الملك عبد العزيز آل سعود، ويذكر هنا أن الملك فهد اتخذ عام 1986 قرارا بإلغاء لقب صاحب الجلالة واعتماد لقب خادم الحرمين الشريفين.

وكان العرب قبل الإسلام قد اتخذوا ممالك ولقب ملك كما في اليمن وكندة والغساسنة والمناذرة، ولكن التراث العربي كان ينفر من الملك ويفضل العرب أن يقودهم شيوخ العشائر لا أن يتأمر عليهم ملك، وكانت النظرة الإسلامية تميز بين الخلافة والملك، فالخلافة تستند على الشريعة والبيعة ولكن الملك نظام تعسفي لا يردعه شيء ولا يستند على أساس ديني وشرعي، وكان مفكرو الدولة العباسية كالجاحظ يعيبون على الدولة الأموية بأنها "ملك كسروي وغصب قيصري".. ومن ألقاب الملك في اللغات الإسلامية الأخرى "الشاه" الذي اعتمده ملوك إيران، والخان والخاقان وهما لقبان تركيان ومغوليان استخدما في آسيا الوسطى.

ويرتبط تولي الحكام للسلطة بالبيعة وهي وإن كانت تأخذ طابعا احتفاليا وتعبر عن إعلان الطاعة فإنها أيضا تعبر عن التعاقد والاتفاق بين الطرفين الحاكم والمحكوم.

ومن ألقاب السلطة "الرئيس" و"الزعيم" والرئيس لقب قديم يعود إلى العصر الجاهلي وقد أطلقه الفيلسوف الفارابي في القرن العاشر الميلادي على حاكم المدينة، وأطلق اللقب في العصر السلجوقي على الإدارات المدنية وأطلق لقب ريس وهي كلمة تركية على أمير البحر "أميرال" وصار منذ القرن التاسع عشر يعني رئيس الجمهورية.

وأما الزعيم فدلالته الحديثة هي القائد السياسي الملهم، وقد بدأ استخدام مصطلح الزعيم لدى العرب والمسلمين في موضع الذم فقد أطلق على زعيم الحشاشين، وعندما وصف إمام اليمن نفسه بأنه أمير المؤمنين كان يوصف في بلاط المماليك بأنه زعيم المؤمنين بمعنى أنه يحسب نفسه كذلك، وكان الزعيم لقبا عسكريا في السلطنة المملوكية وظل كذلك حتى العصور الحديثة، وأطلق اللقب في العصر الحديث على القائد المصري مصطفى كامل كما أطلق على رئيس الجمهورية العراقي عبد الكريم قاسم.

سكان الدولة أو المحكومون

استخدم للدلالة على سكان التابعين للدولة ثلاثة مصطلحات: الرعية والتبعية والمواطن، وكانت الرعية هي المصطلح الشائع للدلالة على رعايا الحكم دون أي تمييز معين، واستخدمت الكلمة أيضا في القاموس الانجليزي (Rayah) و "Ryat" وقد استخدمت الأولى لأول مرة في الإنجليزية عام 1625 مقتبسة من الأوردية في الهند التي اقتبستها من العربية وتعني فلاح أو مزارع، والثانية كان أول استخدام موثق لها عام 1813 ويعرفها قاموس أوكسفورد بأنها واحد من رعايا السلطان التركي غير المسلمين ممن عليهم دفع الجزية.

ورغم أن التعريفين ليسا مغلوطين فإنهما لا يعكسان الاستعمال الإسلامي الدقيق لهذا المصطلح، ففي الاستعمال الإسلامي تعني كلمة الرعية جميع المواطنين، وكان مصطلح الرعية في الدولة العثمانية يعني "المواطنين الذين لا يتمتعون بصفة رسمية" مثل العسكر و"القلمية" أي الإداريين و"العلمية" أي علماء الدين، وكان يشمل المسلمين وغيرهم ولكنه لم يكن يشمل العبيد.

وكان الفهم الغربي للمصطلح بأنه رعايا الدولة لغير المسلمين مرده إلى أن الزوار الغربيين الأوائل للدولة العثمانية كانوا لا يزورون إلا الولايات الأوروبية ولا يقيمون صلات إلا مع السكان غير المسلمين، وقد فهم العرب والمسلمون المصطلح في ما بعد كما فهمه الغرب بسبب تأثرهم بالغرب منذ القرن التاسع عشر.

واستخدم مصطلح تابع وصار المرادف العثماني للكلمة الإنجليزية "Subject" أي أحد رعايا الدولة وصار يدل على المواطنة والجنسية فهو بالأساس مصطلح أجنبي بدأ يستخدم بمضمون سياسي.

أما مصطلح المواطن يعود إلى الثورة الفرنسية ويعني المشاركة في الحكم ولم يكن معروفا في اللغة السياسية الإسلامية، وقد شاع في العصر الحديث على نطاق واسع.

ويقدم الأدب الإسلامي اهتماما بواجبات والتزامات الحكام والمحكومين محورها اخيتار الحاكم وتعيينه ومبايعته، والتزامات الحاكم تجاه المحكومين والتزامات المحكومين تجاه الحاكم وما ينجم عن ذلك من نطاق وحدود السلطة والطاعة.

دين المساواة

ربما يكون أعمق وأصح وصف للإسلام -الكلام بالطبع لبرنارد لويس- أنه دين المساواة، وقد كان العالم وقت ظهور الإسلام طبقيا يضج بالطبقية، فإيران المجوسية يحكمها نظام طبقي صارم ودقيق، والهند يحكمها نظام طبقي قاس ومغلق، والغرب تحكمه أنظمة الطبقات الأرستقراطية الموروثة من الإغريق والجرمان.

وقد تنكر الإسلام للطبقية نظريا وعمليا، وظلت الأرستقراطية الإسلامية في وضع محفوف بالمخاطر، وتبدلت الطبقات الحاكمة كثيرا، ولم يكن في الإسلام والدول الإسلامية ألقاب وراثية باستثناء الألقاب الملكية.

وقد أفرزت وقائع الحياة الاجتماعية تمايزا طبقيا، وثمة مصطلحات تدل على فئات اجتماعية مثل الخاصة والعامة، وكانت الخاصة تعني المتعلمين والمتحضرين والعناصر السياسية والإدارية والعسكرية.

وثمة تقسيم آخر كان يحدث في العصور الإسلامية الأولى، وهو الشريف والضعيف، ويماثل الشريف مصطلح النبيل، وصار لقب الشريف يطلق على ذرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأحيانا يشمل القرشيين.

ولكن هذه التقسيمات والتسميات لم تكن تعطي امتيازات أو حصانات كما في الأرستقراطيات الأوروبية.

الحرب والسلم

لم يرد في الإسلام وصف الحرب المقدسة، وقد أطلق المقدس على المكان "أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" وتؤكد كتب الفقه على القوانين المنظمة للحرب ومعاملة الأسرى والجواسيس والأقوام المهزومة.

ومن المصطلحات المستخدمة في هذا المجال الجهاد والغزو، وقد دخلت هذه الكلمة إلى اللغات الأوروبية بدءا بالفرنسية التي اقتبستها من الجزائر ثم امتدت منها إلى الإنجليزية، وكانت الدولة العثمانية تمنح لقب غازي للقادة الأبطال، والفدائي الذي استخدم في العصور اللاحقة.

وبدأ اعتماد السفراء والقناصل بين الدولة الإسلامية وأوروبا في العصر المملوكي، وأخذ طابعا رسميا ومؤسسيا في القرن السادس عشر في الدولة العثمانية، وكانت الجاليات التجارية الأجنبية تتخذ قناصل هم زعماء لها ويرتبطون بالدول أو المدن التجارية الأوروبية على سواحل المتوسط، وكان العرب يستخدمون الكلمة نفسها "قنصل"، ومن مصطلحات لغة الإسلامي السياسي في هذا المجال: كافر، ومرتد، وثائر، وقاطع الطريق، والذمي، والمحارب، والمستأمن.

الوجوه المتبدلة للاسلام السياسي(8)

لن تكون المواعظ التي يطلقها زعماء الغرب داعين فيها الى التمييز بين الاسلام والإرهاب كافية لتنقية النفوس. ويزداد بقوة خطر تنامي العنصرية، الواعية او اللاواعية، وسط رأي عام مرتعب ولا حول له. ويسود شعور بأن "الغرب" و"الديموقراطيات المتمدنة" تخوض "حربا" (إن لم تكن حرباً صليبية) ضد "مسلمين متعصبين" و"توتاليتاريين". وما يزيد في توهم صحة هذه النظرة ان الارهابيين قد دعوا الى "الجهاد" ضد "الصليبيين الكفرة" الذين يسعون الى إخضاع أمة الاسلام. هذا التوازي المقلق بين النظرتين يعمق الهوة بين حضارتين وعالمين، بين المنعّمين والمتروكين لأمرهم فريسة حالات الحرمان والحقد المتراكم.

ففي الغرب مسؤولون سياسيون ووسائل إعلام، مع بعض الاستثناءات البارزة، يساهمون في عملية الفرز هذه بطريقتين، أولاً بتغاضيهم عن الدوافع السياسية للارهابيين والتركيز على انتمائهم الديني، وثانياً باستخدام عبارات تثير كل أشكال الخلط التي يدّعون تجنبها. فاستخدام بعض المفردات كيفما كان، وكأنها تؤدي المعنى نفسه، مثل الاسلام والتعصب والارهاب والاصولية والتطرف والاسلامية، يولد الالتباس في أحسن الأحوال والعنصرية المعادية للاسلام في أسوأها. وهكذا نجد أن كل فرنسي من اثنين يقر انه يخلط ما بين التعصب والاسلام، وذلك بحسب إحصاء أجرته مؤسسة "إيفوب"  .

لا يمكن تفادي الوقوع في تعاكس المعنى المؤذي عندما يكون الحديث عن "الأصولية" و"التطرف"، وهما ظاهرتان غريبتان عن الاسلام، فالأولى ذات جوهر بروتستانتي والثانية كاثوليكية، أو حتى عندما يلجأ الى كلمة الاسلامية التي اعتمدها بعض دارسي الاسلام كافضل حل، فيما آخرون ممن توخوا الدقة فضلوا مفهوم "الاسلام السياسي". وفي الواقع يعود الى البروز ذلك اللبس المفضي الى الخلط عندما يتم الوقوع في التعميمات في موضوع الحركات او الأحزاب الاسلامية. والحال، أن هذه الحركات والأحزاب متفاوتة النظرة الى حد بعيد وما من شيء مشترك بينها سوى ان مرجعها هو ديانة النبي التي يؤولونها اساساً في أشكال متباينة أو متناقضة الى درجة أنها تنبسط في المشهد السياسي من أقصى اليمين الى اليسار.

فإيران توفر مرقباً نموذجياً للصراعات الاسلامية الداخلية. ذلك أن المعارضة الأشرس التي واجهها الإمام الخميني بعد قليل من تبوئه السلطة في العام 1979، لم تتشكل من الأحزاب العلمانية وإنما من فرق إسلامية، بعضها كان ذا نزعة ليبيرالية (يؤيدها بعض آيات الله) والبعض الآخر استوحى التوجه الاشتراكي الديموقراطي أو الماركسي. وبعدما جرت تصفية خصوم الخمينية، تركز الصراع في السنوات الأخيرة بين نزعتين، إحداهما توتاليتارية (وهي أقلية الى اقصى حد) تتمثل بآية الله خامنئي، المرشد الأعلى، والأخرى غالبية يقودها رئيس الجمهورية محمد خاتمي وهي ذات نزعة ديموقراطية علمانية  . أما رجال الدين الإيرانيون، وهم صورة عن المجتمع، فمنقسمون بقوة بين محافظين وإصلاحيين، وكلاهما يستند الى قراءات متناقضة للكتب المقدسة.

أما في تركيا، البلد الاسلامي الآخر غير العربي، فالحركة الاسلامية، الموجودة على الساحة السياسية منذ خمسين سنة تحت تسميات متعددة، والتي تقر بشرعية نظام أتاتورك، منخرطة في علمنة الدولة، لكنها تأخذ عليها في الوقت نفسه أنها لا تراعي مبدأ حيادية الدولة كما هو الأمر في فرنسا أو في الولايات المتحدة. فـ "الاسلاميون الديموقراطيون"، كما يسمونهم أحياناً في تركيا، تيمناً بالمسيحيين الديموقراطيين الأوروبيين، يتمثلون بقوة في البرلمان وفي المجالس البلدية، وقد شاركوا في العديد من الحكومات اليمينية او اليسارية، وتولى زعيمهم التاريخي، نجم الدين إربكان رئاسة الوزراء في حكومة ائتلافية في العامين 1996- 1997 قبل أن يجرد من حقوقه المدنية. وللمفارقة أنهم إذ يعتبرون أنفسهم عرضة للتمييز يخوضون معركة طليعية من أجل إقامة الديموقراطية في الجمهورية التركية آملين في انضمامها الى الاتحاد الأوروبي، كما من أجل الدفاع عن حقوق الانسان...

