ضد سياسة التجهيل

بقلم/باسم البحراني

         إن الحديث عن نجاح المجتمعات يستدعي منا التأمل والتبصر في الأسس التي قامت عليها هذه المجتمعات، هذه الأسس التي جعلت من مجتمعات تنهض وتتقدم، وجعلت من مجتمعات مقابلة تتهاوى وتتخلف، هذه (الأسس/السنن) هي مكمن الداء ومكمن الدواء... فلا نتيجة من دون أسباب حاصرتها وأدت إليها.

        إن قوة المجتمعات وفاعليتها وقدرتها على تقديم العطاءات والإنجازات، يعتمد على جملة من المقدمات والأسس والقيم الكبرى، وفي مقدمة هذه الأسس هي (امتلاك الوعي) حيث إن امتلاك المجتمعات لرصيد حقيقي من الوعي والمعرفة، والمقدرة على التفكر في الأمور وعواقبها بعينٍ نافذةٍ وبصيرة، والقدرة على صناعة والوعي وإنتاجه، هي أولى هذه المقدمات بل هي مقدمة المقدمات التي بشّر بها الله جل وعلا من خلال رسالاته كلها، حتى (رسالة اقرأ) و(رسالة نون والقلم وما يسطرون)، وهذا ما نلاحظه عندما نتأمل في آيات الذكر الحكيم التي تشير إلى خطٍّ بياني واضح يتصعد مع كل رسول ورسالة، فالأنبياء خاطبوا العقول والألباب، وأثاروها بشتى الوسائل المتاحة، (إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر) (الغاشية/22)، (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) (العنكبوت/18)، فوظيفة الأنبياء يمكن اختصارها في عرض الحقائق أمام الناس، أما مسألة الإيمان والعمل فهذا عائدٌ إلى قناعاتهم، إذ لا مجال للقسر والإكراه في هذه المنطقة من الإنسان، من هنا كانت ثروة الإنسان قدرته على التعقل والتفكر ومحاكمة الآراء والأفكار المبثوثة في الوسط الاجتماعي، (فبشِّر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب) (الزمر/18)، فالاستماع المركَّز وليس السماع الساذج المتسرِّع هو الذي يمثل الحراك الحضاري ويصنع الإنجاز على الأرض، من خلال غربلة الأفكار والنظريات والأخذ بالنافع ورفض الضار، ولذلك استحق هذا الإنسان البصير البشرى من الله جلّ وعلا.

الإنجاز فكرة:

        ما من عملٍ يُقام، أو مشروعٍ يُنجز، أو منظومة تتحرك، إلا ويقف خلفها فكرة، وما هذا العمل إلا الوجه الآخر للفكرة التي طبقها صاحبها، وبالتالي يمكن القول إن هذا العمل وهذا الإنجاز ما هو إلا تجسيد لتلك الفكرة وانعكاس لها، هذا من جانب، ومن جانب آخر هذا العمل وما فيه من فاعلية يعكسان مدى ما تحتويه الفكرة من فاعلية كامنةٍ فيها...

        من أجل ذلك نحن بحاجة إلى الاهتمام بصناعة الأفكار بمقدار ما نحن بحاجة إلى الاهتمام بالعمل نفسه، وهذا ما يُلاحظ في المجتمعات المتقدمة التي ترصد ميزانيات ضخمة لمراكز البحوث والدراسات، من أجل تقديم الأفكار المتجددة والفاعلة.

