مصطلحات سياسية: إعلام جماهيري.. إعلامياء

 إعلام جماهيري / إعلامياء

MASS MEDI

Mediologie

1- الإعلام الجماهيري: (وسائل الإعلام الحديث، المكتوب، المسموع، المرئي) مصطلح فني، مركب (إنكليزي – لاتيني) يدل على اتساع الاتصالات الجماهيرية، من الصحيفة إلى الإذاعة والسينما، وصولاً إلى الهاتف بكل أشكاله، والتلفزة والانترنيت.

يُقصد بالإعلام الجماهيري الوسائل الإعلانية والمعلوماتية التي تطول جمهوراً عريضاً جداً، والتي توفر للجماهير ثقافة جديدة، قوامها المعلومات المسجلة، خلافاً للثقافة المدرسية أو الأكاديمية، المبرمجة على نحو آخر (ثقافة النخبة وأهل الاختصاص).

تنفرد ثقافة الإعلام الجماهيري بأنها سياسية بامتياز، فهي تقوم على أساطير النجوم والأبطال، وعلى القيم (القوة، الفخامة، الشباب، الاستهلاك) وتلبي عموماً ثقافة النساء، الثقافة العامية.

2- الإعلامياء (الميديولوجيا): مصطلح جديد، استعمله ريجيس دوبريه في كتاب له بهذا العنوان (أو علم الإعلام العام، باريس 1991، بيروت 1996)، بمعنى علم وسائل / وسائط الإعلام، موضوعه: (درس الوسائط المادية التي يتجسد عبرها الكلام). يفرّق ريجيس دوبريه بين ثلاث مراحل لتاريخ الإعلام:

- مرحلة الإعلام الخطابي، الكلام، المتوافقة مع عصر الكتابة والعبادة؛

- مرحلة الإعلام الخطي، الكتابة، المتوافقة مع عصر الفن (من الطباعة إلى بداية التلفزة)

- مرحلة الفيديو (أنا أرى)، المتوافقة مع العصر البصري: (في العصر البصري، يُرى كل شيء، ولكن لا تعود ثمة قيمة لأي شيء مرئي).

علم الإعلام يضعنا مباشرة أمام سياسة الصورة، صورتنا وصورة الآخر، الصورة التي تسيل بسرعة، تظهر وتختفي، تؤثر وتغيب، وهذا ما سيعطي لآباء العقائد السياسية وقادة الدول المتقدمة، المتفوقة إعلامياً، قوة تأثير بصري، واختراق نفسي – سياسي للجماهير في العالم، غير مسبوقة في تاريخ الإعلام، والإعلان والدعاية، لتدبير أو تسويق آراء ومواقف سياسية معينة.

..................................

متعلقات

 

المجتمع الاستهلاكي: الأسطورة وصناعة الزائف(1)

يعلمنا رولان بارت أن عالمنا الراهن يصنع أساطيره أيضاً، ويبدو أن الإنسان بحاجة دوماً إلى أساطير تعينه في العيش، والتكيف والتواصل، وقد باتت صناعة الأسطورة وظيفة سياسية، ويؤشر أرنست كاسيرر ظهور قوة جديدة مفزعة في الفكر السياسي الحديث هي قوة الفكر الأسطوري حتى ( أصبحت غلبة الفكر الأسطوري على الفكر العقلاني واضحة في بعض المذاهب السياسية الحديثة . وولادة الأسطورة تحددها شروط اجتماعية/ تاريخية، ولها في الغالب أساسها من الحقيقة والواقع، وإذا كانت تتخذ أشكالاً لاعقلانية فإنها تتوجه نحو مقاصد هي في الصميم مرسومة بقوة العقل ومنطقه. وبحسب كاسيرر فقد ( وصفت الأسطورة دائماً بأنها نتيجة لفعل لا شعوري، وبأنها نتيجة لانطلاق الخيال، ولكننا في الأساطير السياسية الجديدة نرى الأسطورة تتبع مخططاً فهي لا تظهر عشوائياً. إنها ليست ثمرة شيطانية من صنع خيال خصيب. إنها أشياء مصنوعة قد صنعها صناع مهرة ماكرون إلى أبعد حد .

أما هربرت ماركوز فيؤشر إمكانية رجوع الفكر العقلاني إبان تقدم الحضارة إلى الحالة الميثولوجية، وكما يشير: ( ما زالت عناصر التضليل الأسطوري تستخدم إلى اليوم، وتستعمل بصورة منتجة في الدعاية والإعلان والسياسة. فالسحر والخزعبلات يمارسان تأثيرهما على نحو روتيني ويومي في البيت والمخزن والمكتب، وينتشي الناس ويشدهون بالإنجازات العقلانية التي تحجب لاعقلانية النظام ).

وبعد ربع قرن يعود نعوم تشومسكي ليتحدث مجدداً عمّا تفعله الإستراتيجيات الإعلامية للرأسمالية الغربية من تكريس للأصولية واللاعقلانية في مجتمعاتها، حيث يقول عن المجتمع الأميركي بأنه لا يقل أصولية عن المجتمع الإيراني، في سبيل المثال.

ها هنا يتم خلق مجتمع هش، فاقد القدرة على النقد والتمييز، مطواع، ومن الممكن أن ينقاد بسهولة لأية مزاعم.. تختلط عنده الحقائق بالأكاذيب والأوهام. أما أولئك الذين لم يعودوا يطيقون هذه الرذائل والخدع، ويعيشون حالات من العزلة والاغتراب فإنهم يُقصون، ولا يتاح لصوتهم النقدي التأثير في الوسط الاجتماعي. وقد يتشبث بعضهم، بعد طول يأس، بالخرافات والخزعبلات أيضاً، يتوسلون المعونة من وراء عالمهم الواقعي، أي أنهم يلجأون إلى الأساطير ـ الضد، واقعين في الفخ ذاته. فاليوم يبتكر النظام الاستهلاكي رموزه وطقوسه وآلهته كذلك، أي أسطورته، وتسوّق هذه الأسطورة إعلامياً وثقافياً، ومن خلالها يجري تقنين الحاجات والرغبات والأذواق والقناعات. وما يحصل هو بهرجة وتنوع ووفرة، مع إفراغ كل شيء من المعنى، وربما لهذا قال جان بودريار عن أميركا بأنها صحراء من اللامعنى.

