
شبكة النبأ: كلما ازداد العالم اليوم
انفتاحا وقربا بسبب افرازات العولمة ازداد انغلاقا وعلت الجدران التي
تحوط بكل بلد او مدينة او قرية لتزيد انسان اليوم عزلة واغترابا وخوفا
من الآخر.
فالعديد من مدن اليوم اصبحت تشترك بصفة هي ابعد ما تكون من
الطبيعية والعقلانية والتجانس، هذه الصفة تتخذ من جدران وفواصل
كونكريتية وجهاً لعزل المجتمعات داخل كانتونات صغيرة منطوية على نفسها
كنتيجة طبيعية للصراعات الدولية الخارجية او المذهبية والعرقية
الداخلية.
فهناك جدران وأسيجة وخنادق ومصدات بعضها مزود بأجهزة استشعار لرصد
الحركة وكاميرات رصد حرارية وانظمة تعمل بالاشعة السينية ومعدات للرؤية
الليلية الى جانب طائرات الهليكوبتر وطائرات استطلاع بدون طيار ومناطيد
مراقبة.. البعض تحت الانشاء والبعض في مرحلة التخطيط.
وعندما يتم الانتهاء من هذه الحواجز فستمتد لالاف الكيلومترات في
أماكن متباعدة مثل المكسيك والهند وأفغانستان وأسبانيا والمغرب
وتايلاند وماليزيا والسعودية والعراق.
والهدف من بناء هذه الحواجز هو منع تسلل المهاجرين الراغبين في
وظائف والارهابيين والمهربين ودحر الغزاة وابعاد الخصوم عن بعضهم بعضا.
ويقول المؤيدون لهذه الجدران لرويترز أن "الاسوار الجيدة تصنع
جيرانا طيبين" لكن المنتقدين لها يقول انها نتيجة متناقضة للعولمة
لانها تسمح بتحرك البضائع ورؤوس الاموال بحرية لكنها تمنع المهاجرين من
ذلك.
ومن المفارقات التاريخية أن الولايات المتحدة وهي البلد الذي عجل
بسقوط جدار برلين عام 1989 باتت رائدة في مجال بناء الجدران.
وأقيم أحدث جدار لتقسيم أحياء في العاصمة العراقية بغداد في أبريل
نيسان الماضي. وقامت قوات أمريكية ببناء الجدار باستخدام ألواح خرسانية
رمادية ارتفاعها 3.7 متر ويزن الواحد منها أكثر من ستة أطنان.
ويفصل الجدار البالغ طوله 4.8 كيلومتر حياً سنياً عن منطقة شيعية.
وأثار بناء الجدار احتجاجات من الطائفتين ووصفه رجل الدين الشيعي
مقتدى الصدر بأنه "عنصري".
وفي فلسطين يشيد الجدار الذي يبنى حول القدس لفصل الشطر الشرقي
العربي من المدينة العتيقة عن الضفة الغربية من مواد مماثلة وأثار
اتهامات مشابهة.
وعلى النقيض من ذلك فقد تقبل سكان مدينة تيخوانا المكسيكية الحدودية
الجدار السميك المصنوع من ألواح الحديد المموج والذي يمتد من شاطيء
المحيط الهادي وعبر تلال كاليفورنيا ليفصلهم عن مدينة سان دييجو
الامريكية.
وتعتزم الولايات المتحدة بناء جدار مزدوج على طول جزء من حدودها
البالغ طولها ثلاثة الاف كيلومتر مع المكسيك بموجب قانون الجدار الامني
الذي صدر عام 2006. ويشير المؤيدون إلى تيخوانا ويقولون ان الجدران
فعالة في منع الاجانب غير المرغوب فيهم من التسلل.
ومنذ هجمات 11 سبتمبر أيلول على نيويورك وواشنطن ربطت الجماعات
المناهضة للهجرة في الولايات المتحدة بين الهجرة غير المشروعة والمخاوف
الامنية وزادت الضغوط السياسية من أجل تشديد مراقبة الحدود بشكل كبير.
لكن المعارضين لفكرة بناء جدران حول الولايات المتحدة يشيرون إلى
العواقب غير المقصودة وهي ازهادر عملية بناء الانفاق تحت الجدار وتزوير
وثائق الهوية الشخصية.
ولان المتسللين المحتملين لجأوا إلى الدوران حول السور وعبور صحراء
أريزونا بدلا من ذلك فقد ارتفع عدد الموتى باطراد ووصل متوسطه إلى تسعة
أشخاص في الاسبوع.
