البيولسانيات والكفاءة الإنسانية*

ترجمة: مولدي اليحياوي**                                                                                       نوام تشومسكي

أوّد أن أقول كلمة بشأن ما أصبح يسمّى "منظور البيولسانيات" التي أصبحت متداولة [بكثرة] منذ نصف القرن الماضي ضمن نقاشات الطلبة عاليّ المستويات المتأثرين بتطور علوم البيولوجيا والرياضيات في فترة ما بعد الحرب، ومن هذه العلوم أيضا الايثيولوجيا التي لم تًعرف في الولايات المتحدة إلاّ آنذاك.

إيريك لينبرغ Eric Lenneberg واحد من هؤلاء الذي ظلت رسالة بحثه1967 بعنوان الأسس البيولوجية للغة وثيقة أساسية في هذا الميدان، ومنذ ذاك الحين تتالى تبادل معتبر بين رسائل البحث    والمحاضرات الدولية، ففي 1974 وقع التوصّل إلى نتائج أكثر مما كان متوقعا سميّت أوّل ما سميّت "بيولسانيات" وقد ظلت أغلب الأسئلة الرئيسية محلّ المناقشة حاضرة بقوة حتى يومنا هذا.

    من بين الأسئلة التي وقع الاهتمام بها دائما "سؤال رئيسي يتعلق بوجهة النظر البيولوجية" وهو إلى أي مدى تًعدّ المبادئ الظاهرة للغة من بينها تلك التي لم يسلّط عليها الضوء الإحديثا-[تعدّ] فريدة بالنسبة إلى الجهاز الإدراكي. سؤال آخر أكثر أهمية من وجهة نظر بيولوجية كم من اللغة يمكن إعطاؤها تفسيرا أساسيا وهل يمكن أن نجد العناصر [اللغوية] المتقابلة عند كائنات أخرى أوفي مجالات مختلفة أم لا.  

وفي سنوات ليست بالبعيدة، سُمّي الجهد الذي يدعم هذه الأسئلة بالنسبة إلى اللغة"البرنامج الأدني"، إلاّ أنّ الأسئلة تًطرح بالنسبة إلى كافة الأنظمة البيولوجية وهي بعيدة عن التنظير في اللسانيات كما هو الحال في المجالات الأخرى. إنّ إجابات هذه الأسئلة ليست فقط أساسية لفهم طبيعة الأعضاء ووظيفتها والأنظمة المنضوية تحتها، بل أيضا للاستفادة من نموّها وتطورها.

إنّ المنظور البيولساني يرى أنّ لغة شخص ما في كل جوانبها: الصوت والمعنى والتركيب – حالة [شبيهة] بحالة بعض مكونات العقل، إنّ فهم "العقل" في تطور علماء القرن 18 الذين توصلوا – بعد هدم نيوطن فلسفة الميكانيكا المؤسَّسة على مبدآ حدس العالم المادي – [توصلوا] إلى أنّه لم يبق أيّ جدال في ارتباط العقل بالجسد ولا يمكننا سوى رؤية جوانب من العالم "مسّماة ذهنية" كنتيجة "للبنية العضوية كتلك التي للدماغ " كما يرى الفلسفي- الكيميائي جوزيف بريستليJoseph Priestley.       ولاحظ دايفيد هيوم David Hume  أنّ التفكير "اضطراب طفيف في الدماغ " وبعد قرن علّق دارون Darwin أنّه ما من سبب لاعتبار التفكير" بما هو إفراز من الدماغ " " أكثر إثارة للاستغراب من [قانون الجاذبية] وهي خاصة الأشياء".

 ومنذ ذلك الحين أصبح التصور المعتدل الذي طرحه نيوطن Newton لأهداف العالم عقلانيا وعلميا: إنّ الاستنتاج المتأتّى لنيوطن Newton [قائم ]على ضرورة اقتناعنا بوجود الجاذبية الكونية على الرغم من استعصاء شرحها وفق ضوابط "فلسفة الميكانيكا" الواضحة في حدّ ذاتها.

وكما لاحظ عديد النقاد [أنّ] هذه الحركة الفكرية " عرضت رؤية جديدة للعلم " ليست الغاية فيها البحث عن تغييرات نهائيّة"، بل البلوغ المستوى النظري الأرقى الذي نقدر عليه لظواهر التجربة والاختيار (آي، برنارد كوهين I.Bernard Cohen).

وتظّل المسائل الرئيسية في مجال دراسة العقل تًطرح في أغلبها بنفس الكيفية وظهرت بصورة ملحوظة بنهاية "عقد العقل" وأًغلقت معها الألفية الفارطة. وقد أصدرت الأكاديمية الأمريكية للآداب  والعلوم مجلّدا لِتبيان [هذه المسألة] ملّخصا الحالة الرّاهنة للأدب. وقد صاغ عالم الأعصاب فرنان مونتاكاسلVernon Montacastle  الموضوع الموجَّه في تقديمه للمجلّد – الأطروحة التالية " الأشياء الذهنية  وخاصةً الأدمغة [هي] خاصيات منبثِقة عن العقل، بالرّغم من [أنّ هذه] التجليات لا ينظر إليها عن كونها قابلة للحصر بل ناتجة عن أسس لم نستطع فهمها إلى الآن". نفس هذه الأطروحة تتطابق إلى حدّ بعيد مع أطروحة بريستلي Priestly التي وُضِعت في الاعتبار في سنوات ما ضيةكـ "فرضية مدهشة" للبيولوجيا الحديثة [وكـ] فكرة جوهرية جديدة في "فلسفة العقل"، [هذه الفلسفة] تؤكد بوضوح على أنّ الظواهر الذهنية هي بالأساس طبيعيّة وناتجة عن أنشطة الدماغ الفيزيولوجية العصبية وما إلى ذلك، غير أنّ هذا [يعدّ] سوء فهم لها.وكما أُدرك فيما بعد،  فإنّ هذه الأطروحة تعقب انعدام أيّ مفهوم جليّ للجسم أولـ"لمادي"في القرن السابع عشر. بوضع المفاهيم جانبا، تظلّ هذه الأطروحة الأساسية تطرح ما كان قد سُمّي اقتراح لوك Lock وهوأنّ الله قد اختار أنّ يكرم [الإنسان] بملكة التفكير " تماما كما " ألحق التأثيرات بالحركة التي لا يُمكن بأي حال إدراك أنّها قادرة على الفعل ".

