المَرجِعِيَةُ لَيسَتْ جِسْراً لِلْسُلْطَوِيّةِ

محمّد جواد سنبه

 دمويّة المشهد العراقي، يعكس مقدار مأساة أهل العراق، فمناظر التخريب والدمار تصّور مدى الكارثة التي حلت بهذا الشعب، وهذا الوطن. لقد صارت مأساة شعبنا بضاعة مربحة يتاجر بها الكثير من المشتغلين بالسياسة الرسميّة العراقية.

 فهؤلاء الاشخاص خبراء لحد الحذاقة بمهنة (من هنا تؤكل الكتف)، فهم قد تجاوزوا مرحلة البحث والسؤال عن موضوع (من أين تؤكل الكتف؟). وهذه المهنة لها قواعدها وأصولها التي تجعلها عصيّة على الكثيرين من الناس، لا لجهلهم بتلك القواعد، ولا لعدم معرفتهم بتلك الأصول، ولكن وجود ما يعرف برادع (الضمير)، الذي يجعلهم فاشلين أمام القيام بهذه المهمة الدنيئة.

إنّ المجازفة الطائشة للنظام البائد في حرب الخليج الثانية عام 1991، تحمل نتائجها الشعب العراقي لوحده، وتمت معاقبته من قبل المجتمع الدولي بدلاً من السلطة. فنقلت هذه الحرب، الشعب العراقي إلى ثلاث مراحل كارثيّة هي :

 1. منزلق الحصار الاقتصادي، الذي انتهى بسقوط النظام البائد في نيسان عام 2003.     

 2. محنة الاحتلال الأمريكي للعراق، الذي ربّما لا ينتهي وشيكاً، إلاّ بتأسيس قواعد عسكريّة    ثابته على أرض الرافدين.

3. كارثة الارهاب وهي الأهم، والتي لا يوجد لحدّ الآن أيّ مؤشر لنهايتها، بالرغم من تطمين المسؤولين القائمين على ضبط الأمن، بأن النصر على الارهاب، هو أقرب من المسافة الواقعة، ما بين المنطقة (الخضراء) و(الباب الشرقي). فيومياً يتم القاء القبض على عشرات الإرهابيين، لكن وتيرة الارهاب تبقى متصاعدة، الأمر الذي يوحي بقوّة بما يلي:

1. أمّا هؤلاء ليسوا إرهابيين.

2.  أو أنّهم إرهابيون ولكن لا تتخذ الاجراءآت القانونية الرادعة بحقهم، بسبب عدم كفاءة أجهزة  الدولة وتراخيها في معالجة الأمور بحزم.

3. أو لا هذا الاحتمال ولا ذاك، وإنّما هناك احتمال ثالث هو : أنّ الاجهزة الأمنية تلقي القبض على الإرهابيين، وتفرج عنهم بعد إجراء عملية تصويرهم أمام عدسات الفضائيات التلفزيونيّة، وتسوية الأمر ودياً بين الطرفين، بسبب الفساد الاداري المستشري في مفاصل الـدولة (خصوصاً إذا اضفنا لذلك ضمائم أخرى تدعم هذا التصوّر، مثل هروب الإرهابيين من سجن بادوش في محافظة الموصل) !!!.

بعد إحتلال العراق، وتولي (بول برايمر)، منصب الحاكم المدني لقوات الإئتلاف، خططت الإدارة الأمريكية لهذه المرحلة بكلّ دهاء ومكر، ويمكن قراءة هذه الخطة من النتائج التي آلت إليها الأمور فيما بعد. فمن أول المبادئ التي نادى بها حاكم العراق الأمريكي هي، الحرية السياسية، وحرية التعبير عن الرأي، وحرية تقرير المصير، وديمقراطية  تداول السلطة.

هذه المبادئ الفضفاضة التي لا تحدها قوانين، ولا تقيدها تجربة سابقة، كانت بمثابة الغاماً لتدمير العراق شعباً، وتفتيته أرضاً. فهذه المبادئ في أمريكا وأوربا هي ليست مبادئاً متروكاً حبلُها على الغارب، لا يحدها حدّ، ولا يضبطها قانون، بل لكلّ منها له تقنيناته الخاصة به، التي تجعلها لا تصطدم مع حريات الآخرين.