يتقن المجتمع الراهن صناعة الزائف، لا في شكل أقنعة فحسب، وإنما على هيئة أغراض حيّة. ولقد بات إنسان عصرنا متوائماً ومتواطئاً مع مناخ الزيف هذا، إلى الحد الذي لا يعد وعيه واكتشافه للمزيف عنصر إرباك يجعله يراجع نفسه أو يتراجع. وإذا كان الإعلام بأجهزته وآلياته ومؤسساته وإستراتيجياته يسوّق الزائف فإنه لم يكن وحيداً في الميدان.. إن مؤسسات شتى، سياسية وثقافية تعاضدت معه لتكريس العالم الزائف الذي نعيش فيه.

إن إنسان العصر صار يتبع تقاليد وأعراف وتعاليم ديانة زائفة هي ديانة الاستهلاك البورجوازي.. إن كل شيء مهيأ للاستهلاك بثمن، فحتى ما هو روحي يتحول إلى سلعة.. لقد سقطت مقولة السلوك الاقتصادي الرشيد، والبحث عن أقصى درجات المنفعة إزاء توجه هذا الإنسان المظهري حيث الادعاء والتفنج.. إنه يريد أن يكون شيئاً ما، هاماً، من خلال استهلاكه، أمام الآخرين.. إن كثيراً من الرياء والنفاق يطبع سلوكه كما سلوك الآخرين من أقرانه، في ضمن مجتمع لم يعد يأبه كثيراً بالتمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف. وعند هذه الفجوة تتجلى فداحة الأزمة الأخلاقية للمجتمع.

إن إستراتيجيات نظام الاستهلاك تخلق في النهاية الإنسان الممتثل، المدمج في واحدية الاتجاه البراغماتي، حيث الجميع ديدنهم مصالحهم الأنانية الضيقة.. إن تلكم الإستراتيجيات كفيلة بضخ الحيوية في جسد الرأسمالية وترويض أزماتها. والاستهلاك مع تحوله من ظاهرة اقتصادية إلى أسطورة يضمن للمجتمع الرأسمالي تجديد نفسه، واستمراره.

والآن، صارت الموضة علامة مجتمع الاستهلاك، فلا شيء يلبث على حاله ـ على الأقل في الظاهر ـ فالموضة اختلاف على صعيد الشكل، غالباً.. اختلاف مؤقت، مهدد بموضة أخرى "اختلاف آخر مرتقب" وهي جذابة إلى حين.. المختلف المؤقت والجذاب شكلاً، بديل عن حضور المعنى، فالجاذبية، ها هنا، تفتقر إلى أي مضمون ذي دلالة عميقة. وفي مجتمع خاضع لآلية إنتاج الموضات ستكون الضحية الأولى هي الحرية، فأنت حر في أن تتبع الموضة، وإلاّ ستنبذ وتهمش، وهذه الآلية تشتغل على صعيد الثقافة والإعلام كما تشتغل على صعيد سوق السلع والأزياء، فقد غدا اختراع واختلاق الموضات الثقافية بديلاً عن إحداث تحولات جوهرية في عالم الثقافة.

إن الموضة تقطع مع ما مضى.. إنك معها ممنوع من التذكر، ناهيك عن الاستعادة.. إن المطلوب أن تكون معاصراً، وفي هذه الحالة حتى المستقبل لا يهم إلا بمقدار ما تتقرب موضة أخرى لتقطع مع الحاضر.. إن صناعة الموضة خديعة رأسمالية للحيلولة دون صناعة الثورة.

وشيوع موضة ما تحقيق للقطيعية، فمن خلالها يجري إدماج البشر في إطار ظواهر شكلية أو سلوكيات، أو ممارسات محددة، حيث تغدو للموضة مضمونها السياسي.. إن حدثاً أولياً ـ قصة شعر مطرب، مثلاً ـ تتناسل كاريكاتورياً بعد أن تستنسخ بمئات آلاف النسخ على مئات آلاف الرؤوس لتعرض في كل مكان ـ أحياناً في القارات كلها ـ والمستنسخون كاريكاتورياً هم مقلدون، أي أنهم لا يستطيعون أن يكونوا أنفسهم.. إنهم يهربون من أنفسهم من خلال الموضة إلى ما هو زائف، مضحين بتفردهم وحريتهم الذي يبدو أنهم يخشونها، أو يخشون عبئهما.. إن هؤلاء هم، في حقيقة الأمر، قطعان مهيأة للانقياد بحسب مشيئة السلطات القائمة.. إنهم مشاريع فعل لكل ما تقتضيها الإستراتيجيات العاملة في مؤسسات الهيمنة والسيطرة والتحكم.. إن المجتمع الذي يدّعي أنه ديمقراطي يسعى من خلال آليات صيرورته إلى تجريد الإنسان من هاتين الخصيصتين اللتين هما دعامتا أية ديمقراطية، أي الإحساس بالتفرد والحرية. فمن يختار الحرية والتفرد يصور كحالة شاذة ومنبوذة، لأنه وقف وربما من دون أن يدري ضد إيديولوجيا المجتمع الاستهلاكي، وموجهاته الخفيــة، ( فالرفض الفكري والانفعالي للامتثالية يبدو وكأنه علامة عصاب وعجز ) كما يقول ماركوز.

