أثر الولاية التكوينية في التشريع بأعتبار الامامة احد مصادر التشريع الاسلامي

بقلم: د. وليد سعيد البياتي

 المبحث الاول

توطئة:

    أستنادا الى المفاهيم العامة لكل من التشريع والولاية فلا يمكن الفصل بينهما، فلما كان المفهوم العام للتشريع هو إيجاد نظام ينحو نحو غاية ترتيب العلاقات بين الانسان والله وبينه وبين نفسه ثم بينه وبين المجتمع وبعد ذلك بينه وبين الوجود الكلي بما فيها العلاقات بينه وبين الماورائيات ( وقد ذكرنا هذه العلاقات في بحوث سابقة) فأن التشريع الاسلامي يتحرك نحوغايات محددة.

 وقد بين الشارع الاسلامي ان غائية التشريع تتحقق بتحقق النظام وسعادة الانسان على الارض. ولما كانت الولاية تعني الارادة في إدارة شؤون الانسان في الحياة تحضيرا للانتقال الى مرحلة الاخرة، فهي اي الولاية تمس بذلك كل خصوصيات الحياة الانسانية وغير الانسانية.

 والولاية لغة تحمل معان عديدة فقد جاء في المنجد: ( ولي، يلي، ولاية، وولاية: قام بأمره وملك أمره وولي يلي البلد تسلط عليه) المنجد/918 .

أما ما ذكره الطريحي في مجمع البحرين: (الولاية أيضا النصرة، وبالكسر الامارة، وفي النهاية: هي بالفتح المحبة وبالكسر التولية والسلطان) مجمع البحرين:1/455.

والبحث في علاقة الولاية يكشف ان طبيعة العلاقة تتأسس على أسس عضوية، فثمة ترابط عضوي بينهما والعلاقة هنا ليست تبادلية او تجريدية بقدر ما هي علاقة تأسيسية غاياتها تنظيم العلاقات السابقة وتفسيرها وفق المنهج الالهي.

أقسام الولاية:

تنقسم الولاية بشكلها العام الى:

أولا: ولاية تشريعية: وتعني ان إرادة رسول الله صلى عليه وآله وبعده إرادة الائمة المعصومين مقدمة على أيه أرادة  في مواضع اتخاذ القرار والاختيار لصالح المؤمنين، ومن هنا فأن إرادة الرسول الاعظم والائمة المعصومين صلوات الله عليه وعليهم تحل محل أرادة المؤمن، فاذا أراد المؤمن ان ينجز عملا ومنعه رسول الله أو الامام المعصوم، أو أذا لم يرد وأمره الرسول او الامام المعصوم بإنجاز العمل فإرادة الرسول أو الامام صلوات الله عليهما وآلهما مقدمة في كلتا الحالتين بإعتبار ان كل من النبي والامام مشرعان، وهذه الحالة تنطبق في أحوال الحرب والسلم وفي الاموال والنكاح والطلاق والجلاء عن الاوطان وكسب الارزاق وكل ما يمكن ان يتعلق بالشأن الحياتي للانسان، وتتلازم هذه الولاية مع حق الطاعة الواجب للنبي صلوات الله عليه وآله والائمة عليهم السلام. وحق الطاعة يشمل جملة من الاحوال والواجبات الشرعيةويتمثل حق الطاعة بالاتي:

1-تنفيذ اوامرهم الشرعية الراجعة الى التبليغ الصادر عن الله تعالى شأنه.

2-وجوب الطاعة للاوامر والنواهي الشخصية الصادرة عن الرسول والائمة صلوات الله عليه وعليهم اجمعين.