أما من جهة مصر فان فيها العديد من المنظمات الاسلامية المتفاوتة التوجهات والأهداف، وهي باستثناء واحدة أو اثنتين منها تنادي بإجراء اصلاحات بالوسائل السلمية، كما هي حال "جماعة الاخوان المسلمين"، الأقدم والأهم بينها، التي تدين العنف و"الديكتاتورية" الاسلامية في السودان مثل إدانتها "جرائم" الميليشيات الاسلامية في الجزائر. وهذا لم يمنع أن بعض "كادرات" الاخوان قد اعتبروا ان هذه المنظمة محافظة جداً فانشقوا عنها لتأسيس حزب "الوسط"  . وهم يناضلون من اجل فرض التعددية السياسية وحقوق الانسان. وتضم لجنتهم القيادية امرأة، ورجلاً من الأقباط المسيحيين وذلك تعبيراً عن تمايزهم. وبالعكس فان "منظمة الجهاد الاسلامي" بزعامة الدكتور أيمن الظواهري انضمت الى تنظيم "القاعدة"، المنظمة الارهابية التابعة لأسامة بن لادن.

وفي الامكان الاستشهاد بالكثير من الأمثلة الأخرى التي تبين تنوع الاسلام السياسي في البلاد العربية الاسلامية من المحيط الى الخليج. كما أن مسار الحركة الاسلامية عرف تطورات ملحوظة وحتى بعض التحولات ، منذ ان تأسست في مصر عام 1928 "الاخوان المسلمون" الذين انتشروا في المنطقة قبل أن يفقدوا تفوقهم. وقد شكلت الهزيمة العربية في حرب الأيام الستة في حزيران/يونيو عام 1967 منطعفاً مهماً بعد انهيار الاحزاب الوطنية والاشتراكية التي حُمّلت مسؤولية الهزيمة. وإذا بالشعوب التي أصيبت بالذل والاحباط والضياع لا تجد أمامها ملجأ في أزمتها سوى الايمان. وإذ كانت معظم الانظمة العربية قد دفعت الإسلاميين الى العمل في الخفاء فانهم استخدموا المساجد كمنابر والجماعات العاملة في جمعياتها الخيرية والتعاونية قناة لنشر رسالتها.

وقد اعتمدت هذه الجماعات، عن اقتناع أو عن انتهازية، الخطاب السياسي لمنافسيها الذين غابوا عن الساحة. فوظفت البلاغة الاسلامية، أداة التجييش، كغلاف خارجي نوعاً ما لمحتوى وطني معاد للامبريالية، إنما أيضاً لمحتوى اجتماعي اتخذ شكل استنكار المظالم والفساد واستبداد الاقليات الحاكمة، وبذلك أصبح الاسلام السياسي إحدى القنوات القليلة المتوافرة للاحتجاج والمطالبة. فلو ان تصريحات الامام الخميني مثلا جردت من إرجاعاتها الدينية، لجاءت تشبه حتى التطابق تصريحات زعيم من العالم الثالث مثل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. وهكذا احتل زعيم الثورة الايرانية الساحة التي تركها له الشاه بعدما أخلاها من أحزاب المعارضة الديموقراطية اليمينية كما اليسارية.

وكان من البديهي أن يترك برنامج الاسلاميين السياسي والاجتماعي، وإن يكن ديماغوجياً، أثراً في الرأي العام أعمق من دعوتهم الدينية المتصفة غالباً في مجال الأخلاقيات بالرجعية وباحتقار المرأة وبالقمعية. وهذا دون غيره يفسر النهضة التي حققها الاسلاميون بعد تحولهم منافحين عن القضية الوطنية، وليس قبل ذلك. فصحيح ان هؤلاء استفادوا من المساعدات المتعددة الأشكال، والمالية تحديداً، من الدول التي تعتبر نفسها إسلامية، مثل السعودية وبعض دول الخليج التي اعتقدت انها بذلك تثبت مواقعها بعد سقوط الانظمة المعادية لها، لكن، كما سنتبين لاحقاً، لم يرد لهم الجميل إذ فاتهم أن الاسلام السياسي في صيغته الجديدة، لم يكن حكماً يوافقها.

وقد حاولت الانظمة العربية، في وجه التهديد الذي كانت تواجهه، ان تحيّد الاسلاميين، فلاحقهم البعض بوحشية لا مثيل لها غالباً، فيما استلحقهم البعض الآخر داخل المؤسسات الدولتية محتفظاً بالقدرة على تحويلهم أداة له. ومن الدول التي استتبع الاسلاميون فيها بنجاح، لبنان والاردن والكويت واليمن، حيث باتوا ممثلين في البرلمانات، وفي بعض الحالات في الحكومات. وفي المقابل، تعرضوا للابادة في سوريا بعد مجازر رهيبة، وفي تونس والعراق عبر عملية قمع لا هوادة فيها، في حين أن الساعين في الجزائر الى "استئصالهم" ويعملون للقضاء عليهم، لم ينجحوا الا في تأبيد نزاع مغرق في الدماء.

من الخطأ الاعتقاد أن المواجهات بين الانظمة القائمة والاسلاميين تقوم بين مؤيدي العلمنة ورافضيها، فبعض الدول المعادية للاسلام السياسي أرست لنفسها دساتير وتشريعات مستمدة من تعاليم الكتب المقدسة، وبعضها الآخر زايد بحماسة على خصومه كي يضفي على نفسه طابعاً اسلامياً شبيهاً بأطروحاتهم. وفي هذا المجال يعتبر الوضع في السعودية أو في مصر نموذجياً. وما عدا بعض الاستثناءات النادرة فان حكومات المنطقة تحالفت في ظروف متفاوتة مع الاسلاميين بغية استخدامهم في وجه خصوم لها اكثر خطورة. فالرئيس أنور السادات احتضنهم في السبعينات من أجل القضاء على اليسار الناصري وعلى الشيوعيين، وذلك، يا لسخرية القدر، قبل ان يغتاله أحدهم في العام 1981. أما خلفه السيد حسني مبارك، فاوقف الملاحقات ضدهم عندما انخرط في الحملة ضد التدخل السوفياتي في أفغانستان، قبل ان يتعرض هو بدوره لمحاولة اغتيال على يدهم في العام 1995. كما ان الملك حسين في الاردن اعتمد دائماً عليهم من أجل مواجهة الأحزاب المعارضة لسلطته، والرئيس اليمني عبد الله الصالح ضمن تعاونهم في معركته ضد الماركسيين في اليمن الجنوبية، وهذا ما فعله الرئيس السوداني السابق جعفر النميري من أجل القضاء على مقاومة الاحزاب السياسية المعادية لنظامه الاستبدادي، كما على الثوار الانفصاليين، المسيحيين أو الأحيائيين، في المقاطعات الجنوبية من البلاد.

ويكاد الوضع لا يختلف في إسرائيل، فالحكومات المتعاقبة في الدولة اليهودية ساندت على الدوام "الاخوان المسلمين" سراً في الأراضي المحتلة يوم لم يكن هؤلاء يناصبون العداء الا لمنظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات إذ كانوا يعتبرونها تجمعاً من خونة الاسلام بقومييها وماركسييها معاً. وقد أدرك الزعماء الاسرائيليون قصر نظرهم حين انبثقت عن "الاخوان" في العام 1987، في بداية الانتفاضة الأولى، منظمة "حماس" الحالية التي تأخذ على عاتقها تحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح.

ولم تشذ الولايات المتحدة عن إسرائيل والدول العربية، فقد نظرت واشنطن على الدوام الى الاسلاميين على أنهم شركاء طبيعيون، وكان من المتوقع منهم، كما كان يظن في واشنطن، أن ينضموا الى دائرة "العالم الحر" على أساس انهم أعداء شرسون لـ"الملحدين الشيوعيين"، ومؤيدون ثابتون لاقتصاد السوق. من هنا كان تساهل او تغاضي "دولة العم سام" عنهم. والتحالف بين أميركا والسعودية، موطن الوهابية المتشددة، لم يفتر قط منذ الحرب العالمية، وفي الخمسينات والستينات من القرن الماضي كانت الدول الاسلامية والحركات الاسلامية تناضل جنباً الى جنب مع المعسكر الأميركي ضد الناصرية وضد "امبراطورية الشر" السوفياتية. في اختصار كانت "معركة الخير ضد الشر"، في طبعتها الأولى.

ثم وقعت احداث ثلاثة متتالية غيّرت المعطيات كلياً: طرد الجيش الأحمر من أفغانستان وحرب الخليج وسقوط الامبراطورية السوفياتية. وهذه كلها وفرت مقومات قيام تشكيلات إسلامية جديدة فرخت في جبال أفغانستان. فالمجاهدون لم يعتبروا انفسهم من الاتباع المألوفين للولايات المتحدة، فقد كانوا متأكدين، كما السيد أسامة بن لادن وأنصاره في ما بعد، أنهم حرروا أرضاً إسلامية بفضل معركتهم العظيمة وتضحياتهم والشهادة التي ارتضاها بعضهم. وقد جاءت خيبتهم غداة النصر على قدر الفكرة التي كوّنوها عن دورهم. فإذ كان معظمهم من دون عمل أو موارد لم يقابلوا بأي عرفان أو مكافأة او تعويض، وإذا كانت الولايات المتحدة مرغمة على الاعتراف بذلك إلا أنها مارست ضغوطاً سرية على بعض الحكومات المتحفظة كي تعيد الى البلاد اولئك الذين سوف يلجأون لدى عودتهم الى أعمال العنف في الجزائر أو كشمير أو فلسطين أو لبنان أو مصر قبل أن يشاركوا في ذلك في البوسنة والشيشان. وإزاء تشبث مصر برفضها استقبال الشيخ عمر عبد الرحمن الذي كان تورط في اغتيال الرئيس أنور السادات، فقد منحته الحكومة الأميركية في العام 1991 اللجوء السياسي، وبعد سنتين كان الشيخ الأعمى يدير الاعتداء الأول على "مركز التجارة العالمي" ليواجه بذلك عقوبة بالسجن لمدة عشرات السنين...

ثم جاءت حرب الخليج في العامين 1990 - 1991 لتثير موجة من التظاهرات والاحتجاجات في العالم العربي الاسلامي، وذلك، كما كتب عن ذلك من قبل، ليس تعاطفاً مع السيد صدام حسين، بل اعتراضاً على انحياز واشنطن وسياستها التي وصفت بأنها "ذات مكيالين ومعيارين". فقد عبرت وسائل الاعلام الاسلامية والقومية بالاجماع عن سخطها متسائلة لماذا يعاقب العراق وحده بسبب اعتدائه على الكويت، فيما اسرائيل تحتل منذ عشرات السنين اراضي عربية من دون ان تلقى أي محاسبة؟ وما هو المنطق الداعي الى الحصار على مدى سنوات وقد أودى بحياة مئات الآلاف من الأطفال العراقيين؟ ولماذا كان على الأميركيين ان يقيموا غداة الحرب قواعد عسكرية في العديد من بلدان الخليج، وتحديداً في السعودية، الأرض المقدسة دون غيرها، إن لم يكن من اجل حماية الانظمة اللاشعبية والمتزعزعة أحياناً؟ هكذا تحولت القوة العظمى الوحيدة في العالم، التي كانت تعلن انبثاق نظام دولي جديد بعد تفكك الاتحاد السوفياتي هدفاً مميزاً للاسلاميين من مختلف النزعات ومن ضمنهم اولئك الذين انضووا تحت لواء أسامة بن لادن.

فهل هي "كراهية فطرية للأميركيين"؟ ليس العداء لسياسة واشنطن الخارجية شعوراً غريزياً في العالم العربي الاسلامي كما يحلو للبعض ان يوحي به، فيما مشاعر الغيظ إزاءها، وقد باتت كونية، تنتشر في إفريقيا وفي أميركا اللاتينية كما في آسيا أو في أوروبا سواء في أوساط الشعوب المسلمة أم لا. كما ان هذا الرفض ليس راسخاً، فقد عرفت الولايات المتحدة مراحل في التاريخ الحديث بلغت فيها شعبيتها الذروة في العالم العربي، حين وعد الرئيس ولسون غداة الحرب العالمية الأولى بتحرير جميع الشعوب الخاضعة للاستعمار، وحين تعهد الرئيس روزفلت غداة الحرب العالمية الثانية في العام 1944 لملك السعودية ابن سعود بتسوية القضية الفلسطينية بمشاركة الدول العربية، وذلك حين كان ينظر الى الولايات المتحدة على انها عدوة الاستعمار البريطاني والفرنسي، وحين اجبر الرئيس ايزنهاور في العام 1956 بريطانيا وفرنسا واسرائيل على وقف هجومها على مصر وسحب قواتها فوراً. في تلك الأزمنة لم يكن من سبب لبروز رجل مثل ابن لادن.

وهل الارهاب صفة ملازمة للاسلام؟ هذا الموضوع أثارته بعض وسائل الاعلام من دون ان تتردد في العودة الى القرن الحادي عشر للتذكير بالاعمال الاجرامية التي ارتكبها أصحاب احد المذاهب: "الحشاشون". لكن لا يصعب على اي مؤرخ يتوخى الدقة أن يبين الطابع الماكر في موازاتها بمشروع السيد أسامة بن لادن. ففي الواقع أن موجة الارهاب هي ظاهرة عالمية مورست في كل مكان وفي دول لا يجمع بينها شيء مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا والأرجنتين واليونان. وقبل ان يبرز الارهاب أخيراً في طابعه المسمى إسلامياً، مورس على التوالي او بالتزامن على الصعيد الفلسطيني أو الاسرائيلي أو المصري او اليمني، في شكل مستمر أو ظرفياً وفي صفة فردية او قومية او دولية، مستهدفاً في الغالب السكان الأصليين.

