صيف ساخن في أجواء من الحرب الباردة

بقلم: تيسير خالد

 على متن حاملة الطائرات الاميركية، جون ستينيس، التي تجوب مياه الخليج العربي، حل ديك تشيني، نائب الرئيس الاميركي، ضيفاً على بلاد العرب، في جولة تعيد الى الذاكرة جولات سابقة كانت تشي بالاعداد لحدث كبير في المنطقة.

نائب الرئيس جاء على غير موعد، فقد كان الجميع يتوقع جولة جديدة لوزيرة الخارجية الاميركية، كوندوليزا رايس، التي اعتقد البعض أنها أصبحت في الادارة الاميركية تمسك بملفات العراق وايران وملف الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، خاصة بعد مؤتمر شرم الشيخ وما صدر عنه من وثيقة عهد دولي بِشأن العراق، وبعد خطة دايتون الأمنية، التي كان للسيدة رايس دور بارز في بلورتها وطرحها على الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي. وثيقة العهد الدولي حول العراق من جهة وخطة دايتون الامنية من جهة ثانية عبرتا عن مقاربة أمنية لازمات مستعصية ومتفجرة، ورغم ذلك وجد فيهما البعض بصيص ضوء في نهاية نفق مظلم تماماً.

لماذا قررت الادارة الامريكية تغيير اتجاه حركة كوندوليزا رايس لتتحول من الانشغال بملفات الشرق الاوسط الى الانشغال بملف جديد طرحته موسكو على جدول اعمال سياستها الخارجية وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، وتفويض ديك تشيني البحث مع عدد من دول المنطقة في الخيارات المتاحة لحلول لأزمة الغرق في رمال العراق المتحركة وأزمة ما يسمى بالملف النووي الايراني، في فترة الهدنة أو التهدئة، التي تم التوافق عليها بين البيت الابيض وبين الكونغرس الاميركي، وهي فترة ليست بالطويلة حيث تنتهي في أيلول القادم، أي في الوقت الذي تكون فيه الاستعدادات لمعركة الانتخابات الرئاسية الاميركية القادمة قد بدأت بالفعل.

في الاجابة على هذا السؤال، لنبدأ بتحول وزيرة الخارجية رايس الى موسكو، حيث قيل كثير عن اسباب هذا التحول. قيل مثلاً، ان وزيرة الخارجية أدارت ظهرها للمنطقة في اشارة الى الغضب من حكومة ايهود اولمرت، التي اعلنت تحفظها على خطة دايتون الامنية، وهي خطة تنطلق بالاساس من التعامل مع الامن الاسرائيلي ( مواطنين ومستوطنين، وجنود احتلال ) باعتبارها المرجعية، التي لا مرجعية غيرها، لتنظيم العلاقة بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، حتى على مستوى الحاجز العسكري، خطة تعتمد بالدرجة الرئيسية على تهدئة من الجانب الفلسطيني تشمل وقف جميع أشكال المقاومة للاحتلال وممارساته مقابل رفع عدد من الحواجز العسكرية الاسرائيلية المنتشرة في طول الضفة الغربية وعرضها وتسهيل الحركة عليها وعلى المعابر للمواطنين الفلسطينيين من الجانب الاسرائيلي. وقيل أيضاً، ان وزيرة الخارجية الاميركية أدارت ظهرها للمنطقة في إشارة على عدم جدوى الرهان على حكومة وجدت نفسها بعد تقرير لجنة فينوغراد في الحرب على لبنان في قفص الاتهام بالتقصير وسوء ادارة الحرب.

وبصرف النظر عن ما يتردد بشأن تحول كوندوليزا رايس الى موسكو، من الواضح ان تحرك أقطاب الادارة الاميركية، وخاصة زيارة ديك تشيني الى المنطقة، يحمل مؤشرات على أن هذه الادارة بصدد ترتيب أولويات سياستها بما يعزز مواقعها في المواجهة مع الكونغرس في فترة التهدئة أو الهدنة التي أشرنا إليها. ذلك لا يقلل أبداً من أهمية المهمة، التي حددها البيت الأبيض لوزيرة خارجيته، ولا يعني أنها تحتل مرتبة ثانوية قياساً بالمهمة التي حددها لنائب الرئيس. 

فوزيرة الخارجية، كوندوليزا رايس، تتوجه الى موسكو في محاولة لاحتواء خلاف مع روسيا الاتحادية، ينذر في حالة عدم التوصل الى حلول متوازنة بشأنه، بالعودة لأجواء الحرب الباردة والعودة لسباق تسلح جديد يزعزع أمن القارة الاوروبية بشكل خاص والأمن الدولي بشكل عام. ذلك واضح في سلسلة المواقف التي صدرت عن الكرملين والخارجية الروسية في الأسابيع الأخيرة بدءاً بخطاب الرئيس بوتين أمام مؤتمر الأمن في ميونخ / المانيا الاتحادية في العاشر من شباط 2007 مروراً بالخطاب السنوي حول حالة الأمة للرئيس بوتين والذي تزامن مع اجتماع وزراء خارجية الدول الاعضاء في منظمة حلف شمال الاطلسي ( ناتو) في اوسلو وانتهاء بخطابه في يوم النصر على النازية في أيار الجاري.

