مصطلحات ادبية: فلسفة ما بعد الحداثة ..

من موت الإنسان إلى موت المؤلف(1)

شبكة النبأ: انتشرت عدوى الميتات في الفكر الحديث؛ موت فلسفة، موت الجامعة، وموت الإنسان. ولكن يبقى إعلان بارت الشهير عن موت المؤلف هو الأكثر إثارة، وقد استقبلته الأوساط الأدبية بما يشبه الصدمة.

إن موت المؤلف هو النتيجة المنطقية لموت الإنسان، ذلك الإنسان الذي أوجدته اللحظة الديكارتية وتضخم في المئتي سنة الأخيرة فيما عرف بالنزعة الإنسانية. إذ تم استبدال اللامتناهي المحايث بالإله المفارق.

وليست الغاية هنا التوسع في المبررات التي أدت بفكر ما بعد الحداثة إلى إعلان موت الإنسان، فهذا يصلح أن يكون مبحثا مستقلا. ولكن الذات الإنسانية التي هي مركز الكون لم تعد مقبولة في فكر ما بعد الحداثة الذي دمر كل المرجعيات والمطلقات وأحال الفكر إلى مسطح معرفي تندلق عليه المعارف بلا مرجعيات ولا عمق ولا اتجاه. إذ تصبح الذات الإنسانية في هذا المسطح ليست أكثر من ثنية أو انعطافة بلا اتجاه ولا عمق أو بالتعبير السيري تحول الفكر إلى انسيكلوبيديا معرفية بلا مرجعيات. وهكذا أصبحت الذات الإنسانية يوتوبيا زائدة يجب التخلص منها.

فإذا كان الإنسان يختفي أو يتلاشى في أفق الفكر الحديث، فإن مفهوم المؤلف والذات الواعية يختفيان هما أيضا لدى تحليل الخطابات. لقد كان شيئا لازما في العصور الوسطى نسبة كتاب ما أو اكتشاف ما لصاحبه، إذ كان ذلك يعد علامة على صحته أو صحة المعلومات الواردة فيه. وكان الكلام يمتلك قيمته العلمية بمجرد عزوه أو نسبته إلى مؤلف ما. لكننا نلاحظ أن نسبة العمل إلى مؤلفه اختفت من ساحة الخطاب العلمي.

وهذا يعزى بالدرجة الأساس إلى الدقة والصرامة والموضوعية التي انتهجها العلم منذ ابتداء الحداثة ومنتجها العلم الحديث الذي ابتعد عن غموض اللغة ومجازها وعموميتها واقترب من الرياضيات في رحلته نحو التجريد. ولكننا نلاحظ في المقابل أن العلاقة بين العمل ومؤلفه قد قويت بالنسبة للخطاب الأدبي.

إن ظهور البنيوية واكتمالها بوصفها نظرية في الأدب، قد وضع العلاقة بين المؤلف والعمل موضع شك ونقد. فإذا نظرنا إلى البنيوية كمحتوى وليس منهجا تحليليا فقط، فإن هناك بنى قبلية تكون على الدوام تحت تصرف المؤلف ينهل منها على المستويين الواعي واللاواعي. وهذه البنى هي التي تشكل العمل الأدبي أكثر مما يشكله المؤلف. إن هذه البنى لا يستطيع أي مؤلف الفكاك منها. إنها تلازمه كظله في أثناء الكتابة. ونحن بالطبع ميالون إلى عد البنيوية محتوى أكثر من كونها أنموذجا قسريا يروم إدخال الخطاب في قوالب معدة سلفا أو حشره في بنى خارجة عنه، بل إن هذه البنى هي بالتأكيد محايثة للخطاب وتدخل في جوهر تركيبه.

إن إمبراطورية المؤلف عظيمة السطوة، ولقد حاول بعضهم على الدوام إن يزلزلها. ويعد الشاعر الفرنسي مالارميه بحق أول من قدم محاولة ناضجة في هذا السياق، فهو أول من تنبه إلى أولوية اللغة. وهكذا يتضح معنى الكتابة وهو بلوغ نقطة ما، إذ إن اللغة تكون قادرة على الحركة وحدها. الكتابة إذا تصبح قائمة على حذف المؤلف ويكون ذلك بإعطاء القارئ دورا متعاظما على حساب المؤلف.