وإرهاب تنظيم "القاعدة" الذي أسسه أسامة بن لادن إثر الحرب ضد السوفيات في افغانستان، هو من نوع آخر لا سابق له في التاريخ. إذ يستهدف حصرياً تقريباً المصالح الاميركية، وهو يخترق الحدود الدولية في تجنيده وفي هويته كونه ينشط باسم "الأمة"، "أمة المسلمين" المنتشرة في القارات الخمس، وهو "معولم" كونه ينبسط عبر الكرة الأرضية في ما يزيد على 50 دولة بحسب الادارة الأميركية، ويعتمد وسائل وتكنولوجيات انتجها نظام العولمة. وأتباعه مجندون من أوساط الطبقات المتوسطة التي تتغذى غالباً من الثقافة الغربية ومنضوون في زمرٍ تنشط بطريقة شبه مستقلة حتى عندما يتلقون التوجيهات من "المركز"، وهذه المجموعات "الخفية" ليست أداة في يد أي دولة ولا تعتمد، في شؤونها التمويلية واللوجستية، الا على مساهمات خاصة، وعلى الجمعيات الخيرية او على بعض الممولين الأثرياء، وأخيراً، وبعكس الارهابيين الأوائل الذين كانوا يعملون باسم منظمات كانت تمارس في موازاة ذلك نشاطات سياسية لا عنف فيها، فان اتباع ابن لادن بحسب ما هو معروف لا ينتظمون في اي قاعدة شعبية. إنهم في شكل ما بعض المنبوذين الذين يزعمون انهم يعملون بالنيابة عما يزيد على مليار مسلم من مختلف الانتماءات.

والحال، فإن ارفع السلطات الاسلامية، وبعكس ما زعمت بعض وسائل الاعلام، استنكرت في شبه إجماع، السنة والشيعة معاً، العمليات الانتحارية في 11 أيلول/سبتمبر، من دون ان ينقل صداها في شكل ملحوظ في وسائل الاعلام الغربية. فقد ادانت في تصريحات علنية ومن على مآذن المساجد المجزرة التي اصابت الأبرياء كونها تناقض رسالة وروحية الكتب المقدسة كما أدانت العمليات الانتحارية التي تحظرها رسمياً الديانات الموحدة الثلاث. فأي قيمة يبقى بعدها لـ"الفتاوى" الداعية الى الجهاد الصادرة عن ابن لادن ورفاقه، وسلطتهم الدينية مشكوك فيها إن لم تكن معدومة؟ وماذا يقال ايضاً في سلوك قراصنة الجو الذي لا يمت الى الاسلام بصلة وقد شوهد إثنان منهم يحتسيان الخمرة في أحد بارات فلوريدا قبل قليل من ارتكابهما الجريمة؟

لم تلزم الصمت الحركات الاسلامية هي أيضاً، رغم بعض الاستثناءات. ومنها حزب "النهضة" التونسي (السري) بزعامة السيد راشد الغنوشي الذي أصدر بياناً "يدين الارهاب دون تحفظ (...) وهذه الأعمال البربرية التي ليس لها ما يبررها" والتي "لا تمت الى الاسلام بصلة". وهناك بعض المنظمات الإسلامية لم تكن بهذا الوضوح وإنما كانت جازمة من ناحية المبدأ، ففضلت استنكار "جميع اعمال العنف أياً كان مصدرها".

وبالنتيجة، بدلاً من التركيز على الاسلام وعلاقاته المفترضة بالتعصب والارهاب، ألا يكون من الانسب في هذه الظروف البحث في التوازن العقلي لمنفذي الاعتداء في 11 أيلول/سبتمبر؟ او التساؤل حول الاغترار بالموت الذي يغذيه السيد ابن لادن على غرار تلك البدع المشؤومة الذكر في أوروبا او في الولايات المتحدة وحول هذا الابتهاج المرَضي الذي يبديه منفذو الاعتداءات الانتحارية؟

ويبدو ان السيد ابن لادن، الذي تنصل منه الاسلاميون والسلطات الدينية معاً، والذي ينظر اليه على انه صاحب بدعة، يحظى ببعض التساهل أو التعاطف في أوساط بعض الشعوب المسلمة او غيرها. غير ان المفارقة ظاهرية وحسب، فالشعوب التي أهملتها العولمة والمتعطشة الى العدالة والاعتبار، والتي تعتبر نفسها ضحية هيمنة السلطة الأميركية المتعجرفة، لا تؤيد على الأرجح السفسطة الدينية والوسائل الوحشية الفاضحة لتنظيم "القاعدة"، وإنما هي تتأثر بخطابها السياسي، وهذا بالضبط ما قرر تجاهله القائمون بعملية "الاستئصال" في الحملة العسكرية "الحرية الراسخة"، مجازفين بتأكيد الفرضية القائلة بأنها حرب ديانات.           

أمريكا والإسلام السياسي(9)

الإسلام السياسي

الإسلام السياسي المعاصر تطور كاستجابة للاستعمار.  فرض الاستعمار تحدي مزدوج، تحدي الهيمنة الأجنبية وتحدي الحاجة إلى إصلاح داخلي لمخاطبة نقاط الضعف التي كشفها العدوان الخارجي.

الإسلام السياسي في المراحل المبكرة اشتبك مع مثل هذه المسائل في محاولة لعصرنة وإصلاح المجتمعات الإسلامية.  ثم جاء المفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي، الذي وضع العنف السياسي في مركز العمل السياسي، والمفكر المصري سيد قطب، الذي كان منطقه أن من الضروري التمييز بين الأصدقاء والأعداء، لأنه مع الأصدقاء أنت تستخدم الحجة والإقناع، ولكن مع العدو أنت تستخدم القوة.

الميل الإرهابي في الإسلام السياسي ليس موروثا من مرحلة ما قبل المعاصرة ولكنه تطور معاصر جدا.

الإسلام السياسي الراديكالي ليس تطورا نابعا من علماء الدين، ولا حتى من الملالي والأئمة.  إنه أساسا عمل المثقفين السياسيين اللا دينيين.  المودودي كان صحفيا وقطب كان ناقدا ومنظرا أدبيا.  تطور الإسلام السياسي من خلال مجموعة من المناظرات، ولكنها لا يمكن أن تفهم على أنها تطور في خط مستقيم من داخل الإسلام السياسي.  هذه المناظرات التي احتدمت داخل وخارج الإسلام السياسي، كانت كلا من نقد للإسلام السياسي الإصلاحي النزعة وانخراط في التنافس مع الأيديولوجيات السياسية المنافسة، وعلى نحو خاص الماركسية اللينينية.

دعنا نتذكر فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وأنها كانت واحدة من فترات الوله العلماني بالعنف السياسي التي استمرت لعقود.  الكفاح المسلح كان رائجا في حركات التحرر الوطني والحركات الثورية.  كثير من النشطاء السياسيين كانوا مقتنعين بأن الكفاح الفعال يجب أن يكون مسلحا.  تطور الميول السياسية الدينية التي تمجد الدور التحريري للعنف هي ظاهرة الأيام التي تلت ذلك.  أحسن لنا أن نفكر في العنف السياسي، بدلا من أنه ناتج للأصولية الدينية، على أنه كان لكلا من العلمانيين والدينيين، علامة على العصر.

المرحلة المتأخرة من الحرب الباردة

ما يقال، نحن نواجه بسؤال مفرد: كيف أصبح الإرهاب الإسلامي، الميل النظري الذي انشغل به بضعة مثقفين قلائل وكان له ثقل سياسي هامشي في السبعينات، كيف أصبح جزء من التيارات السياسية السائدة في خلال بضعة عقود قليلة من الزمان؟  للإجابة على ذلك، نحتاج إلى أن ننتقل بعيدا عن المناظرات الداخلية للإسلام السياسي إلى الحوار حول علاقة الإسلام السياسي بأمريكا الرسمية، ونعود من أحداث 9/11 للخلف إلى الأيام التي تعاقبت بعد هزيمة أمريكا في فيتنام، الفترة التي أسميها أنا المرحلة المتأخرة من الحرب الباردة.  ادعائي هو أيضا أن هذا السؤال يجاب عليه بأحسن ما يكون من أفضل المواقع داخل أفريقيا.

تفكيك الاستعمار بلغ نقطة حيوية في عام 1975.  العام الذي انهزم فيه الأمريكان في فيتنام كان أيضا العام الذي انهارت فيه الإمبراطورية البرتغالية في أفريقيا.  النتيجة كانت تحولا في مركز الثقل للحرب الباردة من جنوب شرق آسيا إلى جنوب أفريقيا.  من كان سوف يلتقط شظايا الإمبراطورية البرتغالية في أفريقيا، أمريكا أم الاتحاد السوفيتي؟

السمة المميزة للمرحلة الجديدة للحرب الباردة كانت الحركة القوية المناهضة للحرب داخل أمريكا التي عارضت التدخل العسكري المباشر فيما وراء البحار.  وضع هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي، تصميما لاستراتيجية كرد فعل للمسار المتحول: لو لم تستطع أمريكا التدخل فيما وراء البحار بشكل مباشر، فإنها سوف تتدخل من خلال آخرين.  وهكذا بدأت حقبة حروب الوكلاء، الحروب التي كانت علامة على الفترة من فيتنام إلى العراق.

انجولا كانت أول تدخل هام للأمريكان عن طريق وكلاء في فترة ما بعد فيتنام.  بحث كيسنجر أولا عن المرتزقة لمعارضة حركة الاستقلال في انجولا، ثم تبعها بإيماءة إلى جنوب أفريقيا.  فقد التدخل الجنوب أفريقي مصداقيته دوليا فور ذيوع معرفته وسط الجمهور وأدى إلى رد فعل قوي مناهض للحرب في الكونجرس: إصلاح كلارك أنهي كل مساعدة، مكشوفة أو مستورة، للقوات المناهضة للشيوعيين في انجولا.

رفعت إدارة رونالد ريجان من مستوى حرب الوكلاء كرد فعل براجماتي إلى استراتيجية عظمى، سميت باسم مذهب ريجان.  هذه الاستراتيجية التي تم تطويرها كرد فعل على ثورتين كبيرتين في 1979 – ثورة الساندينستا في نيكاراجوا وثورة الإسلاميين في إيران – صنع مذهب ريجان ادعاءين.  الأول كان أن أمريكا كانت تعد نفسها لتحارب الحرب الخطأ – ضد القوات السوفيتية في سهول أوروبا – وفي نفس الوقت كانت تخسر حربا حقيقية، تلك الحرب ضد القومية في العالم الثالث.  ريجان دعا أمريكا إلى خوض الحرب التي هي توا مشتعلة، ضد رجال عصابات الأمس الذين أصبحوا الآن في السلطة.  إدارة ريجان، وكان منطقها أنه لا أرض وسط في الحرب، صورت الحكومات القومية التي وصلت حديثا إلى السلطة في جنوب أفريقيا وأمريكا الوسطى كوكلاء للسوفيت يحتاج الأمر إلى قطع دابرهم قبل أن يتحولوا إلى مخاطر حقيقية.

لجأ مذهب ريجان إلى مبادرة ثانية، واحدة تتضمن تحولا من "الاحتواء" إلى "الردة"، من التعايش السلمي إلى عرض عدواني مستدام وحازم لعكس مسار هزائم العالم الثالث.  لتحديد الشرعية التاريخية لهذا التحول، أقدمت الولايات المتحدة على جلب اللغة الدينية إلى السياسة.  أطلق ريجان، وهو يتحدث أمام الجمعية الوطنية للأنجليكان في 1983، دعوته للأمريكان حتى يهزموا "إمبراطورية الشر".

والشر هو فكرة لاهوتية.  هكذا، الشر ليس له تاريخ ولا دوافع.  الاستخدام السياسي للشر هو عملة مزدوجة الوجه.  الوجه الأول هو أنه، لا يستطيع المرء التعايش مع الشر، ولا يستطيع المرء أن يغيره.  الشر يجب إزالته.  الحرب ضد الشر هي حرب دائمة، حرب بلا هدنة.  ثانيا، المعركة المانوية ضد الشر تبرر أي تحالف.  التحالف الأول من هذا المنوال، الملقب "بالتفاعل البناء"، كان بين أمريكا الرسمية والابارتهايد في جنوب أفريقيا.

"الانخراط البناء"

من خلال "الانخراط البناء" كان أن منحت أمريكا الرسمية غطاء سياسيا للابارتهايد في جنوب أفريقيا حيث شرعت في تطوير استراتيجية لحرب الوكلاء في المستعمرات البرتغالية السابقة في موزمبيق وانجولا.  حين انتقلت إدارة ريجان من "التعايش السلمي" إلى "الردة"، هكذا أعادت حكومة الابارتهايد تحديد استراتيجيتها الإقليمية من "الوفاق" إلى "العدوان الشامل".