ويرى السياسيون في أمريكا اللاتينية عامة وفي المكسيك بوجه خاص في
الجدار الحدودي اهانة وتخليا عن الفلسفة التي دفعت الرئيس الامريكي
حينذاك رونالد ريجان للوقوف أمام بوابة براندنبرج في برلين وتحدي نظيره
السوفيتي "لفتح هذه البوابة وهدم هذا الجدار."
وبعد ذلك بعامين سقط جدار برلين وفي أعقاب ذلك بفترة قصيرة انهار ما
تبقى من الستار الحديدي الذي كان منظومة من الجدران والاسيجة وحقول
الالغام امتدت لنحو أربعة الاف كيلومتر عبر أوروبا وفصلت الدول
الشيوعية عن الدول الرأسمالية.
ورغم أن الامن والتحكم في الهجرة هي أكثر الاسباب التي تستخدم
لتبرير بناء هذه الجدران فان السياسة تلعب دورا مهما في بعض الدول. وفي
دول أخرى تستغل هذه الجدران لتحويل المطالبة بالاراضي إلى حقيقة ملموسة
على أرض الواقع.
وينطبق هذا على واحد من أقل الجدران شهرة وأقدمها أيضا في العصر
الحديث وهو الجدار الذي بناه المغرب خلال الثمانينات لمنع الهجمات التي
تنفذها جبهة بوليساريو التي تسعى لاستقلال الصحراء الغربية على الاراضي
التي تطالب بها لنفسها.
وتقع هذه الاراضي خلف منظومة جدران يبلغ طولها 2700 كيلومتر ويصل
ارتفاعها إلى ثلاثة أمتار من التراب والحجارة والرمال.
ويحرس الجدار الاف من الجنود المغاربة وهو مدعوم بملاجيء وأسيجة
وأسلاك شائكة وألغام تشير التقديرات إلى ان عددها يتراوح بين 200 ألف
وعدة ملايين.
وعندما تسمع الفلسطينيين ومسؤولي الامم المتحدة يتحدثون عنه فان
الجدار الذي يفصل القدس
عن الضفة الغربية والاسيجة والخنادق التي تمتد عبر الضفة متصل
بالنزعة التوسعية الاسرائيلية كما بالهدف المعلن لاسرائيل والذي نجحت
في تحقيقه إلى حد بعيد وهو منع الانتحاريين من دخول الدولة اليهودية.
ويصل طول المصدات والحواجز والاسيجة إلى مثلي طول الحدود
الاسرائيلية المعترف بها دوليا تقريبا وتمتد بشكل يجعل من المستوطنات
اليهودية الكبرى في الضفة الغربية جزءا من اسرائيل.
ويشير الإسرائيليون الذين يعارضون احتلال الضفة الغربية إلى جانب
المنتقدين الأجانب مثل الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر إلى الجدار
باعتباره شكلا من أشكال "الفصل العنصري".
ورغم أن إسرائيل محل انتقاد دائم من العرب فقد بنت الدول العربية
ذاتها أو تبني جدرانا.
ودعت السعودية بهدوء لتقديم عروض من أجل بناء جدار متطور مزود
بأجهزة استشعار وكاميرات للرؤية الليلية وبرامج للتعرف على الوجوه
والأسلاك الشائكة لإغلاق حدودها مع العراق.
ووفقا لمصادر في شركات تعاقد دفاعية أمريكية فسيتكلف المشروع عدة
مليارات من الدولارات. ذكرت المصادر أن الدافع وراء بناء الجدار هو
الخوف من أن تمتد الفوضى والاضطراب المتزايدان في العراق إلى السعودية.
وأوقف السعوديون العمل في جدار يمتد على طول حدودهم مع اليمن ويعتمد
بناؤه إلى حد بعيد على أنابيب ضخمة مليئة بالخرسانة بعد شكاوى من اليمن
قبل ثلاثة أعوام.
ووفقا لدبلوماسي كويتي في واشنطن فقد أغلقت الكويت وهي من الدول
المجاورة للعراق أيضا حدودها بالفعل باستخدام الأسيجة المكهربة
والمصدات وخندق عمقه متران ويمتد على الحدود البالغ طولها 217 كيلومترا.
وتخضع الحدود التي عبرت منها الدبابات العراقية لغزو الكويت عام
1990 لمراقبة جوية مستمرة.
وإلى الشرق من شبه الجزيرة العربية يجري تنفيذ مشروعات طموحة للتحكم
في التنقلات بين الهند وباكستان والهند وبنجلادش وباكستان وأفغانستان.