        فالفكرة الناجحة هي مصنع الأعمال المنتجة، ومن هنا يمكن القول إن تداول الأفكار ومناقشتها ومحاورتها والتحاور في شأنها هي من علائم المجتمع الناضج       الواعي المتحرك، وعلى العكس من ذلك المجتمعات المتخلفة، التي تتبع في حق نفسها سياسة التجهيل، أو يمارس ذلك في حقها المستبدون والمستكبرون والمستغلون والمستعمرون من ذوي المطامع؛ وذلك من أجل تحقيق بعض الأغراض الشخصية، والمصالح الخاصة الضيقة، متنكرةً لمستقبل هذا المجتمع ومستقبل أبنائه، والشواهد التاريخية والمعاصرة أكثر من أن تُحصى، فهذا فرعون رمز التجبر والطغيان والاستبداد في عصره مارس في حق شعبه أبشع صور التجهيل، من أجل أن ينصِّب نفسه إلها عليهم، قال تعالى: (واستخف قومه فأطاعوه). وذاك معاوية الذي صنع لنفسه إمبراطورية الشام واقتطعها عن الدولة الإسلامية وسلطتها الشرعية المتمثلة في أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ولم يكتفِ بذلك، بل أطلق العنان لأبواقه الإعلامية من أجل تشويه الحقائق وتجهيل الناس ليصنع منهم آذاناً له يأمر فيُطاع دون تفكرٍ في حقٍ أو باطل حتى أن أمير المؤمنين يتأسف على أصحابه الذين طالما عصوا أوامره فقال: ( أيها القوم الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلى بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، لوددتُ أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرةً منكم وأعطاني رجلاً منهم) (الخطبة97/نهج البلاغة)، هذه إحدى نتائج التجهيل التي مارسها معاوية على أصحابه حتى أنه صوّر لهم أمير المؤمنين وهو وليد الكعبة والمحامي الأول عن الدين وشريعته بأنه تاركٌ للصلاة، حتى إذا ما جاء أحد أهل الشام إلى الكوفة وسأل عن أمير المؤمنين فرآه يصلي، تعجب قائلاً: أيصلي هو؟!!

        وهذا الرئيس التركماني صابر مراد نيازوف الذي رحل قبل أيام قليلة بعد أن مارس الاستبداد على شعبه سنوات طوال مارس التجهيل الأعمى بشكلٍ لا يتصوره إنسان هذا العصر، وقد تقلد نيازوف مقاليد الحكم في البلاد الغنية بالنفط عام 1985 عندما كانت جزءا من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وفي العام 1999 انتخب نيازوف رئيسا مدى الحياة بعد أن أطلق اسمه على أحد النيازك وعلى مدن ومطارات بالبلاد، وخلال سني حكمه أسبغ على نفسه سمة شخصية مميزة حتى بات يعرف باسم "تركمانستان باشي" أو زعيم جميع التركمانستانيين، وفي 2002 قرر الرئيس الراحل إعادة تسمية كل شهور السنة، وأيام الأسبوع السبعة بأسماء أكثر ملاءمة لرموز البلاد وأبطالها، وخصوصا اسمه واسم والدته، حيث أصبح اسم أول شهر في السنة تركمانباشي، ونيسان/ابريل (قربان سلطان) باسم والدته، وفي آب/أغسطس 2006 أطلق على نوع جديد من البطيخ الأصفر معروف ل"رائحته الزكية" و"حجمه الكبير" اسم تركمان باشي، ويعرف عنه أنه أمر بنصب تماثيل له في كافة أنحاء تركمانستان، وتعليق صوره العملاقة على واجهات كل المباني الحكومية في العاصمة عشق آباد ونصب في قلب العاصمة تمثالا كبيرا ذهبيا له يدور مع حركة دوران الشمس. كما ألَّف كتابه "روحنامة" الذي يعتبر "برنامجا للإنماء الأخلاقي للأمة" يدرس في جميع المدارس و يمتحن به الطلاب، وهذا الكتاب المقدس أيضا ضمنه رؤاه السياسية والفكرية والروحية وحمل تسمية "روخناما" وفي شهر مارس المنقضي, أعلن الرئيس الراحل أن كل من يقرأ "روخناما "ثلاث مرات سيكتشف ثروة روحية وسيزداد ذكاء وفطنة وسيكون مصيره الجنة, كما فرض تدريسه في البرامج والمقررات التعليمية على كل الطلاب والموظفين و حتى المتقدمون لرخصة القيادة.