وساعدت صناعة الصور على ترسيخ ظاهرة الموضات، في الحقول كافة، ولا سيما في المجتمعات ذات البعد الواحد ـ وأي مجتمع ليس كذلك في وضعنا التاريخي الحالي؟! ـ إن الاختلافات السطحية المصنوعة في سوق الموضات تشوش رؤيتنا لمسألة افتقاد مثل هذا المجتمع إلى التنوع الحقيقي.

تفتح صناعة الصور الأبواب واسعة أمام تنويع المعلومات وتدفقها واتاحتها لشرائح عريضة من الناس، في مختلف أنحاء العالم، بيد أن هذه الصناعة باتت تخضع لمنطق رأسمالي/ براغماتي هدفه مخاطبة عقول سلبية تتلقى هذه الصور، بشكل جاهز، وتتقلبها، كما هي، لتبني على أساسها أحكامها وتقويمها للأشياء والأحداث من دون رؤية نقدية. ويتنبه مفكر من طراز الفرنسي "ريجيس دوبريه" إلى هذه المعضلة فيؤلف كتاباً بعنوان ( الميديولوجيا ) والتي يقصد بها ( العلم الذي يدرس الوسائط المادية التي يتجسد عبرها الكلام ) ويطلق على المجتمع البشري "دائرة التواصل الإعلامي" ويرى في طوفان الصور الذي يحاصر الفرد المعاصر مفارقة أنها بدلاً من أن تشحذ الرؤية فإنها تسبب العماء.

إن الرؤية النقدية تكون بحاجة إلى فرشة معلومات كافية لتدعم مشروعيتها العلمية، لكن التدفق المشوش، وغير الموجه لقصدية واضحة للصور والمعلومات يسعى لتقويض الرؤية النقدية وسلب الشروط الموضوعية التي تجعل من تلك الرؤية إمكانية تتحقق. وفي حقيقة الأمر فإن ما يجري، بهذا الصدد، هو هذا بالتحديد، إضعاف ملكة التحليل والنقد عند الإنسان، ومن ثم إدماجه في ضمن قطيع ذي بعد واحد أسقط من قاموسه كلمات كانت في السابق القاعدة المفاهيمية للمثقفين ذوي النزعات اليسارية، ومن أمثلتها ( الكفاح الاجتماعي، الصراع الطبقي، التحرير القومي، الاشتراكية، حق تقرير المصير، الفكر الحر، الخ ).

إن ما يحصل هو تزييف للحاجات.. إن الإعلان والدعاية والإعلام هو ما يقرر للفرد ماذا يختار من سلع وأدوات وألعاب ووسائل لهو وتسلية، وآراء في شؤون الحياة ( فما الترويح عن النفس، واللهو، والعمل والاستهلاك حسب إيحاءات الدعاية، وحب ما يحبــه الآخرون وبغض ما يبغضونه إلاّ حاجــات كاذبــة في غالـب الأحيان ). كما يرى هربرت ماركوز.

إنك لا تختار بوحي إرادتك.. إنه الإعلان والإعلام الذي يوجهك في الاختيار. وإذا ما أدركنا دوافع الإعلان التجارية والسياسية أمكننا الاستنتاج بأن النظام الرأسمالي قادر بإستراتيجياته وآلياته على تسيير الإنسان على وفق مقتضياته وأهدافه البعيدة.

بين عصر البلاغة الإلكترونية ومجرة غوتنبرغ(2)

في إطار مقارنة شيقة بين النص المكتوب والنص الإلكتروني، ينعى ريجيس دوبريه هذا المتعدد البراعات والمبدع بحسب التقريظ الذي كتبه عنه إدوارد سعيد في "صور المثقف، 1996" أقول ينعى تراجع المكتوب في عصر الصورة والكتابة الإلكترونية. فمن وجهة نظره أن المكتوب ينتمي إلى عصر مضى وانقضى، إلى عصر في طريقه إلى الزوال، وأن عصر البلاغة الإلكترونية من شأنه أن يسهر على جثة المكتوب ليسارع الى دفنها؟

يكتب دوبريه، كما أسلفت، في نص شيق يغوي بالقراءة ويقول قولاً سحرياً في الكلمات والأشياء وما بعدهما، خاصة في إطار مقارنته بين النص المكتوب بطابعه القدسي، حيث ذلك الترابط القوي بين القدسي بكل تجلياته بالمكتوب على مسار تاريخ طويل من تاريخ الحضارة البشرية، وبين النص الإلكتروني. يقول في إطار مقارنته بين الكتاب ونظام الكتابة الرقمي: إن الكتاب، هذا الجسم المستطيل المتوازي الغريب، المؤلف من غلاف وثنايا وأول وآخر، كان الحاكم أو الآمر الناهي في نظام فكر وسلطة وثقافة، وأحسب أن الكتابة الرقمية قد تطوي هذا النظام. إن الركن الأول في نظام الكتاب هي فكرة الكل الجامع. فالكتاب هو جملة مجتمعة وقائمة، ومجموع مغلق على نفسه. فهو، لهذا، على الضد من انفتاح النص الالكتروني، وثمة في ثبات الكتابة ما يخالف ميوعة النص الإلكتروني وسيولته. فالكتاب زمنه زمن السرد والخبر والقصة، وله ابتداء ويجري إلى خاتمة، وهذه الصور الثلاث: السرد، الكل، الثبات، تبدو لي إلى انصرام، وهذا على العكس من الرقمي الذي، بقدر ما يشيع ويعمم، يعصى على الجميع في كل واحد. إنه يقدم التجاور على التماسك كما في حالة الكتاب، ومضماره "انسخ ـ الصق" بامتياز، فلا مركز ولامرجع جامع.

