مراحل نشوء وتطور التعليم الديني: مرحلية التعليم وانتقاله (2-6)

 كريم المحروس

انطلق التعليم الديني في مبدأ نشوئه في التاريخ الإسلامي من قاعدته الأولى "دار الأرقم بن أبي الأرقم بن أسد أبو عبيد الله القرشي المخزومي" حيث كانت الطليعة الإسلامية الأولى تتلقى علم رسالتها على الرسول الأكرم )صلى الله عليه وآله( مباشرة. ولم تكن هذه الحركة تهدف إلى تعليم القراءة والكتابة فحسب، بل كانت تقود منهجا متكاملا للأخذ بالأمة إلى حيث الإيمان السديد بالرسالة السماوية التي ضمت منهج حياة متكامل مؤكد على أهمية وضرورة التعليم والتعلم والتربية الوجدانية على أسس سليمة ومتينة استعدادا للانطلاق إلى حيث تحمل مسؤولية البناء والإصلاح الحضاري الكبير.

وكان الرسول الأكرم )صلى الله عليه وآله( يعلم أصحابه بآيات القرآن الكريم أولا بأول، حيث يحفظونها ويرددونها ويتداولونها بين الأصحاب والمؤمنين، ثم يشيعونها بشكل واسع جدا بين عامة الناس.

(1) الانتقال المدرسي 

ومع انتقال الرسالة الإسلامية إلى نهجها العام وهجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة المنورة، وانضمام الكثير من أهل مكة والمدينة إلى الدين الحنيف، وبناء أول مسجد في المدينة يتصل فيه الناس بالرسول مباشرة للتعرف على رسالته وما يخبره الوحي من أحكام ومستجدات وضرورات؛ لم تعد الدور الصغيرة تستوعب أداء مهمة جديدة وكبيرة وواسعة بمثل ما ألقي على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله ) من تعاليم وأدوار أضحت عظيمة وواسعة. 

فالمسجد بعد ذلك احتل الدور الأكبر عوضا عن دار الأرقم.  وقد ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله) الكثير من الأحاديث التي حثت على التعليم والتعلم في المسجد وعظم مكانة المسجد بالنسبة للتعليم وساوت بين أجر التعلم والتعليم في المسجد وأجر الحج وأجر الجهاد في سبيل الله. 

فقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله) قوله:"من غدا إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرا أو يعلمه كان له أجر معتمر تام العمرة. ومن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرا أو ليعلمه وفاه الله أجر حاج تام الحجة"2.

وقوله (صلى الله عليه وآله):"من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا أو لعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له"3.

فليس هنالك تعارض بين المسجد ووظائفه العبادية وبين التعلم والتعليم، وربما أراد الرسول (صلى الله عليه وآله) من خلال تأكيده على التعلم والتعليم في المسجد إظهار مدى الاقتران بين العبادة ومعارف الإنسان المكتسبة في المسجد.  فالتعلم والتعليم لابد وان ينتهي إلى إصلاح ذات الإنسان وبناء نفسه وروحه وجسده بناء سليما موافقا لتعاليم الدين والوجدان البشري وما يتولد عن العقل.

ولم يكن التعليم في المسجد مقتصرا على تعريف الناس بدينهم وأحكامهم وما يستجد من عزائم، كعزيمة الحرب أو السلم، بل كانت تدور في المسجد مستويات عليا من الدروس العلمية والنقاشات الثقافية المختلفة، كما كانت تدور حلقات تعليم وتوجيه تربوي في مختلف الشؤون العامة.

وكان المسجد يُتخذ أحيانا بمثابة موقع للدراسات العليا في الأدب واللغة والمواضيع الثقافية العامة. وقد رأينا أن الأئمة (عليهم السلام) من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) اتخذوا من المساجد منطلقا لتعريف الناس بالتشيع وعلومه المختلفة، كما اتخذوه محلا للمناظرات العلمية وللاتصال بالناس وإدارة شؤونهم. وتخرج على أيديهم الكثير من الأصحاب الذين كتبوا وحفظوا عنهم من خلال اللقاء والحوار معهم في المسجد.

 فالإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) – على سبيل المثال- كان يعظ الناس ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في أعمال الآخرة في كل يوم جمعة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى حُفظ وكُتب عنه. وروى المجلسي عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): أن الإمام الباقر"كان جالسا في المسجد فجلس إليه أبو حنيفة ليسأله عن مسائل"4.

وقد عرف عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه كان يلقي دروسه في حشد كبير من طلبة العلم حيث كان يجلس إليهم في المسجد حتى تخرج من بين صحابته الكبار أبان ابن تغلب الذي وثقه الأمام (عليه السلام) كمدرس أيضا يلتقى الناس ويعرفهم بفكر أهل البيت (عليهم السلام) ومروياتهم فقال الإمام الباقر (عليه السلام) لأبان:"أجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإني أُحب أن يُرى في شيعتي مثلك"5. ثم تطور التعليم في المسجد من الاستماع والنقل كما هو الحال بالنسبة للعلاقة العلمية بين الرسول والناس الذين كانوا يتلقون شريعتهم من الرسول مباشرة - إلى نظام الحلقات الدراسية التعليمية، وهو نظام دعا وأكد عليه الرسول (صلى الله عليه وآله).

فعنه (صلى الله عليه وآله) قال:"بادروا إلى رياض الجنة"، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال:"حِلَق الذِكْر"6.

وكانت هذه الحلقات تدرس شؤونا مختلفة كالتفسير والفقه واللغة والآداب.  فقد روي عن النجاشي أن أبان بن تغلب كان"قارئا من وجوه القراء، فقيها، لغويا، سمع من العرب وحكى عنهم، وكان أبان إذا قدم المدينة تقوضت إليه الحلق"7.

 وكان شيعة أهل البيت (عليهم السلام) يفدون إلى هذه الحلقات وينهلون منها علوم أهل البيت، وقال أبو الفيض للإمام جعفر الصادق (عليه السلام):"كنت أجلس في حلق شيعتكم بالكوفة"8.

واما مسجدا الكوفة والبصرة فقد عرف عنهما الكثير من حلقات التعليم في مجالات مختلفة شهدها المئات من طلاب العلم. فعن الحسن بن علي بن زياد الوشاء قال لابن عيسى القمي:"أني أدركت في هذا المسجد - مسجد الكوفة -  تسعمائة شيخ كلٌ يقول حدثني جعفر بن محمد (عليه السلام)9. 

وأما مسجد البصرة  فقد كان موئلا للمباحثات والمساجلات الكلامية التي نشأت بين جدرانه بعد ذلك."وهكذا قيل في مساجد بغداد كمسجد ابن المبارك، ومسجد المنصور الذي كان"قبلة أنظار الأساتذة والطلاب"، وجامع عمر بن العاص في الفسطاس، وجامع ابن طولون والأزهر الشريف في مصر.  أما جامع قرطبة فكان بحق جامعة من الجامعات الإسلامية العالية"10.

وقد دل اهتمام المسلمين بالمسجد في شؤون شريعتهم وعلومهم على أن المسجد كان بحق مركزا تدور حول رحاه حركة المسلمين.  وبما أن المسجد نفسه كان جامعا لكل الشؤون العامة والتعليمية منها على وجه الخصوص ؛ فقد كان أيضا محلا للتراكم العلمي الفكري الناتج عن المجريات اليومية التي تبحث في أوساط المسلمين وتناقش. 

(2) نقلة الدور والمساجد

وبتعاقب الزمن وتعرف الناس على الإسلام بشكل متدرج انسجاما مع نزول الوحي المعالج للقضايا وفق زمن حدوثها، ازدادت حصيلة المساجد من العلوم والأفكار والألفاظ المستجدة التي تفوه بها النبي (صلى الله عليه وآله) وتميز بها الدين الجديد، ما جعل المسجد جامعا وجامعة لكل متعلق بشؤون الحياة اليومية للمسلمين.