ثانيا: الولاية التكوينية: وهي عبارة عن تسخير الكائنات الإمكانية تحت إرادة أولياء الله تعالى ومشيئتهم، بحيث تصير في طاعتهم واختيارهم وينفذ أمرهم فيها وكن بحول الله وقوته وإذنه، بأن تكون ولايتهم على الكون طولية لا عرضية بمعنى أن ولايتهم مستمدة من ولايته عز وجل، فما المانع أن تكون ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة عليهم السلام إلى الكون ما دامت بإذن الله تعالى وجعله. وهنا تتحق بشكل اوضح قضية الجعل الالهي وأختيار الله أدم وبقية الانبياء والرسل واوصيائهم ليكونوا خلفاء الله على ارضه.

     وقبل ان ننتقل الى ولاية الامامة التكوينية نلقي ضوءا على أشكال من الولاية التكوينية لجملة من الانبياء والرسل على  نبينا وعليهم افضل الصلوات واتم التسليمن وذلك  بذكر مجموعة من الآيات التي تدل على الولاية التكوينية للأنبياء والأوصياء.

 لقد تحدثت آيات الكتاب العزيز عن عدة أنبياء بأن لديهم قدرة الولاية التكوينية كإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام.

قال تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب ارني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فاتخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم) البقرة/260. فقد طلب إبراهيم عليه السلام من الله سبحانه أن يريه إحياء الموتى، ولم يكن تساؤله عن شك اوضعف في ايمان، بل كان لتوكيد إيمانه وليكون له حجة على المؤمنين.

وقوله تعالى: حاكياً عن النبي موسى (عليه السلام): (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) طه/77. وهذه المعجزة ليست مجرد انها خارقة للقوانين الطبيعية، ولكنه تكشف أن القانون الالهي لايخضع لحسابات المنطق العقلي المحدود بل انه يتجاوز الاني الى المطلق.

وقوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم) البقرة/60. وقوله تعالى: (وأوحيا إلى موسى أن ألقى عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون) الاعراف/117. كل هذه المعاجز التي جرت على يد موسى عليه السلام كانت وفق قانون الولاية التكوينية وفق المشيئة الالهية، وماكان لموسى ان يجريها بنفسة لوشاء دون الحكم الالهي.

وأما داود عليه السلام فقد سخر سبحانه له الطير والجبال يسبحن معه والرياح ولين له الحديد بدليل الآيات التالية: (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) الانبياء/79. وقال تعالى: (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب) ص/36. وقال تعالى: (يا جبال أوبي معه والطير وألنّا له الحديد) سبأ/10.

نستخلص من هذه الآيات أن الله سبحانه أعطى داود عليه السلام تلك الولاية التكوينية بحيث إذا أراد داود عليه السلام في أي ساعة تسخير الرياح لجرت بأمره، ولا يريد إلا ما أراده وتسخير الكائنات لداود عليه السلام لم يكن حالة استثنائية تفرد بها داود، بل هي عامة تشمل الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ذلك ان قلوب ونفوس الانبياء والرسل واوصيائهم ما هي إلا أوعية لارادة الله .

     وليس داود أفضل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وعترته الطاهرة حتى يسخر له ما لم يسخر للنبي وعترته عليهم السلام. فالثابت عند الفريقين أن النبي صلى الله عليه وآله أفضل من الأنبياء والمرسلين على الإطلاق فإذا ثبت تسخير الكائنات إلى ما دونه بالفضيلة ثبت بطريق أولى إلى نبينا وعترته الطاهرة، وقد أعطى النبي وعترته أكثر مما أعطي آل داود من المعاجز والهيمنة المطلقة على الأشياء. وقد ورد بسند صحيح عن هارون بن موفق مولى أبي الحسن عليه السلام قال: قال أبو الحسن عليه السلام في حديث طويل: " لم يعط داود وآل داود شيء إلا وقد أعطي محمد وآل محمد أكثر" المفيد- الاختصاص/299.

وأما النبي سليمان عليه السلام فقد ورد في مجموعة من الآيات تسخير الكائنات له. قال تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين)الانبياء/81. وقال تعالى: (وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين، وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) النمل/16-17. وقال تعالى: (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب ص/36-39.