        يشير مونتكاسل Montcastle  إلى المبادئ الاختزالية بـ"أنّنا لم ندرك بعد" وتطرح هذه الإشارة بعض الأسئلة المهمّة كما تشرح النظرة إلى تاريخ العلوم بما في ذلك العلوم الصّحيحة. هذه الإشارة تذكّرنا بأفكار برتراند رسّل Bertrand Russel في 1929 وهي تعكس اعتقادات ثابتة بأنّ "قوانين الكيمياء لا يمكن في الحاضر أنّ تُختزل في قوانين الفيزياء." إنّ عبارة في "الحاضر" مثل كلمة"بعد" لدى مونتكاسل تعبّر عن توقع أنّ الاختزال يجب أنّ يأخذ مكانة في المسلك الطبيعي للتطور العلمي       وربما قريبا،  ذلك لم يحدث أبدا في حالة الفيزياء والكيمياء , ما حدث هوتوحيد كيمياء ثابتة جوهريا بفيزياء مراجَعة جذريا ومن الضروري أن نضيف أنّ مرحلة الفهم والانجاز في هذين المجالين – ثمانون عاما خلَت – كانت  أبعد من أي شيء يُطلب من العقل ومن علوم الإدراك، وبذلك يكون الاتكال على "الاختزال" في مفهومه الضّيّق غير مناسب تماما.

      من خلال ترابط الظواهر حيث يُمكن للبعض أن يعتبر اللغة مترابطة إلى حدّ بعيد، تركّز المقاربة البيولسانية الاهتمام على عامل بيولوجيا الإنسان التي تدخل ضمن استعمال اللغة واكتسابها،  لكن البعض يفسّر كلمة "لغة"  مسّميا إياها "ملكة اللغة"  موفّقا [بذلك] بين كلمة تقليدية واستعمال حديث. هذا العامل هوأكثر أوأقل مساواة مع نظام إبصار الثدييات والعوْم لدى الحشرات أوغيرها. وفي أغلب هذه الحالات، تُنسب النظريات التفسيرية الأكثر إتاحة [إلينا] إلى أجهزة التخمين في الجسم       [وهو] ما يسّمى "باتباع القاعدة في الاستعمال العامّ" وحين يُطرح على سبيل المثال نصّ حديث حول الإبصار ما يسمّى "مبدأ التوتر" كما طُرح منذ خمسين عاما: لويُمكن وسمحت لنا بذلك قواعد أخرى، تفسير صورة الحركات كانعكاسات لحركات متوترة في أبعاد ثلاثة." وفي هذه الحال وفّر عمل لاحق إدراكا جوهريا [في مسألة]، التقديرات الفكرية التي يبدوأنّها مشارِكة عندما يتبع النظام البصري هذه القواعد ولكن حتى بالنسبة إلى الأجسام الصغيرة يُعدّ كلّ ذلك عملا نموذجيا يستخف به وربْط [هذه] التقديرات الفكرية بتحاليلَ في مستوى الخلية هو عموما الهدف الأقصى. وتحفّظ بعض الفلاسفة على مفهوم "اتّباع القاعدة" وهي نظرة نادرة للغة، وأعتقد أنّ هذا سوء فهم آخر، [وهو] واحد من كُثر في نظري. وإنّه لمن الأهميّة بمكان أن نقارن الشّكوك المعبّر عنها اليوم بالنسبة إلى نظريات اللغة وأكثر جوانب العالم عموميّة "المسمّاة ذهنية" [نقارنها] بالنقاشات بين العلماء الروّاد في العشرينات إن كانت الكيمياء جهازا حسابيّا بسيط التجارب أم يستحق منزلة شرفية لحساب "الحقيقة الفيزيائية" وفُهمت النقاشات فيما بعد على أنّها حقيقة كليا. لقد كانت التّشابهات التي ناقشتُها في مؤلَّف آخر مدهشة وأعتقد أنّها بنّاءة.

       لنضع هذه المواضيع المهمّة جانبا، لو نتبنّى المنظور البيولساني، إنّ لغة ما إنّما هي حالة ملكة اللغة – لغة І في الاستعمال التقني حيث يثبت حرف І أنّ التصور داخلي Internalist، فردي Individual، وحادّ Intensional – يعني التشكيل الفعلي لمبادئ التوليد وليس الجهاز الذي يحصيها، يمكن أن نفكر في المذكور أخيرا كخاصية أكثر تجريد للغة І، بالأحرى كما نفكر في نظام المسارات الممكنة لمذنّب  داخل النظام الشمسي كخاصية مجردّة لذاك النظام.

 اعتبر عدة لسانين كذلك القرار بدراسة اللغة كجزء من العالم بهذا المعنى جدليا إلى حدّ بعيد في ذلك الوقت إلى اليوم. ويبدولي أنّ الحجج المطروحة ضد مشروعية المقاربة داحضة – أطروحة ضعيفة وادعاءاتها الرئيسية متبناة ضمنيا حتى من أولائك الذين يرفضونها بعنف وهي أطروحة أكثر تماسكا، سوف لن أخوض في فصل التاريخ الفكري الحديث هذا هنا، بل سأفترض فقط أنّ الجوانب القاطعة [الثابتة] للغة يمكن دراستها كجزء من العالم الطبيعي في سياق المقاربة البيولسانية التي تشكلت منذ نصف قرن وأُتّبعت باطراد منذ ذاك الحين عبر الطرق المختلفة.

     إنّ ملكة اللغة عنصر ممّا سمّاه مؤسس النظرية التطورية الحديثة الفريد رسّل والاّصAlfred Russel Wallace  "الطبيعة الأخلاقية والفكرية للإنسان ": القدرات الإنسانية في الخيال المبدِع، اللغة وأساليب الترميز الأخرى، والرياضيات، تفسير وتسجيل الظواهر الطبيعية، الممارسات الاجتماعية الغامضة وما شابه، تعقُّدُ القدرات التي يبدوأنّها تبلورت باعتدال حديثا وربما لأكثرَ من خمسين ألف سنة بقليل مضت سلالة صغيرة انحدرنا منها. تعقّدٌ جعل البشر يبتعدون عن الحيوانات الأخرى متضمّنا [هوميندز]  آخرين ومحكوما بالسّجل الأحفوري. إنّ طبيعة " القدرة الإنسانية" كما يسميها بعض الباحثين اليوم تظلّ غامضة غموضا معتبرا وهي عنصر من خلاف شهير بين مؤسسيْ نظرية التطور. إنّ موقف والاّص نقيض [موقف] دارون.