وكانت الشورى التي اعتمدها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مناقشة ودراسة الأمور في المسجد قبيل اتخاذ شأن أو قرار فيها ؛ قد أظهرت للمسلمين أيضا بعدا جديدا ووسيلة لإنماء الفكر.  من هنا بدأت المساجلات والحوار في شؤون مختلفة ومتنوعة في المسجد.  لكن المسجد نفسه لم يكن بديلا كاملا عن المنازل والبيوت بعد عهد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله). وتكمن الأسباب في وجود خصوصيات أبرزتها عوامل عدة ربما كانت الأسباب السياسية والأمنية وانقسام المسلمين إلى شطرين بعد وفاة الرسول (صلى الله علية وآله) وما تبع ذلك من مشاحنات وصراع حول شرعية الخلافة والإمامة، هي إحدى دواعي العودة إلى البيوت للدراسة.  لكن اعتماد الرسول (صلى الله عليه وآله) في بداية دعوته لدار الأرقم محلا للتعليم والتثقيف والبناء الفكري والإخبار عن مستجدات الوحي ؛ كان مثالا بارزا على أهمية المنازل والبيوت في تلقين العلم وتعلمه، ما جعل المسلمين يمارسون دور التربية والرعاية التعليمية من خلال البيوت برغم تحول الرسول بعد ذلك إلى تنمية دور المسجد. 

وتميز أتباع اتجاه التشيع على غيرهم بوضع أهمية خاصة للبيوت كمحل للتعلم والتعليم، بحكم كونهم مستهدفين من قبل الحكومات المتعاقبة، لكنهم لم يجعلوا البيوت بديلا عن المساجد.  ففي البيوت كانوا يمارسون دور التربية والتعليم فيما يخص مذهبهم وفيما كان محظورا تداوله من فكر وعلوم مختصة بأهل البيت (عليهم السلام) من قبل الدول المتعاقبة، وفي نفس الوقت كانت المساجد بالنسبة لهم كما كانت للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، يتصلون من خلالها بعامة الناس ويتحاورون فيها فيما يتعلق بشأن الخلافة والإمامة وغيرهما. 

وسميت اللقاءات التعليمية في البيوت والمنازل بـ(المجالس)، حيث كان لفظ المجلس يطلق على مكان أو جزء محدد من البيت ربما كان منعزلا عن بقية أجزاء المنزل تعقد فيه الدروس، كما كان يطلق لفظ الجلسة على حلقة الدرس أيضا.  وتذكر الكثير من مصادر ومؤلفات الشيعة القديمة على وجه الخصوص هذا اللفظ حين يعقد المجلس بحضور إمام من أهل البيت (عليهم السلام) أو بحضور جمع من صحابة الأئمة (عليهم السلام).

فقد ذكر المفيد في فصوله أن بعض صحابة الإمام الصادق (عليه السلام)، كانوا يحضرون في مجلسه لكسب معارف أهل البيت (عليهم السلام)11.

ويشير زرارة ابن أعين إلى العلاقة العلمية الخاصة بينه وبين الإمام الباقر (عليه السلام)، حيث كان الإمام يمتلك من العلوم ما لا يوجد مثيل لها بين عامة الناس، أو ما يعد من خصوصيات أهل البيت من العلوم. وأما أبو بصير فهو يقول: دخلت على أبى عبد الله (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك أني أسألك عن مسألة، هاهنا أحد يسمع كلامي؟ قال: فرفع أبو عبد الله (عليه السلام) سترا بينه وبين بيت آخر فأطلع فيه ثم قال: يا أبا محمد سل عما بدا لك، قال: قلت: جعلت فداك أن شيعتك يتحدثون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علم عليا (عليه السلام) بابا يفتح له منه ألف باب..."12.

واشتهر بعض كبار علماء اتجاه التشيع، كمحمد بن عمران (ت384هـ)، بجعل بيوتهم محلا لتعليم وتعلم العلوم، وكان أشياخه يحضرون في داره فيسمعهم ويسمع منهم.