في خطابه امام مؤتمر الامن في ميونخ شن الرئيس بوتين هجوماً عنيفاً على سياسة الولايات المتحدة الاميركية باعتبارها تنزع نحو فرض سيطرتها وسيادتها العسكرية على العالم دون مراعاة ما يترتب على ذلك من فوضى ومخاطر ودون مراعاة مصالح غيرها من دول العالم , أما في خطابه حول حالة الأمة، فقد صعد الرئيس بوتين في الموقف بالاعلان عن وقف العمل بالاتفاقية الخاصة بمراقبة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا والتي تم بموجبها التخلص من عديد أنظمة التسلح التقليدية وخفض في عدد القوات والعتاد العسكري وتم بموجبها كذلك الاتفاق على عمليات تفتيش متبادلة لبناء الثقة، وذلك رداً على إقامة الدرع الصاروخي في كل من بولندا والتشيك، حيث ادعت الولايات المتحدة انه موجه ضد الدول المارقة مثل ايران وأسلحتها النووية المحتملة، الامر الذي أثار استفزاز روسيا الاتحادية ودفعها لرفع وتيرة معارضتها لدرع صاروخي لا وظيفة له غير تهديد الامن القومي الروسي ورصد النشاطات العسكرية والروسية ومراقبة الاراضي الروسية حتى حدود جبال الاورال، حسب تقديرات موسكو. 

إذن، مهمة صعبة تنتظر وزيرة الخارجية الاميركية في موسكو، وهي مهمة لن تقتصر على اعلان روسيا الاتحادية وقف العمل بالاتفاقية الخاصة بمراقبة القوات المسلحة التقليدية في اوروبا، بل تتجاوزها باتجاه المطالبة بفتح ملف اتفاقية (ستارت 1) حول الاسلحة النووية فضلاً عن الاتفاق على السبل الافضل لمعالجة مسألة استقلال كوسوفو عن صربيا وما يسمى بالملف النووي الايراني ومبيعات الاسلحة الروسية لكل من ايران وسوريه وفنزويلا، والوضع الذي يزداد تعقيداً في الشرق الاوسط، وهي جميعاً ملفات ساخنة من شأنها ان تعيد الوضع الدولي الى أجواء حرب باردة أكثر خطراً على الأمن والسلم الدوليين من أجواء حرب باردة شهد العالم فصولاً ساخنة فيها على امتداد النصف الثاني من القرن الماضي.

هذه هي المهمة التي من اجلها تتوجه وزيرة الخارجية الاميركية الى موسكو في تقاسم اضطراري للأدوار مع نائب الرئيس ديك تشيني، الذي حل ضيفاً على المنطقة على متن حاملة طائرات اميركية، في محاولة لإعادة رسم سياسة الولايات المتحدة الاميركية وأولوياتها في المنطقة. لا يخفى على المتابع هنا ان تشيني تربطه علاقات جيدة بعدد من المسؤولين في المنطقة منذ كان وزيراً للدفاع في إدارة الرئيس جورج بوش الأب وعندما كان رئيساً لمجلس إدارة امبراطورية النفط "هاليبيرتون".

 ولا يخفى على المتابع كذلك ان نائب الرئيس، ديك تشيني، لم يكن معجباً بنتائج أعمال قمة شرم الشيخ حول العراق واللقاء الذي جمع وزيرة الخارجية، رايس، مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم.

فنائب الرئيس يقف، ديك تشيني بعناد ضد تدخل الكونغرس في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الاميركية، باعتبارها حصراً من مهمات البيت الابيض ومسؤولياته، وعلى هذا الاساس هاجم بعنف رئيسة البرلمان نانسي بيلوسي وهي تزور دمشق وتلتقي بالمسؤولين السورين في محاولة لفتح نافذة فرص أمام تطبيق التوصيات، التي تضمنها تقرير بيكر - هاميلتون حول الوضع في العراق ومنطقة الشرق الاوسط، وهو ما دفع زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الاميركي، هاري ريد الى وصفه " بالذئب المسعور، الذي تدنت شعبيته في جميع استطلاعات الرأي الى حدود لا تتجاوز تسعة بالمئة وحسب ".