 إنّ تطور هذه الملكات لا يمكن عدّها في شكل اختلاف وانتقاء  طبيعي فقط، بل  تتطلب "تأثيرا آخر، قانونا أووسيلة "، [ تتطلب] بعض مبادئ الطبيعة حول الجاذبية، الالتحام، وبعض القوى الأخرى التي من دونها لا يمكن أن يوجَد العالم المادي.  وبالرغم من أنّ [هذه] المسائل شُكّلت اليوم بطريقة مختلفة غير أنّها لم تتلاش.

      يُفترض أنّه في الغالب أيّا تكن القدرة الفكرية الإنسانية، فإنّ ملكة اللغة تُعدّ ضرورية لها. ويتفق كثير من العلماء مع عالم إناسة العصر الحجري آين تاترسال Ian Tatersall الذي أورد أنّه " جدّ متأكد  من أنّ اكتشاف اللغة " كان حدثا " فجئيا وطارئا" وهو ما عُدّ " الدافع المطلق" لظهور القدرة الإنسانية في السجل التطوري- القفزة العظمى إلى الأمام كما سمّاها جارد دايموند Jared Diamond وقد أنارت نتيجة الأحداث الجينيّة الفكرَ سامحةَ لأصل اللغة الإنسانية باعتماد النحو الثري الذي وفّر صيغ التعبير العديدة للفكر شريطة [حصول] التطور الاجتماعي والتغييرات الحادّة في السلوك التي أُعلِنت في السجل الأحفوري، وهو ما أُعتُبر بداية الرحيل السريع من إفريقيا حيث وعلى عكس ذلك يبدو أنّ الإنسان الحديث وجد منذ مئات الألوف من السنين. إنّ هذه النظرة تبدو مشابهة لنظرة أتباع ديكارت ولكنّها أكثر صلابة، فهُم ينظرون إلى الاستعمال العادي للغة على أنّه الدليل التجريبي الأكثر وضوحا وبأنْ لا مخلوق آخر له فكر كفكرنا.

     إذا كان لهذه الصورة العامة  بعض من الصحة، فمن الممكن أن يكون تطور اللغة مسألة موجَزة للغاية بالرغم من أنّها نتاج حديث للتطور، طبعا هناك بشائر لا محدودة ولها تاريخ تطوري بلاّ شكّ. تمثل عظام الأذن الوسطى مثلا جهاز تضخيم صوتي مدهش، موجّه لتحليل الكلام بشكل عجيب لكن يبدو أنها [العظام ] تطورت من فكّ الزواحف كنتيجة آلية لنمّو اللحاء الحديث للرأس عند الثدييات الذي بدأ منذ مائة وستين مليون سنة مضت، كما سُجّل. بإيجاز، نحن لا نعرف الكثير عن الأنظمة الإدراكية، ولكن من المنطقيّ أنْ نفترض أنّ للعظام أيضا تاريخا طويلا بعد فصل [الهومينيدز] نتيجةُ حصيلةٍ ليس لها نظير قريب في مكان آخر. ولكنّ إشكالية تطور اللغة في حدّ ذاتها لها علاقة بكيفيّة تنظيم هذه الطّلائع المختلفة داخل ملكة اللغة، ربمّا من خلال بعض الأحداث الجينيّة الطفيفة التي أعطت إبداعات مهمة جدّا وتؤثر التأملات في نوعيّة البحوث في اللغة التي من الممكن أن تكون منتِجة.

     يعتبر تاترسال " أنّ اللغة في جوهرها مترادفة مع التفكير الرمزي " ولاحظ السّير فرنسوا جاكوب François Jacob " أنّ دور اللغة كنظام تواصل بين الأفراد حصل في مرحلة ثانوية " مبلورا بذلك واحدة من افتتاحيات مؤتمر 1974، وربما مشيرا إلى النقاشات الحاصلة في مؤتمر 1974، حيث كان مناصره السّير لوريات سلفادور لوريا Laureate Salvador Luria واحدا من أقوى المدافعين عن الرأي بأنّ حاجيات التواصل لن توفّر " أي ضغط انتخابي كبير لإنتاج نظام مثل اللغة" في علاقتها"تطور الفكر المجردّ أوالمنتِج " " لا تكمن صفة اللغة التي تجعلها فريدة في دورها في الإشارات التواصليّة للحركة فقط" أوسمات مشتركة أخرى للتواصل الحيواني، كما يضيف جاكوب، بل بالأحرى " [إنّ] دورها في الترميز، في استحضار صور إدراكيّة، في تشكيل مفهومنا الحقيقي وإنتاج قدرتنا على التفكير والبرمجة من خلال خاصّيتها  المنفردة في السماح " بتوليفات لا نهائية للرّموز"   وبذلك" إبداع فكري لعوالمَ ممكنة " [هذه] أفكار تعود إلى الثورة الفكرية في القرن السابع عشر.

      أكّد جاكوب أيضا أنّ الفهم المًتفّق عليه  بأنّ الأجوبة عن الأسئلة المتعلقة بالتطوّر " في أغلب الأحيان....يُمكن أن تكون أكثر من مجرّد تخمينات منطقية "، وفي أغلب الأحيان يُعدّ حتى ذلك صعبا، مثال ربما يُعدّ ها هنا مهمّا هو دراسة تطور نظام التواصل [عند] النحل، فمن حيث المبدأ [ هو نظام ] غير عادي، يسمح بنقل المعلومات عبر صفٍّ متواصلٍ، يوجد مئات من الأصناف من العسل     ومن النحل اللاسع، بعضها لها أنظمةُ تواصلٍ مختلفةٍ والأخرى لا، رغم أنّها تبدو جميعا بشكل جيّدٍ. إذَن توجد فرصٌ كثيرة للعمل المقارن. تُعدّ دراسة النحل أسهل من دراسة الإنسان بلا مقارنة في جميع المجالات. ولكن التحليل يُعدّ مفهوما. إنّ المراجعة الحديثة الأكثر شمولية التي اطلعت عليها لعالم الحشرات فراد داير Fred Deyer تشير إلى أنّه حتى المسائل التقديرية الأساسية التابعة لقانون مدى المعلومة في قيادة السيارة، وعلى عكس النحلات التابعة تظل [هذه المسائل] محيّرة. و" أيّ أشكال الوقائع العصبية يمكن أن تخفيَ طرق التصوير المختلفة غير معروفة" في حين أنّه نادرا ما تتجاوز الأصول التطوريّة التأمل. ليس هناك ما يشبه الأدب الكبير والآراء الموثوق بها فيما يتعلّق بتطور اللغة الإنسانية. شيء قد يجده البعض محيرا بعض الشيء. يمكن أن نضيف حقيقة أخرى لفلسفة   القرن السابع والثامن عشر تعود في جذورها إلى تحاليل أرسطولِما فُسّر فيما بعد بالوجود الذهني: إنّه حتى أكثر التصّورات الأوليّة للغة الإنسانية لا تربط الموجودات المستقلة في العقل بوسائل لها بعض المرجعيات مثل العلاقة بين الرموز والموجودات الحسيّة للعالم الخارجي التي يبدو أنها كونية في نظام التواصل الحيواني. وبالأحرى هي [التصورات] إبداعات " للقدرات الواسعة "  التي توفر لنا سبل العودة إلى العالم الخارجي من جوانب معيّنة لكنّها مشخّصة بعمليّات ذهنيّة لا يمكن اختصارها في " انتماء خصوصي للطبيعة" إلى شيء نحن بصدد الحديث عنه كما لخصّ هيوم Hume قرنا من البحث  وتعدّ نظريّةaitiational ليوليوس مورافسيك Julius Moravcsick تطورا حديثا لبعض هذه الأفكار من أصولها الأرسطية وإقحامات ثريّة لدلالات اللغة الطبيعية.