واما دار محمد بن مسعود العياشي الذي اشتهر بكتبه التي تزيد على 200 مصنف، فهي من الدور المهمة عند شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث"كانت كالمسجد بين ناسخ أو مقابل أو قار أو معلق، مملوة من الناس، وصنف كتبا في أصناف العلوم وكان في أول أمره عامي المذهب ثم استبصر"13.

وعرف الكثير ممن برز واشتهر من علماء الشيعة، من بينهم: حيدر بن محمد السمرقند، الذي روى ألف كتاب من كتب الشيعة بقراءة وإجازة"14. كما اشتهرت مجالس الشريف المرتضى التي كانت حصيلتها تأليف كتاب"الدرر والغرر"و"الأمالي"وهي مجالس أملاها... تكلم فيها عن النحو واللغة والتفسير و الحديث وغير ذلك.15

وبرغم تحول وظيفة التعليم في الكثير من أحواله إلى المنازل والدور إلا أن المسجد ظل محتلا للمركز الأول من حيث تنوع العلوم وعدد الحضور في أروقته وزواياه. وذكر خلال عهد الدولة الأموية أن أكثر حكوماتها المتعاقبة اعتبرت المسجد مركزها الأول الذي تلتقي فيه الكثير من الفعاليات العلمية الرسمية والشعبية، بينما وضع أتباع أهل البيت (عليهم السلام) اهتماما خاصا للمجالس والحلقات في الدور إضافة إلى المسجد.  وكان ذلك من أهم العوامل التي وفرت لتراث أهل البيت (عليهم السلام) الحماية والوقاية في مقابل ألوان متعددة من الوضع في الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله). ففي الدور كانت تجري عملية تدوين وحفظ وتدوير وتصنيف كبيرة لروايات أهل البيت (عليهم السلام)، ومن خلالها تلقى اتجاه التشيع مناهجه في العلوم المختلفة.

(3) انفصال المدرسة عن الدور

تطورت الدروس في المساجد وتنوعت واتسعت في آفاقها العلمية.  ولم تعد مهمة التدريس ووظيفة تدوير العلوم مقتصرة على الصحابة من الرجال والنساء الأولين بصفتهم مدرسين وطلاب فحسب، بل الأمر تعدى إلى الجيل الجديد الذي تربى في أحضان جيل الوحي، وهو جيل فرض نفسه بقوة على مراحل البناء النفسي والروحي التي وضعت أسسها بشكل أكثر وضوحا في المدينة المنورة خلال مراحل الاستقرار التي أعقبت فتح مكة المكرمة. 

وبعدما وصلت عملية تبادل العلم ونقل نصوص السنة إلى مستوى من الكمال بين مرحلة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والمراحل التي تلت وفاته بالتلازم مع وظيفة تعليم الكبار القراءة والكتابة وتحميلهم تعاليم الوحي التي لامست العلاقة مع كل شرائح المجتمع بمن فيهم الأطفال والصبيان ؛ ظهر أمر مستجد فرض نفسه بقوة على المسلمين وكان لزاما عليهم الاستجابة له ؛ تمثل في وظيفة استيعاب جيل الأطفال والصبيان المرافقين للصحابة إلى المساجد. 

كل ذلك تطلب عقد أماكن خاصة تجمع الأطفال والصبيان تحت إشراف عدد من المهتمين بالشأن التعليمي كمربين ومدرسين.  يضاف إلى ذلك"إن جملة من المعلمين كانوا بالإضافة إلى انشغالهم بالتعليم يمارسون بعض الأعمال الحرفية والمحدودة، وحيث لم يفلحوا في تأمين مورد مناسب، لم يكن أمامهم إلا اتخاذ المدارس وسيلة تكسب، وهو رأي (فون كريمر) von kremer، حيث جاء فيه:"... وتبعا لرأي (von kremer) كان هناك جماعة شغلوا بالتعليم معظم وقتهم وحاولوا أن يرتزقوا من طريق حرف بسيطة كانوا يقومون بها مع التدريس، لكنهم فشلوا في الحصول على مستوى مناسب من العيش، فلم يكن من بد – حينئذ- من إنشاء المدارس لتضمن لهم جرايات تقوم بحاجتهم"16. 

