آفاق السياحة الدينية في العراق

د. حسين ابو سعود

كلما تصفحت المطبوعات التي تخص السياحة تنتابني حالة من الالم والاسى لغياب اسم العراق من الخارطة السياحية مع انه المرشح الاقوى لتصدر قائمة الدول السياحية في العالم لما فيه من امكانات هائلة في هذا المجال.

 واتذكر كيف ان السياسات البعثية العبثية الخاطئة قد اعادت السياحة ولا سيما السياحة الدينية في العراق مئة سنة للوراء و اخرجت البلاد من نور التواصل الى ظلمة العزلة، ليس بحرمان العالم من  الاستنارة  بشعاع العراق فحسب  وانما بحرمان شعب العراق من ابسط حقوق التواصل مع العالم بحجب الفضائيات ومنع  الانترنيت وحظر استخدام الهواتف النقالة.

 فيما اتذكر كيف كان العراق في الستينات حيث كنا نشاهد الزوار من مختلف البلدان في بغداد وكربلاء والنجف، سحنات مختلفة، لغات متنوعة، ثقافات متعددة تؤثر وتتاثر بالمجتمع العراقي، مع ان العراق بالرغم من امكاناته السياحية الفريدة لم يعد يوما ضمن الدول السياحية، لانعدام الاهتمام بهذه الناحية، ولا اذكر حتى مجئ البعث الى السلطة وجود فندق واحد من فئة الخمس نجوم في مدينة كربلاء مثلا، والباصات التي كانت تنقل المسافرين  بين المدن في تلك الحقبة كانت بدائية تفتقر الى وسائل الراحة والرفاهية مقارنة  مع الباصات الايرانية الفارهة التي كنا نشاهدها في المدن العراقية المقدسة او مع الباصات الفخمة التي كانت ترد من دول الخليج.

وكان النظام قد انتبه في بعض الفترات الى الخطأ الذي ارتكبه في حق السياحة الدينية ففتح المجال لزيارة المجموعات دون الافراد من باكستان  كان يسيطر عليها رموز النظام مقابل رسوم اشبه ما تكون بالخاوة.

 وقد وقع النظام الحالي في بداية السقوط في نفس الخطأ عندما صرح احد المسئولين عن السياحة الدينية بانه بحث مع الايرانيين سبل تنظيم الزيارات الجماعية، وانه فرض رسوما اقل مما كان يفرضها عدي صدام حسين في حينه، وانا اقول انه يجب التخلص الكامل من موروثات الماضي وعدم مقارنة الحاضر بالماضي  ومعرفة ان السياحة صناعة لها اصولها وقواعدها وان هناك دول تعتاش منها بالكامل، وفتح الباب  على مصراعيه امام المجموعات  والافراد الراغبين في الزيارة حقيقة.

 وينبغي ان يعرف بان السياحة الدينية لا علاقة لها بالحكومة الدينية، فالمسالة تجارة واقتصاد والتجارة تحتاج الى اخلاق  وامان، وانا لست متخصصا في الاقتصاد  لكي اقول كم تربح السعودية  مثلا من السياحة الدينية الا ان صديقا مكيا ( واهل مكة ادرى بشعابها ) قد اخبرني بان موسم الحج والعمرة يغنيهم عن العام كله  وما يحققونه من ارباح في ذي الحجة ورمضان تكفيهم مؤونة السنة.

وهناك دول ادركت اهمية هذا الجانب اعني السياحة وما يمكن ان تحققه من عائدات فاتجهت نحوها بكل امكاناتها مثل الهند ومصر ولبنان، وإن ايران من الدول التي تهتم بالسياحة والسفر بشكل جدي يمكن الاستفادة من تجربتها حتى ان كراجات النقليات في المدن الايرانية الكبيرة والتي تسمى عندهم بالترمينال هي أشبه بالمطار حيث المطاعم ومحلات بيع التحف والهدايا وأماكن العبادة والمرافق الصحية وبعضها مزودة بفنادق مناسبة، وهذه ماليزيا استقبلت 4.38 مليون زائر خلال الربع الأول من عام 2006 وهذا يعني بأن عندها استعداد لاستقبال أكثر من عشرة ملايين سائح سنويا، في حين استقبلت سورية ثلاثة ملايين سائح عربي في العام الماضي بالرغم من إمكاناتها المحدودة، وإنها وضعت خطط لجذب 8 مليون سائح عام 2010 مما يكفل لها تحقيق عائدات قيمتها 25 مليار ريال سعودي.