الحركة السوريالية في الأدب شاركت هي الأخرى، منذ نشوئها، في نزع هالة القداسة عن المؤلف، وقد عملت من دون توقف على إحداث خيبة مفاجئة وغير متوقعة للمعنى المنتظر (وهذا بالطبع متأت من التداعيات اللاواعية التي تشكل الخطاب بحسب المفهوم السوريالي). وقد أوكلت السوريالية لليد مهمة الكتابة، بسرعة قصوى، لكي لا تترك للرأس أي دور في الكتابة (الكتابة الآلية).

والحقيقة أن الكلام عن موت المؤلف كان سيكون غير مبرر لولا ظهور كينونة اللغة ونضجها؛ أي بلوغ اللغة سن الرشد لتكون قادرة على الكينونة بنفسها.

وهكذا، فإن كل نص يوجد ويتكون داخل شبكة من النصوص الأخرى التي تحيط به. إنه يحيلنا إلى خطابات أخر ويندمج في حقل واسع من الخطابات، ويستند إلى ما كان قد قيل سابقا، كل ذلك من خلال البنى الجزئية التي تشكل الخطاب؛ وداخل هذا السياق البنيوي يموت المؤلف. ولا تعود علاقة المؤلف بالنص تتجلى إلا في فرادة غيابه.

كل هذه التيارات السابقة قدمت بالتأكيد المبررات الكافية لموت المؤلف، ولكن اللسانيات الحديثة جاءت أخيرا لكي تقدم أداة تحليلية فاعلة من أجل تدمير المؤلف. فقد أوضحت لنا اللسانيات بشكل جلي أن التعبير في جملته إنما هو صيرورة فارغة تعمل بشكل مستقل دونما حاجة إلى ذوات المتخاطبين. فقد باتت اللغة تنتج المعنى بشكل تلقائي دونما حاجة إلى تدخل ذات المؤلف.

وهكذا أصبح ابتعاد المؤلف ابتعادا حقيقيا وظل يتضاءل حتى أصبح كتمثال صغير. وأصبح النص يصنع من الآن فصاعدا ويقرأ بطريقة تجعل المؤلف غائبا عن كل المستويات، ومع موت المؤلف حل الناسخ الحديث محله في عملية الكتابة، ولم تعد الكتابة تأليفا (خلقا)، بل أصبحت أداء ليس إلا إذا جاز التعبير.

وهكذا أصبح النص فضاء لأبعاد ما متعددة تتزاوج فيها كتابات مختلفة وتتنازع من دون أن يكون أي منها أصليا أو مرجعيا، فالنص هو نسيج لأقوال ناتجة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة. إن الكاتب لا يستطيع إلا أن يحاكي حركة سابقة له على الدوام من دون أن تكون هذه الحركة أصلية. إن الناسخ الحديث يفترق عن المؤلف كونه لا يجد في نفسه انفعالات ولا مشاعر ولا بشائر، وعلى العموم لا يجد أي عمق مزعوم، بل إنه يجد تحت تصرفه عددا لانهائيا من البنى الجزئية ونسيجا من العلامات ينهل منها أثناء التأسيس للنص.

وعندما ننتقل إلى ساحة النقد، فإن موت المؤلف كان له أثر مماثل لما حدث في ساحة الإبداع. فالنقد الكلاسيكي كان يقوم على أسطورة فك رموز العمل الإبداعي منطلقا من نسبة النص إلى المؤلف مما يستتبع القول بمدلول محدد ونهائي وإغلاق الكتابة.

وهذا التوجه ملائما تماما للنقد الكلاسيكي الذي يسعى دائما إلى الكشف عن أقانيم المؤلف (المجتمع، التاريخ، النفس، الحرية) خلف ستار العمل الأدبي، وعندما يوفق النقد في الربط المنشود بين المؤلف وأقانيمه خلف ستار العمل الأدبي، يكون النقد قد حقق انتصارا، ولكن زعزعة المؤلف أدت أيضا إلى زعزعة النقد (وهذه نتيجة متوقعة)، لأن النقد الكلاسيكي كان دائما يستمد سلطته ومشروعيته من سلطة المؤلف. فالنقد الكلاسيكي لا يعترف بإنسان داخل النص سوى الإنسان الذي يؤلف ولا يهتم بالإنسان القارئ ولم يعترف بوجوده، وبعد موت المؤلف تنتقل اللعبة إلى ساحة القارئ.

