التنشئة الأسرية ومظاهر التطرف الديني

د. غالب محمد رشيد الأسدي

أن الأسرة هي المؤسسة الأجتماعية الأولى المسؤولة عن التنشيئة الأجتماعية والضبط الأجتماعي، اذ  تلعب دورا أساسيا في السلوك السوي وغير السوي لأفرادها، من خلال نوع التنشئة الأسرية التي تقدمها لهم.

 فانماط السلوك وطبيعة التفاعلات بين الأدوار الأسرية داخل الأسرة هي الأنموذج الذي يؤثر سلبا او ايجابا في أعداد الناشئين للمجتمع الكبير، هذا الأنموذج قد يفرز أفراد متطرفين في المستقبل، ايا كان هذا التطرف دينيا او اجتماعيا او سياسيا.

كذلك كانت الاسرة ولاتزال احد اهم روافد التربية التي يستخدمها المجتمع في عملية التطبيع الاجتماعي بجميع محتوياتها ومواقعها. فقد اشارت عديد من الدراسات في التربية وعلم النفس مثل دراسة ولفولك Woolfolk  سنة 1987 م وجنكينز Jenkins  سنة 1995م الى أهمية الاسرة في تكوين الشخصية وتشكيلها، لاسيما في مرحلة الطفولة المبكرة ( الاعوام الخمس الاولى من عمر الطفل )(1).

وذلك لعدة أسباب منها ان الطفل في هذه المرحلة لايكون خاضعا لاي جماعة أخرى غير أسرته، ولانه يكون فيها سهل التاثر والتشكيل، وشديد القابلية للأيحاء والتعلم، فضلا عن حاجته الدائمة لمن يعوله ويرعى حاجاته العضوية والنفسية المختلفة.(2)  

كما اشارت دراسات اخرى مثل دراسة كانتر Kanter  سنة 1974م ودراسة هورلوك Hourlock  سنة 1974 م ودراسة رايم Rimm  سنة 1987م الى ان نوع التنشئة الاسرية المتبعة في الاسرة مثل التنشئة التسلطية او التنشئة الديمقراطية، وطبيعة العلاقات بين الاباء والابناء تؤثر سلبا او ايجابا على علاقات هولاء الابناء في المجتمع الكبير، وعلى النشاط الاجتماعي المتوقع لهم.(1)

ومن هذه العلاقات السلبية مظاهر التطرف الديني المتمثلة برفض الاخر، والسعي للقضاء علية، ورفض الحداثة والتزمت بالنصوص المنقولة التي قد يكون بعضها مدسوس.

     أن الدور الرئيس الذي أحتفظت به الاسرة في عمليات التنشئة الاجتماعية ياتي من خلال الخصائص التي امتازت بها عن بقية المؤسسات الاجتماعية الاخرى. مما يجعلها انسب هذه المؤسسات لتبدء فيها ومنها عملية التنشئة الاجتماعية، فالاسرة التي تنشيء متطرفين او تكفيريين لمن يعاكسهم في الرأي حتى لو كانوا من نفس الدين، تقدم أنموذجا يؤثر سلبا في التفاعل الاجتماعي مع الاخرين، والاسرة التي تنشيء معتدلين ومتفاهمين ويأخذون التفسير القرآني والحديث النبوي من اهله، ومن هم احق بالاتباع من الاخرين تقدم أنموذجا اخر ايجابيا وفعالا ومنتجا في ذلك المجتمع، كل ذلك لان لافراد الاسرة الواحدة ثقافة خاصة بها، وثقافة المجتمع هو النتاج الكلي لمجموع تلك الثقافات بصالحها وطالحها.

وهذا ما اشاراليه بيرجوس ولوك Beargss & lock  عند تعريفهم للاسرة، أذ انهما يران ان الاسرة هي مجموعة من أشخاص يتحدون بروابط الزواج او الدم او التبني، فيكونون مسكننا مستقلا، يتفاعلون بتواصل مع بعضهم البعض بادوارهم الاجتماعية المختصة كزوج وزوجته، واب وام، وابن وبنت، واخ واخت، الامر الذي يكون لهم ثقافة مشتركة. (1)

هذه الثقافة التي قد تسيء للدين او المجتمع الانساني بمفاهيمها المغلوطة او تساهم مساهمة فعالة في رقية وتقدمه وهو الدين الاسلامي الحقيقي الذي اشار اليه القرآن الكريم عن رب العزة والجلال وسيرة رسوله الكريم محمد (ص) وال بيته الطيبين الطاهرين ( عليهم السلام اجمعين ). 