وبهذا المستوى من النمو في حلقات الدرس والتوسع في الأفق التعليمي عند المسلمين واضطرار بعضهم لاستخدام الدور والاستمرار في تبادل العلم من خلالها، سواء للصغار أو الكبار ؛ تطور عن ذلك  ما عرف بعد ذلك بالمدارس الدينية التي أنشئت في أماكن مستقلة قريبة من المساجد أو قريبة من بعض أضرحة وقبور علماء المذاهب أو الفقهاء أو الأولياء  الصالحين بعد ذلك. "ففي سمرقند كانت هناك مدرسة بجانب القبر المنسوب إلى قثم بن العباس ابن عم النبي (صلى الله عليه وآله). وإما قبر الفقيه الحنفي أبى حفص الكبير المتوفى في سنة (217هـ/832م ) مُدخل المذهب إلى بخارى وتلميذ ابن الحسن الشيباني، فقد تحول إلى مدرسة منذ القرن الرابع الهجري ودرس فيها عدد من أعضاء أسرته الفقه الحنفي، وإما قبر الفقيه الشافعي القفال الشاشي بطشقند فقد بنيت بلصقه مدرسة ما تزال موجودة إلى اليوم، فهي المقر للمفتي هناك.  وفي بغداد أقيمت مدرسة على قبر أبى حنيفة سنة (457هـ/1065م).  وفي القاهرة أقيمت مدرسة على قبر الشافعي سنة (575هـ /1179م)"17. 

من هنا كان قرار الشيخ أبى جعفر محمد بن الحسن الطوسي في سنة (449هـ/1056م)  جاء تعقيبا على إحراق السلاجقة كتبه وداره وكرسيا يرتقيه أثناء الدرس في بغداد، إذ لجأ إلى مدينة النجف الأشرف في العراق ليجاور مرقد علي بن أبى طالب (عليه السلام) و"لينشئ هناك ما عرف بالحوزة العلمية"18. 

ويختلف المؤرخون والباحثون حول أول نشوء لأول مدرسة دينية وتاريخه والأسباب الرئيسية وراء هذا النشء الجديد.  وكان أول نشوء لهذه المدارس قد عرف بين القرنين الرابع أو الخامس الهجريين، لكن المرجح أن أهل نيسابور وبخارى كانوا أول من أنشأ المدارس في النصف الأول من القرن الرابع الهجري.  وكان من بينها "مدرسة ابن فورك المتوفى سنة (1014م)، والمدرسة البيهقية والمدرسة السعدية التي بناها (نصر بن سبكتكين) أخو السلطان (محمود غزنوي) دون أن ننسى مدارس بخارى التي أنشئت في الفترة نفسها التي أنشئت فيها مدارس نيسابور"19.

وقد سجلت بعض مصادر اتجاه التشيع أن المدارس كانت متواجدة خلال حياة الشريف المرتضى (436هـ)"حيث اتخذ دارا سماها دار العلم وفتحها لطلبة العلم وعين لهم جميع ما يحتاجون إليه"20، ويذكر شمس الدين ابن خلكان (1211-1281هـ) خلال حديثه عن حياة الشريف المرتضى ومكانته العلمية عند أتباع اتجاهي التشيع والخلافة، أن ابن بسام الأندلسي ذكر في أواخر كتاب"الذخيرة": "كان هذا الشريف إمام أئمة العراق بين الاختلاف والاتفاق، إليه نزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها وجامع شاردها وانسها، ممن سارت أخباره، وعرفت أشعاره، وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره، إلى تواليفه في الدين وتصانيفه في أحكام المسلمين.."21