والنص مصنوع من كتابات مضاعفة، وهو نتيجة لثقافات متعددة تدخل كلها في حوار ومحاكاة ساخرة وتعارض، ولكن ثمة مكان جديد تتجمع فيه هذه التعددية وهو القارئ وليس المؤلف كما كان سائدا.

إن النقد الألسني لم يعد يبحث عن أقانيم المؤلف كما في السابق. لأنه ببساطة لم يعد بحاجة إلى ذلك، إذ إن الخطاب يشي بكل الظروف التي رافقت تشكله. إنه يعكف على الاستدلال عن ذاته بذاته دونما حاجة إلى البحث عنها خارج الخطاب، والخطاب يتقمص كل حيثيات نشوئه، وهذا بالطبع يعفينا من أي بحث عن مبررات للخطاب من خارجه، فالمبدأ الأساسي في النقد الألسني ينطلق من مبدأ المحايثة، وهو دراسة النسق اللغوي في ذاته من دون العودة إلى تاريخه ولا إلى علاقته بأقانيم المؤلف، لم يعد كل ذلك لازما.

الجمهور الأدبى وعلاقة المبدع بالمتلقى والنص(2)

- الجمهور الأدبى أو جمهور القراء:

بداية لن نتحدث عن سيكلوجية القارئ ، أو المتلقى ، وإن كان ذلك سيتبدى من خلال فعل التلقى وأثره للرسالة الشفاهية أو المكتوبة ، ولكن لابد أن نشير إلى دلالات اللغة ورموزها واشاراتها ، حتى تلك المساحات المتروكة فى الهامش ، أو النظر إلى علامات الترقيم ، أو ايماءات الفصل والوصل وترتيب الصفحات ، وتلك أمور شكلية يراها الكثيرون ، ولكنها تدخل فى فعل المنتج الثقافى الاستهلاكى لدى تشكله ، أو بصورة أوضح تدخل فى عمليه الخلق والابداع ذاتها ثم تظهر فى فعل التلقى والأثر السلبى أو الايجابى على المتلقى...

كما يجب أن ندرك أولاً ماهية النص أو الرسالة الإبداعية أو المادة المقروءة وإلى من تتوجه ، وطريقة الكتابة ، ثم ثقافة كلاً من الكاتب والمتلقى حتى يحدث الأثر ، أو فيما أصطلحه " بالتماس التواصلى " لفعل الكِتَاب ، والأثر الناشئ عن التلقى لاحداث التواصل أو التكامل فى المنظومة الإبداعية ، أو منظومة القراءة وأثرها فى درس القراءة والتلقى ..

كما لا يفوتنا ونحن نتحدث عن الجمهور الأدبى أن نذكر الأثر النفسي الناشئ من فعل التلقى بمعنى أن المتلقى يجنح عند حالة التلقى إلى التماهى مع الكاتب أو المتحدث وهذا التماهى ينتج أثراً ، كما أن هناك فارقاً بين القراءة كفعل بصرى والإلقاء كتواصل سمعى وروحى، أو حتى انبهار بجودة الأداء أو نقور منه، ومع كل يجب أن نحدد المساحة الزمنية للرسالة ووصلوها ، ولن نتحدث عن معوقات التواصل أو الخداع البصرى أو الأمراض التى تتعلق بالأذن هذا فى حالة التلقى الشفاهى، أما التلقى البصرى المباشر عن طريق القراءة الفردية المباشرة فإنه يخضع لأمور مزاجية أو انفعالات خارجية، أو تأثيرات راجعة لسيكلوجية المتلقى وذكرياته من استرجاعٍ واستلهام لمحدداتٍ لديه أو لأمورٍ تتعلق بعاطفة أو موقف ما، لذا فلابد من وضع العامل السيكلوجى عند الحديث عن الجمهور الأدبى، أو القارئ، وقد نركز هنا على درس التلقى عند المتلقى أو المتعاطى للأدب، أو للدرس الأدبى.