      هذه ملاحظات نقدية بخصوص الدلالات الأوليّة للغة الطبيعية مقترحة أنّ العناصر الأكثر بدائية مرتبطة بشدّة بعالم الذهن [ المستقلّ] كما هوالشأن بالنسبة إلى العناصر الداخلية للفونولوجيا. وليست [هذه] العلاقة شبيهة بمرجع ولكن كجزء من تصوّر وحركة ذات تعقيد. لن أبلور ها هنا، لكن أعتقد أنّ هذه الاعتبارات لوتُتُبعت برويّة لبيّنت أنّه من التافه محاولة تأسيس دلالات اللغة الطبيعية على أي نوع من علاقة – شيء. ّإلاّ أنّ المفهوم المضبوط لـ" شيء" يظل غامضا، كما سيكون من التافه أن نؤسس صوتيات اللغة الطبيعية على علاقة " رمز- صوت" حيث تُعتبر الأصوات أحداثا فيزيائية مركّبة، ربّما مركبات رباعيةَ أبعادٍ لا توصف، ومبنيّة على حركات الجزيئيّات.

 مع مزيد من الأسئلة أرسِلت [ تلك الملاحظات النقدية] إلى قسم الفيزياء، ولوأراد البعض أن يجعل المسألة ميؤوسا منها أكثر [ترسَل] إلى قسم الاجتماع كذلك. من المتفق عليه عالميا أنّ هذه الحركات هي الخطأ في دراسة الجانب الصوتي للغة، وأعتقد أنّ الاستنتاجات منطقية من الجانب المعنوي فقط. في كل عملية نطق ثمّة حدث فيزيائي، ولكن ذلك لا يعني أنّ علينا البحث عن علاقة خيالية بين كذا شيء داخلي كمقطع [ط] وحدث معرّف مستقل ذهنيا؛ ولكلّ [عمل] إشاري توجد بعض الجوانب المعقدة للعالم المحسوس أو العالم "المتخيّل" الذي يركّز عليه العمل الاهتمام ولكن ذلك لا يعني أنّه توجد علاقة دلالة بالنسبة للغة الطبيعية، أعتقد،ذلك لا يوجد حتى بالنسبة إلى أكثر المستويات بدائية.

     لوعدُّ الكمّ في غالبه صحيحا لبرزَت على الأقلّ مشكلتان رئيسيتان حينما نعتبر أصول ملكة اللغة    ودورها في البروز المفاجئ للقدرة الفكرية الإنسانية، أوّلها الجوهر الدلالي للكلمة وما تحمله من معاني دنيا من بينها أبسطها.

 وثانيها المبادئ اللامحدودة التي تسمح لترابط الرموز المنتظمة هرميا وتوفر سبُل استعمال للغة في جميع جوانبها المختلفة. وبنفس القيمة، يجب أن يوفّر جوهر نظرية اللغة- النحو الكوني (UG)، أولا، اختلافا بنائيا ممكنا لعبارات معجميّة مترابطة أو ربما مطابقة للمفاهيم التي هي عناصر "للقدرات الواسعة" وثانيا بناء اختلافٍ لا نهائي للبنى الداخلية من هذه العبارات المعجمية، هذه البنى تدخل ضمن الفكر والتحليل والبرمجة، وأعمال ذهنية إنسانية أخرى يتم إخراجها في بعض الأحيان وهو نشاط ثانوي لو أنّ التأمّلات المراجعة حالا تنقلب صحيحة. بالنسبة إلى المشكل الأوّل [وهو] الجهاز البيّن الإنساني - الخاص المفهومي- المعجمي، ثمّة عمل مؤكد على المفاهيم العلائقية المرتبطة بالبنى التركيبية وعلى الأشياء الجزئية داخل الذهن التي يبدو وأنّها تلعب دورا هاما            ( الأحداث، الأطروحات، الخ...) لكن يوجد القليل وراء الملاحظات الواصفة في جوهر الجهاز الإشاري المستعمل للتحدّث عن العالم. المشكل الثاني عُدّ مركزيا بالنسبة إلى البحث اللساني منذ نصف قرن إضافة إلى تاريخ أطول قبل ذلك.

     إنّ المقاربة  البيولسانية المتبناة منذ بداية وجهة النظر التي سمّاها  عالم إدراك الأعصاب-ر.ج غاليستال Gallistel  R.G.   " السلوك في علم الأعصاب " اليوم هو" الرؤية الجزئية للتعلم": الخلاصة أنّ لدى كل الحيوانات يقوم التعلّم على آليات معينة، " غرائز التعلم" بمعنى أعمق يقترح أنْ نعتبر أنّ هذه الآليات أعضاء داخل الدماغ" مُنهيا مراحل أُنجِزت فيها [الحيوانات] أصنافا معيّنة من التخمين وانطلاقا من "البيئات الأقصى عدوانية" غيرت آلياتها تحت تأثير مسّبب ومشكّل لعوامل خارجية، أكثر أو أقل انعكاسيا حسب توافق مع ترتيب داخلي هذا يعني أنّ "نشاط التّعلم" ولو أنّ النمو يمكن أن تكون  اللفظة الأكثر تناسبا لتجنّب سوء تأويلات كلمة "التعلم". يمكن أن نربط هذه الأفكار بعمل غاليستال الموسوعي المتعلّق بتنظيم الحركة والمبنيّ على "القيود البنيوية" التي تضع "حدودا" على أصناف الحلول التي يطرحها الحيوان في التعلم.