أن انماط التنشئة الاسرية هي جزء يؤثر ويتاثر بالانماط الاجتماعية السائدة في المجتمع، وهذا ما يتطلب من التربويين والقيمين على المجتمع الى تهميش وازالة وجود الانماط التكفيرية والعدائية والسلبية التي يتوقع ان تؤدي في خاتمة المطاف الى ظهور ظاهرة التطرف والفهم الخاطيء لاحكام الدين الاسلامي الحنيف والذي قد يتطور وينمو ويصل في اقصى حدوده الى رفض الاخر وعدم تقبله وتكفيره، بل وتحليل قتله كما في ظاهرة الارهاب والمنظمات الارهابية المحسوبة على الدين، فماذا نتوقع من انماط تنشئة مثل نمط القسوة والتسلط في تنشئة الاطفال، او نمط الاهمال، او نمط التذبذب في معنى الحلال والحرام، او نمط التفرقة بين الابناء غير ان ينتج لنا جيلا قديضر او ينحرف اويرفض كل ما يعاكس اويخالف او لايتفق مع الثقافة التي نشأ او تربى عليها في الاسرة، فيولد تعصبا وتطرفا قد يفضي في نهاية الامر الى تبني فكرة الارهاب. وهذا ما يتحتم على الجميع العمل الجاد والحثيث لمنع حدوثه او تفشي امره.

     يعرف أبن منظور التعصب في لسان العرب ( دعوة الرجل الى نصرة عصبته والتآلب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا او مظلومين. (3)

وهو تعريف يتطابق مع ما ذهب اليه بعض علماء النفس من حيث الغاية والمعنى والتي قد تعني الاتفاق بين مجموعة من الافراد من ذوي الاتجاه الديني الواحد في حكم بقبول او عدم قبول لشخص او جماعة، هذا الحكم يكون سابقا لوجود دليل منطقي او دون دليل اطلاقا في اصدار الاحكام التكفيرية للاخرين(4)، لا لشيء الا للاختلاف في وجهة النظر فقط في ما هو احق بالاتباع من ما هو ليس بحق في اتباعه.

ومن التعريفين يمكن الاستخلاص بان المتعصب لايرى امامه الا نفسه وجماعته، اما الاخرون فهم مخطئون وكافرون يتوجب قتالهم والقضاء عليهم، وهذا الامر قمة الفكرة التكفيرية التي ادت الى انتشار العنف الارهابي واسرافه في قتل المخالفين ضلما وعدوانا.

أن الذي يطلع على الخطابات الاصولية المتطرفة للتكفيريين، يمكن له ان يستنتج انها تسعى جاهدة الى الغاء جميع الاختلافات الداخلية فيما بينهم وعدم التصريح بها، والى اسقاط جميع مظاهر العدوانية على الاخرين المختلفين معهم في الفكرة او العقيدة، وفيما يبدو ان التطرف الديني اذا نظر الية كسلوك عصابي يدل على بناء نفسي عقدي عميق في النفس البشرية، يحتاج الى تحليل نفسي لتفكيك دلالاته المعنوية او الروحية وبلوغ غاية معانيه الشعورية واللاشعورية. وهذا ما اشاره اليه بعض الاطباء النفسانيين في تنظيراتهم المتعلقة بهذا الموضوع (4).

     وهكذا يمكن لنا الاستنتاج ان الاسرة من اهم المؤسسات الاجتماعية التي يتطلب منا الاتجاه نحوها للحد من مظاهر التطرف والارهاب ذي اللباس الديني، لانها اول جماعة يعيش فيها الطفل، وهي الوعاء التربوي الاول الذي ينهل منه وتشكل شخصيته المستقبلية، اذ اننا لانستطيع ان نمنع حدوث التطرف والارهاب المتستر بالدين، لكننا نستطيع ان نحد او نقلل من مبررات وجوده، فاذا نجحنا في مبتغانا فاننا حصنا افراد الاسرة من الانزلاق الى مظاهر ذلك التطرف الذي قد يفضي الى مظاهر الارهاب في جميع صوره واشكاله، لان الاسرة هي قاعدة المؤسسات الاجتماعية الاخرى مثل المدرسة او الجامعة او المسجد او دور العبادة او المنظمات الاجتماعية المختلفة.

والعلاقة بين الاسرة والمجتمع وثيقة ومتبادلة من ناحيتين، فالاسرة تتاثر بما يصيب المجتمع من تغيير في النظم والقيم، والمجتمع يتاثر بما يقع في انماط التنشئة الاسرية من تغيير، وذلك ما يدفع المهتمون بالتربية من مختلف التخصصات الى تحصين ارباب الاسر من خلال مدهم بكل الامكانيات والخبرات التوجيهية والتثقيفية ووسائل التنشئة الايجابية الفعالة، فاذا تمكنا من تحصينهم من اتباع انماط تنشئة صالحة مع ابنائهم فاننا قد نكون ساهمنا بمساهمة كبيرة في الحد من الانماط التي قد تودي الى تقديم جيلا متطرفا يساهم بشكل سلبي في التفاعل الاجتماعي، سنعاني منه كثيرا خلال التعامل معه، وهذا هو مضمون المقولة التي ترى ان الوقاية خيرمن العلاج.  

الهوامش

1-     صالح محمد علي ابو جادو، سيكولوجية التنشئة الاجتماعية، ص 217، ص218

2-     احمد عزت راجح، اصول علم النفس، ص426

3-     ابن منظور، لسان العرب، كلمة تعصب

4-     اقبال الغربي، مقاربة نفسية لفهم التطرف الديني، موقع شغاف الشرق الاوسط الالكتروني

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد 18 شباط/2007 -1/صفر/1428