الثمرة المرة للانخراط البناء كان أول حركة إرهابية فريدة من نوعها في أفريقيا، المسماة برينامو.  خلقت بواسطة الجيش الروديسي في أوائل السبعينات، وترعرعت على أيدي جيش الابارتهيد بعد 1980، استهدفت رينامو بشكل مستمر المدنيين في موزمبيق لإقناعهم بأن الحكومة الإفريقية المستقلة لن تستطيع تأمين القانون والنظام لهم بشكل محتمل.  في نفس الوقت، عندما أصبح الإرهاب الذي تشنه رينامو هو حديث الساعة بين الجمهور، فسر النظام العنصري ذلك في عبارات ثقافية، مثل "إرهاب السود ضد السود"، كتعبير عن الصراعات القبلية القديمة عبر العصور، وعدم قدرة الشعب الأسود على التعايش بسلام مع بعضه البعض دون وسيط محكم من الخارج.

مسئولية أمريكا نحو رينامو كانت مسئولية سياسية فقط.  ولكن دون الغطاء السياسي الأمريكي، كان من المستحيل بالنسبة لجنوب أفريقيا العنصرية أن تنظم وتسلح وتمول حركة إرهابية في أفريقيا المستقلة لأكثر من عقد من الزمان – وأن تفعل ذلك دون أن تخضع للعقوبة.

كان الانخراط البناء فترة تعليمية بالنسبة لأمريكا الرسمية.  خلقت أمريكا وجمعت أوصال الكونتراس في نيكاراجوا بالضبط كما فعلت مع جنوب أفريقيا العنصرية مع رينامو في جنوب وسط أفريقيا.  تحت إرشاد الاستخبارات المركزية الأمريكية، نسفت الكونتراس الجسور والمراكز الصحية وقتلت أطقم العاملين فيها، وقتلت كذلك القضاة ورؤوساء الجمعيات التعاونية.  الإرهاب لم يكن يستهدف اكتساب تأييد الجمهور المدني، ولكن لإبراز عجز الحكومة عن تأكيد القانون والنظام.  كان بهدف إقناع السكان بأن الطريق الوحيد لإنهاء الإرهاب هو تسليم السلطة إلى الإرهابيين.  هذا الدرس في استخدام الإرهاب من أجل الانتخابات تم استيعابه من الآخرين، بمن فيهم تشارلز تيلور في ليبريا والجبهة الثورية المتحدة في سيراليون.

من الجدير الخروج ببعض الدروس من تاريخ الإرهاب بعد فيتنام.  كان الإرهاب استراتيجية احتضنتها أمريكا عندما خسرت الحرب الباردة في 1975.  كانت موزمبيق ونيكاراجوا هما لحظتا التأسيس لذلك التاريخ.  كلا من رينامو والكونتراس، رواد الحركات الإرهابية، كانتا عملاء بالوكالة لجنوب أفريقيا والولايات المتحدة.  كلاهما كان علماني التوجه.  تطور وكيل ديني عميل – إرهابا يدعي مبررات دينية – كان سمة للمرحلة الختامية للحرب الباردة في أفغانستان.

الردة بمقياس كوكبي: أفغانستان

الحرب الأفغانية كانت المثال الأولي "للردة".  في تاريخ الإرهاب أثناء المرحلة الأخيرة من الحرب الباردة، الحرب الأفغانية اكتسبت الأهمية لسببين.  الأول، صبغت إدارة ريجان الحرب بطابع أيديولوجي كحرب دينية ضد إمبراطورية الشر، أكثر من إضفاء طابع حروب التحرر الوطني عليها مثل الطابع الذي كانت تدعيه الكونتراس على عملياتها في نيكاراجوا.  في هذه العملية، همشت الاستخبارات المركزية الأمريكية كل جماعة إسلامية ذات توجه قومي، خشية أن هذه الجماعات قد تغويها فكرة التفاوض مع الاتحاد السوفييتي، ووضعت في مركز الأضواء أكثر الإسلاميين تطرفا في شراكة تجعل "الاتحاد السوفيتي ينزف حتى يتحول لونه إلى الأبيض".

ثانيا، في مجرى الحرب خصخصت إدارة ريجان عمليات التجنيد، والتدريب والتنظيم لشبكة كوكبية من المحاربين الإسلاميين ضد الاتحاد السوفيتي.  كان التجنيد يتم عن طريق الجمعيات الخيرية الإسلامية، والتدريب من خلال "المدارس" الدينية التي تعسكرت.  فعلى غير مثيلاتها التاريخية، التي كانت تعلم قدر من الموضوعات، العلمانية والدينية، من الفقه والشريعة إلى التاريخ والطب، كانت المدارس الأفغانية تدرس منهجا ضيقا مكرسا لفقه محدود (الإسلام الجهادي) ومنحت تدريبا عسكريا تكميليا.

الفقه الديني الضيق أعاد صب الدين في قالب حول مؤسسة دينية مفردة، هي الجهاد؛ لقد أعيد تحديد الجهاد على نحو عسكري فقط وادعوا أن الجهاد العسكري هو الحرب الهجومية التي يدخلها الأفراد الذين ولدوا من جديد كمؤمنين في معارضة لفكرة الدفاع الذي يقوم به مجتمع إسلامي عن نفسه ضد خطر يهدده.  المدارس الجهادية في باكستان دربت كلا من أطفال اللاجئين الأفغان الذين جندتهم طالبان فيما بعد ودربت العرب الأفغان الذين شكلوا فيما بعد الشبكات الدولية بواسطة التنظيم الذي عرف باسم القاعدة.  فلو كانت حروب التحرر الوطني قد خلقت أجهزة لشبه الدولة، خلق الجهاد الدولي شبكات عمل قطاع خاص من المتخصصين في العنف.

أمريكا لم تخلق الإسلام اليميني، وهو الاتجاه الذي قام من خلال الجدل بين المثقفين، في كلا من داخل الإسلام السياسي ومنافسيهم الأيديولوجيين العلمانيين، مثل الماركسيين اللينينيين.  كانت مسئولية أمريكا هي تحويل هذه الاتجاهات الأيديولوجية إلى تنظيم سياسي – بإدماجه في استراتيجية أمريكا في الحرب الباردة في مرحلتها الختامية.

فيما قبل الجهاد الأفغاني، كان الإسلام السياسي اليميني هو ميل ايديولوجي قليل التنظيم والوزن على الأرض.  الجهاد الأفغاني زوده بالأعداد، والتنظيم والمهارات والمدى والثقة والهدف الموضوعي.  خلقت أمريكا بنية تحتية للإرهاب وصاحت أنها بنية تحتية للتحرر.

محمود معمداني هو أستاذ في معهد هربرت ليهمان للحكومة، قسم الانثروبولوجي مدرسة الشئون الدولية، جامعة كولومبيا، نيويورك.

"الإسلام السياسي".. جدلية الدين والسياسة من يطوع من؟(10)

التماهي بين الديني والسياسي ليس «فعلاً حديثا» بقدر ما هو ضارب في عروق التاريخ البشري ـ الإسلامي وغير الإسلامي ـ المكتظ بحمولات «تسييس الدين» و«تديين السياسة»، الأمر الذي يصبح معه البحث عن الخيط الفاصل بين «الديني» و«الدينوي» ـ بما يتضمنه من نزعات سياسية واجتماعية وسواها ـ من أهم وأعقد المباحث الفكرية والفلسفية في العصر الحديث.

والتاريخ الإسلامي مكتنز بنماذج هائلة تصب في هذا الاتجاه كانت نتاج هذا التماهي بين «الديني» و«السياسي» سواء في السلطة أو في المعارضة. وهو ما جعل كل فريق يمارس عملية تنظير شرعي وحشد نصوصي يثبت فيه صحة موقفه السياسي و«لا شرعية» موقف الخصم. الأمر الذي أدى إلى نشوء مذاهب وعقائد واتجاهات فكرية وفلسفية كان الدافع السياسي رقماً مهماً في نشوئها وتكونها. وهو ما تناولته بالبحث والدراسة مؤلفات حديثة متعددة حاولت الغوص في تأثير البعد السياسي في نشوء وتكوّن هذه المذاهب والاتجاهات في التاريخ الإسلامي كبعض إنتاجات الجابري وفهمي جدعان وهشام جعيط وسواهم.

أما الحديث عن «الإٍسلام السياسي»، فقد بات اليوم أكثر رواجاً من أن يقتصر على اهتمام الدوائر البحثية والثقافية بسبب تزايد أهمية هذا المبحث لارتباطه المباشر بالفعل السياسي الملتصق بحياة الناس، ودخوله ميدان التأثير المتزايد على دوائر السياسة الدولية. خصوصاً بعد أحداث سبتمبر التي جعلت الحديث عن «الإرهاب» مرتبطاً في كثير من الأحيان بالحديث عن الإسلام السياسي. مما زاد من الجرعة البحثية عن هذا الموضوع سواء في العالم العربي أو في المراكز الاستشراقية الغربية وعلى يد باحثين كبار كبرنارد لويس وأولفييه روا وجيل كيبل وفرانسوا بورغا وسواهم.

ويتمحور الحديث حول أن حركات «الإسلام السياسي» هي في حقيقتها حركات سياسية برغماتية بالدرجة الأولى لها رؤاها وحساباتها ومشروعها السياسي. ربما ساهمت البواعث الدينية والعقدية في تكوينها، ولكنها تسيست بعد دخول المعترك السياسي. وأصبح الدين مجرد غطاء يُستخدم لحشد الجماهير وردع الخصوم وكسب الرأي العام، ووسيلة للّعب على العاطفة الدينية الفطرية للجماهير وكسب تأييدها عن طريق النزعة الشعاراتية المفضلة لهذه الحركات، والتي تُستخدم في كل ميادين العمل السياسي كمقولات «القرآن دستورنا» و«الإسلام هو الحل» ورفع المصحف تحت قبة البرلمان في وجوه الخصوم السياسيين في إيحاء ديني لا تخفى دلالته حتى على البسطاء.

يتضح ذلك جلياً لمن يعايش أو يقترب من كواليس العمل السياسي داخل أروقة الحركات والأحزاب الإسلامية حين يكتشف أن الصراع السياسي والبحث عن الحضور الشخصي والمكاسب الذاتية هي الدوافع الطاغية على العاملين في الحقل السياسي الإسلامي. وأن الدوافع الدينية تبقى محدودة وتضيع وسط زحام المصالح والمكاسب الشخصية. وأقرب مثال لذلك ما حصل في الأردن مؤخراً حيث قررت جبهة العمل الإسلامي ـ الجناح السياسي للإخوان المسلمين ـ تغيير بعض الوجوه السياسية «المعمرة» في البرلمان بوجوه شابة وجديدة. ونتج عن ذلك رفض بعض هذه الشخصيات البرلمانية المعمرة لفكرة التغيير. وقررت الانسحاب من الجبهة والترشح للبرلمان كشخصيات مستقلة. وسارت في طريقها نحو البرلمان لتطأ تحت قدميها كل ماضيها النضالي وشعاراتها حول الصف الإسلامي الموحد والتضحية من أجل الدين والدعوة حين وصلت هذه الشعارات إلى مرحلة التطبيق وإلى محك حقيقي يثبت مدى صلابة وصدقية هذه الدعوات التي رددوها لعشرات السنين.

حركات «الإسلام السياسي» تضفي قدسية على الخلاف السياسي، وتجعل الاختلاف في الرؤى والمشروعات السياسية خلافاً دينياً عقائدياً لا مكان فيه للفكر المغاير، ولا رأي فيه إلا لأولئك الموقعين عن رب العالمين. ولكن البعض يرى أن في هذا الطرح مصادرة لحرية «الموقف السياسي» للفرد، المكفول في مواثيق حقوق الإنسان، وذلك بوضع اشتراطات وخطوط حمراء على حقول فكرية وأنماط في التفكير السياسي هي في حقيقتها الأكثر رواجاً وانتشاراً في العالم العربي والإسلامي اليوم.

كما أن هذا الطرح يصب في اتجاه تسويغ القمع والمصادرة التي تمارس ضد الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية، وتبرير حرمانها من العمل السياسي العلني. أو السماح لها ولكن وفق سقف محدود في العمل والحركة والمشاركة لا يمكن لها تجاوزه. وذلك بحجة أنها أحزاب دينية. في حين تعمل الأحزاب المسيحية والدينية في الغرب «العلماني» بحرية مطلقة ودون قيود.

إضافة إلى أن هذه الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية هي في حقيقتها تجمعات ديمقراطية تؤمن ـ وبشكل صارم ـ بالتعددية السياسية وبحرية تكوّن وتشكل الفكر ضمن الفضاء السياسي والثقافي المفتوح. وباتت تعلن صباح مساء أنها لا تحتكر فهم الإسلام، وأنها لا تمثل إلا رؤاها وأفكارها السياسية. وأن للجميع الحق في مخالفتها وفق أرضية ديمقراطية للعمل السياسي لا تصادر حق أحد في الوصول إلى الجماهير ومخاطبتها.

ويتساءل بعضهم.. لماذا في الوقت الذي يُصادَر فيه على الإسلاميين حقهم في العمل السياسي يُغض الطرف عن الأحزاب والحركات القومية واليسارية التي ما فتئت تحتكر الحقيقة وتمارس عملية تخوين وتشنيع على المخالف السياسي والتخطير لأفعاله ومواقفه الفكرية والسياسية؟

ويبقى السؤال..

