مفارقات ومغالطات في قراءة المشهد العراقي(2/3)

الهاشمي بن علي

 ينسى الكثيرون وفي غمرة الأحداث الساخنة وتحت وطأة التحشيد العاطفي، أحداث ومواقف تضيء جوانب حيوية يؤدي تجاهلها إلى أخطاء فضيعة في الفهم والتقويم. هذه الحقيقة نلمسها بشكل واضح هذه الأيام حيث تنتشر نصوص فكرية وسياسية تقرأ الحدث العربي من منطلق ثأري ومن زاوية تبسيطية تختزل كل تعقيداته في عامل وحيد هو الدور السلبي لإيران ولمن يواليها من القوى السياسية أو يقترب منها على صعيد التصورات الدينية الخاصة.

ليس بأسهل على كثيرين من تفسير كل ما يقع في العراق بأنه مرة نتيجة لعمالة إيرانية للولايات المتحدة الأمريكية. ومرة أخرى بأنه نتاج لتناقض مصالح واشنطن وطهران. بل إننا نسمع حينا أن طهران تستهدف من خلال أتباعها في العراق المقاومة وتبيعهم بثمن بخس للأمريكان لتشتري رضا من تعلن زورا أنه الشيطان الأكبر، وفي مواقع أخرى يقال لنا إن إيران تمول مجموعات المقاومة وتحرق الأرض تحت أقدام الغزاة لتستنزفهم وتثبط عزمهم على غزوها إذا ما استتبت لهم الأوضاع في بلاد الرافدين.

تحليلات تبدو أقرب للرجم بالغيب الذي فيه شيء من الواقع لكن ليس إلى الحد الذي تصبح فيه السياسة الإيرانية هي المحرك الخفي الجبار لمتغيرات الأزمة العراقية.

وبما أن ما آل إليه الحدث العراقي ماهو في الحقيقة وكما أثبتنا في مقال سابق إلا تراكم بعيد المدى لعدة عوامل أفضت بالبلد إلى المحنة التي يتخبط فيها طيلة السنوات الأخيرة. ونحن وإذ نذكر بأن الدول الكبرى لم وقد لا تكف عن التخطيط لخدمة مصالحها بكل الوسائل بما فيها الهيمنة المباشرة وغير المباشرة، فإننا ذهبنا إلى أن الاستبداد المحلي والاستئثار بالسلطة والثروة وتضييع الحقوق الإنسانية يمهد الأرض لأقدام الغزاة ويجعل عوامل الضعف تفت في عضد قوى الممانعة التي مركزها الأساس المواطنة الحرة.

إن الملفت في سياق الأزمة العراقية هو الحجم الهائل للتزييف الإعلامي سواء من قبل قوى الغزو أو من قبل الرسميات العربية. كلاهما وفي سياق أزمة عميقة يسعى لتصدير تلك الأزمة وتنفيسها بتحويل الأنظار عن الأسباب البعيدة والعميقة للوضع العراقي وربطها بالمعطى الإيراني.

أبان هذا التوجه عن حجم الاستتباع الإقليمي والدولي الذي يستنزف طاقة المقاومة ورغبة التغيير لدى الإنسان العربي، فهو وأمام دليل صارخ لاهتراء النظام الرسمي العربي ودخوله مرحلة موت سريري متحملا نتيجة انغلاقه ودكتاتوريته لعقود عديدة، يجد من يدعوه للتركيز على الخطر الشيعي الذي يستهدف مقدساته وثوابته!!

وهو أمام تجدد الانتهاكات الخطيرة لحقوقه من قبل قوى الغرب وخاصة الولايات المتحدة يجد على عتبات بابه دعوة للاشتراك في حلف المعتدلين ضد محور الشر أو الهلال الشيعي وغيرها من المفردات التي تعبر في عمقها عن أجندة أمريكية خالصة.

ولكي نكون منهجيين وإن افترقت بنا التحليلات، تفرض علينا الموضوعية أن لا نقفز فوق معطيات ليس من سبيل لتجاهلها: فإضافة إلى الطبيعة الاستثنائية للاستبداد البعثي يتذكر الجميع أن صدام  بادر بشن الحرب على الجمهورية الإسلامية الفتية التي لم يكن من المعقول أن تبادر إلى حرب ضروس مع جار قوي وهي بعد لم تنه مهماتها الداخلية إذ أن الوضع لم يستقر لها بشكل كامل. كيف لدولة شهدت تغييرا جذريا أطاح بإمبراطورية رسخت أقدامها بدعم أمريكي غربي أن تتجه إلى نزاع في خطورة مواجهة النظام العراقي؟

يذكر الجميع كيف أن الهجوم العراقي وصل في أول أيامه إلى مدينة خور مشهر وسط توقعات بأن الثورة الوليدة لن تصمد إلا لأسابيع قليلة لأنها لا تملك مقومات الصمود والتجربة السياسية ولا القدرة العسكرية اللازمة لتفادي الهزيمة.