ما يريد أن يصل إليه دوبريه قوله إن عصر الانترنت يقطع مع عصر المكتوب. ففي حالة المكتوب يكون الكتاب محصوراً بين المؤلف والقارئ، أما في عصر الانترنت فكل الناس يحتفظون بحقهم في المشاركة في النص والدخول إليه، من فوق إلى تحت وبالعكس، فليس من مركز ولا من مرجع جامع.

في كتابه الصادر مع أواسط عقد التسعينات من القرن المنصرم "الميديولوجيا أو علم الأعلام العام، 1996"، راح دوبريه ينشئ لنا خطاطة تطورية تطال تاريخ البشرية، على غرار تلك الخطاطات التي روّجت لها الماركسية في عز مجدها ومدها، كذلك من كانت تسميهم مرغريت ميد "انتربولوجيو المقاعد الوثيرة". الخطاطة ترى أن تاريخ البشرية مرّ بثلاث مراحل، أو ثلاثة مجالات:

المجال الأول: هو المجال الشفوي ويمتد على تاريخ طويل من تاريخ البشرية، من أول رقيم طيني دشن فيه عصر المكتوب حتى اختراع غوتنبرغ للمطبعة في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، وفيه كان الله يملي والإنسان يكتب، وفي هذا الاطار جاءت الكتب المقدسة الكبرى التي لا نزال ندين بمرجعيتنا لها، في الكبيرة والصغيرة.

المجال الثاني: ويدعوه دوبريه بالمجال الخطي، أي عصر الكتابة الذي افتتحه غوتنبرغ. فمن الرحم التكنولوجي لمطبعة غوتنبرغ، ولد الكتاب والصحيفة والمثقف. ويذهب دوبريه إلى أبعد من ذلك، إلى قوله ولدت الاشتراكية أيضاً من حيث هي دعوة للعدل ومن حيث هي نشاط للمثقف ليدلي بدلوه في الشأن العام في إطار مساعيه لتغيير العالم.

المجال الثالث: يدعوه دوبريه بعصر المجال التلفازي، عصر الصورة والكتابة الرقمية، لا بل ان الفيلسوف والمهندس الفرنسي بول فيريليو يدعوه بعصر البلاغة الإلكترونية وعصر المراقبة الالكترونية الشاملة. في هذا العصر تطفو الصورة على ما عداها ويصبح الجميع أسرى الصورة التي تساهم، كما يكتب دوبريه، في تحديد إقامة بورجوازي الطابع. ففي القديم كان الناس يخرجون من بيوتهم لسماع الأخبار وتلقيها، أما في عصر المجال التلفازي الذي يفرض على المرء نوعاً من العبودية، ونوعاً من الصلاة له، فيستطيع المرء أن يعرف كل أخبار العالم وهو يجلس إلى جانب تلفزيونه الدقيق الاستقبال الذي أصبح بعداً حميمياً في المجتمع الاستهلاكي كما يتهكم هربرت ماركيوز في كتابه الشهير "الانسان ذو البعد الواحد". بصورة أدق، أصبح الإنسان يستهلك الأخبار كما يستهلك الهامبرغر. إنه المركز الجديد لثقافة عالم ماك، أي عالم الثقافة الأميركية المعولمة كما يكتب بنجامين باربر في كتابه "الجهاد ضد عالم ماك" وهو عصفورنا الذي يزقزق كما يكتب باربر، الذي ينتقل فجأة من مكان إلى آخر دون تحديد هدف.

إن عصر الصورة، كما يرى كل من دوبريه وباربر، يروج لثقافة جديدة لا يمكن وسمها بغير الاستهلاك، وهي ثقافة متعية، ثقافة بطن وجنس وعنف، بحيث تصبح جميلات الشاشة من المغنيات وشاربات البيبسي كولا الجميلات وأبطال الرياضة وطيارو الخطوط الجوية ومخترعو الحاسوب هم أبطال هذا العصر بلا منازع، الذي تتصدره أيضا ديناصورات الحديقة الجوراسية. فكل دقيقة عنف تنحت، كما يقول دوبريه في حواره مع ماريو فارغاس، آلاف المستهلكين. إن عصر الصورة يتأسس حقاً على حساب المثقف الذي جاء من الرحم التكنولوجي للمطبعة متأبطاً الصحيفة باليسار والكتاب إلى اليمين، وسعيد هو كما يقول الخطاب الديني من جاء كتابه بيمينه؟

من وجهة نظر دوبريه، يدشن المجال التلفازي عصر هزيمة المثقف، من هنا نفهم تساؤل دوبريه في كتابه "كي لا نستسلم، 1995" الذي ترجمه بسام حجار إلى العربية، ما جدوى أن يكون المرء مثقفاً؟ داعياً المثقف إلى العودة إلى حجره أو جحره، وعدم الادلاء بدلوه في الشأن العام. فالأفكار ما عادت تقود العالم؟ والكتب ما عادت تصنع الثورات؟ ومجرة غوتنبرغ إلى تقهقر والى موت، والعاقل من يدفن موتاه.