وتتوقع جميع الحكومات تقريبا التي تقرر بناء حواجز لفصلها عن إحدى
جيرانها أن هذا سيؤدي لخفض التوترات لكن في بعض الأحيان يظل هذا ضربا
من ضروب الأمنيات.
ففي أبريل نيسان على سبيل المثال اندلع قتال بنيران الأسلحة بين
جنود أفغان وباكستانيين بعد أن حاول الأفغان تدمير أجزاء من جدار يمتد
عبر منطقة قبلية.
وبدأت باكستان بناء جدار على طول جزء من حدودها التي يصل طولها إلى
2500 كيلومتر
تحت ضغط من الولايات المتحدة لقطع الطرق التي يستخدمها مقاتلو
طالبان الذين يتوجهون إلى أفغانستان للانضمام إلى الحرب ضد القوات
الأمريكية والمتعددة الجنسيات.
وفي أوروبا أصبح اثنان من أكثر الجدران السيئة السمعة وهما بقايا
جدار برلين و"جدار السلام" في بلفاست مقاصد سياحية. لكن أسبانيا بنت
أسيجة مزدوجة يتراوح ارتفاعها بين ثلاثة وستة أمتار ومزودة بأسلاك
شائكة حول جيبي سبتة ومليلية في المغرب لمنع المهاجرين من التسلل.
وكان للأسيجة آثار شبيهة بتلك التي تسببت فيها الجدران الحدودية بين
الولايات المتحدة والمكسيك فالمهاجرون المحتملون من الدول الفقيرة
بدأوا يبحثون عن سبل أخرى للوصول للدول الغنية.
وبسبب الدوريات الساحلية الاسبانية المكثفة وتحسن أنظمة الرادار لجأ
المهاجرون الأفارقة إلى الرحلات البحرية المحفوفة بالمخاطر لجزر
الخالدات الاسبانية. ولقي مئات الأشخاص حتفهم غرقا.
وإذا كان التاريخ عبرة فلم تستطع أي تحصينات حدودية أن تغلق دولة
بالكامل. وحتى أكبر الأسوار وهو سور الصين العظيم الذي يمتد لمسافة
6500 كيلومتر لم يستطع أن يمنع البرابرة الشماليين الذين كان من
المفترض أن يحمي هذا الجدار سكان الصين منهم.
أسوار أهلية ومذهبية ومعنوية
أحدث الجدران الفاصلة يقام في بغداد، لكن ظاهرة العزل أو الانعزال
قديمة ومنتشرة، اذ أقيمت عند حدود سلطة أو دولة. ولعل أقدم جدران الفصل
هو سور الصين الكبير، وأشهرها في القرن العشرين جدار برلين الذي ترافق
تحطيمه مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
وإذا كان الجدار حول حي الأعظمية البغدادي يفصل بين عرب وعرب، فإن
مثيله في الأراضي المحتلة أريد منه أن يفصل بين ما اقتنعت إسرائيل بضمه
من أراضي الفلسطينيين وما تقترح عملياً إبقاؤه لهم. بحسب تقرير
لـ(الحياة).
والحال أن جدران الفصل مادية ومعنوية، والإنسان حائر منذ القديم بين
انتمائه الى العالم وحصره في إطار محدد مادياً ومعنوياً.
قبل أن يعزل جدار الفصل الأمني أو المذهبي، قياساً على التسميات
الفلسطينية المعروفة والشائعة، الأعظمية عن جوارها القريب، الزهراء على
ضفة دجلة اليمنى والمغرب والوزيرية على ضفته اليسرى، رفع «المسلحون
التكفيريون» وعصاباتهم حول المنطقة أو الحي (أو «الخطة») جدراناً
وأسواراً سميكة وعالية. فمنذ عامين أو أكثر والمسلحون يحظرون دخولها
على عمال الكهرباء والهاتف والتنظيفات، وعلى الحرس الوطني وقوات الأمن
العراقية. فهؤلاء هم جسر يصل أهل المحلة القائمة عند منعطف النهر، شمال
بغداد، بأهالي الأحياء والخطط الأخرى. وتتولى أجهزة الدولة والحكومة
الفنية والإدارية والأمنية جسر الوصل هذا والسهر عليه.
وتريد الجماعات المسلحة، علناً وجهاراً، قطع الجسر وتدميره، فتمنع
على أجهزة الدولة المركزية دخول الحي السني الكبير والقديم، المصنف
«سكنياً وتجارياً»، شأن تصنيف نظيره الشيعي الإمامي عند منعطف النهر
الذي يعلوه الكاظمية.