ويشار أيضا إلى"المدرسة النظامية"التي أقامها الوزير نظام الملك في بغداد سنة (459هـ-1067م) كأول مدرسة أقيمت في التاريخ الإسلامي ولها نظامها ومنهجها الخاص في التدريس ولها مواردها المالية الثابتة تصرف على طلابها ومدرسيها ومساكنهم، كما أشار إلى ذلك ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان". ويذهب بعض الباحثين إلى القول بأن عضد الدولة البويهي (369هـ- 980م) كان أول من أسس مدرسة في العراق سميت بـ (العضدية) خلال فترة زيارته لكربلاء المقدسة ولم يعد لها اثر اليوم بعد أن دمرت في عام (1935م)، إضافة إلى مدرسة أخرى بناها عضد الدولة بالقرب من مقبرة آل بويه بعد عامين من إنشاء أول مدرسة في كربلاء، وقد أزيلت في عام (1948م).  وذكر (ابن الكازروني) المتوفى في سنة (697هـ) في مؤلفه (مختصر التاريخ) أن الخليفة العباسي"المعتضد بالله"قد أسس في القرن الثالث الهجري (369هـ) ما يشبه الجامعة ليستكمل بها (دار الحكمة) التي أسسها الرشيد. 

ويبدو أن المدارس حينذاك كانت على مستويين علميين أو أكثر.  فلا تعني المدارس ما كان يحضره الولدان الصغار للتعلم أو ما كان يطلق عليه بعد ذلك لفظ (الكتاتيب) فحسب - وهو نظام تعليمي كان معروفا قبيل الإسلام وبعده وذكر أيضا على عهد معاوية من خلال رسالته التي وجهها لعماله يحثهم فيها على مناهضة أهل البيت (عليهم السلام)- ؛ بل أنها تختص أيضا بالأماكن التي كان يجتمع فيها كبار علماء المذاهب المختلفة بين حلقات تتحاور في مجالات علمية مختلفة. 

وتصنف مدارس العلماء وكبار رجال المسلمين إلى مستوى جامعي عالي تخرج عنه الكثير من رجال الفكر والعلم حيث اتسمت هذه المدارس بتطور ظاهر في دراسة علوم القران الكريم، واللغة وآدابها، وعلم الكلام الذي نما خلال هذه الفترة العلمية.  وحيث كانت هذه العلوم تتطلب أحوالا خاصة من النقاش والجدال في الأدلة والبراهين والحجج، وعلى فترات طويلة من الزمن، وهي أحوال ربما كانت مقتصرة على طبقة محددة وواسعة من العلماء الكبار المتخصصين في هذه العلوم دون عامة الناس ؛ كان من الأجدى والأحسن الانتقال من المساجد إلى حيث المدارس والمواقع الخاصة. بينما كان انتقال دروس الصبيان إلى مدارس أو كتاتيب خاصة بدلا عن باحات المساجد وزواياها وأروقتها مقبولا خضوعا عند ما كان يتصف به الصبيان من عدم إدراك أهمية رعاية حرمة المساجد وقدسيتها. وقد عرف عن  الإمام الصادق (عليه السلام) تأكيده على اجتناب جعل المساجد أماكن للصبيان، حيث قال:"جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، ورفع أصواتكم وشراءكم وبيعكم والضالة والحدود والأحكام."22

وكانت الكتاتيب قد لعبت دورا مهما في استيعاب الصبيان، وهم الجيل الجديد بعد الأجيال التي عايشت تبلور الشريعة في أيامها الأولى.  وبذلك تحولت هذه الكتاتيب بحكم استيعابها للأطفال إلى المدرسة التعليمية الأولى التي استوجبت رعاية كبيرة خاصة.  لكن هذه الكتاتيب تعددت في اتجاهاتها بحكم التعدد المذهبي الجديد الذي ظهر بعد ذلك بين المسلمين، ولكنها من حيث المنهج لم تكن تختلف كثيرا. فأصل الكتاتيب بدأ بتدريس وحفظ القرآن الكريم واللغة التي شملت الكتابة والقراءة كمواد أساسية، واستمرت على هذا المنوال إلى أن تقرر إضافة مبادئ الحساب إليها.