أمّا عندنا في العراق الجديد، فهذه الحريات بالأساس تحتاج إلى قادة أكفاء، يحسنون فهم وتطبيق هذه المفاهيم على أرض الـواقع. وابتداء يعرف الأمريكان جيداً، أنّ مثل هذه الشخصيات نادرة في العراق، ولا يمكن الاعتماد عليها، لرفضها لنظرية (المشروع الأمريكي في العراق، باعتباره القناة الموصلة للمشروع الوطني لحكم العراق)، فهكذا مشروع سيكون مكبلاً باملاءات الإرادة الأمريكية، وسيكون العراق جزءاً من مشروع الشرق الأوسط الكبير، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

في الأيام التي سبقت تاريخ 30/6/2003، (وهو تاريخ تشكيل مجلس الحكم)، بدأت الوفود تأخذ طريقها إلى مكتب السيد السيستاني (دام ظله)، وبقية المرجعيات الدينية في النجف الأشرف. كان السيد السيستاني (دام ظله)، لا يبدي رأياً إزاء الطروحات التي تخص الوضع السياسي في العراق، وكان القول الشائع لسماحته، أنّ العراقيين هم الذين يقررون ما يـريدون. لكن هذه التصريحات وغيرها، لم تمنع زيارات ما كان يسمى بالشخصيات، والتي أصبحت تعرف فيما بعد، بالشخصيات السياسيّة، أو المسؤولين السياسيين. ومن الطريف أنْ نتذكر بأن بعض الشخصيات العلمانيّة، قد استهوتها نغمة تلميع كلامهم بذكر المرجعية الدينـية، وترديد النغمة الأكثر وقعاً في آذان البسطاء، وهي قولهم : (زرنا مرجعية السيد السيستاني، وتلقينا منه التوجيهات السديدة). كان من أكثر مرددي هذا القول وأشباهه على الملأ، الدكتور (موفق الربيعي)، أقرب شخصية من الإدارة الأمريكية، والتي حضيت بميزتين، الأولى: توليه منصب مستشار الأمن القومي لمدة خمس سنوات، بصك موسوم بالتوقيع المبارك لـ(بول برايمر)، ومعروف، أنّ السيد الربيعي هو طبيب مختص بالأمراض العصبية (وهذا على عهدة بول برايمر كما ذكره في كتابه /عام قضيته في العراق )، ولكن ما يثير الاستغراب بُعْد الاختصاص العلمي لهذا الرجل، عن منصبه الأمني الوظيفي، لكن قد يكون للضرورات أحكام (فعند الضرورات تباح المحظورات). والميزة الثانية : أن السفير (بول برايمر)، قد أرّخ لهذا الرجل، من خلال ثوثيق نشاطه في ذلك الكتاب.

 إنّ الكارثة التي خططت لها أمريكا في العراق، قد حصلت فعلاً، فعندما تمّ تشكيل مجلس الحكم على أساس التقسيم الطائفي، فقد أشار (بول يرايمر في الصفحة /162، من الكتاب المذكور)، وبلهجة استهزاء ساخرة، عندما اتفق على اختيار تسعة اشخاص، يترأسون مجلس الرئاسة في مجلس الحكم، بصورة دورية قائلاً : (الاضافة الأحدث إلى شوربة بغداد الألفبائية (هكذا في المصدر، والصحيح الألف بائيّة)(انتهى). فالموضوع عند (برايمر) ليس أكثر من خلطة شوربة ليس إلاّ !!!.

ويضيف في نفس الصفحة (كانت القضيّة الوحيدة التي حلّت بسرعة في مجلس الحكم هي تحديد رواتب أعضائه. فقد توصلت لجنة فرعيّة برئاسة الجلبي إلى موازنة فاحشة للمجلس. اقنرح الجلبي ان يتقاضى الأعضاء  50.000  دولار في السنة، في حين يتقاضى الوزراء نحو 4.000  دولار. وأن يحصلوا على علاوات من البنزين، ما دفع (ديفد) إلى الملاحظة بسخرية بأن ذلك سيتيح لكل عضو اجتياز خمسين ألف ميل في الشهر في بلد ذي طرقات رديئة. في هذا اليوم أبلغت المجلس بأن الموازنة التي اقترحوها للخمسة وعشرين عضواً تفوق موازنة وزارة التربية التي تضم أكثر من 325.000 موظّف. اعترض الجلبي قائلاً إنّها مجرد "مشروع" موازنة)(انتهى).

 لقد سقت هذا النص لأبيّن نوعيّة بعض المسؤولين الذين التفوا حول المرجعيّة، وجرّوا البلد إلى منحدر الدمار. إنّ المرجعيّة الدينيّة تمثل في الجسد الاسلامي، ذلك الامتداد التاريخي المرتبط بذاكرة العالم الاسلامي عامة، والشعب العراقي خاصّة، الذي عانى من ويلات الظلم والاضطهاد، فهذا البعد الذي يربط الجماهير وجدانياً بحبل الإمامة المعصومة(ع)، في عصر الغيبة الكبرى. لقد استغل السلطويّون هذا الشعور عند الناس، وأكثروا التردد على منزل السيد السيستاني (دام ظله)، فلم يكد أن ينقضي أسبوع واحد، حتى نشهد زيارة (إن لم نقل أكثر)، يقوم بها محبو المرجعية الجدد من عرب وكرد وتركمان وغيرهم، والتباهي بالتصريح عن تلك الزيارات أمام الفضائيّات. وكان لهذا السلوك النفاقي، أثره السلبي العظيم في اتجاهين. الأوّل : إثارة حفيظة المتشككين من العملية السياسية والتكفيرين، الذين لم يخفوا تصريحاتهم بأن العراق أصبح للصفويين.