إلى أي حد يغدو «الإسلام السياسي» حراكاً سياسياً مشروعاً.. وهل «الدين» أم «السياسة» باتت الروح الدافعة لعمل هذه الحركات؟

البعد الأيديولوجي لنشوء الإسلام السياسي : رؤية غربية(11)

ما الذي يحدث اليوم على الساحة الأيديولوجية العالمية ؟ هل هي بداية "صدام حضارات" تستمر لعقود تضع الغرب في مواجهة الإسلام وهي المواجهة التي تمتد بوحشية من المستنقع الأفغاني لتصل تدريجيا إلى مناطق أوسع من العالم؟ هل ستتحول التكنولوجيا ذاتها التي بدت وكأنها تعزز الحرية كالطائرات وناطحات السحاب ومختبرات الأحياء ضد العالم الإسلامي بأساليب لن يستطيع في النهاية وقفها؟ أم أن المواجهة الحالية ستتراجع ويعود العالم القديم ذو الاقتصاد العالمي المتداخل إلى وضعه فور الانتهاء من أسامة بن لادن وطالبان وطي صفحة شبكة الإرهاب؟

نشر فوكاياما مقالاً يراجع فيه طروحاته بعد الحادي عشر من أيلول ـ سبتمبر يقول فيه :"قبل 1. سنوات جادلت بأننا بلغنا "نهاية التاريخ" ولم أعن بذلك أن الأحداث التاريخية قد تتوقف لكن ما عنيته هو أن التاريخ الذي يفهم على أنه تطور المجتمعات الإنسانية من خلال أشكال مختلفة من الحكومات قد بلغ ذروته في الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ورأسمالية اقتصاد السوق . إن وجهة نظري هي أن هذه الفرضية ما زالت صحيحة رغم الأحداث التي تلت 11 سبتمبر فالحداثة التي تمثلها الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطية المتطورة ستبقى القوة المسيطرة في السياسة الدولية والمؤسسات التي تجسد مباديء الغرب الأساسية في الحرية والمساواة ستستمر في الانتشار عبر العالم إن هجمات 11 سبتمبر تمثل حركة إرتجاعية عنيفة يائسة ضد العالم الحديث الذي يبدو وكأنه قطار شحن سريع لمن لا يريد ركوبه.لكننا بحاجة لأن ننظر بجدية إلى التحدي الذي نواجهه . وذلك لأن وجود حركة تملك القوة الإحداث خراب هائل في العالم الحديث حتى وإن مثلت عددا قليلا من الناس فحسب يطرح أسئلة حقيقية حول قدرة حضارتنا على البقاء . والأسئلة الأساسية التي يواجهها الأمريكيون وهم يزحفون باتجاه هذه "الحرب" على الإرهاب هي ما مدى عمق هذا التحدي الأساسي وما نوع الحلفاء الذين ينبغي للغرب تجنيدهم؟ وما الذي ينبغي عليه عمله للتصدي له .فالعالم الإسلامي يموج اليوم بالعديد من التيارات المتمردة والساخطة والمتشددة ذات النزعة الأصولية . ولكن لماذا ظهر هذا النوع من الأصولية الإسلامية فجأة من الناحية الاجتماعية ؟ قد لا تكون الأسباب مختلفة عن تلك التي حركت الفاشية الأوربية في وقت مبكر من القرن الـ 2. فقد شهد العالم الإسلامي اجتثاث أعداد كبيرة من السكان من قراها التقليدية أو حياتها القبلية خلال الجيل الماضي وقد تم تمدين الكثير منهم وتعرض هؤلاء لشكل أدبي آخر من الإسلام أكثر يدعوهم للعودة إلى شكل آخر أكثر نقاء من الدين تماما كما حاول متطرفو القومية الألمانية أن يعيدوا إحياء هوية عنصرية خرافية منذ زمن بعيد ولهذا الشكل الجديد من الأصولية الإسلامية جاذبية هائلة لأنه يزعم أنه يشرح فحوى خسارة القيم والارتباك الحضاري اللذين ولدتهما عملية التحديث ذاتها .

وعليه فإنه قد يمكن توضيح الأمور بالقول إن الصراع الحالي ليس ببساطة معركة ضد الإرهاب ولا ضد الإسلام كدين أو حضارة ولكنه صراع ضد الفاشية الإسلامية أي العقيدة الأصولية غير المتسامحة التي تقف ضد الحداثة والتي انبثق حديثا في أجزاء عديدة من العالم الإسلامي كما يعتقد الغربيون الذين يوجهون أصابع الإتهام بقوة ، " بخصوص نشأة و صعود النزعة الإسلاموية " ، نحو المملكة العربية السعودية فثروات العائلة السعودية المالكة اختلطت بمصالح الطائفة السلفية الوهابية منذ سنوات عديدة فقد سعت الأولى للحصول على الشرعية والحماية من رجال الدين عن طريق ترويج الحركة الوهابية لكن الحكام السعوديين قدموا استثمارات جديدة هائلة لترويج مفهومهم الخاص للإسلام في الثمانينات والتسعينات خاصة بعد محاولة الاستيلاء على الحرم المكي الشريف عام 1979 التي تم إجهاضها. ويمكن تصنيف الفكر الوهابي بسهولة على أنه "إسلامية فاشية" ، حسب تعبير فوكاياما. هناك كتاب دراسي في المملكة العربية السعودية مقرر للصف الـ 1. يشرح أنه "يجب على المسلمين أن يخلصوا لبعضهم بعضا وأن يعتبروا الكفار أعداءهم " ولم يروج السعوديون هذه العقيدة في الشرق الأوسط فحسب بل في الولايات المتحدة أيضا حيث قيل إنهم أنفقوا مئات ملايين الدولارات على بناء المدارس والمساجد لنشر مفهومهم الخاص عن الإسلام، وقد سمحت كل هذه الأموال القادمة من الخليج لأسامة بن لادن وأتباعه فعليا بشراء بلد أفغانستان لأنفسهم واستخدامها كقاعدة لتدريب جيل كامل من المتعصبين العرب وفي هذا المجال فإن الولايات المتحدة تلام أيضا لأنها هجرت (أفغانستان) بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي ولأنها تخلت عن مسئوليتها في إقامة نظام سياسي مستقر ومعاصر هناك.

ويتعلق السبب الأخير لانطلاق هذه " النزعة الإسلاموية الحركية الناشطة "في الثمانينات والتسعينات " بمسائل جذرية" كالفقر والركود الاقتصادي والسياسات السلطوية في الشرق الأوسط التي يعتبرها التطرف السياسي موادا للاشتعال وفي ضوء الاتهام المتكرر بأن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية كان يمكن لها أن تتحرك لتخفيف هذه المسائل بشكل مهم وبالتالي نصبح بحاجة إلى وضوح شديد في معرفة جذور هذه المسائل الجذرية .وبالفعل فإن المجتمعات الخارجية من خلال المنظمات الدولية كالبنك الدولي ما فتئت تقدم المساعدة للدول الإسلامية منذ البداية كما فعلت الولايات المتحدة في تعاملاتها الثنائية مع دول مثل مصر والأردن ومع ذلك كان القليل جدا من هذه المساعدة مثمرا لأنها لم تصل إلى من يحتاجونها من المسلمين المسحوقين ، ولأن المشكلة الأساسية هي مشكلة سياسية في العالم العربي الإسلامي نفسه ففرص الإصلاح الاقتصادي والسياسي كانت دائما موجودة لكن عددا قليلا من الدول الإسلامية وجميع الدول العربية بشكل خاص تبنت نوع السياسات التي تبنتها دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان وتشيلي أو المكسيك لفتح بلدانها على الاقتصاد العالمي ووضع أسس التنمية المستدامة ولم تتطوع أي حكومة عربية للتخلي عن السلطة لمصلحة الحكم الديمقراطي كما فعلت الملكية الإسبانية بعد زوال فترة حكم الدكتاتور فرانكو، أو الوطنيين في تايوان أو الدكتاتوريات العسكرية المختلفة في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وغيرها من مناطق أمريكا اللاتينية ولم تكن هناك لحظة واحدة في أي من الدول الغنية بالنفط في الخليج استخدم فيها ثراؤها لتأسيس مجتمع صناعي مستقل بدل خلق مجتمع يقوم على أصحاب الدخول الفاسدين الذين تحولوا مع مرور الوقت تدريجيا إلى متعصبين إسلاميين. إن هذا الفشل، وليس ما فعله العالم الخارجي أو لم يفعله ،هو السبب الجذري في ركود العالم الإسلامي .

إن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة اليوم هو أكثر من مجرد معركة مع مجموعة صغيرة من الإرهابيين فبحر الإسلام المتطرف الذي يسبح فيه الإرهابيون يشكل تحديا أيديولوجيا هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية كيف ستتقدم مسيرة التاريخ العريضة بعد هذه النقطة ؟هل سيحصل الإسلام الراديكالي على مزيد من المؤيدين وأسلحة جديدة أقوى يهاجم بها الغرب؟ من الواضح أننا لا نستطيع أن نعرف لكن بعض العوامل ستشكل مفاتيح لذلك.

أول هذه العوامل هو نتيجة العمليات الدائرة الآن في أفغانستان ضد طالبان والقاعدة وبعدها ما سيحصل لصدام حسين في العراق وبالرغم من رغبة الناس في الاعتقاد بأن الأفكار تعيش أو تموت نتيجة استقامة أخلاقياتهم الداخلية فإن القوة لها شأن كبير فالنازية الألمانية لم تنهزم بسبب تناقضاتها الأخلاقية الداخلية بل ماتت لأن ألمانيا احتلت وتحولت إلى أنقاض بفعل قصف جيوش الحلفاء. وقد كسب أسامة بن لادن شعبية هائلة لنجاحه في الهجوم على البرجين التوأمين وإذا ما علق مجازا على عمود كهربائي في ميدان عام من قبل القوات الأمريكية مع من حماه من جماعة الطالبان فإن جاذبية حركته ستقل كثيرا وبالعكس إذا استمرت المواجهة العسكرية بشكل غير مؤثر فإن النزعة الإسلاموية المتطرفة ستحصل على مزيد من التأييد.

التطور الثاني والأهم ينبغي أن يأتي من داخل الإسلام نفسه فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرر فيما إذا كان يريد أن يصل إلى حل سلمي مع الحداثة وخاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية والتسامح الديني حيث قف العالم الإسلامي اليوم على تقاطع الطرق نفسه الذي كانت تقف عليه أوروبا المسيحية أثناء حرب الـ 3. عاما في القرن الـ 17 فالسياسات الدينية تقود صراعات محتملة لا نهاية لها ليس فقط بين المسلمين وغير المسلمين ولكن بين الطوائف الإسلامية أيضا( كثير من التفجيرات الأخيرة في باكستان نتجت عن خلافات سنية شيعية) وفي عصر الأسلحة البيولوجية والنووية يمكن لذلك أن يقود إلى كارثة على المجتمع إن هناك بعض الأمل في ظهور فكر إسلامي أكثر ليبرالية بسبب المنطق التاريخي الداخلي للعلمانية السياسية فالحكم الديني الإسلامي جذاب للناس في حالته التجريدية فقط أما بالنسبة إلى أولئك الذين اجبروا فعليا على العيش في ظل مثل هذه النظم في إيران أو أفغانستان مثلا فقد عانوا دكتاتوريات خانقة لا يملك زعماؤها كالآخرين حلولا لكيفية التغلب على الفقر والركود وحتى إبان أحداث 11 سبتمبر كانت هناك بعض المظاهرات مستمرة في طهران وغيرها من المدن الإيرانية وشارك فيها عشرات آلاف الشباب الذين فقدوا صبرهم تجاه النظام الإسلامي والذين كانوا ينادون بنظام سياسي أكثر ليبرالية وقد تحولت هتافات "الموت لأمريكا" السابقة إلى نداءات "نريد التغيير ، نريد الحرية" حتى في الوقت الذي كانت فيه القنابل الأمريكية تتساقط على طالبان في الجارة أفغانستان. يحصل هذا في إيران الإسلامية الأكثر انفتاحاً ومرونة فما بالك فيما يحصل في جارتها الإسلامية أفغانستان أو السعودية ؟ ويظهر فعليا أنه إذا كانت هناك دولة يمكن لها أن تقود العالم الإسلامي خارج مأزقه الراهن فإنها قد تكون إيران التي بدأت قبل 23 عاما الصعود الحالي للأصولية حين أسقطت الشاه وجلبت آية الله الخميني للسلطة وبعد جيل من الزمن فإنه من الصعب العثور على أي شخص تحت سن الـ 3. لديه أي تعاطف مع الأصولية وإذا استطاعت إيران إيجاد شكل إسلامي أكثر معاصرة وتسامحا فإنها ستشكل مثالا قويا لبقية العالم الإسلامي.

يجب على المسلمين المهتمين بصيغة إسلامية أكثر ليبرالية أن يتوقفوا عن لوم الغرب على أنه يرسم الإسلام بريشة عريضة جدا وأن يتحركوا لعزل المتطرفين بينهم وتقويض شرعيتهم وهناك بعض الدلائل على أن ذلك يحصل الآن فالمسلمون الأمريكيون يستيقظون الآن ليكتشفوا مدى تأثير الوهابية داخل مجتمعاتهم نفسها ويحتمل أن يدرك الذين يعيشون في الخارج منهم هذه الحقيقة إذا تحول المد بشكل واضح ضد الأصوليين في أفغانستان.

