يا نار كوني بردًا وسلاماً علي صحافيي العراق

أميرة الطحاوي*

 كان يقف خلف الطاولة العريضة، نتبادل خلال زياراتي القليلة لهذا المكان أحاديث عابرة غالبها سياسية، عن مصر، السودان والعراق، قال لي يومها"لماذا قتلوهم، إنهم موظفو بنك مسالمون"عدت أفكر في كم التعاطف الذي أبداه موظف البنك المصري هذا مع مقتل زملاء له في نفس المهنة بمدينة كركوك أو الموصل، لا أتذكر، كان ذلك قبل عامين، تعاطف بكل براءة ولم يكيف مقتل موظفين مدنيين سوى بأنه “حرام”.

قبل أيام اغتال مسلحون صحافية ومدونة عراقية، والحقيقة إنهم اغتالوا إمرأة، اغتالوا أما لثلاثة أبناء، اغتالوا مدنية، اغتالوا مواطنة في دولة وهربوا، وسيكون على حكومة هذه الدولة أن تأخذ القصاص للراحلة"سحر الحيدري"وسيكون أبسط ما يقدم لأبنائها رعايتهم،وأن يعيد البرلمان العراقي، بعد أن ينهي أعضاؤه خلافاتهم السقيمة ولو لحين، النظر في المبلغ الهزيل الذي خصص العام الماضي كتعويضات لذوي الصحافيين المغدورين والذين يزيدون مثل أعداد الموتى والنازحين واللاجئين العراقيين.

 وسيكون على كل صحفي  حتى لوكان في بلاد آمنة أن يشعر أن زميلا له في المهنة قد قتل بالعراق، وبغض النظر عن موقفه مما يحدث في هذا"العراق"، فإن عليه أن يحمل هذا الشعور كلما نظر لقلمه أو جلس إلى مكتبه أو طالع مطبوعته أو القناة التي يعمل بها، ويتصرف وفق هذه الذكرى، إذا نسينا ..جف الدم وأصبح والماء سواء.

خطوة جيدة قام بها المدونون العراقيون- المدون يكتب خواطره وأفكاره عبر الانترنت – فقد أعلنوا عن اختيار الثاني عشر من يونيو الجاري يوما للمدونين العراقيين، وضعوا صورا للراحلة وعبارات ترفض قتل الصحافيين، كانت الحيدري قد انضمت لأسرة موقع اليكتروني هو جورنال العراق قبل أيام أربع من اغتيالها، لتكتب باسمها الحقيقي وتنشر صورتها ففتحت مدونة"لقد اختطفت من قبل مسلحين بسبب عملي الصحفي وأنا اكتب باسم مستعار  -إبراهيم- كما أصبت باطلاقة البي كي سي(سلاح معروف عراقيا) وأنا أكتب باسم مستعار، والآن نشرت القاعدة منشورا بذبحي  لأني صحفية لاأكثر و أكتب بأسم مستعار فقررت الكتابة باسمي الحقيقي”.

كانت مشاركتها الأولى في المدونة بعنوان" يا نار كوني بردا وسلاما على العراقيين"قالت فيها"نعلم أن دورنا في القتل آتٍ لامحال فهو طابور يومي والأرض لاتزال عطشى بالدماء, ولكن نتمنى أن نعرف سببا لما يحدث لنا نحن العراقيين دون سوانا".

هذا النداء"يانار كوني بردا وسلاما على العراقيين"تردد أثناء الحرب الأخيرة على ألسنة الكثير من عراقيّ  المهجر، ويبدو أن علينا تكرارها كل صباح فالحرب لم تزل قائمة بعد.

عملت الحيدري مراسلة لعدة جهات آخرها وكالة أصوات العراق والوكالة الوطنية العراقية للأنباء "نينا"ومعهد صحافة الحرب والسلام، وتلقت نحو 13 تهديدا من جهات مجهولة وهي عبارة عن رسالتين كتبت باليد وضعت في باب منزلها و 11 تهديدا من خلال الهاتف منها 6 اتصالات من أرقام مجهولة توعدتها بالقتل وخمسة رسائل حملت نفس المضمون.

وكان اسمها ضمن قائمة تضم تسعة اسماء لصحفيين هدرت دمائهم من قبل جماعات مسلحة تنتشر في الموصل، وان هذه القائمة علقت على عدد من جدران المساجد (بيوت الله صارت مشاجب لملابس القتلة) في مدينة الموصل التي شهدت مقتل ( 35 ) صحفياً وفنياً منذ الحرب من بين 227 صحافيا قتلوا بالعراق حسب تقارير حقوقية(أخرهم مساء الأربعاء13 يونيو الجاري حيث فقد وكالة أصوات العراق ثالث مراسل لها خلال إسبوعين بعد نزار الراضي وسحر الحيدري وهو الصحفي عارف علي فليح مراسل الوكالة في محافظة ديالى.