   إنّ الرؤية الجزئية للتعلّم بطبيعة الحال لا توجِب أن تكون مكوّنات الوحدة فريدة بها: في مستوى معين يُجمع الكلّ أنها ليست كذلك، مثال ذلك-الخلية. تظّل مسألة مستوى التنظيم الذي ظهرت فيه خاصيات فريدة  هامة من وجهة نظر بيولوجية كما كانت في مؤتمر 1974. استحضرت محاضرات غاليستال مفهوم التصريف  مقدّمة في البيولوجيا التطوريّة والإنمائية من س-هـ وادينغتون Waddington H.C. منذ ستين عاما مشيرا إلى الأنشطة المعدّلة لتؤدي إلى نتيجة نهائية معيّنة بغضّ النظر عن الاختلافات الصغرى في الظروف أثناء ردة الفعل مؤكدا بذلك "إنتاج القيم وهو النمط المثال في مواجهة صدف الوجود التي لا يمكن مواجهتها " ويبدو ذلك وصفا عادلا لنمّو اللغة عند الفرد. إنّ المشكلة اللّب في دراسة الملكة هي اكتشاف الآليات المحدّدة لنتائج الأنماط المثلى".

     لقد تم إدراك منذ أصل البيولوجيا الحديثة أنّ القيود الخارجية المتطورة للأعضاء والمبادئ البنائية الهندسية تدخل فقط في نمّو الأعضاء، بل أيضا في تطوّرها. في ورقة علميّة حديثة تأثر ماينارد سميت Smith  Maynard ومساعديه بنسخةِ ما بعد الداروينية بالعودة إلى طوماس هاكسلي Thomas Huxley الذي ذهل بحقيقة أنّه يوجد حدود مهيئة سلفا للتحولات " تجعل الانتخاب الطبيعي "ينتج فروقات محدودة في الكم والنوع " لكل الأنواع. يراجع [ماينارد سميث ومساعديه] اختلاف هذه القيود في العالم العضوي ووصفوا كيف أنّ "حدود الخاصيات الفيزيائية القابلة للتغيير" تسببت فيها البنية، الخاصية، التركيب أوآليات النظام الإنمائي". مشيرين أيضا إلى " كذا قيود متوسّعة تلعب بلا شك دورا هاما في التطور " بالرغم من وجود "قليل من الإجماع بشأن أهميتها مقارنة بالانتقاء،التّراكم وعوامل أخرى في تشكيل التاريخ التطوري ".في نفس الوقت تقريبا كتب جاكوب Jakob "قواعد المراقبة للتطور الجنيني" جلّها غير معروفة تقريبها، [هذه القواعد] تتفاعل مع عوامل فيزيائية أخرى لتحدّ من التغييرات الممكنة للبنى، والوظائف " في التنمية التطوريّة موفّرة "قيودا بنائية تحدّ مدى التوافق       وعيّنات المسلك التطوري"، [هذا] نقلا عن آخر مراجعة. [إنّ] أكثر الأشخاص شهرة الذين كرّسوا معظم عملهم لهذه المواضيع هما دي آرسي طومسون D'arcy Thompson وآلان تورينغ Alain Turing، الذيْن تمسّكا برأي متشدد حول الدور المركزي لهذه العوامل في البيولوجيا، وقدمت في السنوات الأخيرة عدّة اعتبارات نتيجة العدد الواسع من مشكلات النمّو والتطور منذ اقتسام الخلية داخل البكتريا إلى تحسين بنية ووظيفة شبكة عمل القشريات حتى الأطروحات [القائلة] أنّ الكائنات لها " أفضل الأدمغة الممكنة"، كما طُرح من طرف عالم الأعصاب الإحصائي كريس شريناك Chirs Cherniak. تكمن المشكلات في حدود البحث غير أنّ مغزاها ليس جدليا.

         لنعتبر أنّ لملكة اللغة خاصيات عامّة من النظم البيولوجية الأخرى، بناءً على ذلك علينا البحث عن ثلاثة عوامل تدخل ضمن نمّواللغة عند الفرد.

1) العوامل الجينية، ظاهريا قريبة من الشكل الواحد للأنواع.موضوع النحوالكوني (UG) المعطى الجيني: يحلّل جزءا من المحيط / البيئة باعتباره [الجزء] تجربة لسانيّة، نشاط ليس تافه يكررّه الطفل انعكاسيا، ويحدّد المنوال العام لنمّوملكة اللغة إلى لغة مدرَكة.

2) التجربة، التي تؤدّي إلى الاختلاف ضمن مدى ضيق بعض الشيء كما في حالة تحت- أنظمة الكفاءة الإنسانية والكائنات الحية عموما.

3) مبادئ ليست خاصّة بملكة اللغة:

يتضمن العامل الثالث أسس الهندسة البنيوية التي تحدّ من النتائج. [الأسس الهندسية هذه]  تتضمن أسس التخمين الفعالة التي كان يُتوقع أن تكون لها أهميّة خاصة بالنسبة إلى أنظمة التخمين مثل اللغة، معرّفة الملامح العامة للغة المدرَكة.

يمكن للمرء أن يرسم الأهميّة في العامل الثالث بالعودة إلى فهم غاليلي " الطبيعة متقنة" انطلاقا من المدّ و الجزر حتى طيران الطيور، وهذا هو عمل العالم لاكتشاف إلى أي سياق بالضبط يعدّ ذلك صحيحا.ثقة نيوطن في أنّ الطبيعة يجب أن تكون "بسيطة للغاية" تعكس نفس الفهم. قد يعدّ غامضا ذاك الفهم بشأن ما سمّاه ايرنست هيوكل Hernest Heakel " قيادة الطبيعة نحو الحسن ". (Sinn fuer das shone) الذي كان مبحثا رائدا للعلم الحديث منذ أصوله الأزلية.

