وأد العقول العراقية.. مسؤولية من !!!؟

الدكتور محمد مسلم الحسيني*

أن العقول والكفاءات الفكرية والعلمية  هي سر نشوء وتطور حضارات الشعوب والأمم.  والأمم الخالية من عقول مفكريها تكون متخلفة عن مسيرة الحضارة وعن حركة الزمن.

 أن علماء الأمة ومفكريها هم القادة الفنيين لتلك الأمة، وبهم تسير عجلة التقدم والتطور والمدنية والنهوض. هذه بديهيّة لا ينكرها أحد ومن ينكرها فهو أما جاهل متخلف أو حاقد لئيم أو أناني شرس.

لقد صاحبت عملية التغيير الديمقراطي في العراق- ومع الأسف- ظاهرة غريبة وخطيرة وضحت للعيان ويتكلم فيها القاصي قبل الداني، ألا وهي ظاهرة تصفية أهل الفكر والكفاءة في هذا البلد. وتوضحت هذه التصفية بوجهتين مترابطتين، الوجهة الأولى هي التصفية الجسدية الحاسمة وأنهاء الكفاءة من الوجود جملة وتفصيلا، والثانية هي التصفية النفسية للكفاءة أو الوأد البطيىء.

  دون شك أن الأرهابيين الذين لا يريدون للعراق أن ينهض ويتقدم هم وراء التصفية الجسدية للكادر العلمي في هذا البلد، وهذا أمر مفهومة جوانبه ومقاصده ولا يحتاج الى بحوث وأستنتاجات أو الغور في أعماق الأسباب والمسببات. فهم يريدون تدمير كلّ شيء أن لم يبقى كلّ شيء بيدهم وعلى قاعدة- الكلّ وألاّ فلا-، أو- أذا متّ ضمآنا فلا نزل القطر-!. ولكن الأمر الذي يستحق التوقف والتمعن والتمحص عنده، هو من الذي يقف وراء وأد العقل العراقي معنويا !؟، وأعني وأد نفس وروح الكفاءة وذلك من خلال تهميشها وأبعادها أوعزلها وأهمالها وأسدال ستار النسيان عليها.

  حينما بدأت عملية التغيير الديمقراطي في العراق، توسمنا خيرا للفكر العراقي أن ينهض، والذي كان مضطهدا ومحاصرا ومنبوذا من قبل النظام الصدامي البائد، وقلنا مع أنفسنا سيمنح العهد الجديد المكانة والقيمة المسلوبة لهذه الشريحة المظلومة والمهمشة في مجتمعها. وهكذا فقد توقعنا بأن البلد سوف يتجه لأحتضان أبنائه وعقوله وأن أول عمل سنراه وكخطوة أولى في بناء العراق هو الأتصال بهذا الكادر المهم من كوادر المجتمع والأطلاع على تفاصيل ما في جعبتهم من مشاريع وأفكار بنّاءة لبناء وطنهم وتفعيله وتوجيهه نحو سلم التطور والحضارة.

حيث سمعنا كثيرا عن كلمة الأعمار حتى أهتزت طبلات آذاننا مئات المرات من سماع هذه الكلمة....!، ولاأدري من هو الكادر الذي سيعمر أن كان أكثر من نصف العقول العراقية مشتتة في بقاع العالم ولم يستدعها ويسأل عنها أحد !؟.