كلنا يعرف أن إسقاط الثورة الإيرانية كان هدفا معلنا لواشنطن ولحلفائها الذين كان يقودهم النظام المصري الذي استقبل الشاه العميل للكيان الصهيوني حيث قضى كمدا في القاهرة ودفن (للأسف) في ثراها بعد جنازة عسكرية مشهودة.

نيابة عن الدول العربية قاد العراق معركة حماية البوابة الشرقية للوطن العربي، فتدفقت الأموال النفطية وتمتع النظام العراقي بغطاء سياسي دولي ترجمته صفقات السلاح ومنها السلاح الكيماوي المحرم دوليا والذي استعمله ضد القوات الإيرانية وضد مواطنيه، خاصة من الأكراد.

الذي يعنينا في هذا المقام هو أن الرسمية العربية وفي ظل علاقات التبعية تجاه الغرب و أثناء انقطاعها عن شعوبها دخلت في صراع عقب الانتصار المزعوم للعراق في حرب السنوات الثماني. لم تمض على احتفالات الفاو التي حضرها أمير الكويت الراحل متمتعا بإشادة تاريخية من قبل صدام بدوره الكبير في تحقيق النصر حتى نشبت الخلافات بين الدول الخليجية وبين النظام العراقي الذي كان سواء بالنظر لطبيعته العدوانية أو بسبب الأزمة الاقتصادية التي خلقتها عودة مئات ألاف المقاتلين إلى حياتهم العادية التي سيطر عليها شبح البطالة والتفكك الاجتماعي إضافة إلى العبء الخانق للديكتاتورية التي لا ترحم.

ظهر للعيان أن تصدير الثورة لم يكن بخطورة تصدير الأزمات، ففي الوقت الذي أنفقت فيه نظم الخليج ثروات طائلة كان يمكن توجيهها للتنمية من أجل دعم العراق، تبين بالكاشف أن إيران لم تهاجم البحرين أو الكويت بل العراق هو الذي غزا الكويت مسقطا بضربة خرقاء واحدة ما كان يدعى منظومة التضامن العربي.

هلكت في تلك الأيام كل أحلام الوحدة العربية وخارت كل قوى التغيير وهي ترى كيف أن حماقة صدام بدأت تقترب منهم يوما بعد يوم من الاستعمار المباشر بعدما كان نضالهم منصبا على دفع الهيمنة غير المباشرة وذلك بإلزام الأنظمة ومطالبتها بالاستقلالية.

من يملك أدنى ذرة من الموضوعية يعرف في قرارات نفسه أن صدام هو المسئول الأكبر وليس الوحيد عن مقدم الحشود العسكرية الأمريكية وغيرها إلى الخليج العربي. لفرط ما تحكم العناد بصدام لم تثنه نصائح الأعداء والأصدقاء عن صنيعه وأصر يوما يتلوه يوم على المضي قدما نحو الكارثة..كان العنفوان القيادي والنخوة القومية في الميزان..ميزان كفته الأخرى هي وجود العراق برمته!!!

كان ما كان مما كلنا يذكره، ثم جاءت أكذوبة أسلحة الدمار الشامل التي جاءت في سياق ترتيب بعيد المدى للمشهد الخليجي. كان لابد من عنوان لديمومة الوجود العسكري الأمريكي الذي كان يفكر بمستقبل العراق وجواره الإقليمي مدفوعا بتداعيات أحداث الثاني عشر من سبتمبر التي رسخت عقيدة سياسية وعسكرية جديدة تبناها اليمين المحافظ وهي ضرورة ضرب العدو في معقله استباقيا قبل أن ينجح في استهداف الولايات المتحدة في عقر دارها مما يطيح بهيبتها الدولية التي باتت تتمتع بها إثر نهاية الحرب الباردة   وبعد أن دفعت لأجلها ثمنا باهظا.

ولدت الحماقة الصدامية الكبيرة  فيما يشبه تداعي أحجار الدومينو سلسلة نتائج كارثية كان من شبه الواضح أنها ستؤدي إلى تناقض كلي بين النظام العراقي وبين خصومه وأضحى إسقاط البعث هدفا معلنا للولايات المتحدة وهو ما نجحت فيه في النهاية.