إذن هناك عوامل يجب ألا نغفلها لدى الجمهور منها سيكلوجية الجمهور أو المتلقى علاوة إلى الثقافة الخاصة بالتلقى ومدى جنوحه حتى للألفاظ، فهناك قارئ يميل للصور الجمالية، بينما يندمغ قارئ آخر مع الصور اللفظية والتركيبات اللغوية المبهرة، بينما يتواصل آخر مع الفكرة ، وقد يعجب الآخر بعنوان العمل أو بتراتب الإيقاع أو بالفونيم الصوتى، أو بالصور البلاغية والمحسنات البديعية، ومن هنا تختلف ذائقة التلقى لدى الجمهور فتختلف الرؤية فى الحكم على العمل الأدبى بمدى ما وصل إليه من تأثير يتعلق بسيكلوجية التلقى وأثرها، كما يتعلق بالتواصل الفكرى أو النمط الثقافى للعمل الأدبي.

كما لا يفوتنا أن نؤكد إلى مدى جودة البُنَى الأدبية للنص ومدى توافقها أو بعدها عن الأنماط المألوفة لأذنِ القارئ حتى لا يختلط عليه الأمر فيخرج بالذائقة إلى آفاق لم يعتدها ، فلا يستطيع تحديد ماهية الجنس الأدبى الذى يستمع إليه فيصفه بالضعف أو التخبط، حتى لو كان المُنْتج للعمل الأدبى كان يقصد هذا النزو، أو قد يكون قدره، إلا أن الذائقة التعارفية لم تصطلحه لذا لم تميزه وبالتالى يفقد الحكم عليه...

إن النظر إلى سيكلوجية الجمهور من منظور اجتماعى فى ظل القيم الانسانية والمعتقدات المتعارف عليها قد يجنح بالجمهور إلى رفض أو قبول العمل الأدبى أو المنتج القرائى الاستهلاكى وذلك للمحافظة على الكينونة العامة للمجتمعات وتماسكها مقابل موجات التفكك والأفكار التى تحاول النَّيلْ منها لإخضاعها لتوجهات قد تضرب بها فى العمق، ومن ثم تنخرط فى عالميتها، لذا سعت أوروبا للحفاظ على مركزيتها المتمثلة فى أنظمتها الفكرية ومعتقداتها وبالضرب على أى محاولة للخروج أو الانسلاخ من تلك المركزية فكان رفض التيارية داخل أنظمة الحكم، وخضعت حتى الأعمال الأدبية لمنطق الأيدلوجية للمحافظة على النزوع الفكرى من الإنزياح أو التخلخل الفكري، ومن ثم التخبط والانخراط في ثقافة الآخر.

لذا حرصت المجتمعات الأوروبية -حتى فى اعلاناتها- ورسائلها الاعلامية إلى المحافظة على الهوية الأوروبية، كما سعى اليهود لإلصاق نزعة السامية بهويتهم والدفاع عنها، مع أن العرب من المجتمعات السامية، إلا أن المصطلح اتجه إلى اليهود لتغليبهم الهوية والمركزية للحفاظ على المعتقد والكيان...

ولكن هل سعى الجمهور الأدبي العربي، أو الخطاب العربي لمثل تلك المركزيات؟!

إنها أسئلة يمكن أن تفتح مجال الدرس الأدبى لأهمية التلقى والرسالة ومضمونها وتوجهها لمخاطبة المتلقى، ولكن مع رفض التوجه الأيدولوجى حتى لا يُتَّهَم خطابنا بالعنصرية والنزعة العدائية مثلما هم تماماً على هذه الصورة، وان حاولوا تمويه ذلك الخطاب ...

يجب على المتلقى إذن أن يتسلح بثقافة ترتقى بالكاتب أو المادة المقروءة حتى لا يصاب بالاحباط من جهة، أو أن يعيد اختيار ما يقرأه أو ما يسمعه ليتم التواصل مع المنتج الاستهلاكى الثقافى وذلك باعتبار الابداع منتح استهلاكى لدى المتلقى القارئ، كما يجب على الكاتب أن يرقى بالمتلقى وأن يتدرج معه ليأخذه إلى لُبِّ الرسالة الثقافية أو العمل الإبداعى، كما يجب أن يحدد إلى من يتوجه الخطاب الأدب، هذا إذا كان المنتج الأدبي( الكاتب) يريد أن يرى أثر النتاج الأدبى، أو يكسب الجمهور، أو يخرب أثر الكتابة ومداها لدى القارئ، أما إذا كان التوجه يعنى فئة معينة من المجتمع فهذا أيضاً يحتاج منه إلى وضع علاماتٍ كتأشيرة دخول للمنتج الأدبي، ولا نقصد بالطبع المواضعة، وانما نقصد السمو بالخطاب الأدبى مع الحفاظ على التوجه العام وليس الأيدلوجى بالطبع حتى لا تُنَمِّط الثقافة ونخضعها لتوجهات مذهبية أو عقائدية أو مجتمعية وذلك انطلاقاً من مقولة مفادها:

أن الابداع ليس له وطن، هذا إذا لم نغفل مقولة موت المؤلف أو الكاتب، كما لن نغفل أيضاً نظرية الفن للفن، والا أغفلنا المذاهب الرمزية والتفكيكية والتأويلية واعتمدنا على واحدية المعنى والتفسير الحرفي، وتلك مذاهب انتفت قيمتها فى ظل التقدم التكنولوجى الحادث فى العالم الآن...

ولكن يبقى السؤال عن الماهية، وعن المفهوم لمعنى المبدع والمتلقى، والرسالة الأدبية أو المنتج الأدب]، ثم الأثر الناشئ عن فعل الإبداع ومداه التأثيرى، ومدى بقاؤه أو انتفائه بفعل التوجه الأيدلوجى أو المذهبى أو التوجهات الاجتماعية، وهذا يقودنا إلى صراع الحضارات، وذوبان الثقافات، بل ومحو الحضارات ، فكم من حضارة سادت ثم بادت بفعل التوجهات الأيدلوجية دون النظر لنظريات النشوء والارتقاء والنمو والتطور، ثم مدى ملائمة كل ذلك للتوجهات الانسانية، ولن نقول العالمية بالطبع.

يبقى جزء آخر ألا وهو علاقة الناقد بكل من الكاتب والنص من جهه والقراءة الجديدة للنص أو اعادة انتاجه وتحميله بأيدلوجية خاصة نابعة من ثقافته وتوجهه هو كناقد وكيفية تقديم كل ذلك للمتلقى، أو تحميل النص بالاضاءات الجديدة المنحازة بالطبع لطبيعة الناقد وتوجهاته وأثر كل ذلك على المتلقى، ومع عدم اغفال المناداة بضرورة القطيعة بين ما يقدم الناقد فى الدرس النقدى للنص، وبين فهم القارئ وتوجهاته نحو النص، كى لا يتحمل القارئ أو المستهلك للنص أيدلوجية اضافية يضيفها الناقد ، قد يقبلها أو لا يقبلها القارئ العادى قبل القارئ العليم أو القارئ الناقد، أو حتى القارئ البدائى، أو الذى تحدث عنه ابن خلدون كما أسلفنا من قبل ؟!!.

إذن فاخضاع النص لمشرط الناقد يجب أن يقتصر على الدرس النقدى ويبقى الجمهور الأدبى بعيداً عن التأويل الذى يمكن أن يكون خاطئاً فتغيب الرسالة الأدبية بين الكاتب والناقد من جهة ، وبين الكاتب والناقد والمتلقى من جهة أخرى، فتفريغ الرسالة بوضع رمز أو مفاتيح لها من قبل الناقد هو أمر لا يصبح من قبيل الأمور الخاصة بسيكلوجية المتلقى ومدى قبوله للوصاية الأدبية أو اعادة انتاج النص وتأويله، أو تحويله إلى توجهات أيدولوجية أو مجتمعية قد تفقد النص معناه ومذاقه وهدفه، أو قد تتناص معه فى مداخلات تتقاطع مع مضامينه، وقد تفيد أحياناً فى اضاءة النص أو قد تضر العمل الأدبى فيما أميل إلى ذلك..