        مال البيولوجيون إلى التفكير من زوايا مختلفة بشأن أهداف بحوثهم متبنّين صورة جاكوب [المجازية] للطبيعة على أنّها مُصلِحة تقوم بأفضل ما يمكنها - بأدوات في يدها- غالبا بعمل حسنٍ بسيط، ويبدوأنّ الذكاء الإنساني عزم على تصوير ذاته كذلك. تبنّى عالم الجينات البريطاني غابريال دوفر Gabriel Dover الرأي السائد عندما أوجز قائلا "البيولوجيا شغل غريب مشوّش، والكمال هوآخر كلمة يُمكن للمرء استعمالها لوصف كيف تشتغل الكائنات الحيّة خصوصا بالنسبة إلى أيّ شيء أنتجه الانتخاب الطبيعي" – رغم أنّ بعضه أنجِز في جزء منه فقط بواسطة الانتخاب الطبيعي كما أكدّ ذلك        وكما يعرف كل عالم بيولوجي وإلى مدى لا يمكن تقديره بالوسائل المتاحة. هذه التوقعات تعطي معنى جيّدا للأنظمة مع تاريخ تطوري طويل ومعقّد، مع صدف جمّة، تأثيرات بطيئة للتاريخ التطوري تقود لحلول غير متتالية للمشكلات وإلى غير ذلك.إلاّ أنّ المنطق لا ينطبق على الظهور المفاجئ نسبيّا الذي قد يقود حتما إلى أنظمة ليست شبيهة بالنتائج المعقدّة لملايين السنين لــ"ترميم "جاكوب ربما أكثر تشابها بذّرات الثلج أو phyllataxis أو انقسام الخلية إلى دوائر عوضا عن مكعبات، أو[شكل] متعدّد الجوانب مثل أدوات البناء أو أشياء أخرى موجودة في العالم الطبيعي. يعدّ البرنامج الأدني محفوزا بالشك أنّ شيئا كهذا يمكن أن يكون بالفعل صائبا بالنسبة إلى اللغة الإنسانية وأظنّ أنّ عملا حديثا أعطى بعض المبررات للاعتقاد أنّ اللغة في أغلب الاعتبارات هي الحلّ الأمثل لوضعيات يجب أن يكفيها، أبعد مما كان يمكن توقعه سنوات قليلة مضت.

    وبالعودة إلى الأيام الأخيرة ومن خلال (أطر العمل البنيوي / السلوكي للخمسينات، التشابهات الأقرب للنحو الكوني (UG) كانت المقاربات الإجرائية المقدّمة من تروبتسكوي Trubezkoy  هاريس Harris وآخرين، قُسّمت لتعريف الوحدات اللسانية ونماذجها من خلال مدوّنةَ معلوماتٍ لسانيةٍ. وفي أحسن الأحوال [هذه المقاربات] لا يمكنها الوصول بعيدا مهما كان استعمال حيل التخمين للمدوّنة واسعا وحتى العناصرالأوّليّة المنتِجة- للمعنى والتشكيليّة- صواتم لها صفة "خرز في خيط" المستوحية للمقاربات الإجرائية لكن [الصواتم] ترتبط أكثر بصورة غير مباشرة بالشكل الصوريّ وأثبتت طبيعتها وخاصياتها داخل النظام التقديري الأكثر تجريدا الذي يحدّد المدى اللاّمحدود للعبارات.

  بناء على ذلك افترضت آخر المقاربات للنحو التوليدي أنّ المعطى الجيني يوفّر صياغة لأنظمة القواعد ومنهجا لانتقاء اللحظة المثلى له وفق بيانات التجربة. وُضِعت أطروحات مختصة في ذاك الحين،      وفي السنوات اللاحقة وفّرت [هذه الأطروحة] مبدئيا حلاّ ممكنا لمشكل اكتساب اللغة، لكن شملت حسابا فلكيّا وبذلك لم تدخل جدّيا في صلب الموضوع.

      كانت أهّم الاهتمامات في تلك السنوات مختلفة بعض الشيء عمّا هي عليه الآن. ربما من الصعب التصديق اليوم، ولكن وُجد اعتقاد سائد منذ خمسين سنة بأن التقنية الأساسية في الوصف اللساني كانت متاحة وبأنّ اختلاف اللغة كان جدّ مطلق إلى درجة أنْ لا شيء أكثر عموميّة كان يمكن اكتشافه. ما إن وُضعت جهود لتوفير بيانات واضحة صحيحة لخاصيات اللغة حتى صار واضحا كيف أنّ القليل فقط كان معلوما في كل مجال. انتجت كل أطروحة مختصة مخزونا من شهادات مضاءة متطلبة أنظمةَ قواعد معقدةٍ ومختلفة حتى ولوكان لبلوغ مقاربة محدودة جدا لتناسُبِ الوضع. كان ذاك دافعا قويّا للبحث في اللغة لكنّه ترك أيضا حيرة بالغة، ومنذ الاعتبارات الأكثر أهمية التي قادت للخلاصة [التالية]: إنّ النحو الكوني UG لا يجب أن يسلطّّ قيودا محدودة على النتائج الممكنة من أجل تقدير اكتساب اللغة،مهمّة بلوغ ما يسمّى " التناسب التفسيري " في أغلب الأحيان تسمّى "عوز" المشكلات "الدافعة" في دراسة اللغة، ولوأنّ المفردة مضللّة لأنّ هذا [العوز] حالة خاصة فقط للمواضيع الأساسية التي تظهر كونيا بالنسبة إلى النمّو العضوي المتضمّن للنمّو الإدراكي، اختلاف في المشكلة ضُبط منذ أفلاطون.

     أتّبِعت طرق عدّة لمحاولة فكّ التوتر. تحوّلت [الطرق] الأكثر نجاحا لتصبح مجهودات في تشكيل مبادئ عامة أتبِعت بـ"النحو الكوني" UG – يعني المعطى الجيني – تاركة فضلة مقّلّصة نوعا ما للظواهر التي قد تنتُج بكيفية ما عن التجربة، كان لهذه المقاربات بعض التوفيق غير أنّ التوترات الأساسية ظلت دون حلّ إبّان مؤتمر 1974.

     في سنين قليلة، تغيّر المنظر العام كلّيّا في جزء كان هذا نتاج صفّ عريض لموادّ جديدة من دراسات أكثر عمقا من ذي قليل وفي جزء منه فتَح مواضيع جديدة للبحث. من خلال خمسة وعشرين سنة خلت، بلورت أغلب الأعمال تكوين "المبادئ والأطر" (م& أ) في مقاربة لــ"النحو الكوني" UG مخالِفة جذريّا [لما سبق] [و] أعطت للمرة الأولى الأمل باحتواء التوتر بين التناسب الوصفي والتناسب التفسيري، سعت هذه المقاربة إلى إقصاء المكوّن التشكيلي كليّا، ومعها التصوّر التقليدي للقواعد والبنى التي كانت مستغلّة جيّدا في النحوالتوليدي. في هذا الخصوص كانت [المقاربة] انطلاقة جذرية من الموروث الغني لـ2.500. سنة أكثر منها [انطلاقة] من النحو التوليدي المتأخر. وقد قاد تكوين "م&أ" إلى تفجّر البحث في لغاتِ أكثرِ الأصناف اختلافا، مؤدية إلى مشكلات جديدة لم تكن مرئية من قبل، وفي بعض الأحيان [مؤدية] إلى أجوبة وإلى انتعاش اختصاصات قريبة منها مهتمّة بالاكتساب   والطريقة  وأعيد تشكيل أسئلتها الموجَّهة في عبارة وضع الإطار في نظام مثبَت لمبادئ النحوالكوني UG. لا أحد مدرك بالمجال لديه أيّ وهْمٍ اليوم أنّ أفاق البحث تعدّ مرئية حتى.