الاتجاه الثاني: يرى أن مجرة غوتنبرغ إلى توسع كما يكتب إمبرتو إيكو في إطار دفاعه عن الكتاب، فصقيع البلاغة الالكترونية، لم يحل دون وصول الدفء وأشعة الشمس إلى المجرة، وما المراهنة على موت الكتاب وتراجعه في عصور البلاغة الإلكترونية إلا ضرب من فنتازيا فكرية. فالنص المكتوب لا يزال يحتفظ بقدسيته طالما أن المقدس يشكل بعداً أساسياً في حياة الانسان. ألم يعنون ريجيس دوبريه كتابه الاخير بـ"النار المقدسة"، ذلك القبس الآتي من البعيد والغامض والمجهول؟ صحيح أن دور الكتاب في النهي والحكم إلى تراجع لكنه ما زال يحتفظ بسطوته على قرائه ومعجبيه المفتونين بهذا الكل الجامع الحاوي على أسرار. فالكتاب، وعلى مسار تاريخي طويل، دائماً ما ينطوي على سحر وسر معاً. ألم يكتب إمبرتو إيكو روايته الجميلة "إسم الوردة" التي تدور أحداثها كلها حول كتاب ينطوي على سر؟ فميوعة النص الإلكتروني أصبحت مشاعة لا تغري كثيراً بالبحث عن سرها، أضف إلى ذلك قابلية هذا النص للاختراق، وبالتالي انتهاك قدسيته حيث يستعصي ذلك على الكتاب، الذي تنوس سردياته عادة بين بداية ونهاية، وهنا تكمن متعة السرد ومتعة النص المقروء معاً كما كان يسميها رولان بارت، وحيث تتلاشى هذه المتعة مع ميوعة النص الالكتروني وكثرة التواءاته.

في الخواء الثقافي وظاهرة انتشار المسوخ

تـأمـلات مـن عصـر العولمـة(3) 

كان ريجيس اوبريه في كتابه الموسوم بـ "الميديولوجيا: علم الاعلام العام " قد عزا هزيمة الايديولوجيا الشيوعية إلى انتصار الفيديولوجيا على الايديولوجيا، انتصار الاستهلاك الفوري الذي يروج له التليفزيون (كلمة فيديو تعني بالإنجليزية تلفزيوني) على حساب الأفكار والقناعات. يقول اوبريه: التلفاز هو أولا آلة اقتصادية، وليس أنبوبا من الافكار وقسطلا من الحواس. بهذه الصفة إنه الباعث الأول والقائد الأول للايديولوجيا المسمدة اقتصادوية. فالآلة تحمل أخلاق صيانتها، منسجمة مع مجتمع الفردية المتعبة  والاستهلاك الفوري. وليس من طبيعتها إثارة مسارات  تجريدية أو استدلالية أو تركيبية، ولا إثارة النقد، بل إنتاج أوان صغيرة بطريقة السلسلة التي تدفع للاستهلاك ( الأمر الذي لم يكن معقولا في المدرسة). فهي ليست مصنوعة لنقل الأفكار ولا لإنتاج قناعة معينة، وإنما شيء ما بين القبول السطحي والإشاعة الاجتماعية، وقبول الإشاعة ( استطلاع، روح العصر، رأي عام، الخ...) وحسب وجهة نظر دوبريه هذه، فقد أصبحت الايديولوجيا عتيقة وبالية في مقابل الفيديولوجيا، فهزيمة الشيوعية يجب البحث عنها في مكان أخر، في قصورها بالصور أكثر من فقرها بالأفكار، في عتق مصانعها بالأحلام والتي لم تستطع منافسة هوليوود و" الكليبات " التليفزيونية. فالشباب الدائم لشاربات الكوكاكولا الجميلات ورجولة الكاوبوي المدخن للمارلبورو وموسيقى الروك الحواسية، ربما عملت على قلب الشيوعية أكثرهما عملته مؤلفات سولجنستين أو بيانات هافيل.

في دراسة له وتحت عنوان "ثقافة " الماك وورلد ,McWorld.  " في مواجهة الديمقراطية  " نشرتها اللوموند ديبلوماتيك في عدد أب / أغسطس 1998، يرى محرر الدراسة بنجامين باربر BARBER  الذي يشغل مدير مركز والت وايتمان للثقافة والسياسة الديمقراطية في جامعة  روجرز بالولايات المتحدة، أن ثقافة الـ" ماك وورلد " أي الثقافة العالمية الأمريكية هي الترجمة الحرفية للفيديولوجيا، التي تقطع مع الثقافات القديمة، ولكنها تلجأ إلى أسلوب أخر، فال "ماك وورلد" يتزين قليلا بطابع الثقافات التي يلتهمها، فإذا بالايقاعات الأمريكية اللاتينية تزين موسيقى "البوب " في الأحياء المكسيكية الفقيرة في لوس أنجلوس، وإذا بأطباق ماكدونالدز الكبيرة تقدم مع البيرة الفرنسية في باريس أو تصنع من لحم البقر البلغاري في أوروبا الشرقية. وإذا بـ "ميكي" يتكلم الفرنسية في ديزني لاند باريس. وفي وجهة نظر باربر أن قناة الموسيقى الأمريكية MTV والماكدونالدز وديزني لاند هي في نهاية المطاف، وقبل كل شيء، ايقونات الثقافة الأمريكية، هي أحصنة طروادة التي تتسلل من الولايات المتحدة إلى ثقافة سائر الأمم ".

إن ايقونات الثقافة الأمريكية الجديدة يتم تسريبها إلى الثقافات العالمية التي تبدو عاجزة عن مقاومتها، عن طريق أشباه المنتجات الثقافية، كالأفلام أو الدعايات، وتتفرع منها مجموعة من السلع المادية ولوازم الموضة والتسلية، وهكذا لا تبقى أفلام "الملك الأسد" و"جوراسيك بارك " و"تايتانيك " مجرد أفلام، وانما تصبح كما يرى باربر وسائل حقيقية لتسويق الأغذية والموسيقى والألبسة والألعاب.