وقد دأبت الدول على وضع دراسات واصدار احصائيات عن عدد الزوار تقل أو تكثر بما فيها دول أمريكا الجنوبية، وأما نحن في العراق فلم تعمل الحكومة على الترحيب بالقادمين إن وجدوا كسائحين، إذ كانت الحكومة السابقة تفرض رقابات أمنية على الزائرين وتنظر اليهم بنظرة الشك والريبة بدلا من أن تحسسهم بأنهم ضيوف أعزاء لهم قيمة حتى يحدّثوا الآخرين بحسن الضيافة وسهولة الاجراءات لدى عودتهم الى بلدانهم.

فالسياحة تحتاج الى أجواء من التسامح وإشاعة ثقافة الابتسامة بدءا من موظف الجوازات في المطارات والمنافذ الحدودية البرية والبحرية، لأن الانطباع الأول هو الانطباع الأخير.

أما وقد سقط النظام الديكتاتوري والعراق مقبل على تغيير جذري فيتوجب على الحكومة إيلاء أهمية كبيرة للسياحة بعد الانتهاء من تثبيت دعائم الأمن وتحافظ بشكل جدي على الآثار والأضرحة والمراقد والأسواق القديمة وتخليص البلاد من الأسماء ذات الدلالات الطائفية للمناطق وإعادة الأسماء التأريخية القديمة، وإن رقصة الموت يجب أن تتوقف، وأن ينتهي هذا الجنون الذي يقتل البشر ويهرب الآثار وينهب المتاحف ويخرب الأضرحة والمباني التأريخية، ويعتدي على الملوية، وقد تمتد الأيادي الآثمة على طاق كسرى وغيرها من الآثار الانسانية الخالدة، ما لم توضع حراسات مشددة على تلك المعالم التأريخية والدينية والحضارية لأنها ثروات انسانية كبرى، وهي وإن كانت ملكا العراق ولكنها مشاعة للبشرية جمعاء.

 وأكاد أجزم بأن إعادة الآثار المخربة الى وضعها الأصلي تكاد تكون مستحيلة كما هو الحال مع قبة الامامين العسكريين في سامراء.

إن العراق يحتاج الى إعادة إكتشاف قدراته السياحية، فهو عراق الحضارة والشعر والأدب والتأريخ والحاضر والمستقبل، عراق المنائر والأضرحة والتنوع المناخي، عراق القوميات واللغات والأديان والمذاهب والثقافات والأطعمة، العراق حالة فريدة من التنوع الذي يحتاجه السائح.

ثم إن السياحة تؤدي الى تلاقح الأفكار والحضارات والرؤى، والشعب كالفرد إذا انعزل توحش، ومن حق بغداد أن تنفتح على العالم، ومن حق البصرة أن تنافس دبي والكويت، ومن حق كربلاء أن تضاهي مكة المكرمة في العمران والخدمات، فالعراق أفضل مكان للسياحة العائلية خاصة وإن مواطني دول الخليج يرغبون السفر مع أسرهم ويريدون لذلك مكانا نظيفا وآمنا، فالخمور والدعارة ليست قواما حقيقيا للسياحة الناجحة كما هو شائع، وبالاضافة الى السياحة العائلية فهناك من يبحث عن السياحة الثقافية والعلمية والأدبية، والعراق موطن الحضارات المتنوعة، وفيها طرز البناء والعادات والتقاليد منذ عهود أكد وآشور وسومر الى حاضرة النجف الأشرف التي تضم أقدم جامعة علمية دينية شيعية في العالم أجمع، درس فيها أناس من باكستان والهند وايران وآذربايجان ولبنان وحتى القفقاس وغيرها من البلدان، فاستوطنوا هناك منذ مئات السنين وجلبوا معهم عاداتهم وثقافاتهم وتقاليدهم.