تبرهن هذه الآيات أن الله سخر لنبيه سليمان عليه السلام الجن والطير والريح، كما أن أباه داود عليه السلام سخرت له الجبال والطير وهذه المعاجز هي نوع من إظهار الولاية التكوينية فمجموع هذه المعاجز هي عبارة عن إظهار سلطة الأنبياء والأولياء على هذا الكون وهي سلطة إلهية مما يزيد في تثبيت عقائد المؤمنين بهم وزيادة إيمانهم وقوة يقينهم.

وأما النبي عيسى (عليه السلام) قد تحدثت الآيات عنه وما تميز به هذه النبي الكريم من إحياء الموتى وخلق الطير وغير ذلك من اشكال الولاية التكوينية، قال تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمة والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني) المائدة/110.

وقال تعالى: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأُبرئ الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) آل عمران/49.

ولقد أتى الله تعالة شأنه نبيه عيسى عليه السلام الولاية التكونية في اربع حالات  يعجز عنها البشر مهما أوتوا من قوة العلم والارادة، وهي تحقق معادلة صعبة فالعلم الانساني يبقى محدودا مهما استوثق الانسان من معرفته، اضافة الى ان مستويات وقدرات العقل غير المعصوم تبقى قاصرة عن ادراك قدرات العقل الكلي المطلق، وهذه الحالات هي:

1- خلق الطير من الطين ومن دون تناسل.

2- نفخ الروح في الطير المصنوع من طين.

3- إبراء الأكمة والأبرص.

4- إحياء الموتى.

وهذه الأمور وإن كانت من المستحيلات عادة لكنه سبحانه فوضها إلى بعض عباده تشريفاً وتعظيماً لهم لطاعتهم له عز وجل فسمح لهم أن يتدخلوا في عالم الخلق والتكوين وأن يحدثوا ما يعتبر خارقاً لقوانين الطبيعة ثم استعمال أفعال مثل أبرئ وأحي بصيغة المتكلم يدل على أن هذه الأفعال من عمل الأنبياء أنفسهم، بل ظاهر الآيات تدل على أنهم يتصرفون بعوالم التكوين ويقومون بتلك الأفعال بمحض إرادتهم التي هي في طول إرادة الله سبحانه وإنهم كانوا يخلقون بإذن الله تعالى، لأن عملية الخلق استقلالاً هي من مختصات الباري عز وجل.

الامامة والولاية التكوينية:

ومن الآيات التي تدل على الولاية التكوينية قوله تعالى: (قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) النمل/40، فمن كان يمتلك بعضاً من علم الكتاب كآصف بن برخيا كان قادراً على جلب عرش بلقيس بأقل من طرفة عين فما بالك بمن عنده كل علم الكتاب كعلي بن أبي طالب عليه السلام فهو بطريق أولى قادر على التصرف التام في عالم العناصر والأجساد، فيمكن ببعض الأسماء الإلهية أن تسير الجبال وتقطع الأرض ويكلم به الموتى، كما قال الله تعالى: (ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى)الرعد/31.

وفي الروايات الواردة عن طريق أهل البيت عليهم السلام أن آية: (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) الرعد/43 ، نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام.

وفي صحيحة عبد الله بن أحمد بن نهيك عن الحسن بن موسى عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن المثنى قال: سألته عن قول الله عز وجل: ومن عنده علم الكتاب.

قال: "نزلت في علي عليه السلام عالم هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله. وفي رواية أخرى نزلت في علي عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وفي الأئمة بعده" انظر البرقي- بصائر الدرجات/234 . وفي صحيحة أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن أحمد بن حمزة عن أبان بن عثمان عن أبي مريم قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: "هذا ابن عبد الله بن سلام يزعم أن أباه الذي يقول الله: " قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب " الرعد/234. قال كذب "ذاك علي بن أبي طالب عليه السلام" البرقي- بصائر الدرجات/235.