وقد يدخل عمال المرافق الفنية والصحية والأمنية الأعظمية، في حماية
القوات الأميركية، ويصلون ما انقطع من خطوط الكهرباء وكيبل (كابلات)
التلفون، ويرممون ما دمر من مجارير الصرف الصحي، ويرفعون بعض ما تراكم
من القمامة والنفايات. ولكنهم يغادرون حال اضطرار قوات الحماية
الأميركية الى الانسحاب.
وهم لا يكادون يغادرون حتى يعود المسلحون سيرتهم، فينسفون على وجه
السرعة الكيبل الذي أصلحه الفنيون لتوهم. مما لا يجوز أن يدوم ولو
وقتاً قصيراً، بحسب المسلحين، هو عودة الصلة أو الاتصال بين الأعظمية،
أي بعض محلاتها، وبين خارجها أو أحياء بغداد الأخرى.
ولهذا الجدار غير المرئي – وهو سبق الجدار الأمني الأميركي والحواجز
الأمنية (من أسلاك شائكة وكتل ترابية وخنادق) التي يقترحها رئيس
الحكومة نوري المالكي بديلاً من كتل الاسمنت الثابتة – مرادفات أخرى
كثيرة رفعها المسلحون، وحاطوا بها الحي الكبير، وقطعوا داخله أحياء
ضيقة ومنكفئة. فأحد الجدران رفعه، إذا جازت العبارة، قتل شبان الحي
الذين لا يوالونهم، وتعقبهم ومطاردهم.
فلا يبقى غير نشدانهم ونشدان أهلهم سلامتهم «طوعاً». فينفون أنفسهم
من بيوتهم ومسارح حياتهم الأليفة، ويخلفونها وراءهم مولين الأدبار.
ويشترون سلامتهم، جزئياً ربما، بقطع الخيوط التي كانت تربط أهالي
الأعظمية بعضهم ببعض، والأعظمية ببغداد، وبنواحي العراق الأخرى، وهذه
الخيوط هي هم، الغادون والرائحون بين مساكنهم وأعمالهم وأسواقهم
ومدارسهم وأصدقائهم وأقربائهم.
فاضطرارهم الى ترك منازلهم، والى الهجرة خارج الخطة، ترتب عليهم
انقطاع الغدوات والروحات، واعتزالُ الأهالي بعضهم بعضاً، وانكفاؤهم الى
أضيق دائرة، وتنقل مراسلة «الحياة» ببغداد، سؤدد الصالحي، عن إحدى نساء
الأعظمية قولها ان «الغريب عنها لا يمكن أن يدخلها إلا برفقة أحد
منها». وهي، أصلاً، «فرغت من أهلها»، على قول السيدة نفسها.
وتضافر على افراغ أهلها منها، شباناً وأقل شباباً، الحؤول المتعمد و
«المسلح» دون توافر الخدمات الشحيحة، وتعقب الشباب وقتلهم، وإغراء
الأهالي بالتخلي عن بيوتهم وبيعها بمبالغ «خيالية» اذا كانت مواقعها
«استراتيجية أي مطلة على الشوارع الرئيسية والتقاطعات» على ما تكتب
المراسلة، ومن بقي من الأهالي، وأراد أن يرجع الى منزله عصراً، وهو وقت
متأخر في مدن الاقتتال الأهلي، فعليه أن يرضى بالنزول من سيارة الأجرة
في ساحة عنتر، بوابة الأعظمية ومفترق الطرق اليها من الكاظمية و 14
تموز (يوليو) والشيخ عمر، ومنها الى هذه الخطط والأحياء وغيرها.
ويضطر راكب السيارة الى النزول في الساحة العتيدة، قرب سكنه منها أو
بعد، أقام بشارع الاعدامات والجثث المفخخة والملقاة على مرمى من
القناصة المتربصين في المباني «الاستراتيجية»، شارع عمر بن عبدالعزيز،
أم أقام بمنطقة السفينة، غير بعيد من المقبرة الملكية، أو بمنطقة الكمب
وأسواقها على أطراف الأعظمية.
والأسواق، وهي ساحات التلاقي والبيع والشراء وتبادل السلام والكلام،
تحولت حدوداً خالية من السكان المقيمين في مبانٍ تحوطها وتطل عليها.
وخلف السكان أصحاب العصابات «المتخصصة في عمليات القتل والخطف».