إن ايقونات الثقافة الأمريكية الجديدة تنتج التماثل والتشابه وهذا بدوره كما يرى علماء النفس يسهل عملية التحكم والسيطرة، لا بل أنها تنتج نفس أنماط السلوك، فمن وجهة نظر ريجيس دوبريه أن كل دقيقة عنف ينتجها فيلم كفيلم " الحديقة الجوراسية " ينحت مستهلكا من الشرق إلى الغرب. فالأسواق تحتاج الى عملة واحدة هي الدولار، وإلى لغة واحدة هي الإنجليزية وإلى سلوك متشابه في كل مكان يجد تعبيره في سلوك أبطال الثقافة الجديدة. فمن وجهة نظر باربر أن طياري الخطوط التجارية، ومبرمجي الكمبيوتر، والمخرجين السينمائيين وأصحاب المصارف العالمية، ومشاهير السينما والأغنية، واختصاصيي البيئة، وأثرياء النفط، والإحصائيين ونجوم الرياضة. كل هؤلاء باتوا يشكلون فئة جديدة من الرجال والنساء يرون في الدين والثقافة والانتماء العرقي عناصر هامشية. فهويتهم هي قبل كل شيء في انتمائهم المهني، وبقدرتهم الفائقة على تحولهم إلى مستهلكين ومستهلكين فقط إن جاز التعبير، والأكثر من هذا إلى مروجين لثقافة جديدة تضع إيقوناتها على صدورهم.

تكنولوجيا الإتصالات والإيديولوجيا الخفية

الإعلام وسيلة من وسائل الضبط الإجتماعي وهو بتعريف بسيط كل ما من شأنه أن يعد أو يوصل معلومات الى المواطن.

وللإعلام عدة وظائف وأهداف أهمها: إنبائية وهي نقل وتوصيل المعلومات الى الآخرين، ومعرفية تثقيفية وهي نقل المعرفة وإغناء البنى المعرفية ومحاولة التأثير في تشكيل الأفكار والتصورات، وترفيهية وهي التسلية والترفيه، ونفسية وهي تخفيف العبء والتوتر عن العقول والنفوس. هذه الأهداف تتشابك وتتفاعل فيما بينها، لكن الدول في اعتمادها على الإعلام تقدم هدفاً على آخر وفقاً لسياستها العامة.

 في مرحلته الأولى اعتمد الإعلام على السمع، وفي التخزين على الذاكرة، وانحصر في الوحدات الإجتماعية الأولية كالعائلة والعشيرة والقبيلة والتجمعات البدائية كالحي والقرية. وفي مرحلة الكتابة اعتمد على البصر، وفي الحفظ والتخزين على الكتابة وانحصر بالنخب التي تستطيع القراءة والكتابة. وفي مرحلة الطباعة أصبح الإعلام جماهيرياً. أما في مرحلة ثورة ألإتصالات لاسيما مع انتشار الراديو والتلفزيون فقد أصبح عالمياً ومعمماً على جميع الفئات الإجتماعية، الأمية والمتعلمة، الفقيرة والغنية، ومن مختلف الأعمار.

وفي كل مرحلة كان الإتصال يزداد حجماً وتتسع دوائره ويتراجع البعد الحميمي الإنساني. يعيد الإعلام تنشئة الإنسان باستمرار على الصعيد الفكري والعاطفي وتعديل الإتجاهات ووجهات النظر والآراء ويؤثر في السلوك الإقتصادي حيث يخلق، عن طريق الإعلان والدعاية، الحاجات والضروريات عند الإنسان. يرتبط الإعلام ببناء المجتمع ويتأثر بالأنساق الإيديولوجية السائدة وبأوضاعه الثقافية والإجتماعية ويقدم التجارب الثقافية والقيم والمعايير الواحدة للجمهور فيعمل بشكل أو بآخر على الإلتصاق الإجتماعي واللحمة الإجتماعية. ويمثل الإعلام أحد أهم وظائف الإتصال أو التواصل بين الناس. والإتصال تعبير عن حاجة الإنسان إلى التعاطي مع الآخرين، إلى إقامة علاقة مع الآخر، وهو حالة مناقضة للعزلة والهجر ومنتوجاتها: القلق والتوتر والعدوانية والإضطراب النفسي إلخ... إنه الإجراء الذي يتم به تبادل الفهم بين الكائنات البشرية وتبادل الأخبار والأفكار ونقل المعاني والمشاركة  والإعلام والإطلاع. في البدء اعتمد الإنسان في تواصله مع الناس على حواسه، فاستخدم الإشارات والأصوات. ومع ظهور اللغة واختراع الحروف الهجائية شهد الإتصال والإعلام تطوراً نوعياً وكمياً. ثم اخترع الإنسان الدولاب وكرت بعدها سبحة الإختراعات التقنية. وتلازم تطور وسائل النقل مع تطور وسائل الإتصالات والإعلام. فبعد استخدام الحمام الزاجل والحصان في نقل رسائله استخدم الإنسان الباخرة والقطار. ومع اختراع الكهرباء اعتمد عليالأسلاك (التلغراف والتليفون والتلكس) إلى أن شهدت تكنولوجيا الإتصال والإعلام في القرن العشرين لاسيما في النصف الثاني منه، ثورة لا مثيل لها في تاريخ البشرية من حيث سرعة التطوير وشمولية التأثير وذلك باختراع الراديو فالتلفزة فالحاسوب الإلكتروني والإنترنت لنقل المعلومات عبر الأسلاك والموجات القصيرة والأقمار الصناعية إلى جميع أنحاء العالم. وقد شكل تطوير الإلكترونيات والكمبيوتر وتكنولوجيا الإتصالات نقطة إلتقاء في تكنولوجيا واحدة قوية هي تكنولوجيا الإتصال والمعلومات، مهمتها الأساسية إنتاج وتقديم المعلومات وتحليلها وتجميع مختلف أجزائها وتغيير بنيتها مما يسمح بتكوين الإستنتاجات واتخاذ القرارات.