هذا يقودنا الى تقييم العلاقة بين الامامة والتشريع، فالذي يستطيع ان يتحكم في القانون الكوني، والذي يستطيع ان يعيد ترتيب العلاقات الكونية فهو اولى ان يتمكن من القانون الانساني وينظم العلاقات الانسانية مع بعضها البعض ويربطها بالنظم الكونية، فالنظم الحياتية والانسانية لاتنفصل عن النظم الكونية بإعتبار ان المادة الاصلية التي خلق منها الانسان هي من عناصر المادة الكونية، فلايمكن فصل عناصر النشأة الاولى عن مصادر التشريع، وذلك بسبب العلاقات بين العلة والمعلول،  وسنتطرق الى علاقة الامامة بغائية العلة في بحث قادم يستكمل بحثنا هذا ولالقاء المزيد من الضوء عن علاقة الامامة كمصدر من مصادر التشريع بالولاية التكوينية.

 

الولاية التكوينية والتشريع الاسلامي

المبحث الثاني

إشكاليات العلل

   لاشك ان العلاقة بين العقل والتشريع تنطلق من مفاهيم العلل وغاياتها، فالعقل بطبيعته يبحث عن العلة لايجاد حالة من الاقتناع من جهة ولتأكيد مشروعية الحكم، فالعلة في الاصل حي بحث عقلي يتناول مفاهيم العلاقات الدنيوية والاخروية والتي تؤصل للحكم الشرعي وما ينتج عنه من تأثيرات أخرى. ولما كانت الامامة تمثل استيعابا كليا للتشريع كما هي تمثل استيعابا كليا للتاريخ والوجود، فهي بالتالي تمثل استيعابا كليا للتشريع من منطلقات تكوينية تتعلق بماهية الوجود الكلي نشأة وتأثيرا. فالامام يقف من العلة التشريعية موقفا تأصيليا بأعتباره يدرك كل من الغايات والنتائج وهو بذلك يتجاوز الفهم الاني للحدث ليدرك الغاية الكلية. ومن هنا قد نجد انفسنا غير مدركين لغائية العلة باعتبار ان مفهومنا يبقى قاصرا يخوض في آنية الحدث في حين أن الامام ينظر في ماورائيات الحدث. من جانب آخر قد لا تكون العلة مادية بل حكمية( فلسفية) وبالتالي فان إدراك غاياتها قد يصبح مستعصيا على المدركات المادية، كما هي الحال في الكثير من علل الاحكام الشرعية في الكتاب والسنة. وفي بحثنا هذا سنتناول علاقة الامام بغائية العلة وعلاقة هذه الاخيرة بعناصر مسببات العلل عبرمفهوم الولاية التكوينية.

الامامة وغائية العلل:

   يمكن اعتبار الامام امتدادا تكوينيا وروحيا كما هو نفسيا للرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله، فقد قال الله تعالى شأنه في كتابه العزيز: " فمن حاجك فيه من بعد ماجائك من العلم فقل تعالوا ندع ابنائنا وابنائكم ونسائنا ونساءكم وانفسنا ونفسكم ونبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" آل عمران/61 . والتي تعرف بآية المباهلة كما ورد في كتب التفسير اضافة الى كتب الحديث، ( راجع الطريحي مجمع البحرين/2/284، وايضا صحيح مسلم/4/1871 والترمذي/5/255 ومسند احمد/1/185 ) وكلها تؤكد ان الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام هو المعني بأنفسنا. فالامام هو نفس الرسول سواء ذلك بالمعنى الفلسفي او التكويني، كما هو بالمعنى الطبيعي، ونقصد به هنا ذلك التواصل في سلسلة الامامة والوصاية باعتبارها امتدادا واقعيا وعقلانيا للرسالة الخاتم.  ومن هنا تكون العلاقة بين الامامة وفكرة غائية العلة تنحو منحيين في البحث العقلي:

أولا: منحى دنيوي: وهو يبحث في العلاقات الدنيوية بين البشر، وكل ما له علاقة  بتجارب الحياة الدنيا وتفاعلاتها كما في نتائجها. بأعتبار ان العلاقات الدنيوية تكوّن  بتلازمها الطريق الى الاخرة.