 وباختصار  نستطيع القول  وبكل ثقة بان العراق  يشكل وجهة مفضلة للسياح الذين ينشدون السياحة الدينية والعائلية والثقافية وحتى الترفيهية البحتة، فهذه منطقة كردستان تعد جنة الله على الارض وفيها كل مقومات السياحة الناجحة من مناخ  وطبيعة وحسن ضيافة وامان ولا يمكن حصر امكاناتها الهائلة في المجال السياحي، كما وهناك السياحة الداخلية وهي لا تقل اهمية عن السياحة الخارجية حيث يزور  اهل الشمال الجنوب في الشتاء ويزور اهل الجنوب الشمال في الصيف.

وامام هذه الطموحات  لجعل العراق وجهة سياحية مفضلة من الطراز الاول يجب الاهتمام بالسائح وتوفير اقصى درجات الراحة والامان له بدءا من تسهيل منح التاشيرات مرورا  بتسهيل التمديد اذا اراد السائح ذلك لدواعي المرض او الرغبة في الاستزادة، كما يمكن استثناء رعايا جنسيات معينة من  الحصول على التاشيرات  ومنحهم اياها في المطار مباشرة لدى الوصول، والتنبيه على موظفي الجوازات في المطارات بضرورة استقبال  الوافدين بابتسامة عريضة تشعرهم بالود والامان، وتسهيل عملية تفتيش الامتعة والاكتفاء بتمريرها  تحت جهاز الاشعة لتوفير الجهد والوقت.

 ومن ثم حماية السائح من حالات  النصب والاحتيال والسرقة  كونهم هدفا سهلا للنشالين والنصابين، واذا ما دخل السائح الى المدينة يجب ان يجد ما يريده متوفرا وبسهولة ولا سيما وسائل النقل المريحة والمكيفة والامنة والمتوفرة على مدار الساعة، بالاضافة الى الطرق المعبدة السريعة، كما يتوجب الاهتمام  بالمطاعم من حيث الجودة والاسعار والنظافة، واقامة سلسلة من الفنادق بمختلف الدرجات ابتداء من فئة الخمس نجوم نزولا الى تلك التي لا تخضع للتصنيف، وان يراعى في تصميمها وطريقة الخدمة فيها الطراز العراقي الذي يعكس الثقافة المحلية.

وبالمقابل يجب البدء بحملات توعية للشعب  باهمية السياحة وكيفية التعامل مع السياح واقامة معاهد سياحية في الداخل لتعليم اللغات وكيفية التعامل مع السياح، ولاعداد الكوادر المتخصصة وتوفير التدريب اللازم للراغبين في العمل في هذا المجال، وتقديم منح سنوية للدراسة في مجال الفندقة والسياحة في الخارج  للوقوف على آخر المستجدات في هذه الصناعة المزدهرة.

وعلى الدولة اصدار مجلة شهرية او دورية متخصصة تعنى بشئون  السياحة في العراق وبلغات عديدة وتوزع في جميع انحاء العالم  مجانا ويمكن الاكتفاء  بمجلة سياحية تصدرها الخطوط الجوية العراقية توزع خلال الرحلات الجوية على المسافرين مع تزويد السفارات بنسخ منها لتوزيعها في المكان المناسب، و تحتوي المجلة على تحقيقات واخبار وصور ودعاية وترغيب، يصاحب ذلك استحداث وزارة للسياحة او مكتب سياحي يرتبط برئاسة الوزراء مباشرة  يقوم بحملات دعائية في العالم  ويقيم المهرجانات  السياحية المتنقلة في دول العالم للتعريف بامكانات  السياحة في العراق، ولعل فتح الباب امام الاستثمارات الاجنبية في المجال السياحي يؤدي الى ازدهار السياحة ايضا.