إن الصراع بين الديمقراطية الليبرالية الغربية والفاشية الإسلامية ليس صراعا بين نظامين حضاريين يتمتعان بقابلية البقاء نفسها ويستطيع كلاهما ركوب العلم والتكنولوجيا وخلق الثروات والتعامل مع التنوع الموجود في عالمنا المعاصر وفي هذه المجالات كافة فإن المؤسسات الغربية تسيطر على الأوراق كلها ولذلك فهي ستستمر في الانتشار في أنحاء العالم على المدى الطويل لكن الوصول إلى هذا المدى الطويل يتطلب أن نبقي أحياء على المدى القصير ولسوء الحظ فإن التقدم التاريخي ليس حتميا وهناك القليل من النتائج الجيدة عدا القيادة والشجاعة والتصميم على خوض المعركة دفاعا عن القيم التي تجعل المجتمعات الديمقراطية المعاصرة ممكنة. أما من داخل العالم الإسلامي فالرؤية ليست متطابقة تماماً مع ما يدركه الغربيون الذي كانوا مصدر الأيديولوجيات السياسية وأشكال وأنماط الحكم المهيمنة على السلطات ولكن في أعقاب إخفاق الأيديولوجية القومية وفشل الأيديولوجية الماركسية العلمانيتين في تعبئة الشعوب العربية خاصة بعد نكسة حزيران 1967 ، صارت الأجيال الشابة في العالم العربي تبحث عن ملجأ أيديولوجي ـ نفسي تحتمي به من هوة الضياع وصار المثقفون يجلدون أنفسهم وكأنهم المسؤولون عن هذا الإنهيار النفسي الذي ولد بعد الهزيمة كما عبر عن ذلك المفكر العربي الدكتور صادق جلال العظم في كتاب " النقد الذاتي بعد الهزيمة " أفضل تعبير .

من هنا يمكننا أن نربط بصورة منطقية بين تنامي التيار الديني كرد على إفلاس الأيديولوجيات العلمانية ونشوء ظاهرة العنف المسلح من جهة وتبلور ما سمي فيما بعد منذ سنوات السعينات بـ ( الإرهاب الدولي ) خاصة بعد انبثاق المقاومة الفلسطينية وتبنيها لأسلوب الكفاح المسلح ونشوء الخلط بين المقاومة الوطنية المشروعة كما يفهمها العالم الثالث والشعوب المقهورة ، والإرهاب كما تعرّفه الدول الغربية وإسرائيل وتدمغ به كل عمل عسكري ـ نضالي تقوم به مجموعات المقاومة الوطنية من أجل التحرير ومقارعة الاستعمار والاحتلال . ومن هنا نشأ أكبر سوء تفاهم في القرن المنصرم وبالأخص في العقود الثلاثة الأخيرة منه بين الغرب والعالم العربي ـ والإسلامي . ومن سوء التفاهم والفهم المتبادل هذا نشأت بذور الصراع الذي سيتخذ أشكالاً متنوعة فيما بعد وخاصة بعد عام 1973 . وهو عام حرب أكتوبر / تشرين أول بين العرب وإسرائيل وإستخدام النفط كسلاح وظهور ما سمي فيما بعد بـ " البترو ـ إسلام " حسب التسمية الغربية .فقد نمت عند الغربيين عقدة الانتقام والرد الحاسم والمناسب في الوقت المناسب لتلقين العرب درساً لن ينسوه على جرأتهم في تهديد الغرب بقطع إمدادات النفط عنه وإستخدامها كسلاح لتحقيق مواقف سياسية " وابتزاز الغربيين " على حد تعبير هنري كيسنجر .

كانت حرب أكتوبر إنعطافة هامة في تاريخ العلاقات العربية ـ الغربية . فالمغامرة العسكرية العربية لغسل عار الهزيمة السابقة في سنة 1967 وكسر شوكة إسرائيل وإنهاء أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لايقهر كانت من الأهمية بمكان أن الغرب أخذ يدرس من خلالها كافة الاحتمالات والتصورات والسيناريوهات المستقبلية . صحيح أن العرب لم يحققوا انتصاراً حاسماً وينهوا إسرائيل من الوجود ـ وهو لم يكن هدف تلك الحرب على الإطلاق فقد كانت حرب تحريك وليست حرب تحرير " إلاّ أنها مع ذلك كانت مصيرية بسبب تبعاتها . فقد نهض الغرب وعلى رأسه أميركا لمساعدة إسرائيل ودعمها بقوة بجسر جوي لم يشهد له التاريخ مثيلاً وحققت الدولة العبرية هجوماً مضاداً كاسحاً على الجبهتين المصرية والسورية لكنها اضطرت إلى التوقف على مسافة 1.1 كيلو متر عن القاهرة على طريق السويس بسبب إعلان الحظر النفطي من جانب الدول العربية المنتجة للنفط على الغرب الذي مارس ضغوطاً قوية على إسرائيل لتتوقف وتقبل بالتفاوض على وقف إطلاق النار والهدنة . وهكذا تحول النصر إلى انتصار رمزي ـ وسيكولوجي وأتيحت الفرصة للأنظمة القومية ـ العلمانية في دول المواجهة أن تدعي الشرعية والوطنية لفترة من الزمن كما زادت هذه الظروف من الدخل المالي للدول النفطية إثر ارتفاع أسعار النفط بصورة هائلة مما حقق للدول المنتجة للنفط مواقع مهمة ومهيمن في العالم الإسلامي .وأتاحت هذه المعطيات الجديد للمملكة العربية السعودية بالذات أن ترتفع إلى مستوى طموحاتها القديمة بقيادة العالم الإسلامي وفرض رؤيتها الإسلامية المحافظة النابعة من المذهب الوهابي المستند إلى تنظيرات شيخ الإسلام إبن تيمية و تلميذه الشيخ محمد عبد الوهاب وذلك من خلال شبكة من المساعدات المالية للجماعات الإسلامية التي ازدهرت خلال سنوات السبعينات والثمانينات وقيادة حملة لبناء المساجد وتأسيس الجمعيات الإسلامية الخيرية في كل مكان من العالم الإسلامي وحيث يتواجد المسلمون بما في ذلك في أوروبا وأميركا فضلاً عن دول آسيا الوسطى الإسلامية .وانتشرت " الحركة السلفية " التي تطورت إلى " حركة أممية أو دولية إسلامية " وتقاربت جمعيات سابقة كجماعات الأخوان المسلمين والجماعات الإسلامية في الباكستان والهند وتركيا وأفريقيا وفي السودان وأفغانستان خاصة في مواسم الحج للتنسيق فيما بينها والمباشرة بحملة تبشيرية لتأصيل الإسلام التقليدي في المجتمعات الإسلامية من القاعدة الشعبية فيها ودحر الفكر العلماني ونمط الحياة الغربي وجعل الإسلام العامل الأول في حياة الشعوب الإسلامية ومنحه دوراً فاعلاً ومؤثراً على المسرح الدولي . والوصول إلى المسلمين المهاجرين في دول الغرب لتوصيل " الإسلام السعودي بصيغته الوهابية" إلى مسلمي المهجر على حد تعبير جيل كبيل في كتابه " الجهاد توسع وانحسار الإسلام السياسي " .

ومن نتائج هذه المتغيرات نشوء ظاهرة " الأفغان العرب " عبر تجربة طويلة وشاقة تميزت بالشدة والدموية أحياناً وامتدت آثارها إلى جميع الدول العربية والإسلامية وحلبفاتها الغربية .وكانت هذه الظاهرة الخطيرة قد نشأت نتيجة خطأ وسوء في التقدير والحسابات الخاطئة لعدد من أجهزة المخابرات العربية والإسلامية والغربية وتنظيمات ومؤسسات ورجال أعمال ورجال دين وسياسيين ساهموا بشكل أو بآخر في تشكيل وتعزيز هذه الظاهرة من خلال تشجيع وتسهيل ودعم وتمويل هجرة الحركيين الإسلامويين النشطاء وترحيلهم إلى افغانستان لمحاربة الغزو السوفيتي والتدرب على فنون القتال لكنهم دفعوا فيما بعد ثمناً باهظاً لهذه الإستراتيجية ذات الحدين وكانت العواقب وخيمة على الجميع على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والعقائدية ولم تدفع " العلمانية " وحدها الثمن بل الفكر الإسلامي برمته لأن " الأفغان العرب" أعلنوا تكفير الجميع وبالذات رجال الدين والهيئات الدينية الرسمية والعلماء الذين يعملون في فلك السلطات السياسية الحاكمة .لقد فات الأوان ولم يعد يفيد شيء مهما بلغت قوة وجبروت الآلة العسكرية الغربية التي تقف في مواجهة " إرهاب الأفغان العرب " فتفجير المدمرة كول والسفارات الأميركية في أفريقيا وأخذ الرهائن الغربيين وتفجير مركز التجارة الدولي ووزارة الدفاع الأميركية وغيرها من الأعمال ما هي سوى انعكاسات ظاهرة وجلية لمدى تغلغل هذه الظاهرة التي تستند إلى كتابات تنظيرية لمفكرين إسلاميين قدماء ومعاصرين ، أمثال شيخ الإسلام إبن تيمية ، ومحمد عبد الوهاب ، وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب والإمام الخميني ومحمد عبد السلام فرج وعمر عبد الرحمن وايمن الظاهري واسامة بن لادن ،و شكري مصطفى وعلي بلحاج وعباس مدني الخ .. إجتمع أغلبهم في افغانستان ومنها انتشروا في بقاع الأرض المختلفة ليفرضوا قوانينهم ورؤيتهم بلغة الحديد والنار والعنف والقتل والتدمير . ولم تتمكن اعتقالات وسجون ومحاكمات وإعدامات الأنظمة العربية والإسلامية المناوئة لأفكارهم أن تستأصلهم أوتبيدهم. فهؤلاء العائدون من أفغانستان اكتسبوا الخبرة والمناعة والحسم والتصميم وقدرة المواجهة مهما كان الثمن المطلوب دفعه ولو كان بأرواحهم ، فأغلبهم ذو نزعة انتحارية وقد برهنوا على ذلك في مناسبات سابقة كاغتيال الرئيس المصري أنور السادات في 6 أكتوبر / تشرين أول 1981 واحتلال الحرم المكي الشريف الخ .. وكلهم خرج من رحم جماعة الأخوان السلمين التي أسسها حسن البنا في عشرينات القرن المنصرم وتألق نجمهم بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ، وامتازوا بميزة العداء للغرب وحضارته وقيمه الأخلاقية والأيديولوجية فضلاً عن عدائهم الشديد للشيوعية باعتبارها من صميم الفكر الغربي الغريب عن الإسلام . لقد أخفق الأخوان المسلمون السنة في الوصول إلى السلطة في مصر والجزائر وسوريا لأنهم لم يستقطبوا كافة فئات الشعب وطبقاته وخاصة الطبقة الوسطى إلى جانب قضيتهم بينما نجح في ذلك المشروع السياسي التيار الديني الشيعي بقيادة آية الله العظمى الإمام الخميني الذي جمع تحت لوائه البرجوازية الصغيرة المتدينة و(البازار ـ السوق التجاري )والطبقة الوسطى والفقراء والفلاحين والعمال والطلاب والكوادر المتعلمة (موظفين و مهندسين ومحامين وقضاة وأطباء وتقنيين إلى جانب الفئات المسحوقة ، تحت شعار" الثأر للمستضعفين وأخذ حقوقهم " وتطبيق أطروحة " ولاية الفقيه " وتأسيس جمهورية إسلامية تطبق الشريعة والعدل والمساواة بين الناس، تحمي استقلال إيران وتشيع الديموقراطية والتعددية بين أبنائها .واستخدم خطاباً توحيدياً يخلق تلاحماً جماهيرياً منقطع النظير بين جميع طبقات الشعب الدينية والعلمانية، في مواجهة نظام الحكم التعسفي الذي كان يفرضه شاه إيران على الشعب بقوة الحديد والنار وبتشجيع الدوائر الغربية والأميركية بصفة خاصة وكان للثورة الإسلامية في إيران تداعيات خطيرة على الشارع الإسلامي والعربي حيث أصبح الإسلام ـ السياسي ، أو التيار الإسلاموي قوة هائلة في المجتمعات الإسلامية وحفّزت الحركات الإسلامية ـ السياسية الداعية لتطبيق الإسلام السياسي إلى التحرك بشتى الوسائل والطرق بما فيها الإرهاب المسلح لكنها لم تنجح في أي مكان آخر عدا إيران وفي جنوب لبنان نسبياً مع تجربة حزب الله الفريدة من نوعها التي تمكنت من طرد المحتل الصهيوني ..