    كان لترك شكل إطار العمل تأثير مهمّ على البرنامج البيولساني لو- كما افتُرض من قبل، كان الاكتساب مسألة اختيار من ضمن اختيارات أتيحت من الشكل المتوفر من النحو الكوني UG - فإنّ التشكيل يجب أن يكون غنيا ومنطوقا على مستوى عال متيحا قليلا من الخيارات تقريبا وإلاّ فإنّ التناسب التفسيري سيكون خارج السيطرة. من أوجه نظر أخرى يجب أن تكون أفضل نظرية في اللغة نظرية غير مكتفية تماما مع جملة  حالات معقدّة خاصة باللغة الإنسانية، ضابطة مخاطر محتملّة. الموضوع البيولوجي الأساس للتفكير المؤسَّس يمكن بالكاد تأملّه، وطبقا لذلك كانت الطموحات لبعض البحوث الجدّية في تطور اللغة غامضة، على ما يبدو، وكلّما كانت الحالات الخاصّة باللغة أكثر تنوّعا وتعقيدا كلّما كان الأمل ضئيلا في تقدير معقول للأصول التطورية للنحو الكوني UG. تعدّ تلك من بين أسئلة طرحت في مؤتمر 1974 ومؤتمرات أخرى في نفس الفترة، ولكنّها ظلّت ظاهريا مشكلات بلا حلول.

     أعطى إطار عمل م &أ طموحات لحلّ هذه التوترات كذلك. وأثبت إطار العمل جدواه لدرجة اعتبار أنّ الاكتساب مسألة وضع إطار، وبذلك انفصل كليّا عن المشكل المتبقي للنحو: مبادئ النحو الكوني UG. لم يعد يوجد أيّ حاجز فكري للأمل بإمكانيّة تقليص النحو الكوني  UG إلى شكل أكثر بساطة،   و[بإمكانية] إعطاء الخاصيات الأساسية لأنظمة التخمين في اللغة تفسيرات قاعدية عوضا عن كونها مشروطة في شكل محدود جدّا خاص باللغة بالنسبة إلى الأنحاء. وبالعودة إلى العوامل الثلاثة في رسم اللغة فـ[إنّ] تبني إطار عمل م& أ يتغلب على حاجز فكري صعب لنقْْلِ عبء التفسير من العامل الأوّل المعطى الجيني إلى العامل الثالث [وهو] مبادئ اللغة المستقلة للهندسة البنيوية والفاعليّة التخمينية وبذلك يوفّر التبنّي بعض الأجوبة للأسئلة الأساسيّة في بيولوجيا اللغة، [في ] طبيعتها واستعمالها وربما تطورها.

      من خلال الحواجز الفكرية الملزَمة من احتواء إطار العمل الشكلي، يمكننا أن نحاول  بأكثر واقعيّة  تحديد السؤال: ما الذي يكوّن تفسيرا قاعديا لخصائص اللغة، وأنْ نعود إلى واحد من أكثر الأسئلة عمقا في بيولوجيا اللغة: إلى أي ّ مدى تُقارب اللغة حلاّ مثاليا لحالات يجب أن تكفيَها لتُستعمل في جميعها، حتما الهندسة البنيوية الماورا لسانية. تعيدنا هذه الحالات إلى الوراء، إلى التشخيص التقليدي للغة منذ سقراط كنظام يربط الصوت بالمعنى. حسَب مفهومنا، العبارات المعمّمَة من طرف لغة [ما] يجب أنْ تكفيَ حالتين متوازيتين: تلك الملزَمة من نظام المحرك الحسّي ومن النظام التصوري القصدي الذي يدخل في القدرة الإنسانية واختلاف الكلام.

   يمكن أن نعتبر تفسير خصائص اللغة  قاعديّا إلى درجة إمكان تقليصه في خصائص الأنظمة المتوازية واعتبارات عامة للفاعليّة التخمينية وما شابه. يمكن دراسة الأنظمة المتوازية مستقلة في ذاتها، متضمنة دراسة مقارنة ما تزال تحت المتابعة ومقدِّمة نتائج أفضل. وكذلك الأمر صحيح لمبادئ التخمين الفعّال المطبَّقة على اللغة في عمل سابق [ قام به] عدّة باحثين مع نتائج مهمّة، وربّما مذعِنا لبحث مقارن. من الممكن إذا في أوجه مختلفة  أن نوضح وأن نتوجه إلى جملة مشكلات أساسية في بيولوجيا اللغة.

     في هذا المستوى يجب أن ننتقل إلى نقاش تقني أكثر، ممّا هو ممكن هاهنا، ولكنّ القليل من الملاحظات غير الشكليّة قد تساعدنا في رسم المنظر العام على الأقل.