وقد عرف عن الأئمة (عليهم السلام) أنهم أوكلوا مؤدبين لتعليم بعض أولادهم، كما هو الحال بالنسبة للإمام جعفر الصادق (عليه السلام). كما اتبع الكثير من شيعتهم نفس النهج في تعليم وتربية أولاهم. لكن الكتاتيب التي ينتسب إليها الشيعة تعرضت إلى مضايقات من قبل الدول المتعاقبة في إطار الحملات العنيفة التي طالت اتجاه التشيع ومؤسساته العلمية، بينما نمت وترعرعت كتاتيب المذاهب الأربعة تحت إشراف ما كان يطلق عليه لفظ (المؤدب)، وهو المدرس المحترف والمختص بتدريس مواد الكتاتيب.

كانت المادة العلمية واضحة المعالم ومتقاربة جدا في الوسط التعليمي الديني بين الكتاتيب وغيرها من حلقات العلم المتقدمة، لذلك كانت المدارس الدينية متشابهة من حيث مادتها في علوم القرآن والحديث والفقه والسيرة وغالبية علوم الآلة كاللغة العربية والأدب.  واستمرت المدارس في نشاطها التعليمي منذ نشأتها في القرن الثاني الهجري إلى أن تبلورت في هيئتها المعاصرة ونمت إلى مستوى الجامعة. 

ويسجل التاريخ لنا مئات المدارس والمعاهد في أرجاء البلاد الإسلامية كافة، لكن أشهرها منذ نهاية القرن الثالث الهجري كانت: دار العلم في بغداد (381هـ) ودار الحكمة (395هـ) ودار العلم ودار الكتب في مصر، وبيت الكتب للصاحب بن عباد (385هـ) بالري، ودار الكتب لابن سوار في رامهرمز، والنظامية في بغداد (459هـ) ومدرسة أبي حنيفة (459هـ) ومدارس النجف (448هـ)، والمدارس الشرابية في بغداد (629هـ) ومدرسة واسط (632هـ)، والمدرسة المستنصرية (630هـ)، ومدارس مكة الكرمة (641هـ)، والمدرسة المرجانية (758هـ). ومدارس الكاظمية والحلة (608هـ)، ومدارس قرطبة، ومدرستا القبة والمرصد بمراغة (656هـ)، ومدارس القسطنطينية، والمدرسة المربعة في سمرقند (853هـ)، ومدرسة الرنيق العثمانية (800 هـ)، وبيت العلم (1308هـ)  في الهند.

..........................................

2- الشيخ زين الدين العاملي. منية المريد في آداب المفيد والمستفيد. ص 106

3- علي البهادلي. الحوزة العلمية في النجف الأشرف ص24. عن تاريخ التربية الإسلامية. شلبي. ص68

4- المجلسي. بحار الأنوار. ج46. انظر  (الفصول المختارة)  للمفيد. ص43.

5- النجاشي. الرجال. ص10.

6 -القمي. من لا يحضره الفقيه،  ج4. ص272

7- النجاشي. الرجال. ص10-11

8- المصدر السابق. ص10-11

9- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية م1. ص33

10- الحوزة العلمية في النجف. ص26

11- انظر (المفيد. الفصول المختارة ). ص31

12- الكليني. الكافي ج2 ص 294.

13- الطوسي. الفهرست. ص136-137.

14- المصدر السابق. ص 64

15- انظر"أمالي السيد المرتضي".

16- الحوزة العلمية في النجف. ص28. عن تاريخ التربية الإسلامية،  احمد شلبي.م ص113

17 - أصول المدرسة في الإسلام. مجلة الفكر العربي ع 20 آذار.1981

18- علي البهادلي النجف. جامعتها ودورها القيادي. ص114.

19 - الحوزة العلمية في النجف. ص33

20 - نفس المصدر السابق. ص32

21 - وفيات الأعيان. ج3. ص 313-314.

22- من لا يحضره الفقيه. ج. 1. ص 222

راجع القسم:

الاول:

الثالث:  

الرابع:

شبكة النبأ المعلوماتية- االخميس 3 آيار/2007 -14/ربيع الثاني/1428