الإعجاز العددي.. بين القبول والرفض

بقلم: بشير البحراني

         منذ عشرات السنين ومسألة ما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن وما تعلق به من تفسير علمي للقرآن الكريم؛ محل اختلاف وتباين بين علماء المسلمين والمهتمين، تصل في بعض الأحيان إلى تسقيط الآخر دينياً أو فكرياً، أو وصمه بالسذاجة كما يقول سيد قطب في تفسيره: "وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها.. كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه!" .

        وإذ لم تهدأ قضية الاختلاف هذه بعد؛ بدأت تظهر في الساحة القرآنية مسألة أخرى ترتبط بما يسمى حديثاً بـ(الإعجاز العددي أو الإحصائي) في القرآن الكريم، لتدور دائرة التباين حولها مجدداً بين مؤيد ومعارض ومتردد. وبالرغم من كون طرح هذا الإعجاز قديم نسبياً، إلا أنه لم يأخذ بعده الجدلي الواسع إلا في فترة ليست بالبعيدة.

        وأعتقد أن تحميل آية قرآنية أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م التي حصلت بالولايات المتحدة الأميركية؛ كانت واحدة من الأمور التي دفعت بطرح مسألة الإعجاز العددي في هذا البعد الجدلي الواسع خصوصاً مع تفاعل الناس مع تلك الأحداث آنذاك، حيث حاول البعض سحب قوله تعالى: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:110] إلى كونها نبوءة قرآنية بما حدث في ذلك اليوم المشؤوم، فالآية التي تتحدث عن البنيان وتقطيع القلوب بالمعنى المجازي تدل على ماهية الحدث، ووقوعها في الجزء (11) من القرآن يدل على تاريخ يوم الحدث، ووقوعها في السورة رقم (9) حسب ترتيب سور القرآن يدل على رقم الشهر الذي وقع فيه الحدث، وترتيبها (110) حسب آيات سورة التوبة جعلها تدل على عدد طوابق إحدى البنايتين المستهدفتين يومذاك!!

من وجهة نظري -وأعتقد أن آخرين يتفقون معي- ينبغي علينا أن نقف موقف الوسط من هذه المسألة..

فمن جهة يلزمنا التأكيد على أن كتاب الله نزل {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وأن إعجازه لا يحدد في شيء، بل إنه عام وشامل زمنكانياً في كل الاتجاهات التي خطرت على بالنا والتي لم تخطر، وتحديه الإعجازي قائم ودائم لكل مخلوق: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38]، ولكن أنَّى لهم ذلك: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].

ومن جهة ثانية ينبغي الحذر في التعامل مع نصوص الآيات القرآنية، وذلك بتقعيد منهج البحث العددي في القرآن بوضع آليات وأسس منهجية علمية تتوافق والرؤية الشرعية، وعدم الانقياد للأهواء النفسية والآراء الذاتية التي تُقْحَم بشكل استفزازي مُبَالَغ فيه في تفسير النص القرآني مما يوقع الإنسان في تجاوزات تنتهي به إلى مزلق التفسير بالرأي.

 وكمثال: أُذّكر القارئ بقضية الدكتور رشاد خليفة [1935-1990م]؛ الرجل الذي قاده بحثه العددي إلى إنكار السنة النبوية وإدعاء الرسالة لنفسه! ومحاولة تحديد موعد يوم القيامة! وأن في القرآن الكريم دلالات عددية تشير إلى اسمه! وأنه الرسول المصدق المقصود في قوله تعالى: {... ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران:81].. وقد صدرت في حقه فتاوى تكفير وأهدر دمه، حتى وجد مقتولاً بطعنة سكين.

إن القرآن عظيم في كل شيء.. وما يأتي به البحث العددي وغيره من البحوث القرآنية بعيداً عن التكلف والانحراف العقدي والمنهجي؛ يدخل في إطار هذه العظمة التي حباها الله عز وجل لكتابه المجيد.

وأخيراً.. نشير إلى أن (التفسير) شيء، و(الإعجاز) شيء آخر، وإن كان بينهما بعض التداخل النسبي..

ــــــــ

* مجلة القرآن نور، ع5، 1427هـ.

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 16 كانون الثاني/2007 - 26 /ذي الحجة /1427