   [هناك] واقع مبدئي حول ملكة اللغة هو أنّها نظام  للّامحدود، له شكله الخاص، نادر في العالم العضوي. أيّ نظام مشابه يقوم على عمليّة بدائيّة يأخذ أشياء رُكّبت سلفا ويركّبُ من خلالها شيء جديد، في أبسط حالة، أشياء. الجهاز يتضمن هذه الأشياء. تسّمى تلك عمليّة الإدماج. سواء الإدماج أو ما يعادله يعدّ مطلبا أدنى. [و] بواسطة الإدماج المتاح حاليا، لدينا نظام لا محدود لعبارات مبنية هرميا. التعليل الأبسط لـ"قفزة عظيمة إلى الأمام" في التطور الإنساني كان سيكون أنّ الدماغ أعيد تنظيمه بواسطة تقلبات خفيفة لتوفير عملية الإدماج، وأجمِع على فرض الجزء الأهمّ للقواعد على ما وُجد في تلك اللحظة المأسوية للتطور الإنساني: على الأقل من حيث المبدأ ؛ يعدّ ربط النقاط ببعضها بعيدا عن كونه مشكلا تافها.  ثمة تخمينات بشأن تطور اللغة الذي يفترض عملية أكثر تعقيدا: أولا بعض التقلبات التي تعطي عبارات متكوّنة من وحدتين ربما منتِجة فائدة انتقائية بتقليص شحنة الذاكرة للمفردات المعجمية، تقلبات أبعدَ لتسمحَ بتقلبات أشمل، وأخيرا، القفزة العظيمة التي تنتج الإدماج. ربّما حدثت فعلا الخطوات الأولى بالرغم من عدم وجود أيّ دليل تصوري جدّي أوتجريدي على هذا الاعتقاد. التخمين الأكثر شحّا هو أنّ هذه [الخطوات الأولى] لم تحدث، وأنّ القفزة العظيمة كانت في الواقع سريعة في فرد واحد وُهب فورا قدرات فكرية أرفع منزلة من تلك التي لدى الآخرين تحولت إلى نسل   وأضحت تسود. في أحسن الأحوال هو تخمين منطقي كما هو الحال بالنسبة إلى كلّ التخمينات بشأن مسائل كهذه، ولكنّه متعلّق بالمسألة الأكثر بساطة و[هو] متخيِّل وليس غير مطابق لأيّ شيء معروف أو مقبول حدسيا. من الصعب رؤية أيّ تعليل للتطور الإنساني لن يأخذ في الاعتبار على الأقل هذه الكثرة بشكل أو بآخر.

     تُطرح أسئلة مماثلة حول نمو اللغة لدى الفرد و[قد] زُعم عموما وجود مرحلة الكلمتين، مرحلة ثلاث كلمات إلى غير ذلك، مع قفزة عظيمة إلى الأمام ونهائية لجيل لامحدود. وقد لوحظ هذا في الإنجاز، ولكن يلاحَظ أيضا أنّ الطفل في مرحلته الأولى يفهم عبارات أكثر غموضا، وأنّ التغيير الاعتباطي للعبارات الطويلة – حتى تلك التغييرات البسيطة مثل موقع الكلمات الوظيفيّة في أسلوب مخالف للنحو الكوني UG أوللغة الكبار – يؤدّي إلى التباس وتأويل خاطئ. من الممكن أنّ الإدماج اللامحدود وما دون ذلك [و] المنضوي تحت النحو الكوني UG يحضر حالا، ولكن يتمظهر فقط في طرق محدودة لأسباب خارجة عن الموضوع [و] لمحدودية الذاكرة والانتباه وما شابه ذلك [ هي] مسائل نوقشت في مؤتمر1974 ومن الممكن اليوم البحث فيها بشكل منظّم ومعطيا نتائج أفضل.

     الحالة الأكثر محدوديّة للإدماج تُطبّقُ على شيء واحد مكوٍّنة جهازا موحدّا. التقيد بهذه الحالة ينتج وظيفة التابع التي يمكن انطلاقا منها أن تُطوَّر بقيّة نظرية الأعداد الطبيعيّة في طرق مألوفة. هذا يقترح جوابا ممكنا لمشكل أثار اضطراب والاّص Wallac  في القرن السابع العشر في قوله إن " النمو العظيم للقدرة الرياضية  غير مفسَّر كليّا من طرف نظرية الانتخاب الطبيعي، ويجب أن يكون ناتجا في مجمله عن سبب مميًَّز " فقط بسبب أنّه ظلّ غير مستعمَلٍ. [هناك] إمكانية واحدة هي أنّ الأعداد الطبيعية ناتجة عن قيد بسيط لملكة اللغة، إذن [هذا] غير معطى من الإله وفق التعريف الشهير لـكرونيكر Kronecker  ولو أنّ الباقي مبدَع من الإنسان كما يضيف. [إنّ] الشكوك حول  أصل القدرة الرياضية كخلاصة  للعمليات اللسانية ليست غير مألوفة. توجد مشكلات بيّنة من بينها الفصل بين الجروح واختلاف في التموقع، ولكن معنى مثل هذه الظواهر غير واضح لأسباب عدّة (منها مسألة التملّك مق. استعمال القدرة). قد يكون هناك بعض الأشياء كهذه التخمينات، ربمّا طوال الأسطر السابق ذكرها.

     الاعتبارات الأوّلية للفعالية الإحصائية تفرض حالات أخرى على الحلّ الأمثل لمهمّة ربط الصوت بالمعنى. هناك الآن كتابات عديدة مستكشفة مشكلات من هذا النوع. وأعتقد انّه من العدل القول إنّ هناك تطورا معتبرا في التحرك نحو تفسير مؤسَّس. من الواضح كذلك أنّ هذه الجهود أدركت مطلبا أساسيا لبرنامج بحثٍ معقولٍ حاثّا البحث الذي كان قادرا على احتواء بعض المشكلات القديمة، بينما تسلِّط الضوء على [مشكلات] جديدة كانت سابقا غير مدرَكة وبالكاد أيضا مقنّنة، وأثرى  كثيرا التحديات التجريبية للتناسب الوصفي الذي لاقاه ؛ وللمرّة الأولى فتح طموحا واقعيا نحو تحرك مهمّ إلى ما وراء التناسب التفسيري إلى التناسب القاعدي على مدى الأسطر المشار إليها.

      يصطدم مطلب التفسير القاعدي بمهامّ مثبطة للعزم. يمكن أن نشكّل الأهداف بوضوح منطقي. لا يمكننا بالطبع أن نعرف مسبقا كيف يمكن إدراكها جيدا – يعني، إلى أيّ مدى تًنسب حالات ملكة اللغة إلى مبادئ عامة ومن الممكن أن تشمل حتى الكائنات الحية عموما. مع كلّ خطوة تجاه هذا الهدف ننال فهْما أوضح للخاصيات الجوهرية الخاصة بملكة اللغة، مع ترك بعض المشكلات غير المحللّة التي طًرحت منذ مئات السنين من بينها السؤال كيف ترتبط خاصيات " المسمّى الذهني" بــ"بنية الدماغ العضوية"، مشكلاتٍ بعيدة عن الحلّ حتى بالنسبة إلى الحشرات، ومع جوانب فريدة غامضة [غموضا] عميقا حيث نأخذ في الاعتبار القدرة الإنسانية وأصولها التطوريّة.                                 

*هذا المقال The Biolingiustic And The Human Capacity نشره عالم اللغة نوام تشومسكي سنة2004 في كتابه الموسوم بـLanguage  And  Mind في طبعته الثالثة عن مطبوعات كامبريدج. 

** جامعة صفاقس

شبكة النبأ المعلوماتية- االخميس 3 آيار/2007 -14/ربيع الثاني/1428