لقد استأثرت تكنولوجيا الإتصالات الحديثة باهتمام العالم لجهة استخداماتها الإقتصادية والسياسية والإعلامية ومفاعيلها الإجتماعية والتربوية والثقافية، الأمر الذي يضيق هذا المقام عن مناقشته. لكن موضع اهتمامنا هو الإستخدام الإعلامي لها وتسخير مختلف الوسائل والمؤسسات لإنتاج إعلام عالمي مسيطر، إعلام الدول الرأسمالية الكبرى التي تنفق الأموال الطائلة على الأبحاث العلمية وتطوير تكنولوجيا الإعلام مما يكشف النوايا والأهداف البعيدة وهي تعميم وهيمنة وسيادة إيديولوجيا الأقوى لاستتباع إرادة وتفكير الأضعف. ويعزز قولنا هذا ما أدلى به رئيس الولايات المتحدة الأميركية السابق بيل كلينتون بأن الإعلام هو وسيلة فعالة لتطوير الحياة اليومية. فهو يؤدي إلى تغييرات على المستوى الإقتصادي والإجتماعي لذلك فإن تطوير التكنولوجيا والإعلام هو أولوية حكومية، لأن الدولة التي تستطيع أن تتحكم في الإعلام تتحكم في العالم.

أن تكنولوجيا الإعلام هي جزء من التكنولوجيا العامة وظيفتها المساهمة في إنتاج وتطوير وسائل الإعلام الجماهيرية المعروفة. فما هي أهم وسائل الإعلام الحالية وما هي خصائصها؟

 يجب التفرقة أولاً بين الإعلام كعملية نشر معلومات وثقافة وإنباء وبين الوسائل الإعلامية المحصورة بالتقنيات، تقنيات البث أو الإتصال بالناس أي الوسائط التي تصبح بها الفكرة قوة مادية. فوسائل الإعلام حسب ريجيس دوبريه هي “المجموع المادي المحدد تقنياً، لمرتكزات وعلاقات ووسائل نقل تؤمن للفكر في كل عصر وجوده الإجتماعي”... ومع تغيير الوسط التقني بإمكاننا أن نرى الوسائل الإعلامية تؤثر مباشرة على أنواع من الأفكار الحية محددة مجالات حركتها ومغيرة نسبة توالدها. فكل نوع من الأفكار له متطلباته البيئية ووسطه الملائم هو غالباً الوسط الذي ولد فيه والوسط الذي يحمله، إذ لا وجود أصلاً لأفكار ناقلة دون جسم ناقل. ويصف دوبريه القرن الواحد والعشرين بأنه قرن الوسائط التكنو- ثقافية، ذلك لأنه يرى أن الإختراعات التقنية وإن كانت تشكل منظومة إلا أن المنظومة لا تقتصر على كونها تقنية إنما تقنية ثقافية. من هنا فإن الهيمنة الفكرية والإيديولوجية لا تمارس فقط بواسطة محتوى الرسائل وإنما بواسطة التقنية التي تحملها وتبثها وترتب أشكال فرضها وتلقينها.

 واضح أن دوبريه يربط بين الفكر ووسائط نقله برباط جدلي وثيق بل إنه يعطي للوسط الناقل التأثير الأهم في بناء الثقافة والمعرفة وفي تصور الكون كله. ويرى أن العالم ليس نفسه إذا كان محمولاً من قبل الورق أو السلولويد أو شريط التسجيل أو الموجات الهرتزية أو المعطيات الرقمية، فالمعنى الذي تحمله الرسالة وانعكاساتها الإجتماعية يختلف باختلاف الوسيط الحامل لها.

 إن المجال الوسائطي جو فكري وأخلاقي. وتكمن أهميته البالغة في عصرنا الراهن في ضخامة الإمكانيات التي تمتلكها الوسائط الإعلامية والتي بها تستطيع أن تصل الى كل بقاع الأرض محدثة ثورة إعلامية ثقافية، مؤسسة قواسم مشتركة لقوالب جديدة من التفكير ونسق جديد من القيم وأشكال معينة من السلوك. لقد أصبحت أهم الصور التي نرسمها في عقولنا وأهم الأفكار التي نشكلها عن الناس والأشياء والأنظمة والمجتمعات مأخوذة عن تكنولوجيا الإتصالات الحديثة. فالوسيط الثقافي وسيط تأسيسي أيضاً ينتج الأفكار ويمركزها ويديرها في فلكه وينظمها. الأمر إذاً لا يتعلق ببنية ثقافية بل ببنية تقنية ومؤسسية في الوقت نفسه. التقنية في خدمة المؤسسة. بالإضافة الى ذلك فإن الأفكار تنشط مع سرعة وسيلة نقلها. فأفكار الإنسان الذي يتنقل ماشياً ليست كأفكار الإنسان المتنقل على ظهر حصان أو على متن الطائرة. إن سرعة إنتاج الأفكار ومدى إنتشارها يتناسب طرداً مع وسيلة النقل المادي ووسيلة النقل الفكري. لذلك فمن المؤكد أن الإنفجار الإتصالي مع انتشار الركائز والمعلومات يثير في حياتنا اليومية تلك الإزدحامات في التفكير، ذلك الإحساس المبهم بسوء التفكير شأن الإحساس بسوء الكينونة المرتبطة بفقدان شيء ما من جراء كثرته وبالقحط من جراء الإحتقان، هذا الشعور الذي نحس به جميعاً، كلٌّ حسب طريقته.

