أنا أقتل أذن أنا موجود

يحيى حسين زامل

  من المؤكد أن هذا العنوان يذكرنا بالقول المشهور للفيلسوف (رينيه ديكارت).... (أنا أفكر أذن أنا موجود) والذي كان يعد رائد الفلسفة العقلانية في العصر الحديث، و كان في الوقت نفسه رياضياً ممتازاً إذ أبتكر الهندسة التحليلية.

    وحين يستدل ديكارت ويعبر عن وجوده بهذه العبارة المقتضبة بعض الشيء والتي تحمل بين طياتها مداليل واسعة ذات أفاق أنطولوجية  متمحورة حول الوجود واللاوجود، وبما أن تلك الاستدعاءات القادمة من عمق الفكر الإنساني والتاريخي هي نتيجة ركام الكثير من التأمل والتفكر المبدع والخلاق لاستدراج الحقائق الغائية وتحويلها إلى نتاج معرفي يمكن من خلاله إيصال الرسالة الإنسانية وفهم ماهية الوجود من خلاله.

    وإذا كان صاحب الحكمة المشهورة (أنا أفكر...........) يعد رائداً للفلسفة العقلانية في زماننا المعاصر كما يفهم أهل الفلسفة فماذا يعدنا أولئك الذين يرفعون الشعار (أنا أقتل أذن أنا موجود) وأصحاب مشروع الإبادة والقتل المجاني عبر مؤسسات الموت والاحتضار الهيولي المزمع نشره بين أوساط الشعب العراقي ليعبر عن وجوده عبر ممارسته الانطفاء الإنساني والحضاري للشعوب وفق برغماتية فاقت حتى برغميات الذين صنعوا تلك البرغميات المتناطحة أو المتنافسة.

   حقاً لمن المؤسف الذي يبعث على الأسى أن يعبر عن الوجود بإطفاء الوجود وهلاكه، والحقيقة البائسة التي تحشر رأسها عنوة فينا هي الكيفية التراكمية لهذا الخط الذي لم يكد ينفصل من سلسلة متعاقبة، والتي كانت ولا زالت قبالة الأفكار المشرقة والسامية التي يحملها المصلحون عبر فضاءات هذه الحلقات السقيمة والمهووسة.

    وإذا كان أحداً من هؤلاء يثير الشك ويعتبر التراكم الغباري هو تراكم ايجابي يجهد بوضع الحقائق وفق المسارات التاريخية المتسلسلة في حياتنا كما يثير ديكارت شكوكه فيقول (أني أفترض أذن أن كل الأمور التي أشاهدها هي باطلة وأقنع نفسي بأنه لم يوجد شيء مما تمثله لي ذاكرتي المليئة بالأكاذيب وأتصور أن لا يوجد عندي أي حس،وأعتقد أن الجسم والشكل والامتداد والحركة والمكان ليست إلا تخيلات من صنع عقلي فماذا يعد حقيقياً) مبادئ الفلسفة الإسلامية / ص38.

    وإذا كان أحدنا ينظر إلى كل ما يجري ويبدأ بتفسيره وفق ما يقولوه ويدعّوه ويكّذب كل ما تشاهد عينيه وتسمعه أذنيه ويقلبه قلبه ليقنع نفسه أن كل الذي يجري وما جرى وما سيجري ما هو إلا نفخ الغبار عن الحقيقة الواعية التي تحاول اختلاس لحظة من الوجود لتعيد الترتيب الكوني المندرج على الفوقية الأبدية المختارة من السماء، والكلية التي لهل الحق بتسمية الأسماء وفق معيارية خاصة بها حتى لو كان الأسود أبيضاً أو العكس، ولكان يستلزم علينا أن نستبدل كل أدواتنا المعرفية وكل القواعد التي تخضع المحسوسات إلى التحليل، بل كل حواسنا الطبيعية التي وهبتها لنا السماء لنبقى مجردين إلا من أوهامهم السقيمة التي تمجها أسفه العقول فضلاً عن أحذقها.

   ويرى البعض أن هذه الأزمة العقلية لم تكن وليدة هذا الزمن الذي يعيش صراعات وأزمات تضرب صفحة التاريخ الإنساني وتصفعه ليرتد منزوياً تاركاً الساحة لتلك التوجهات التي تؤمن بسطوة السيف وما يغنمه ما يؤسسه من نظم ورؤى طالما أعلنوها في السر والعلن وفي محافلهم وأجهزة أعلامهم بل في أكثر الأماكن قداسة والذي يفترض فيه مكاناً يشيع الآمان والسلام.

حتى قال قائلهم : (نحن قوماً إذا أشرتم برؤوسكم هكذا  أشرنا هكذا) وهو يشير إلى رقاب الحضور من جهة وإلى سيفه من جهة أخرى.

   وإلى ما قبل 1400 سنة  ونيف جاء من أراد أن يعيد مفاصل هذه النظم ويعيد ترتيبها وفق المصلحة العليا الحقة لإرادة السماء،وقد تم بالفعل تأسيس لبنة رئيسية في جو من  الحضور الإنساني والحضاري أزدهر لفترة ما ليضمحل بعد أن غادر ذلك المصلح الكبير ظهرانيهم لتسود نظماً أكثر تعقيداً بعد أن وظفت تلك النظم الجديدة لصالحها ذلك المشروع الإصلاحي فق تخطيط خبيث نشأ عليه أكثرهم وتطبع فيهم.

   وإلى يومنا هذا نرى الكثير من مخلفات هذه النظم البائدة تتجدد في كل عصر لتطلق العنان لغرائزها في الفساد في الأرض وتحاول جاهدة أعادة كل الأمراض الكامنة في نفوسهم من طور القوة إلى الفعل، وما تشهده الساحة العراقية لم يكن إلا مسرحاً لتلك المشاهد الدراماتيكية العائدة من عمق التاريخ المظلم، فهناك في الظلام تتكاثر مثل تلك الأمراض والأوبئة تلقائياً ما دامت لها حواضن ترعاها وتوفر لها الجو المناسب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 17 نيسان/2007 -26/ربيع الاول/1428