كوندوليزا رايس الى موسكو وديك تشيني في المنطقة في مهمتين لا يحجب الترابط بينهما درجة التخبط، التي تعيشها سياسة الادارة الاميركية في ظل العلاقات مع روسيا الاتحادية وعودتها الى أجواء الحرب الباردة وفي ظل تفاقم أزمتها العامة وأزمة علاقاتها مع دول المنطقة. رايس الى موسكو من اجل احتواء التوتر وخفضه في العلاقات مع الكرملين في ضوء سياسة إقامة الدرع الصاروخي في بولندا وتشيكيا وفي ضوء ما تسرب من معلومات خطة حملت عنوان" الخطة الاستراتيجية المشتركة " للتعامل مع الازمات الدولية للسنوات الخمس القادمة 2007-2012، والتي جاء في فصلها الروسي ان " الادارة الاميركية سوف تتعاون مع روسيا هناك حيث تستطيع القيام بذلك بشكل مثمر ولكن سنواجه بصلابة في ظل دعم حلفائنا الاوروبيين الآخرين كل ما يتعلق بقيم الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات والتصدي لسلوك روسيا السلبي ".

كثير من الشكوك تحوم حول احتمالات نجاح كوندوليزا رايس في مهمتها، حيث تبدو المواقف متباعدة في الخلافات بين الولايات المتحدة الاميركية وروسيا الاتحادية، ولكن ماذا بشأن مهمة نائب الرئيس، ديك تشيني.

قبل ان يتوجه تشيني الى المنطقة حدد الرئيس الاميركي جورج بوش طبيعة وحدود وأهداف مهمته. فقد أعلن الرئيس الاميركي ان صبر الادارة الاميركية على الوضع في العراق والمنطقة بدأ ينفذ وان على العراقيين ان يغيروا عقارب ساعتهم بأقصى سرعة. أضاف الرئيس بوش ان نائبه خلال هذه "الجولة الحيوية " سوف يبلغ العراقيين ان "عليهم ان يفهموا اننا جديون للغاية "وسوف يؤكد للحلفاء في المنطقة ان الولايات المتحدة الاميركية تفهم "النتائج التي تترتب على امتلاك إيران للسلاح النووي "، وانه سوف يعرض على هؤلاء الحلفاء " استراتيجية الولايات المتحدة التي تقوم على إقناع الاخرين للانضمام لنا لحل المسالة الايرانية ". فضلاً عن هذا فقد وضع ديك تشيني على جدول أعماله، خاصة في زيارته للعراق، مشروع قانون النفط العراقي على نار ساخنة، وهو قانون من شأنه إذا صودق عليه أن يرهن النفط العراقي وعائداته لشركات النفط الاحتكارية وفي مقدمتها امبراطورية هاليبرتون.

وهكذا، فان الكتاب يقرأ من عنوانه. البيت الابيض توصل الى اتفاق هدنه أو تهدئة مع الكونغرس لفترة قصيرة. في هذه الفترة القصيرة يجب السيطرة على الوضع في العراق. ولهذا الغرض تقرر الادارة الاميركية تعزيز القوات الاميركية العاملة في العراق بنحو خمسة وثلاثين ألفاً من الجنود الاميركيين، من اجل التفرغ لمعالجة ما تسميه ملف ايران النووي،وملف أسلحتها الصاروخية، وهي أسلحة تذكر الجميع بالاسلحة الصاروخية العراقية، التي بالغت الادارة الاميركية في الدعاية حول مخاطرها ليس فقط على الأمن الاقليمي بل وعلى الأمن العالمي كذلك. وفي الحقيقة فان إيران حسب معلومات استخباريه روسية لا تملك غير صاروخ واحد، أجرت عليه عدداً من التجارب منذ العام 2000 ولا يتجاوز مداه 1700 كيلومترا ولا تزيد حمولته الحربية عن 200 كيلو غراما فقط.

التاريخ يكرر نفسه من جديد. في سنوات مضت كان العراق يشكل تهديداً للأمن الاقليمي والدولي. السيناريو ذاته يتكرر وفي الصورة يظهر ديك تشيني كذلك يحضر المسرح من جديد لمغامرة جديدة في المنطقة، ليس من الصعب التكهن سلفاً بنتائجها السلبية الواسعة على الأوضاع الاقليمية والدولية وعلى الأمن والسلم الدوليين. لا يخفى على احد ان السياسة الخارجية للإدارة الاميركية تعيش هذه الأيام أزمة عامة، وهي تهرب من مواجهة هذه الأزمة بإعداد مسرح الأحداث لمغامرة في صيف ساخن في أجواء من الحرب الباردة ولا تترك للصراع الفلسطيني – الاسرائيلي في جدول أعمالها وأولوياتها سوى خطة تهدئة تدور حول محور واحد وهو الأمن للإسرائيليين باعتباره مرجعية وحيدة لمسار العلاقات الفلسطينية – الاسرائيلية.

*عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 17 آيار/2007 -28/ربيع الثاني/1428