إن هذا الموقف الغربي ـ الأميركي إلى جانب " الطغاة" والدكتاتوريين والعسكريين المستبدين الذين يتربعون على رأس الأنظمة الموالية لهم هو الذي خلق جذور الكره والحقد على الغرب وعلى أميركا بشكل خاص والذي تفاقم أكثر فأكثر بسبب الإنحياز الأعمى إلى جانب إسرائيل ضد المصالح العربية والإسلامية وعلى مدى سنوات طويلة تمتد منذ وعد بلفور لليهود بوطن قومي في فلسطين سنة 1917 إلى يوم الناس هذا في 2..1 حيث تقوم إسرائيل بتدنيس المقدسات الإسلامية وذبح الفلسطينيين العزل وامتهان كرامتهم وتجويعهم وتطويقهم بالدبابات والحواجز الأمنية خاصة بعد إندلاع انتفاضة القدس الثانية وإنهيار سيرورة أوسلو السلمية.

هذا هو الواقع المؤلم الذي عاشته الأجيال الإسلامية الشابة من المحيط إلى الخليج في العالم العربي وفي معظم الدول الإسلامية كما في أفغانستان والشيشان والكوسوفو والبوسنة والهرسك وفي تركيا والجزائر حيث يتعرض الإسلاميون إلى القمع والسجون والملاحقة والمطاردة والقتل مما دفعها إلى الثورة المسلحة واستخدام أساليب الكفاح المسلح وحرب عصابات المدن وعمليات الكاميكاز الانتحارية ضد قوى الظلم والطغيان من أتباع الشيطان على حد تعبير منظّري الحركات الإسلامية الراديكالية .فاستدار " الثوار المجاهدون " بالأمس القريب ضد الغزو السوفيتي واليوم ضد الهيمنة الغربية ـ الأميركية على العالم وحولوا بنادقهم إلى صدور حكامهم المتواطئين بنظرهم مع العدو الغربي الذي يحارب الإسلام والقيم الإسلامية كما يفهمونها هم ،( اغتيال السادات،تمرد الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر ضد السلطة العسكرية ، طرد الشاه ، الخ ) .

كان إنتصار الإمام الخميني في طهران عام 1979 قد غير موازين القوى في العالم الإسلامي المعاصر الذي كان يسير تحت جناح المملكة العربية السعودية الموضوعة بدورها تحت مظلة الحماية العسكرية الغربية ـ الأميركية ، خاصة بعد تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969 وانتصار " البترو ـ إسلام " عام 1973 كما يسميه جيل كبيل في كتابه السالف الذكر . كان الجميع يتوقع تفاعلاً وانقلاباً جماهيرياً مماثلاً في المملكة العربية السعودية آنذاك . فقد صرح أحد المقربين من الإمام الخميني وهو في منفاه في ضاحية نوفل لو شاتو الباريسية " إصبر لترى ماذا سيحدث للسعوديين بعد عودتنا لطهران بستة أشهر لا اكثر " . وبالفعل بعد تسعة أشهر من انتصار الثورة الإيرانية ، وفي فجر يوم 2. نوفمبر / تشرين الثاني سنة 1979 وهو اليوم الأول من القرن الخامس عشر للتقويم الهجري تعرض الحرم المكي الشريف لهجوم مسلح وإحتلال من قبل بضعة مئات من المعارضين الإسلامويين المتطرفين كخطوة أولى نحو انتفاضة شعبية كان مقدراً لها إطاحة عرش المملكة وتحويله إلى جمهورية إسلامية على غرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية بطبعتها السنية .( والتي قدر لها أن تتحقق بمساعدة سعودية بعد عشرون خمسة عشر عاماً وبظروف مختلفة تماماً في أفغانستان بوصول الطالبان للسلطة وتطبيق الشريعة الإسلامية في جمهورية إسلامية سنية ـ وهابية) ودام إحتلال الحرم المكي إسبوعين ولم يكن للمهاجمين أي إتصال أو تنسيق مع السلطة الإيرانية وكان ذلك الحدث بمثابة أخطر تهديد يتعرض له بنيان المملكة والصرح الذي شيّده آل سعود منذ سنوات طويلة لأن شرعيتهم الإسلامية تعرضت للاهتزاز والخلخلة والطعن بصورة استعراضية ملفتة للأنظار وداخل أقدس الأراضي الإسلامية بالرغم مما قدمته السعودية من تمويل ومساعدات لجميع الحركات الإسلامية السنية في العالم بغية تحييدها واحتوائها والسيطرة عليها وتجييرها إلى صفها من خلال نشاط وعمل رابطة العالم الإسلامي الدؤوب ، وفي نفس الوقت تطويق آثار صيغة " الثورة الإسلامية " المدمرة التي تجسد كافة أنواع الأخطار المحدقة بالمملكة لأن إيران كانت تحاول طمس هويتها الشيعية للتقرب هي الأخرى من الحركات الإسلامية ـ السياسية النشطة في العالم الإسلامي والسنية المذهب على غرار 8.% من مسلمي العالم الإسلامي ، وبالتالي قامت المملكة العربية السعودية بتقديم العون والمساعدة لعدو إيران اللدود صدام حسين في حربه العدوانية على إيران بغية إضعاف هذه الأخيرة وإبعادها عن ساحة المنافسة لكن هذه الاستراتيجية لم تعطي ثمارها ورضخ الخصمان المسلمان للأمر الواقع وقبلا بمبدأ تطبيع العلاقات الأخوية بينهما خاصة بعد غزو العراق للكويت واندلاع حرب الخليج الثانية . وقد نجحت المملكة بعد بضعة أعوام في تطبيع علاقاتها مع خصمها اللدود إيران والتنسيق معها والتعاون معها في كافة المجالات الإسلامية المشتركة .لكن جذوة العنف لم تنطفيء بعد ومازالت شرارتها متأججة خاصة بعد الحرب الأميركية ضد افغانستان التي أتخذت في وعي الرأي العام الإسلامي شكل محاربة الغرب للإسلام ، وتفاقم العجرفة الأميركية وتهديداتها المستمرة بضرب كل من تسول له نفسه تحدي جبروتها وهي التي تخطط اليوم لضرب دول إسلامية أخرى بحجة حملة مكافحة الإرهاب الدولي .

وبصدد هذه المواجهة بين الإسلام والغرب يقول فوكاياما في مقال له أصدره بعد أحداث 11 سبتمبر : "قبل 1. سنوات جادلت بأننا بلغنا "نهاية التاريخ" ولم أعن بذلك أن الأحداث التاريخية قد تتوقف لكن ما عنيته هو أن التاريخ الذي يفهم على أنه تطور المجتمعات الإنسانية من خلال أشكال مختلفة من الحكومات قد بلغ ذروته في الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ورأسمالية اقتصاد السوق . إن وجهة نظري هي أن هذه الفرضية ما زالت صحيحة رغم الأحداث التي تلت 11 سبتمبر فالحداثة التي تمثلها الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطية المتطورة ستبقى القوة المسيطرة في السياسة الدولية والمؤسسات التي تجسد مبادئ الغرب الأساسية في الحرية والمساواة ستستمر في الانتشار عبر العالم. إن هجمات 11 سبتمبر تمثل حركة إرتجاعية عنيفة يائسة ضد العالم الحديث الذي يبدو وكأنه قطار شحن سريع لمن لا يريد ركوبه.لكننا بحاجة لأن ننظر بجدية إلى التحدي الذي نواجهه . وذلك لأن وجود حركة تملك القوة لإحداث خراب هائل في العالم الحديث حتى وإن مثلت عددا قليلا من الناس فحسب، يطرح أسئلة حقيقية حول قدرة حضارتنا على البقاء . والأسئلة الأساسية التي يواجهها الأمريكيون وهم يزحفون باتجاه هذه "الحرب" على الإرهاب هي ما مدى عمق هذا التحدي الأساسي وما نوع الحلفاء الذين نستطيع تجنيدهم؟ وما الذي ينبغي علينا عمله للتصدي له ". بينما يجادل صاموئيل هنتينغتون عالم السياسة البارز في مقال له نشر بعد الأحداث الدامية في 11 أيلول ـ سبتمبر : " بأن المواجهة الحالية قد تتحول إلى "صدام حضارات" وهي إحدى المواجهات التي تنبأ قبل عدة سنوات بأنها سترهق عالم ما بعد الحرب الباردة وفي الوقت الذي تؤكد فيه إدارة بوش عن حق بأن النضال الحالي هو ضد الإرهاب وليس حربا بين الغرب والإسلام فإن هناك مسائل حضارية واضحة تلعب دورا فيه ".

ولقد نزع الأمريكيون للاعتقاد بأن المؤسسات والقيم الديمقراطية والحريات الشخصية وسلطة القانون والرخاء المستند إلى حرية الاقتصاد تمثل تطلعات لا بد أن يشاطرهم فيها الناس حول العالم في النهاية إذا توافرت لهم الفرصة وهم ميالون للظن بأن المجتمع الأمريكي له جاذبيته للناس من جميع الثقافات . ويبدو الملايين من المهاجرين من بلدان في أنحاء العالم كله الذين يتذمرون من بلدانهم ويودون الانتقال إلى أميركا وغيرها من المجتمعات المتقدمة وكأنهم يشهدون على هذه الحقيقة.

لكن أحداث ما بعد 11 سبتمبر تتحدى هذه النظرة فمحمد عطا والعديد غيره من الخاطفين الآخرين كانوا أناسا متعلمين عاشوا ودرسوا في الغرب . ولم يستطيع الغرب إغرائهم بل إن النفور مما شاهدوه كان لدرجة أنهم كانوا راغبين بالانقضاض بالطائرات على بنايات وقتل الآلاف من الناس الذين كانوا عاشوا بينهم والقطعية الحضارية هنا كما هي بالنسبة إلى أسامة بن لادن وأتباعه من الأصوليين الإسلاميين قد تبدو كاملة. هل قصر النظر الحضاري لدى الغرب يجعله يظن أن القيم الغربية هي قيم عالمية محتملة ومقبولة ؟

هناك في الحقيقة أسباب للاعتقاد بأن القيم والمؤسسات الغربية تلقى قبولا كبيرا لدى الكثير من شعوب العالم غير الغربية إن لم نقل جميعها . وهذا لا يعني نفي العلاقة التاريخية بين كل من الديمقراطية والرأسمالية مع المسيحية أو حقيقة أن الديمقراطية تملك جذورها الثقافية في أوربا فكما أشار الفلاسفة من أليكسيس دي توكوفيل وجورج هيجل إلى فريدريك نيتشه، فإن الديمقراطية الحديثة نسخة علمانية للمبدأ المسيحي في المساواة الإنسانية عالميا.

إلا أن المؤسسات الغربية كالأساليب العلمية، التي وإن كانت قد اكتشفت في أوربا فإن لها تطبيقات عالمية . فهناك آلية أساسية تشجع على لقاء طويل الأجل يتجاوز الحدود الثقافية اقتصاديا في المقام الأول ومن ثم في عالم السياسة وأخيرا (وفي المقام الأبعد) حضاري.ا وما يدفع هذه العملية إلى الأمام في المقام الأول هو العلم الحديث والتكنولوجيا التي تعتبر إمكاناتها على خلق الثروة المادية وسلاح الحرب هائلة إلى الحد الذي يوجب على المجتمعات الأخرى أن تقدم على التفاهم معها . إن تكنولوجيا الموصلات والاتصالات أو الطب العضوي أو الهندسة الوراثية والجينية لا تختلف بالنسبة إلى المسلمين أو الصينيين عما هي عليه للأمريكيين والحاجة لاستيعابها تتطلب تبني مؤسسات اقتصادية معينة تشجع النمو كالأسواق الحرة وسيادة القانون . وتزدهر اقتصاديات الأسواق التي تقودها التكنولوجيا الحديثة استنادا إلى الحريات الفردية أي نظام يقوم فيه الأفراد وليس الحكومات أو رجال الدين باتخاذ القرارات المتعلقة بالأسعار أو نسب الفائدة.

وبدوره ينزع النمو الاقتصادي نحو إنشاء ليبرالية ديمقراطية ليس بصورة حتمية ولكن غالبا ما يحدث ذلك بقدر يجعل العلاقة بين النمو والديمقراطية أحد "قوانين" العلم السياسي القليلة المقبولة عامة، فالنمو الاقتصادي يولد طبقة وسطى لها حقوق ملكية ومجتمعا مدنيا معقدا وحتى مستويات تعليمية أعلى للمحافظة على القدرة على التنافس وتخلق هذه العوامل مجتمعة أرضا خصبة تنمو فيها مطالب المشاركة السياسية الديمقراطية التي تأخذ شكلا مؤسساتيا ضمن الحكومات الديمقراطية في نهاية المطاف.

والحضارة، والمعتقدات الدينية، والعادات الاجتماعية، والتقاليد الثابتة هي الحلقة الأخيرة والأضعف في مسلسل التحول والمجتمعات تمقت التخلي عن القيم التي تدق جذورها عميقا وسيكون من السذاجة الشديدة الظن بأن الثقافة الأمريكية الشعبية مهما كانت درجة إغرائها ستسود العالم قريبا . والحقيقة أن انتشار ماكدونالدز وهوليوود حول العالم أشعل سخطا عارما ضد أسس العولمة المنتظرة.