ثانيا: منحى أخروي: وهي العلاقات التي تشكل في النهاية المستقر الاخير للانسان فاما في الجنة او في النار.

    وهكذا تصبح فكرة غائية العلة تمثل استيعابا شموليا لعناصر مسببات العلل (وقد وضعت في الدراسة الاصلية مخططا يرتب هذه العلاقات ولكن البحث هنا لايستوعب كل التفصيلات التي وردت في البحث الاصلي والذي هو جزء من رسالة الدكتوراه في التشريع الاسلامي التي اعدها) ولكن يمكن توثيق عناصر مسببات العلل ضمن مجاميع ثلاث:

الاولى: الايمان بدرجاته حتى المطلق:

1- الدخول في الاسلام.

2- التحول الى مرتبة الايمان الاولى.

3- الايمان.

4- التقوى ومراتب اليقين.

 

الثانية: حاجة الوجود الى العلة وغاياتها:

1-     واجبة.

2-     غير واجبة.

3-     لطف الهي.

الثالثة: شكل العلاقة بين العلة والمعلول:

1-علاقة ترابطية ( لايمكن فصل احدهما عن الاخر).

2-علاقة تضامنية ( يمكن فصل احدهما عن الاخر).

3- علاقة سببية ( احدهما نتاج للاخر).

هذا المنهج يقدم تفسيرا واقعيا كا هو فلسفي للاية الكريمة: " ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين". يس/12 فالامامة تمثل استيعابا كليا للحياة والوجود الكلي، ومن ناحية اخرى فأن منهجنا البحثي هذا يقدم تحليلا لمفهوم وقيم إكمال الدين وإتمام النعمة: " ... اليوم أكملتلكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا". المائدة/3. فالامامة بأستيعابها الكلي للوجود والحياة تمثل اقصى غاية بحث الانسان عن شريعة ترتب نظم العلاقات الحياتية والاخروية لتحقيق سعادة الانسان. والسنة النبوية الشريفة تؤكد طبيعة الولاية التكوينية وعلاقتها المباشرة بالرسالة والامامة على السواء، فقد جاء في حديث الكساء عن الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله راويا عن جبرائيل عن رب العزة: " وعزتي وجلالي إني ما خلقت سماء مبنية ولا ارضا مدحية، ولا قمرا منيرا ولا شمسا مضيئة ولا فلكا يدور ولا بحرا يجري ولافلكا يسري إلا لاجلكم ومحبتكم" وهذا خطاب من الله تعالى يخص به الرسول وأهل بيته عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم جميعا افضل الصلاة وأتم التسليم. فالكوني والانساني( بصفة الامامة) متلازمان في علاقة ترابطية وسببية في آن, فهذا الكون والوجود مرتبط بالرسول الخاتم وأهل بيته عليهم جميعا الصلاة والسلام، وهم اي الرسول وأهل البيت السبب الذي من أجله خلق الله الوجود الكوني والحياتي. وبذلك يصبح التشريع مرتبطا بالامامة كماهو مرتبط بالنبي الاكرم. فالامام يتصرف بالوجود كما يتصرف به الرسول باعتبارهما حالة واحدة ( تراجع بحوثنا السابقة في وحدة النبوة والامامة).