وفي منتصف هذا الشهر حل يوم الصحافة العراقية، فهل سنسمع أن أي صحيفة عربية رفعت صورة شهيد عراقي من زملاء المهنة. ونقابات الصحافيين العريقة التي استضافت مواكب المعزين في إعدام صدام حسين، والصحافيون الذين قرأوا الفاتحة على صدام، هل تنتظر منهم روح المغدورة ولو دقيقة حداد.

في أعقاب الحرب الأخيرة بالعراق، قتل الكثير من الصحافيين، استهدف الأمريكيون مقار تواجد فضائيات بعينها، والتي مهما كان موقفنا من تغطيتها فإن القتل ليس هو الحل الأمثل،إنه شريعة المحتل وقانون الغابة التي تصورنا أن العراق لن يحشر فيها، بعد الحرب نشأ جيل جديد يكتب ويراسل بعيدا أحيانا عن المهنية، حتى لو .. لم تعد المادة التي يكتبها الصحافي هي سبب استهدافه، صار وجود من ينقل الحدث أمرا ثقيلا يجب انهاؤه.

 أعلم أن الحجة التي ساقها أنصار السنة بكون المغدورة اتصلت بالشرطة العراقية سيتلقفها بعض قساة القلوب وأعمياء البصيرة ليبرروا للقتلة فعلتهم، نطمئنهم إنه حتى لو لم تكن سحر قد اتصلت بشرطة لتحمي إمرأة وحيدة، كان الجناة سيتخلصون منها لكونها"مصدر إزعاج"فما أزعج هؤلاء الذين يعرقلون على الارهابيين نشر الظلام أينما حلوا.

 دفاعنا عن صحافيي العراق ليس انتصارا لأي مسار اتخذوه في تتبع خبر دون آخر، ولا لقناعات البعض منهم،فلم يعد قتل صحافي مرتبط أصلاً بما يقوم بتغطيته أو ما يكتبه، ولا انتمائه القومي والمذهبي، الآن يغتال كل من يمثلون وجه الحياة بالعراق، كل من ينقلون حقيقة أو يعملون على إبقاء الحياة في جسد هذا الوطن العليل.

لا أكتب هذا النص لتمجيد سحر أو غيرها مهنيا، فقط أدافع وأنتظر من كل زميل مهنة أن يدافع بالأساس عن حق الصحفي بمناطق النزاع والأزمات في الحياة والحماية، حقه في الوصول للمعلومة آمنا على حياته، وعن حقه في الحياة كمدني.

عادت سحر من العاصمة السورية دمشق بعد أن ودعت زوجها وأطفالها هناك، تعود لمنزلها، وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يئوب، قتلت على يد مسلحين، وشاهد الجيران الواقعة،ونحن أيضا علمنا بها، كلنا مطالبون إذن أن نتكلم ونشير للقتلة حتى يؤخذون بالأعناق.

ماذا لو  وضع كل مواطن يتابع أخبار الدم العراق الجاري  نفسه مكان المواطن العراقي وتخيل نفسه  في ظروف مشابهة،  له نفس نوعه أو عمره أو مهنته، هل ينتفض المهندس إذا قتل مهندس هناك، وتستضيف نقابات الأطباء زملاء المهنة ممن هددوا في حياتهم، ويقدم آخرون الدعم التقني وغيره لزملاء في ظروف صعبة بالعراق، ربما تحول تعاطفنا لصورة أكثر فعالية.

توالي أخبار الموت المعشش على العراق يلهينا عن أخبار وخطايا ومآس أخرى  ليست بهينة، صحيح أنه لم يعد للموت وقعه القديم،فقد  أصبحت أخبار الحوادث تجمع في نهاية النهار كنشرة رتيبة،و أصبح تعداد القتلى محض رقم لا يشار له في صدر الصفحات الأولى إلا عندما يقفز ليصبح على يساره عدة أصفار، فأن أزمة الصحافة بالعراق ليست فقط في استهداف أبناء هذه المهنة، هناك الكثير مما يجب مناقشته، المهنية والحياد، فساد وتمويل بلا حق بزعم ترقية العمل الصحافي، الإضعاف المتوالي للعمل النقابي،إقحام الاعتبارات السياسية والدينية والقومية في التعامل مع المهنة ومشاكلها، لكن قبل كل هذا وبالتوازي معه تبقى حياة الصحفي الآن هي القضية الأهم.

نكرر نداءنا لكل إعلامي بالخارج أن ينظر ماذا بوسعه أن يقدم لذكرى زميل راحل بالعراق وماذا سيفعل ليؤخر رحيل زملاء آخرين.

* كاتبة مصرية

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد24 حزيران/2007 -8/جماد الاخرى/1428