كما حدد الرئيس الراحل مراحل جديدة للحياة بحيث تنتهي مرحلة الطفولة في سن ال13 والمراهقة في سن ال25 وبعد سن الرشد تأتي مرحلة "نبوة" بين عامي 49 و61 سنة ومرحلة "الهام" بين عامي 61 و73 في حين لا تبدأ مرحلة الشيخوخة قبل 85 عاما، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2005 ألغى القسم التقليدي للأطباء واستحدث قسما جديدا:"بعد تخرجي طبيبا وخلال ممارسة مهنتي اقسم بان احترم مبادىء صابر مراد تركمان باشي". وفي 2005 وضع صاروخٌ روسي نسخةً من هذا الكتاب في المدار. وأغلق كافة المستشفيات فيما عدى مستشفيات العاصمة عشق آباد, وأعلن كافة الأمراض المعدية بما في ذلك الايدز والكوليرا خارجةً عن القانون، وأمر بعدم المجيئ على ذكرها. وفرض قواعد جديدة في مجال التعليم حيث أعلن بطلان شهادات كافة المعاهد الأجنبية التي تم الحصول عليها في السنوات العشر الأخيرة وأغلق جميع المكتبات في القرى لأن سكانها من الأميين، هذه بعض من سيرة هذا البطل الكبير الذي صنع من نفسه إلهاً يُعبد.

ولكن الذي جعله يستطيع أن يفعل كل ذلك، هي سياسة التجهيل التي مارسها على هذا شعبه المسكين حتى أنه اختصر سنوات الدراسة العامة والجامعية، مما جعل الشعب التركماني متخلفاً إلى حدٍ كبير، حارماً إياه من تحصيل مقدارٍ كافٍ من الوعي والمعرفة.

        لأن هؤلاء المستبدين يعلمون بأن وعي الشعوب هو الذي يصنع النهضة، ويحقق الإنجاز والتقدم في حين جهل الشعوب يتيح للمستبدين والمستغلين المجال لكي يتصرفوا كيفما يشاؤون بلا حسيبٍ أو رقيبٍ، لذا من مصلحتهم أن يبقى الشعب مكبلاً بأغلال الجهل والتخلف، فالجهل هو فاتحة المساوئ.

        هذا هو المشهد الذي يتكرر في كل زمان يستغل فيه ذوو النوايا المغرضة جهل البسطاء وسذاجتهم ليمرروا مشاريعهم، وهو تماماً الذي حصل في ظهيرة عاشوراء، حيث تواجه جيشٌ من العلماء المتمسكين بالقرآن والرسالة مع جيش آخر على النقيض، جيشٍ من الجهلة المنساقين وراء ملذات الدنيا وغرائزهم الفانية وشهواتهم الرخيصة، حتى أن أحدهم جاء لقتال ابن بنت رسول الله من أجل حفنةٍ من التمر، فخسر الدنيا والآخرة من أجل هذه الحفنة البائسة.

        فإذا كان المستغلون يخاطبون الشهوات ويدقون على أوتارهم من أجل التحشيد لأطماعهم، بقي أهل بين النبوة والرسالة يخاطبون العقل والوعي، ويثيرون في حسَّ الفكر ليعي الحياة، ويستوعب ما يكتنفها من خبايا، وهذا ما صنعه الإمام الحسين عليه السلام في ظهيرة عاشوراء، من خلال خطبه الكثيرة التي ألقاها على جيش الجهل والعمى الذي جاء لقتاله، تلك الخطب التي حاول فيها أن يبين للقوم إلى إين هم ذاهبون، وفي أي طريقٍ هم سالكون... هذه الخطب التي استمرت حتى آخر لحظات عمره الشريف.

فكانت حركته ونهضته ضد سياسة التجهيل...

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء24 كانون الثاني/2007 - 4 /محرم/1428