وبينما تبقى الفوارق الثقافية في المجتمعات المعاصرة فإنها تميل لأن توضع في صندوق منفصلة عن السياسة وتنسب إلى عالم الحياة الخاصة والسبب في ذلك بسيط: إذا كانت السياسة ترتكز على شيء كالدين فإنه لن يكون هناك سلم اجتماعي لأن الناس لا يستطيعون الاتفاق على القيم الدينية الأساسية. إن العلمانية هي تطور حديث نسبيا في الغرب حين كان الأمراء والرهبان والمسيحيون يفرضون المعتقدات الدينية على رعاياهم ويلاحقون المعارضين وقد نشأت الدول الديمقراطية العلمانية الجيدة نتيجة الصراع الديني الدموي في أوروبا في القرنين الـ 16 وال 17 حين ذبحت المجموعات المسيحية بعضها بعضا دونما رحمة وقد أصبح الفصل بين الدين والدولة أحد مكونات الحداثة المعاصرة بالضبط بسبب الحاجة للسلم الاجتماعي وهي أطروحة مذهلة جادل بها الفلاسفة من أمثال هوبز ولوك ضمن تقليد عظيم وصل ذروته في إعلان الاستقلال والدستور الأمريكي .

ويقترح منطق الحداثة الأساسي هذا أن القيم الغربية ليست نتاجا حضاريا اعتباطيا للمسيحية الغربية لكنها تجسد مسارا عالميا أكبر والسؤال الذي نحتاج لطرحه عندئذ هو هل هناك ثقافات أو مناطق في العالم ستقاوم أو تثبت أنها منيعة على عملية التحديث؟

سيكون من الصعب الإجابة على ذلك بصورة موضوعية إذا نظرنا على سبيل المثال إلى آسيا رؤية "عوائق حضارية أمام التحديث" كان رئيس وزراء سنغافورة السابق لي كوان يو يجادل بأن هناك "قيما آسيوية تدعم الاستبداد وليست صالحة لديمقراطية ناجحة" . لكن السنوات الأخيرة شهدت انتقال كوريا الجنوبية وتايوان إلى ديمقراطية ناجحة مع زيادة ثرائهما وبالطبع فإن الهند أضحت ديمقراطية منذ استقلالها عام 1948 ورست أخيرا على مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية التي قد تساعد على تخليصها من الفقر أيضا وفي أمريكا اللاتينية والدول الشيوعية السابقة في أوروبا فإن المعوقات الثقافية أقل بروزا فالمشكلة بالنسبة إليهم هي الفشل في تحقيق التحديث على الأرض بدل النقمة على الهدف ذاته وأفريقيا الواقعة جنوب الصحراء لديها العديد من المشاكل من الإيدز إلى الحرب الأهلية والحكومات الرثة لكن من الصعب رؤية كيف تمنع التقاليد الثقافية المتنوعة هناك عملية التحديث إذا استطاعت هذه البلدان لملمة نفسها في نواح أخرىويعتقد بعض المفكرين الغربيين

إن الإسلام هو الحضارة الرئيسية الوحيدة في العالم التي يمكن الجدال بأن لديها بعض المشاكل الأساسية مع الحداثة ومع كل الحنكة التي تتمتع بها المجتمعات الإسلامية فإنها لا يمكن أن تتبجح بوجود ديمقراطية حقيقية واحدة عدا استثناءات قليلة يتسم ظاهرها بديموقراطية شكلية مثل (تركيا) التي لم تشهد أي إنجازات اقتصادية متطورة مثل كوريا أو سنغافورة ومع ذلك فإنه من المهم أن نكون أكثر دقة في تحديد أين تكمن المشاكل الأساسية .

ولكن من المشكوك فيه أن يكون هنالك شيء موروث في الإسلام يجعله معاديا للحداثة كما يرى هؤلاء المنظّرون الغربيون . فالإسلام كالمسيحية والهندوسية والكونفوشيوسية أو أي ديانة أخرى من الديانات الكبرى أو التقاليد الحضارية، عبارة عن نظام شديد التعقيد تطور بطرق متعددة مع مرور الوقت وأثناء الفترة المشار إليها أعلاه حين كانت أوروبا ممزقة بفعل الحروب الدينية كانت المذاهب المختلفة تتعايش بسلام في ظل نظام الملل العثماني. وفي القرن الـ 19 وبداية القرن الـ 2. كانت هناك توجهات إسلامية ليبرالية مهمة في مصر وإيران وتركيا وأضحت جمهورية كمال أتاتورك أحد الأنظمة الأكثر علمانية في التاريخ الحديث.

لماذا تنجح جماعات الإسلام السياسي؟(12)

هناك العديد من العوامل التي ساعدت هذه التيارات على التقدم، مثل الدعم الرسمي في السبعينات والثمانينات من أغلب الأنظمة العربية لتلك التيارات حين كانت تتمثل في جمعيات خيرية ونشاطات دعوية دينية ومدارس تحفيظ قرآن ورحلات كشفية بريئة.. إلخ، فلم تكن الأنظمة تتوقع أن تخرج منها قوى سياسية معارضة ناهيك عن وحوش إرهابية، بل كان ينظر لها من الجهات الرسمية والأهلية على أنها جمعيات دينية تطوعية بعيدة عن السياسة وألاعيبها. ومع هذا الدعم الرسمي والأهلي كان هناك دعم أمريكي هائل، حين كانت الإدارة الأمريكية تعتبر تلك الجماعات إحدى وسائل محاربة الاشتراكية ومجابهة تيارات اليسار عموماً بما فيها من حركات التحرر القومية والوطنية.

أشرت لتلك العوامل ولن أتناولها، بل سأتطرق لما أراه أهم وأبسط العوامل، فمع ترييف المدن أي الهجرة المكثفة والعشوائية من الأرياف والبوادي إلى المدن حصل خفوت الطابع المدني التنويري للمدن ليحل محله طابع تقليدي ماضوي (عشائري، طائفي..)، هو أقرب لجماعات الإسلام السياسي من أية مجموعات أخرى عصرية. وهنا تنامى العامل التاريخي المشترك أو المتداخل بين الخطاب التقليدي والخطاب الديني، فاستغلت بعض الجماعات الإسلاموية الانسجام الذهني بين العوام والخطيب أو الفقيه، بين المجتمعات العربية ورجال الدين التقليديين؛ لتحوله إلى انسجام بين المجتمعات والدعاة المسيسين.. فكلاهما يرجعان لنفس اللغة كطريقة تفكير وأسلوب تعبير، وكلاهما يتشابهان في بناء التصورات وأفق الخيالات.. وكلاهما متناغم على موجة أفقية واحدة.. ثمة توافق عقلي ونفسي مرجعيته هو المرحلة الما قبل حداثية. فرغم دخول مجتمعاتنا العربية (وكذلك الإسلامية الأخرى في الشرق الأوسط) في المظاهر الحديثة الثقافية من إنترنت وفضائيات وملاهي ترفيه، ورغم وجود المظاهر الحداثية المادية من اقتصاد رأسمالي وتعليم وصحة، وطرق سريعة ومعارض فارهة وناطحات سحاب..إلخ، فإن المجتمعات العربية لم تدخل مرحلة الحداثة أو التحديث بالمعنى الشامل (أي التنويري والعقلاني) الذي دخلت فيه جميع دول العالم المتقدمة وشبه المتقدمة في الغرب والشرق. نتج عن ذلك أزمة هوية حادة لدينا بسبب التناقض بين المظاهر الحديثة والعقلية القديمة، وتناقض بين الداخل (المحلي) والخارج (الدولي).. فظهر بين ثنايا هذه الأزمة مجموعات الإسلام السياسي داعية إلى نبذ العصري الحديث ورفض الآخر والاكتفاء بالقديم قدر المستطاع، مما يستدعي المواجهة مع الآخر الحديث في الداخل والخارج..

لا تزال مجتمعاتنا في مرحلة متأرجحة بين القرون الوسطى والعصر الحديث من ناحية العقلية ومنظومة القيم الفكرية والثقافية، وبالتالي فهي في مرحلة ارتياب أو عدم إدراك، وربما خصومة مع القيم المدنية الحديثة، مثل ما يتصل بالمفاهيم التالية: حقوق الإنسان وبالذات حقوق المرأة والأقليات، الحريات الخاصة والعامة (حرية السلوك الفردي، والتعبير والتفكير والدين والتعليم والتنظيم..)، الديموقراطية، الوطنية وبناء الدولة الحديثة ومؤسسات المجتمع المدني، العلاقة مع الآخر، إدارة الاختلاف..إلخ، فتصادم هذه المجتمعات بين مظاهرها المادية الحديثة وبين العقلية القروسطية، أنتجت أزمات مع النفس والآخرين، جيَّرتها وقادتها حركات الإسلام السياسي إلى أزمات في التعامل مع الأنظمة السياسية، وصراع مع التيارات العصرية في الداخل، وأزمات أكثر حدة في التعامل مع الآخر في الخارج (الغرب).

وفي ظل هذا التأزم بين عقلية وسلوك الفرد العربي البسيط ذي التعليم المحدود، أو حتى الفرد المتعلم الماهر في تخصصه لكنه ذو ثقافة محدودة واطلاع فقير يجعله لا يثق بالمناهج الفكرية الجديدة ولا التنظير الحديث من الفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس والاقتصاد والسياسة، فيلجأ إلى ما اعتاد عليه تقليدياً، من ثقافة شفهية باحثاً عن أجوبة سماعية مباشرة عبر المقابلة الشخصية أو الهاتف أو الإذاعة أو التلفزة من فقيه تقليدي كثيراً ما يكون هو نفسه متواضع الثقافة والاطلاع أو التعليم أو كلها معا.

وفي ظل سيطرة المظاهر الدنيوية الحديثة على الشكل المادي لحياة الفرد العامي وتعارضها أو عدم توافقها مع غلواء الهاجس الديني على عقليته وحالته النفسية ينشأ إحساس بالذنب، فيبالغ العوام في الرجوع للفقهاء في كل شاردة وواردة من أمور الحياة الاعتيادية دونما حاجة لذلك، وكثير منها ليست من تخصص الفقيه ولا المفتي. وبعض الفقهاء الدعاة يستمتع في التدخل بكل صغيرة وتفصيل دقيق من أمور الناس مكثراً من التحريمات مع كل ما يحتمل عدم توافقه مع الدين وذلك من أجل فك عقدة الذنب لديه ولدى السائل، ومتعارضاً بذلك مع القاعدة الفقهية التقليدية "الأصل في المعاملات الإباحة".. وهنا محاولة نكوصية لتحويل المجتمع إلى حالة من الكهنوتية وكأنه يعيش في دير رهبان وليس في مدن حديثة مليئة بكل من المظاهر والمتع المادية وأيضاً بالمظاهر والشعائر الدينية والروحية..

ينتج عن ذلك كله المبالغة أو الإفراط في الرجوع إلى الداعية في كل الأمور، أو قيامه بأدوار متنوعة ليست من أدواره ولا من تخصصه بحيث يتحول إلى أخصائي نفسي واجتماعي واستشاري جنسي، ومحلل اقتصادي ومنظر سياسي، ومرشد تربوي ورائد كشافة في المخيمات، وناقد أدبي، بل حتى إلى طبيب أخصائي وعلمي في السلوك البيولوجي للبشر وعارف في علم الفلك..إلخ، فيدخل محللاً ومحرماً في كل الأمور، ونحن نعرف أن المفكرين والكتاب المختصين والمحللين السياسيين وأشباههم هم أدرى بهذه الأمور من الفقيه، وكما جاء في الحديث الشريف:" أنتم أعلم بشؤون دنياكم".

من الطبيعي إذن، أن يجنح كثير من الدعاة إلى إقحام وجهة نظره في مسائل سياسية نسبية وغير ثابتة، معطيا آراءه صفة دينية، طالما أن الظروف تتيح له ذلك. صحيح أن من حق الفقيه والداعية أن تكون له وجهة نظر خاصة في أمر من الأمور السياسية، لكن هل من حقه وضع وجهة نظره السياسية كإلزام ديني وتحريم وجهات نظر الآخرين أو تكفيرهم؟ هنا مكمن الخطورة حين يضع الداعية نفسه في موضع المحلل السياسي مصبغاً على تحليله صفة القداسة، وهو غالبا ما ينحاز إلى إحدى فصائل الإسلام السياسي دون الفصائل الأخرى، أو ربما يكون هذا الداعية أو ذاك أحد قيادات الفصائل الأولى، ومن هنا تميل غالبية العوام لتلك الفصائل، ومن هنا تنال الفصائل الإسلاموية نسبا متفوقة في الانتخابات.

..........................................................................

1- ويكيبيديا ، الموسوعة الحرة

 2- أمجد حداد/ موقع امين

 3-  إيزابيل فيرينفيلز / ترجمة عارف حجاج /موقع قنطرة

 4- حمد حسين/ جريدة الطليعة

 5- تركي علي الربيعو / جريدة الغد

 6- عرض: إبراهيم غرايبة/ الجزيرة

 7- عرض/ إبراهيم غرايبة/ الجزيرة

 8- إيريك رولو / العالم الدبلوماسي و مفهوم

 9-    محمود معمداني / ترجمة احمد زكى/ زى نت     

10-- نواف القديمي/ البلاغ

11- موقع نواة

12- عبد الرحمن الحبيب /  جريدة الوطن السعودية

13- معجم علم السياسة والمؤسسات السياسية/ بيار بيرنبوم

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 2 تموز/2007 -15/جماد الاخرى/1428