وعلى هذا، فـ «الجماعات التكفيرية المسلحة» التي اتخذت من الأعظمية
(من «الإمام الأعظم»، أبي حنيفة) معقلاً وحمى، أي اتخذتها قاعدة عسكرية
وأمنية، ترابط على أبوابها وحدودها، فتعزلها من دوائر السكن والأهل
والمعاملات والخدمات التي تحوطها، ولا حياة لها من دونها. وتحكم، من
وجه آخر، قبضتها المميتة عليها. فتقطع أوصالها الداخلية، وتهجر أهلها
وتفرقهم وتصنفهم «أعداء» و «أنصاراً»، وتسطو على منازلهم، وتتمترس في
بعضها فتجعلها أهدافاً عسكرية ولقمة سائغة للقصف الأميركي أو العراقي.
وتنشر الجثث في الشوارع العامة. فلا تسور الجدران الصفيقة الخطة
البغدادية والشمالية الكبيرة فحسب، بل ترفع الجدران الحصينة داخل
الأعظمية بين الأهل والأهل، وبين الشباب والمكتهلين، وبين أعداء
الجماعات المسلحة وأنصارها، وبين الميسورين والمعوزين، وبين المحلة
المنكوبة والمحلة التي تنتظر النكبة الوشيكة. فـ «القاعدة» العسكرية
والأمنية «الجهادية»، كانت الأعظمية معقلها أم كانت الكاظمية والصدرية
(«مدينة الصدر»)، لا تأمن دوام العلاقات والمعاملات بين الداخل وبين
الخارج، ولا تأمن دوامها بين «أجزاء» الداخل، أي أسره وأفراده وأحيائه،
اذا لم تتولَّ هي مراقبة الداخل هذا وعزله، والاستقلال بحكمه والسيطرة
عليه.
وهذه، أي المراقبة والعزل والسيطرة، لا تبلغ في عهدة الجماعات
المسلحة «الجهادية»، من «قاعدة» أو جيش مهدي أو «فيلق (أو لواء) بدر،
حداً معلوماً تنتهي عنده واليه، وتلزم نفسها ألا تتعداه. فجوع الجماعات
(المستولية) الى السلطة، والى السيطرة غير المقيدة، لا يشبع.
وترفع مثل هذه الجماعات الأسوار والجدران، وتحفر الخنادق، المادية
والمعنوية، حول أهلها وقواعدها وأنصارها و «جماهيرها»، عندما تتفشى
الحرب الداخلية، وتنفجر الأزمات الحادة والعاصفة في صفوف «الأهل»
وبينهم. وتتذرع الجماعات، قيادات (أحياناً كثيرة) وقواعد أو جماهير،
بالحرب وذيولها الى تقوية هوياتها وتحصينها.
فتقطع روابطها الحيوية بالجماعات الأخرى، وبالمرافق المشتركة،
والعامة، المادية، السياسية والرمزية، التي تتقاسمها الجماعات كلها.
وهي تحسب قطع الروابط هذا تحصيناً لهويتها ومعتقدها ونضالها أو
«جهادها». وتذرع الجماعات، قيادات وقواعد، بهوياتها، وتحصنها بها
وفيها، ليس افتعالاً خالصاً.
وعلى رغم خلط المدن الكبيرة (وتعد بغداد 6 ملايين الى ثمانية ملايين
شخص) السكانَ المتفرقين عائلات وعشائر وأصولاً ومذاهب وأعراقاً، وحمل
أقرباء النسب والمعتقد على السكن المتباعد والمتقطع والامتزاج بأهل
أنساب ومعتقدات أخرى تجمعهم بهم أحوال العمل والمرتبة والذائقة أو
الثقافة، فالأحياء والخطط والحارات (في المدن العربية) لا تنفك من لحمة
قوامها، على الأغلب، القرابة أو النسب ودوائرهما الأضيق فالأضيق، وليس
معنى هذا أن الحي، أو الشارع (السكة) أو الزاروب أو المبنى، وقف على
عائلة، أو عشيرة وعمارة، أو جزء من عائلة وعشيرة وعمارة.
فالاختلاط والامتزاج في المدينة والبلدة يبدآن من وحدة السكن وفيها.
ولكن الجوار والإقامة، حيث تغلب القرابة، ويغلب العصب والنسب، يحملان
على قرابة، أي على نوع (ضعيف) من أنواعها الكثيرة والمتفاوتة قوة
ولحمة. فيضوي الحي الواحد بيوتاً، أو أسراً وعائلات، تربطها الواحدة
بالأخريات روابط قريبة أو بعيدة من طينة النسب، أو الأصل البلدي، ويشفع
بها في معظم الأوقات الاعتقاد الواحد.