    ونرى في مسببات العلل ذلك التلازم بين الايمان والحاجة الى العلة، كما ويلاحظ من قصة كليم الله موسى مع العبد الصالح الخضر عليهما السلام حاجة موسى الى إدراك غائية العلة، فمع ان موسى عليه السلام نبي ورسول ومن اولي العزم وصاحب احدى ثلاث شرائع سماوية لاتزال حية (ولو ببعض الجزئيات كما في شرائع اليهودية والمسيحية المعاصرة) فانه إحتاج لمعرفة الحكم الشرعي في افعال الخضر عليه السلام، اذ ان موسى لم يدرك حتى بعقله الرسالي هذا الحكم لانه في هذه الحالة كان يقع في جانب اللطف الالهي كما تعرضنا له في حاجة الوجود الى العلة. فالحاجة الى إدراك غائية العلة هي حاجة عقلية كما هي نفسية إنفعالية، وهي ناتجة عن ان نظرية العدالة في مفهوم أهل البيت عليهم السلام تتمحور حول انها ليست فكرة علمية، كما انها ليست موقفا حسيا قابلا للقياس والملاحظة، او ان تكون خاضعة للتجربة المختبرية وفق المعايير العلمية السائدة، وانما هي تقييم يخضع للاطر الحسية.

من هنا يأتي فهمنا لعلاقة الامامة بالتشريع، فالامامة باعتبارها امتدادا واقعيا للرسالة تأخذ مناحيها في غائية العلة من المناحي الرسالية. الامام امير المؤمنين عليه السلام كانت له مجالس خاصة مع خاتم الانبياء والمرسلين، ومن هنا قال عليه السلام: "سلوني قبل ان تفقدوني" لادراكه الحكم الشرعي من قاعدة معرفة غائية العلل التي انتقلت الية من أخيه الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله في قول امير المؤمنين عليه السلام: "علمني الف باب من العلم يفتح على الف باب". والامام كان بحاجة الى معرفة غائية العلة، وهذه المعرفة انتقلت اليه من الرسول الخاتم فيما انتقل اليه من كنوز المعرفة الكلية.

عقلانية المنهج التشريعي:

  لايمكن الحكم على عقلانية المنهج التشريعي إلا من خلال النتائج، فعندما تكون الاحكام الشرعية متطابقة مع حاجيات الانسان وتتوخى تحقيق العدالة سعيا وراء خدمة سعادة الانسان عندها يمكن اعتبار الشكل العقلاني للتشريع, وهذه العقلانية رسالية المصدر و يمكن تقييمها وفق المنهج السوسيولوجي ومن خلال علاقة التشريع بالحاجيات الدنيوية التي تعكس بالنهاية غايات أخروية، حيث ان الوجود هو نتاج علاقة الدنيا بالاخرة مما يوثق علاقة التكوين بالتشريع. فالبنى الاساسية للتشريع تتمحور حول تحرير الانسان من الافاق الضيقة لمناهج التفكير الوضعي ، فحاجيات الانسان لايمكن ان تنحصر بالمأكل والمشرب والملبس، فعلى الرغم من ان الانسان وكما يقول علماء الاجتماع: " كائن اجتماعي بطبعه"  الان انه في جانب آخر كائن يتمتع بخاصية العقل كما انه يتمتع بالجانب الروحي، ومن هنا نرى تنوع حاجيات الانسان بين المادي والعقلي والروحي. واذا اغفل المشرعون الغربيون الجانب الروحي، فان الاسلام يضع مساحة كبيرة من قوة التشريع لتغطية الحاجات الروحية والتي قد تكون بالمقام الاول،وقد تتفوق على الحاجيات المادية لانها تؤكد الارتباط بالاخرة. ومن هنا تصبح معيارية التشريع في تكريس العلاقة بين الدنيا والاخرة هذه العلاقة التي ستحدد معالم حركة الامة على مسار حركة التاريخ.

     لقد سعى هذا البحث الموجز الى تاطير نظرية جديدة في التشريع تتبنى علاقة التشريع بالتكوين من منطلقات الهية تتجذر عند مفاهيم حاجيات الانسان بأشكالاتها المتعددة. وقد تم عرض الخطوط الخارجية لنظريتي على عدد من كبار العلماء واقرت ايضا من قبل عدد من المراكز البحثية التشريعية هنا وسيتم عرض كل ذلك في الكتاب الذي سيشكل دراسة موسعة لعلاقة الولاية التكوينية بالتشريع.

المملكة المتحدة – لندن

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 23 آيار/2007 -5/جمادي الأول/1428