ومن الجدير بالذكر ان الحكومات توفر  لبلديات المدن المقدسة كما هو الحال في السعودية وايران امكانات كبيرة تساعدها على تجميل الحدائق وتنظيف المدن وتخطيط الشوارع  ومراقبة الفنادق والمطاعم وتزويدها بتقنيات للتخلص من النفايات والقمامة لتوفير جو ملائم ونظيف ومريح للوافدين، ومن الاهمية بمكان ان نقول بان السياحة الدينية في العراق لا تحمل طابعا طائفيا ابدا اذ ان مراقد الائمة يتساوى في زيارتها جميع طوائف المسلمين من سنة وشيعة وبهرة وزيدية كما ان هناك مراقد مهمة اخرى تحظى باحترام باقي المسلمين مثل مرقد الامام الاعظم ابي حنيفة النعمان  في الاعظمية وكذلك مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني  وسط بغداد فضلا عن مزارات اقطاب الصوفية، وقد لا يعرف البعض بوجود معبد مقدس لطائفة السيخ  في بغداد سيفتح المجال  لمئات الالوف منهم  للزيارة اذا ما توفرت اجراءات الامن والامان  فضلا عن وجود اضرحة لأنبياء وكنائس قديمة ذات شأن للاخوة المسيحيين.

وهذه كلها تفتح المجال امام الفقراء واصحاب الخدمات بالاستفادة من ازدهار السياحة  فضلا عن العائدات التي ستدخل خزينة الدولة او العائدات التي سيستفيد منها التجار، وان التاريخ سيحمل النظام السابق مسئولية خسارة العراقيين للعائدات السياحية منذ توليه الحكم بسبب سياسة  الحروب المتواصلة  مع الاكراد وايران والكويت وامريكا والاحتراب الداخلي الحالي.

ومهما  يكن من امر فان الآت افضل من الماضي، ويجب  الاستعداد للسياحة الدينية القادمة ووضع الخطط لاستيعاب التدفق المتوقع للزوار لتقديم موسم زيارة ناجح سواء في عاشوراء  او الاربعين والزيارات الشعبانية والرجبية، فهذه المراقد لا تخلو من الزوار على مدار العام، ويتوجب على الدولة مراقبة الجودة  السياحية لضمان افضل  واجود خدمة سياحية للزائرين الراغبين في قضاء اجازة صيفية او شتوية او دينية ليعود السائح الى بلاده محملا بذكريات جميلة ويحدث الاخرين عن الجمال والسياحة والامان والضيافة والتسهيلات والفنون والترفيه والتسلية والتسوق.

ولنسمي السياحة الذهب الابيض ليقف الى جانب الذهب الاسود والذهب الاخضر أعني (الامكانات الزراعية الهائلة) في دعم اقتصادنا، وانقاذ اطفالنا  من الضياع في الشوارع، وان الحروب المستمرة  في شمال العراق حرمتنا من الاستفادة  من امكانات  السياحة هناك، كما ان السياسات الرعناء  للنظام السابق وعيون المخابرات  افسدت متعة زيارة المراقد والاضرحة،كما ان النظام بدد ثروات البلاد النفطية بطريقة جعلت المواطنين يقفون في طوابير طويلة من اجل صفيحة من الكيروسين  والشعوب الاخرى تصدر نفطها وتبني بعائداتها اوطانها.

كل البلدان تضج بالحركة الا العراق، صمته مطبق،  وحزنه شامل، وساعاته ترجع الى الوراء، وليس لنا الا ان نحلم، والاحلام قد تتحقق يوما والشعوب الحية لا تعرف اليأس، ودعونا نأمل الافضل وننشد الاحسن، وان غدا لناظره لقريب.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 13 آذار/2007 -23/صفر/1428