وهوية الحي، اذا قيض للحي في مدينة عربية أن يحافظ على هوية، مزيج
مركب أو متنافر من هويات جزئية كثيرة بعضها دموي قرابي، وبعضها محلي،
وبعضها اعتقادي، وبعضها اجتماعي وظيفي، وبعضها الخامس تاريخي وظرفي
بلورته الحوادث الطارئة ومشاركة الأهالي فيها، وتذكرهم المشاركة هذه
ومداومتهم رعايتها.
ويغلب التنافر على نسيج المدن العربية الحديثة. فهذه المدن لم تنمُ
نمواً سكانياً داخلياً ومتصلاً، ولم يكن مصدر النمو الأول والحاسم
ولادات أهل المدينة المتمدينون منذ وقت طويل.
فمعظم أهل المدن هاجروا اليها وقدموا من ديراتهم وأريافهم وبلداتهم
في غضون سنوات قليلة قد لا تتعدى الجيل الواحد (نحو 30 سنة).
وغلب المهاجرون على أهل المدينة السابقين والمعرقين. وهؤلاء أنفسهم
لم يعرفوا من المدينة الاختلاط والتمازج والتنقل، ولا عرفوا الإقامة
تبعاً لمعايير العمل والمرتبة والثقافة، ولا الحركات السياسية المدينية
والوطنية.
فنزلوا خططهم ومحلاتهم عائلات و «عصبيات مدينية»، على قول مشهور،
الى وقت قريب.
والمهاجرون من الديرات والأرياف والبلدان والمدن الصغيرة نزلوا
المدن الكبيرة، وخصوصاً ضواحيها وأطرافها، على الشاكلة (العصبية)
نفسها. فأقام الأخ عند أخيه، أو ابن عمه، أو في أهله الأقربين وعشيرته.
وإذا أبعد نزل في أهل بلدته أو مدينته الصغيرة، وضوى اليهم. فحجزت
الانتماءات القوية والسابقة بين أهل المدينة، جددهم وقدماءهم، وبين
الاختلاط والاندماج.
وأقامت الكتل الوافدة، وهي الكثرة الغالبة، على تكفلاتها،
واستأنفتها، واستأنفها أولادها على رغم تعاظم السكان، وبلوغهم أعداداً
كبيرة تشهد عليها بغداد (أو القاهرة أو حلب أو عمان أو غزة أو بيروت).
ولمّا لم يقيّض للمهاجرين والنازحين الإقامة بين من سبقهم من أهاليهم
الى الهجرة والإقامة والعمل، انتشروا كتلاً صغيرة في ثنايا الخليط الذي
تكونت منه الأحياء، أو «المدن»، الجديدة والمترامية. ولم تبق هذه
خططاً، أو حارات مؤلفة من سكك أو طرقات داخلية وعائلية، يرأسها
«الشيوخ» يغلقون «أبوابها»، ويحصون سكانها، ويرصدون غريبها. وبقيت
الروابط الأقوى هي تلك التي تشد المهاجرين الى أهل عصبيتهم. فهم
يتزوجون منهم، ويشترون منهم ويبيعون، ويعمل بعضهم عند بعضهم الآخر إذا
أمكن، وإلا عمل بعضهم بواسطة بعضهم ومن طريقه. يتحكمون في خلافاتهم
وصلحهم الى «قوانين» عشائرية متوارثة يسمونها، في العراق، السواني.
ومن لا نسب لهم يعتد به، أو لم يبق من رابطتهم النسبية السابقة شيء
يذكر، أووا الى حركات دينية، أو استظلوا قادة دينيين، معممين، عوضوهم
خسارة اللحمة العصبية لحمة أقوى وأعرض وأشد دمجاً. وتفرقهم في أنحاء من
المدينة لم يفك رابطتهم.
فأنشأوا اتحادات أهلية على شاكلة الشبكات، فتخلل المدينة وأحياءها
ومناطقها، وتنتهك وحدتها، ومراتبَ هذه الوحدة.
وإذا بالمدينة كونفيديراليات رخوة الروابط، بعضها مرئي وظاهر،
وبعضها خفي على أعين المراقبين من خارج ومن بُعد. ولا لحمة داخلية لهذه
الكونفيديراليات، وسلمها الأهلي تدين به ليد أو قبضة خارجية شديدة، اذا
ضعفت أو ارتخت أو تصدعت، انقلب الجوار البارد والقسري اقتتالاً
واحتراباً.