مرة أخرى، دارت عجلة التبعية لتجر وراءها مواقف لن ينساها التاريخ. من يا ترى أتى بالأمريكان ووفر لهم القواعد؟

من أفتى بجواز هذا الصنيع الذي ستكون له نتائج لعقود وأجيال متتالية؟

من عقد مؤتمر رابطة العالم الإسلامي وحظرته قيادات دينية بارزة من شرق الأرض ومغربها؟

لم تكن إيران هي من فعل ذلك!! ولم يكن علماء الشيعة هم من أفتوا بحلية وربما وجوب الاستعانة بغير المسلم على المسلم!!!

من قواعد الخليج العربي انطلقت الطائرات وحاملات الطائرات تمطر العراقيين لهيب القنابل وتسقيهم الموت الرهيب. تم كل ذلك بمباركة لحكومات السنية  وبتشريع من علماءها المخلصين الذين يترحم عليهم بعض الثوريين  من خصوم إيران الألداء اليوم..عبد الله بن باز وبن جبرين ..وبن عثيمين..ناصر العمر..صالح الفوزان، والقائمة تطول وتطول لأسماء ومرجعيات بررت الغزو الأجنبي ومهدت له ومكنت له.

ومع ذلك تسعى بعض الأدبيات لتوصيف الأزمة العراقية بكونها نتاجا لمؤامرة فارسية أو فارسية أمريكية، ملمحة إلى أنه ما كان للولايات المتحدة أن تدخل بلاد الرشيد لولا تواطؤ إيراني مهد له. يستدل هؤلاء بتصريحات ينسب بعضها لنائب الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي محمد علي أبطحي، وبعضها الآخر لهاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام والذي قول إنه ما كان لأمريكا أن تدخل أفغانستان لولا الموقف الإيراني.

فما هو الموقف الإيراني؟

على ضوء ما تقدم في الشأن العراقي على الأقل يتبين أن نظام البعث كما نظام طالبان كانا نظامين مستبدين مغلقين أحدهما باسم العروبة والآخر باسم الإسلام. ويتبين أيضا أنهما جلبا المواجهة لبلديهما بمواقف تبنوها دونما ضغط من أحد. وأنهما كانا من أصدقاء واشنطن أو على الأقل ممن غضت الولايات المتحدة البصر عن انبعاثهما لمصلحة فرضت نفسها في مرحلة ما ثم تغيرت فتغير معها الموقف لاحقا.

تلك هي الحقائق التي التقت مصالح الوهابيين والبعثيين والرسميات العربية والأمريكيون عند التعمية عليها أو تهميشها أو صرف النظر عنها. مسعى يحتاج من الصادقين في طلب التغيير في العالمين العربي والإسلامي أن يتأملوه لكي يضعوا المواقف والتطورات في سياقها الصحيح ويقطعوا بالتالي الطريق عمن يريد احتواءهم وتطويعهم لخطط قديمة جديدة، لا تخدم القضايا العادلة التي من أجلها عملت حركة التحرر العربي بوجهيها السياسي والحقوقي.

ربما وبسبب ضجيج الاحتكاكات الطائفية المرتفع هذه الأيام، يجد من تسوقهم اللحظة وتبلعهم إكراهاتها أو بالأحرى أوهامها في العزف الأمريكي على وتر الخطر الفارسي هوى في نفوسهم. لم يفلت من هذه الدوامة التي جرب العرب خيباتها سابقا إثر المراهنة على حامي البوابة الشرقية إلا قليل من الزعامات والتنظيمات التي تعرف الحقيقة..حقيقة تقول إن إيران هي صديق حقيقي للشعوب العربية وأنها لم تأل جهدا في دعم المقاومتين الفلسطينية واللبنانية لوضوح منطلقاتها وسلامة وسائلها ولعل ثمار زيارة رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية إلى الجمهورية الإسلامية تغني عن كل تعليق وقد استعرضها الرجل مبينا أن سخاء الجمهورية الإسلامية وإنفاقها لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني ليس لها عديل.

لا يعني هذا الكلام أن إيران لم ترتكب أخطاء، وإنما القصد هو أن شيطنتها وتحويلها إلى خطر أوكد من الأمريكيين أو حتى من الصهاينة أنفسهم وتصوير مجريات التعقيدات العراقية على أنها مظهر جديد لصراع قومي أبدي بين الفرس والعرب،هو خطأ  فادح يراد للأمة العربية أن تبتلعه كإنجاز تاريخي فيما نلمسه من بعض غلاة القومية والوهابية المتدثرة لبوس الإسلام.

ذاك الخطأ الذي منح في أعداء الأمة التاريخيين فسحة من أمرهم ليواصلوا الكيد لنا واللعب على تناقضاتنا.

واقع مرير نراه بوضوح في مفاصل الحدث العراقي وهو ما نعرض له في مقال ثالث وأخير.                                                                                                                       ... يتبع

*كاتب من تونس

[email protected] 

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 19 شباط/2007 -2/صفر/1428