إذن نحن أمام أسئلة مفادها: من هو المبدع؟ ومن هو الناقد؟ ومن يكون المتلقى؟ ثم إلى من يتوجه الخطاب الأدبي أو الرسالة؟ ثم إلى نوعية ذلك المتلقى؟ ثم هل للناقد الحق فى الوصاية الأدبية أو تحميل النص مضامين اضافية بما يعنى اعادة قراءة أو إنتاج النص الأدبى ليخدم التوجهات المجتمعية يسمو بقيم لم يقصدها الكاتب أساساً، وبالتالى تتنافى النظرية الجمالية للتلقى والتى نبعت من ألمانيا وهذا لايعنى مناصرة لمدرسة "ما بعد الكولونيه "، أو للنظريات التى ظهرت بعد الثورات الإنسانية الكبرى كالثورة الفرنسية والبلشفية، وثورات الشعوب بتوجهاتها الاشتراكية أو الطبقية، أو تلك التى تخدم الثقافة الخاصة" الواحدية "ضد ثقافة المجتمعات وضد طبقات البروليتاريا الكادحة، أو تلك المجتمعات الفقيرة المعدمة!!

نحن الآن إذن أمام قضية تتعلق بالإبداع من جهة، والتلقى من جهة أخرى، ويصبح الكاتب والقارئ طرفين جريحين للنص، ولا نقول نقيضين، فالكاتب يسعى ليصل مضمون نصه إلى ذهنيه القارئ، كما يسعى القارئ لقراءة ما أراده الكاتب خلق السطور، وهنا تتداخل الإشارة والايحائية وسيكلوجية القارئ ومزاجيته وحالاته الانفعالية فإما أن تكون لصالح النص، أو ضده، ولكن مع كلٍ يبقى النص هو النص، وتبقى جدلية العلاقة بين الكاتب والقارئ رهينة لخلود النص أو انتفاءه، ولكن مع كل هذه المعطيات تبقى جدلية العلاقة قائمة ، وهنا ينطلق الخيال وتتعدد الرؤى فى عالم النص الأدبي.

ثقافة الصــورة بين الأدب والسياسة(3)

تغيرت الحكاية في قرننا الجديد، وبفضل أدوات المعرفة وتكنولوجيات التطبيقات الحديثة تحول الكثير من الخيال الي واقع يثير دهشة جدتي..

ويدين العلم كثيرا لشطحات الخيال مثل رحلات جون فيرن في عالم البحار أو داخل جسم الإنسان أو غزو الفضاء وغيرها..

وربما تأثرت السياسة بعد أمير ميكيافيللي بذك أيضا، فهي في حاجة الي تقنيات القص والإثارة الدرامية، وحيث تتحول شطحات الخيال ومغامرات سينما هوليوود الي واقع ملموس.

النص الصورة كان بداية عصرنا الجديد، فلك الحرية ان تفتح التلفاز ومن ثم تأخذك الصورة ..ربما تري الصورة جميلة ولكن عندما تقترب تختلف وجهات النظـر..

وقد نتفق علي أن عالمنا الذي قفـز من المسموع الي المرئي مع! عالم الفضائيات طارحا ما يسمي حضارة الصورة قد تغير بشكل كبير.. يبدو مع  الاقتراب من منمنمات الصـورة أنه قـد تراجعت قيم كثيرة منها الفكـر والعقـل، وظهـر بدلا منها الشكل والمظهر والإطار وحرية التجريب مع تداعيات التيارات النقـدية المحتلفة الحر منها وغيره..

ومع تيارات الوعي واللا وعي ما زال تفاوت التطـور التقني علميا وثقافيا بين عالمنا العربي والعالـم الحديث يلقي بظلاله الرمادية التي تتسع مع مرور سنوات ما بعـد حادثة الأبراج الأمريكية الشهيرة وذلك علي منطقتنا.. لقد أصبح الفارق كبير بين من يجلس الي صورة التلفاز ومن يستحضر صورة الكمبيوتر..

ونأتي إلي عالم الأدب بعـد أن خرجنا تاريخيا وجغرافيا من أبواب ثورة العلم والمعرفة الخلفية مع اصرارنا علي الاحتفاظ بخيالنا والحياة في عالم الاحلام، وذلك حيث يبدو ان نظريات الحداثة وما بعدها قد طرحت ظلالها بالعالم الغربي مع إبهار الصورة وصولا الي التفكيكيه وإعادة التكوين، ومع التناص والقدرات الخاصة والامكانات المتاحة يمكن اعادة التكوين عشرات المرات.. بينما كان العالم العربي ـ والذي اشتهر بأنه أمة صوتية ـ يحاول تطبيق نظريات ما قبل الحداثة ويتوقف فاغرا فاهه أمام البنوية.