والحق أن جِدَّة المدينة العربية الكبيرة، عددَ سكانٍ ومرافقَ
وتعقيداً وعوامل لحمة وسيولة داخلية، لم ينجم عنها ضعف العصبيات
الأهلية، القرابية والمذهبية والمحلية، أو دمج أصحابها في أجسام سياسية
واجتماعية منفتحة تستدعي الاختيارات والمعايير الفردية والطوعية
الإرادية. وقد تشبه الحوادث البغدادية اليوم حوادث سابقة يعود بعضها
الى ألف عام.
فبينما كانت دولة البويهيين «الشيعية» تحتضر، وتوشك دولة السلجوقيين
الترك (والسنة) على خلافتها، كثرت حوادث مثل تلك التي يرويها ابن
الأثير (صاحب «الكامل في التاريخ» في أواخر النصف الأول من قرن الهجرة
الخامس، فيكتب (حوادث 441هـ/1049م) أن متولي بغداد التركي «منع أهل
الكرخ من النوم يوم عاشوراء فلم يقبلوا، وفعلوا ذلك، فجرى بينهم وبين
السنية فتنة عظيمة، ثم شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ، وعمل
مثلهم السنية، وأخرج الطائفتان في العمارة مالاً جليلاً، وجرت بينهما
فتن كثيرة، وبطلت الأسواق وزاد الشر حتى انتقل كثير من الجانب الغربي
(من النهر، أي ضفته اليمنى حيث الكرخ المتشيع) الى الجانب الشرقي (حيث
الرصافة) فأقاموا به».
ولم يجتمع «السنية والشيعة»، على قول ابن الأثير، إلا على منع أحد
كبار قضاة بغداد «من العبور الى الجانب الغربي وإصلاح الحال» أو التوسط
بين الجماعتين المتحاربتين. وينسب «المؤرخ» (الأخباري) الى أحد قادة
الجند قوله في الأسواق وإنشائها: «انما يحتاج الى الأسوار من تضعف
قوته، فأما من حصنه عساكره وسيفه فلا حاجة له اليها».
والفرق الكبير والحاسم بين حوادث اليوم وحوادث الأمس البعيد
(والقريب)، هو أن الجماعات الأهلية نفسها، وهي مزيج من جماعات مذهبية
ومحلية مختلطة وعشائرية، لا تملك من أمرها في الأزمات المنفجرة أو
الفتن شيئاً كثيراً ولا قراراً راجحاً.
ويعود الأمر الى فرق مسلحة، مجتمعة من بلاد بعيدة، ومن كتل متنقلة
لا علاقة سابقة بينها وبين الأهالي المقيمين، أو بينها وبين ميادين
حروبها. فلا ينهض أهل سنية الأعظمية الى بناء سور يحميهم من تسلط مسلحو
«القاعدة» أو «الجيش الإسلامي» أو «كتائب العشرين»، ومن أنصار «جيش
المهدي» أو «فيلق بدر» المتسللين الى الحرس الوطني، والى فرق الصيانة
في بعض الأحيان، فمن «يخرج المال الجليل» لبناء الجدار هو الجنرال
بتراويس.
حدود ترسمها دول
أقيمت حواجز الفصل، أكانت جدران عزل أم سياجات أمنية، لمنع الناس من
عبور خط أو حد معيّن أو للفصل بين شعبين. وتتأثّر بُناها وأسسها
ومواقعها بالحدود الدولية وتضاريس الأرض. ولعلّ أهم نموذج تاريخي
لحواجز الفصل، هو سور الصين العظيم، يقابله نموذج آخر حديث، هو جدار
برلين، عزل برلين الشرقية عن برلين الغربية، إبّان حقبة الحرب الباردة.
حسب تقرير لـ(الحياة).
وحواجز الفصل القائمة حالياً، موجودة في أفغانستان، بوتسوانا،
بروناي، جمهورية الصين الشعبية، قبرص، مصر، الهند، العراق، إسرائيل،
كوريا، المغرب، إيرلندا الشمالية، باكستان، روسيا، جنوب أفريقيا،
أسبانيا، تايلاند، الإمارات العربية المتحدة، الولايات المتحدة،
وإوزباكستان، وثمة حاجز من صنع الأمم المتحدة.