إن تكنولوجيا الإعلام تفكر، ووسائل الإعلام الحديثة أصبحت سيدة التفكير العام كما يصفها البابا بولس السادس. وقد اتهم المفكر تشاكوتين وسائل الإعلام الحديثة في كتابه “اغتصاب الجماهير” بالسطو على أفكار الناس وعواطفهم وغسل أدمغتهم وحشوها بالأفكار التي تتناسب مع ايديولوجيتها ومبادئها...إنها تتوجه الى الغرائز وتدغدغ العواطف وتؤثر في المشاعر. وكلما تقدم التجديد والتوسط الإعلاميان كلما ازداد تفكير وسائل الإعلام بالنيابة عنا، وكلما أصبحت فكرة وسيلة الإعلام المسيطرة فكرة مسيطرة في العصر. ويكون مسيطراً بالنسبة لوسائل الإعلام السابقة الوسيط الأكثر تقدماً، الوسيط الذي يغطي بشكل أوسع وأسرع وبكلفة أقل بالنسبة للمرسل ومجهود أقل بالنسبة للاّقط وهكذا اختطفت التقنيات المادية الحديثة الأضواء من وسائل نشر الثقافة التقليدية. ومع تراجع العلاقات الإجتماعية بسبب ضغط الحياة وانشغال الناس بالأمور الحياتية وجد الإنسان في وسائل الإعلام الحديثة الحلقة التي تربطه بالمجتمع وتشده إليه، فيتحول بانخراطه الوهمي بأخبار المجتمع وأحداثه ووقائعه عن العلاقات الفعلية التي فقدها، ويجد نفسه بأقل جهد على اتصال مع الغير، مع العالم. وبما أنها تسهل تحرير بضع غرائز فإنها تفسح له المجال بالتنفيس عن المكبوت بشكل بسيط، وهمي لكنه مريح.

 إن هذه السمات المميزة لوسائل الإعلام، وأهمية السيطرة للوسيط الأكثر تقدماً قد أدركتها الدول الرأسمالية ذات التكنولوجيا المتطورة وراحت تتسابق فيما بينها على تطوير تكنولوجيا الإتصالات واستثمارها في تحقيق سيطرة ايديولوجية تخدم أهداف السيطرة الإقتصادية على العالم.

 وفي استعراضنا لأهم المؤسسات الإعلامية في العالم يتبين لنا أن الدول الرأسمالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية تمثل ثلث سكان العالم لكنها تحتكر أكثر من 80 % من الصحف اليومية والكتب، ويقارب هذه النسبة من التوزيع وأجهزة التواصل والإعلام الأخرى. كما أنها تملك وتسيطر على 95 % من التكنولوجيا، من ضمنها تكنولوجيا الإعلام. وفي مجال التلفزة تعتبر الولايات المتحدة أول دولة تسيطر على أوسع شبكات البث في العالم.

وبالنسبة للشركات الإعلامية العالمية وهي المؤسسات التي تشرف على أكثر من وسيلة إعلامية من صحف وإذاعة وتلفزة فهي أيضاً تنتمي إلى الدول الرأسمالية الكبرى. نذكر منها على سبيل المثال محطتين إعلاميتين هما: صوت أميركا والـBBC  وصوت أميركا إذاعة حكومية يعمل فيها أكثر من 2300 موظف ومستخدم، تبث بحوالي 50 لغة، تتضمن برامجها الأخبار والتعليقات السياسية فضلاً عن حملات دعائية ضد القوى المناهضة للولايات المتحدة. ومؤسسة الـBBC التي تأسست عام 1922 ويقدر عدد الموظفين فيها ب 22 ألف موظف وقيمة مبيعاتها 2.25 مليار دولار سنوياً، وتشرف على محطات البث الإذاعي في بريطانيا وعلى الجزء الأكبر من البث التلفزيوني. وتبث برامجها بـ 38 لغة  وهي مع سائر الإذاعات الأجنبية تعتمد اللغة العربية عندما تتوجه إلى الجمهور العربي.

ومن المؤسسات الإعلامية التي تتصدر الأهمية في العالم أيضاً شركة NBC وهي الأولى في تقديم الخدمات الإعلامية في الولايات المتحدة الأميركية، تنتج برامج إذاعية وتلفزيونية. وشركة CNN ذات الدور القائد في الإتصالات وهي شبكة أخبار يتبعها شركات أخرى تتعاطى البث التلفزيوني والنشر والبرمجة والرياضة والتسلية فضلاً عن البث الإذاعي الكابلي. وهناك مؤسسة والت ديزني الأميركية وهاشيت الفرنسية ونيويورك تايمز وريدرز دايجست وواشنطن بوست وجميعها مؤسسات اقتصادية إعلامية بارزة.

أما وكالات الأنباء فتنتشر في أكثر من 100 دولة في العالم وعددها الحالي يفوق 174 وكالة تنحصر الرئيسية منها بعشرين وكالة تتصدرها خمس وكالات كبرى تتمتع بدور عالمي بسبب ضخامة رساميلها وحجم وقوة تكنولوجيتها في جمع الأنباء وتوزيعها بلغات عديدة في أنحاء العالم. وكل منها يصدر أنباءه إلى الوكالات القومية والصحف والإذاعات والتلفزيونات المحلية في أكثر من مئة دولة على مدار 24 ساعة في اليوم. إن وكالات الأنباء الرأسمالية الأربع الضخمة التي تسيطر على سوق الأنباء العالمية هي: أسوشيتد برس - يونايتد برس - رويترز- فرنس برس - ووكالة اشتراكية خامسة هي تاس. وهي تستخدم الإمكانات الضخمة التي تمتلكها من أجل صياغة ونقل وتغطية الخبر بأسرع ما يمكن حتى أنه أحياناً لا يفصل بين وقوع الحدث ونشره بالصوت والصورة أكثر من دقائق معدودة. هذه الوكالات تتولى إنتاج 80 % من الأنباء الموزعة يومياً في العالم ولا تنسى أن تقوم أحياناً بدور الواعظ السياسي والإيديولوجي حتى للفئات الحاكمة في بلدها وبلدان العالم.

.....................................................

 1- سعد محمد رحيم / قناة الفيحاء

 2- تركي علي الربيعو / موقع الامبراطور

 3- تركي على الربيعو / مجلة نزوى

 4- د. فاطمة بدوي-استاذة في معهد العلوم الاجتماعية /  مجلة الدفاع الوطني- العدد 39  

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد 8 نيسان/2007 -17/ربيع الاول/1428