ومع الغرام المفاجئ بين الأدب والسياسة وثقافة الصورةـ والتي توقفت عند شعر المديح والهجاء ثم ثقافة الانبطاح عندنا ـ كانت هذه النظريات في عالم السياسة في حاجة الي ميدان رماية لتطبيقها واخراجها من نطاق التخييل وربما الأسطورة والواقع الأدبي إلي العالم الآخـر، أو رؤية الصور عمليا لهذه النظريات..

ومع تسلل منمنمات الثقافة الغربية واسلوب حياتها ومنتجات التكنولوجيا الي حياتنا اليومية جاء عالمنا العربي وبنيوته الساكنة، وحيث موت المؤلف وسقوط النص بين براثن المتلقين ليشغل بقوة مركز الصدارة لتطبيقات عالم ما بعـد الحداثة، وتتم تجارب التفكيكية وإعادة تركيب النص في اكثر من منطقة باراضيه، مع انشغال مثقفوه بمعارك دون كيشوتيه حول الثنائيات الشهيرة مثل الدين والعلم، الأصالة والمعاصرة وغيرها..

مع الصراع بين الصورة والمونتاج كان ملعب السياسة وفن الممكن، وجاء دور التكنولوجيا والأدب ليقول كلمته، من الخيال الي الواقع، أو النظرية الأدبية والتطبيق السياسي.. وعشنا مغامرات عسكرية مع الصورة.

وقد يكون البعض قد مارس متعة حقيقية وصور المعارك الشرسة تنقلها الفضائيات كل ثانية، ويشارك في الحرب من منازلهم طارحا خياله الأدبي بين حبات اللب والسوداني، مشدوها بالشكل والإطار.. وربما تأذت مشاعر البعض ـ رغم المساحيق ـ مع انتهاكات حقوق الانسان وفضائح السجون وصور التعذيب بكل الألوان وقفزت دموع البعض الطبيعية من مكامنها.

لكن أبلغ الصور مابين التفكيكية والبنوية أو الواقع والنظرية من وجهة نظر أدب حضارة الصورة كانت تلك المفارقة لظلال الصورة والواقع ومع هذه اللمحة..

عشية حرب الخليج الأولي والانتصار لحرية الضعيف رفع الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب كأسه عاليا تحية للعـرب الذين اطلقوا اسم بوش علي ابنائهم لتبدو ملامح الصورة أكثر بريقا في عيون المارينز وماكدونالد وهوليوود والطريق الممهد للشرق الجديد..

وسعت الادارة الامريكية لصنع نماذج عملية لتأكيد رؤية هؤلاء الثلاثة ، واختارت بتوصية من الأصدقاء حليفها السابق ـ لتبدو ملامح الصورة أكثر ضبابية ـ ليكون الانموذج .. وبالحرب علي العراق وتفكيكها وسجن ومحاكمة رئيسها السابق وذبحه في مناسبة خاصة جاء التجريب علي انماط متعددة..

كان الهدف ان تكون (نموذجا) اجتماعيا وسياسيا ، وحضاريا بالشكل الجديد للشعب العراقي (وكمقدمة لتعميم النموذج في المنطقة)..

وأيضا يكون الجزاء المماثل لمن يحاول تغيير الصورة..

واختلفت الصورة بعد حرب العراق وزينتها ما بين التزييف والمونتاج، وتعـددت وتنوعت المشاركات المحسوبة والعشوائية مع الموسيقي الصاخبة في تكوين ملامح الصورة.. والأمثلة التي تنقلها شاشات الفضائيات أو أدب حضارة الصورة ليست أدل من هـذه القصـة المخزونة بالذاكرة كما نقلتها وكالات الانباء لتكتمل الصورة:

هل أتاكم ـ مثلا ـ نبأ ـ الغلام العراقي أسامة نبيل (10 سنوات)..؟..

انه يفكر في ترك المدرسة وهجر التعليم..!!

.. لماذا...؟..