ففي أفغانستان، أصدرت الحكومة، في كانون الثاني (يناير) 2006،
قراراً بعزل مقر الأمم المتحدة، وسفارة الولايات المتحدة، ومنظمات
أجنبية أخرى، في العاصمة كابول، بواسطة حواجز من الخرسانة.
ومنذ 2003، شرعت بوتسوانا في بناء سياج كهربائي يمتد نحو 485
كيلومتراً على طول حدودها مع زيمبابوي.
وتقيم بروناي سياجاً أمنياً طوله 20 كيلومتراً على حدودها مع
ليمبانغ، لوقف الهجرة غير المشروعة وتهريب البضائع.
وفي جمهورية الصين الشعبية، حدود تفصلها عن كل من هونغ كونغ وماكاو.
ومنذ تشرين الأول (اكتوبر) 2006، شرعت الحكومة بإقامة حاجز أمني على
حدودها مع كوريا الشمالية.
وفي 1974، أقامت تركيا حاجز فصل، طوله 300 كيلومتر، قسّم جزيرة قبرص
إلى قسمين شمالي وجنوبي. وهو عبارة عن خط «وقف النار».
وفي مصر، ضُرب سياج أمني يعزل مدينة شرم الشيخ السياحية، إثر
العمليات الإرهابية ضد منتجعاتها.
وتنهي الهند بناء حاجز فصل في كشمير، بين المنطقتين الواقعتين تحت
سيطرتها وسيطرة باكستان، منعاً لتسلل المقاتلين الكشميريين من قواعدهم
الباكستانية.
ويقام في العاصمة العراقية بغداد، جدار الأعظمية، لمنع تسلل
الجماعات المسلّحة.
ولإسرائيل، حدود مسيّجة مع كل من لبنان وسورية والأردن ومصر. وأقامت
في الداخل جدارين يعزلان الإسرائيليين عن التجمعات السكنية
للفلسطينيين، في قطاع غزة والضفة الغربية.
وأقامت كوريا الجنوبية حاجزاً يفصل الكوريتين، في محاولة لصد أي
هجمات تشنّها كوريا
الشمالية عليها.
وأقام المغرب حاجز فصل في الصحراء الغربية لمنع تسلل مقاتلي جبهة
بوليساريو إليها.
في بلفاست (إيرلندا الشمالية) سلسلة من الحواجز تفصل الأحياء
البروتستانتية عن الأحياء الكاثوليكية، في كل من بلفاست ولندن ديري،
ومدن أخرى.
وفي أيلول (سبتمبر) 2005، كشفت باكستان عن خطة لبناء سياج، يمتد نحو
2415 كيلومتراً، على طول حدودها مع أفغانستان، لمنع تسلل الجماعات
المسلّحة وتهريب المخدرات، وتقدّم الرئيس برويز مشرّف باقتراح لتلغيمه.
وتعتزم روسيا إقامة حاجز أمني على حدودها مع الشيشان، يدعمها في
مكافحة الإرهاب.
وبدأت السعودية في بناء حاجز فصل أو سياج على حدودها مع اليمن للحد
من تحركات الناس والبضائع من دون تراخيص. وفي 2006، تقدمت المملكة بخطة
لإقامة سياج أمني، يمتد نحو 900 كيلومتر في الصحراء، على حدودها مع
العراق.
في 1975، أقامت جنوب أفريقيا سياجاً أمنياً مرتفعاً، للحؤول دون
تسلل ثوار موزمبيق
المطالبين بالاستقلال عن البرتغال.
الاتحاد الأوروبي وأسبانيا أقاما حواجز بين جزيرتي مليلة وسبتة
والمغرب، للحؤول دون الهجرة غير الشرعية ومنع التهريب.
وتخطط تايلاند لإقامة سياج من الخرسانة في مناطق على حدودها مع
ماليزيا، لمنع المتمردين والمواطنين الحاملين جنسيتي البلدين من
العبور.
وتقيم الإمارات العربية المتحدة حاجز فصل على طول حدودها مع سلطنة
عُمان.
الولايات المتحدة أقامت حاجز فصل، طوله 130 كيلومتراً، على حدودها
مع المكسيك، للحؤول دون الهجرة غير الشرعية إلى أراضيها.
وفي 1999، أدّى نزاع حول أراض حدودية بين أوزباكستان وقرغيزيا إلى
إقامة الأولى سياجاً من الأسلاك الشائكة.
وأما الأمم المتحدة فقد أقامت منطقة منزوعة السلاح لمنع العراق من
غزو الكويت، وتعتزم الكويت، إقامة حاجز فصل جديد، من جهتها. |