 والثاني : فقد قدم أولئك (المرجعيون)، كلّ المبررات والمسوغات للطرف الآخر، الذي يتصيد العثرة والزلة، من أجل تأجيج الموقف بالشحن الطائفي، وفعلا نجحوا في ذلك كلّ النجاح. ومن الملفت للنظر أنّ تلك الزيارات لم تقتصر على الاسلاميين، وانما تعدت إلى العلمانيين أيضاً، ويمكن أن نجمل نتائج ذلك بالنقاط التالية :

1. إنتاج أسلوب الإصطفافات الطائفيّة والتقسيمات المناطقيّة، وهذا النهج يمثل قمة العجز في تحقيق دولة القانون، وهذا ما يعاني منه الشعب العراقي، فضلاً عن الرجال المخلصين في الحكومة.

2. إنتاج حكومة غير متجانسة، فشلت في تلبية حاجات المواطن الاساسيّة، من أمن وخدمات.

3. تأجيج الاقتتال الطائفي والقتل على الهوية، إضافة الى عمليات التهجير.

4. إقحام المرجعية الدينية في العملية السياسية قسراً، وهي أصلا غير مستعدة لتبني العمل السياسي، كخط يقع ضمن اهتماماتها وتطلعاتها،لأنها ببساطة لاتؤمن بنظرية (ولاية الفقيه). وهذه النقطة بالذات واضحة في تصور الإدارة الأمريكية، كما يشير لذلك (بول برايمر) في كتابه المذكور اعلاه، فقد جاء في الصفحة (213) منه : (طمأنني (هيوم) والخبراء الاقليميون الآخرون في فريق إدارة الحكم بأن آية الله السيستاني لا يريد للعراق في النهاية أن يصبح دولة دينية يحكمها رجال الدين على غرار ايران)(انتهى).

ومع كل ذلك تعرض لنا وسائل الاعلام، أنّ السيد نائب رئيس الجمهورية، الدكتور عادل عبد المهدي، قد زار يوم الاربعاء 23/5/2007، السيد السيستاني، (ومن وجهة نظري الخاصة، فان السيد عبد المهدي تذاكر مع سماحة السيد (دام ظله)، حول موضوع المباحثات الإيرانيّة الأمريكيّة، التي ستجري في بغداد، في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، وأحب أن أطمئن السيد عبد المهدي، أنّ هكذا مباحثات ستراتيجية، لا تخطر ببال مراجعنا الكرام، بسبب عدم وجود مثال يشابهها في المباحث الأصولية ، حتى يمكن استنباط حكم لذلك).

وبعد هذه الزيارة التاريخية التي قام بها الدكتور عادل عبد المهدي، لسماحة السيد السيستاني (دام ظله)، صرح الدكتور عادل عبد المهدي : بأن السيد السيستاني (دام ظله)، يتألم كثيراً على اوضاع الشعب العراقي. وأقول: ان هذا التصريح كان غير موفق في التوصيف الدقيق، لأنه يضع سماحة السيد (دام ظله) عاملاً بالأختيار الثالث من الحديث الشريف (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان).

 يوجد الكثير من البشر يتألمون بشدة لواقع الشعب العراقي المأساوي، ولكن ما فائدة الألم قبال الأرواح التي تزهق يومياً بدون ذنب وجريرة ؟. و ما فائدة الألم مقابل دموع الأيتام والأرامل؟. و ما فائدة الألم أمام انقطاع الكهرباء والماء في هجير الصيف اللاهف ؟. و ما فائدة الألم والجهاز المركزي للاحصاء يعلن بان تسعة ملايين موظف ومتقاعد دون خط الفقر وان نسبة التضخم الاقتصادي في البلاد يبلغ 70% ؟.

إنّ الشعب العراقي يأمل من المرجعية أنّ تطالب الحكومة بسقف زمني محدد لاصلاح الأمور، وبعكسه يجب مصارحة الشعب العراقي، وكشف جميع الملابسات والامور المخفية. لقد صرح رئيس الوزراء السيد نوري المالكي قبيل أيام، بأنه سيكشف الشخصيات داخل العملية السياسية، التي تضع المعوقات وترتبط بتوجهات دول خارجية. إنّ زمن الصمت يجب أنّ ينتهي، لأن جراحات الشعب العراقي تصرخ إلى عنان السماء مستجيرة، ألا هل من ناصر ؟، ألا هل من معين ؟. 

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 28 آيار/2007 -10/جمادي الأول/1428