لأن ملامحه العامة تشبه ملامح جورج بوش الابن.. وهنا كانت المفارقة حيث تشابه الشكل واختلاف الاسم، وبمقتضى هذا التشابه أخذ أقران أسامة في المدرسة يطلقون عليه اسم بوش، والواضح ان هذه المرة كانت حالة رد فعل عكسي بخلاف حالة بوش الاب.. فامتلأ الغلام غيظا من إطلاق اسم بوش عليه. وفكر في هجر المدرسة والتعليم وقال:

«ما زال أبي يحاول إقناعي بالبقاء في المدرسة، لكن إصرار زملائي في المدرسة على إطلاق اسم بوش عليّ جعلني أشعر بالحزن ففضلت العزلة، وأفكر في ترك المدرسة لأن هذا الاسم أصبح ملتصقا بي وأتمنى الخلاص منه بأية وسيلة كانت..»!!

وبتكبير الصورة مع حالة استنساخ الاسم لشكل مستعار واتساع مدلولاتها الشكلية والجوهرية، يبدو حجم النحس للحداثة أكبر من المخطط له من جهة، وتطرح وجهة النظر الأخري نفسها بقوة تفوق المستهدف، وتتعدد القراءات مع الزوايا المختلفة للصور الجديدة، وكأن شخصيات الصورة تتحرك بمعـزل عن الكاميرا والقمر الصناعي ..

وعودة الى الأدب الورقي وتجارب الشخصيات غير النمطية وحرية الشخصيات في التمرد علي المؤلف .. ونظل نتساءل مع القراءة الأعمق للواقع ـ ومن قبلها معطيات التاريخ ـ هل ما زال العقل زينة مع ما سيحدث ـ بعد موت المؤلف ثم موت النص ـ ومع نبيل العربي أو المستقبل القريب

الغذامي: وإفقار المفاهيم(4)

فالكيفية التي وقع حسبها تلقف مقولة »موت المؤلف« في الراهن النقدي العربي تعبر, في حد ذاتها, عما مارسته تلك المقولة من جاذبية وفتنة في الدراسات التي استعارتها ووقعت في دائرة سحرها. لم تستقدم المقولة باعتبارها مفهوما له كثافته, وله حمله المعرفي, بل وقع التعامل معها على أنها لقية فريدة, لقية نفيسة, لقية لم تتولد عن النظر في النصوص الإبداعية والإصغاء إلى ما يعتمل في أقاصيها وأصقاعها من تنابذ بين رغبات المؤلف وشروط الفن, بل جاءت نتيجة ضربة حظ . فلا جهد ولا كد .لا تعب ولا رشح جبين.

يجسد كتاب عبد الله الغذامي ثقافة الأسئلة مثلا هذه الظاهرة. فلقد تشكلت المقالات التي ضمها كتاب الغذامي مأخوذة إلى حد  الهوس بمقولة »موت المؤلف«. لذلك حفلت بمفاهيم من نوع »التفكيكية« وسالتشريحية سو »موت المؤلف« و»البنيوية« و»السيميولوجية« و»النصوصية«. ولذلك أيضا  توهم المقالات بأنها منخرطة في الجدل النقدي العالمي, وبأنها لا تستقدم المفاهيم فحسب, بل تسهم في إثرائها وتأصيلها. لكن  الناظر في كيفية تعامل المقالات مع تلك المفاهيم يلاحظ, في يسر, أن خطاب الغذامي يمحو كثافتها وي فقرها.

فالمفهوم  يستقدم ويحول عن مقاديره. وإذا الحرص على تأصيله يصبح محوا لكثافته وتعطيلا لدلالاته. وطبيعي, بعد ذلك, أن يصبح حديث الخطاب النقدي العربي عن »موت المؤلف« في نصوص ترجع أغلب أسباب وهنها وضعفها إلى ما يمارسه المؤلف من سطوة على المتلقى ومن تعسف للكلام وامتهان للفن , محملا بالدلالات.

إنه أمارة على أن المفاهيم تشرع, لحظة استقدامها من أوطانها, في حبك مكائدها. وهو, في الآن نفسه, علامة على أن عملية نقل المفاهيم من ثقافة إلى أخرى لا يمكن أن تحصل على الت مام إلا متى حدث فعل تحويلها. (.......)

....................................................................

1-  حاتم عبد الهادى محمد/ اتحاد كتاب الانترنت

2- مجدي ممدوح/ جريدة الراي الاردنية

3- الشربيني المهندس/ مجلة الطريق

4 - محمد لطفي اليوسفي  / مجلة نزوى

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 19 نيسان/2007 -28/ربيع الاول/1428