وهكذا تمضي السنون ولم أسمع من المحيط الذي أنا فيه بأن الدولة قد أستدعت أحدا من حملة الشهادات العليا أو ذوي الكفاءات والخبرات الفنية أو سألت عن أحد أو أستأنست برأي أحد، أو عملت جردا أو دراسة أو بحثا عن هؤلاء المنسيين في غياهب الزمن !. وكأنما الكفاءة في واد ومصلحة البلد في واد آخر!. وهذا أمر أثار عندي التساؤل والأستغراب!، ولم أقدر أن أعثر على تبرير لذلك !.  نعم لقد سمعنا بأن بعض الأفراد المتواجدين في جاليتنا من العراقيين قد أستدعوا الى الوطن وهبوا  مسرعين اليه وذلك  في الأيام الأولى من التغيير، ولكن لم يكن هؤلاء من ذوي الكفاءات العلمية !.  أنما كانوا كوادر حزبية!....، أي أفرادا ينتمون الى الأحزاب..... وكأن الأعمار الذي نتحدث عنه ونسمع به في كل زمان ومكان، هو أعمار مؤسسات الأحزاب ودوائرها !، وليس أعمار البلد ومؤسساته المدنية وقواعد نشوئه وصيرورته !. أنا لا أستخف بالأحزاب ومنتسبيها أو أقلل من شأنهم وأهميتهم- معاذالله-، فهم أناس ناضلوا وجاهدوا، ربما كما ناضل وجاهد ذوو الكفاءات. ولكنني أستخف بالذي تسوّل له نفسه أن يستحوذ على الأماكن الفنيّة بصفة الحزبية. أي يجعل الحزب فوق الكفاءة، معللا ذلك بأن هؤلاء الحزبيين قد ناضلوا بحياتهم ويستحقون المركز والرتبة وأن كانوا غير أختصاصيين في عملهم. أن ردّي على المتقولين بهذا المنطق هو أن أسأل : هل المناضل حينما ناضل كان يناضل من أجل المركز أم من أجل مصلحة الوطن ؟. فأن كان الجواب هو من أجل مصلحة الوطن، فأنا أقول بأن مصلحة الوطن تقتضي ترك المكان المناسب للرجل المناسب.

وأن من يريد مصلحة الوطن وأعلاء شأنه ومقامه وتطوره وتقدمه وقد ناضل من أجل ذلك، فعليه أن يستمر في نضاله ويكمل المشوار الذي بدأه ويترك مصالحه الشخصية وينكر ذاته ويسلم المكان لأصحابه الفنيين،الذين سوف يجيدون فيه ويجتهدون في أدارته على أحسن حال. وهذا أمر منطقي لا يتحمل الشك أوالتشكيك. وأما أذا كان الجواب، هو أن نضال المناضلين كان من أجل المركز والمكانة والأمارة حتى ولو على حجارة !، فأن جوابي لهم أن لا خير فيكم ولا في نضالكم خذوا نضالكم معكم وعودوا من حيث كنتم قادمين... فبلدنا ليس بحاجة الى هكذا مناضلين...!.

أن من يشاهد المنظر التزاحمي على الأماكن والمراكز والرتب في هذا البلد الجريح، يبدو له وكأنما يرى لعبة سباق الخيل. فكل واحد يطمح أن يكون هو الأول وحسب سرعة وقوة الحصان الذي يمتطيه!. أن هذا التسابق الجسدي وليس الفكري سوف لاينفع مستقبل العراق ومصالحه الستراتيجية. وأن نجاح المشاريع البنائية بكل أصنافها رهن بقوة وكفاءة وخبرة قادة تلك المشاريع الفنيين وليس الحزبيين. وأن تمادينا وتماهلنا وغضضنا البصر عن هذه الحقيقة الدامغة،  فأن هذا سيؤدي الى نتائج مأساوية خطيرة على مستقبل هذا البلد وأسس حضارته وتطوره. أن نتائج سياسة الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب قد تبينت على الساحة. فالتدهور المضطرد في شؤون البلد والدولة ومن كافة الأوجه والأصعدة، ما هو ألاّ نتيجة من نتائج الخلل السياسي العراقي والذي حوى في أجندته،وبشكل مباشر أو غير مباشر،أبعاد القادة الفنيين عن أماكنهم ومراكزهم  التي يجب أن يتسنموها.

 أن المتابع للأحداث على الساحة السياسية العراقية، قد رأى ومنذ بداية التغيير أعتلاء بعض الأشخاص والشخصيات، الذين يقولون عنها سياسية والتي لم نسمع بها من قبل، مراكز هامة وخطيرة في سلم الدولة. حيث لم يكن لهؤلاء معرفة أو أختصاص أو حتى المام بسيط في الحقائب الرسمية التي أستلموها والتي وصلت الى درجة الوزارات !. ولكن مالذي حصل نتيجة لهذه التصرفات وتقاسم المراكز والمحاصصات التي لم تكن على أساس الكفاءة والقدرة!؟. الذي حصل، وكما يعلم الجميع، هو أخلال وأختلال في شؤون البلد ومصالحه العامة وأختلاس في أموال الدولة وضياعها وبعثرة المشاريع التي خصصت من أجلها تلك الأموال، وأنقلب هؤلاء الحزبيين المناضلين النشامى الى لصوص ومختلسين تستدعيهم المحاكم العراقية وتبحث عنهم وتلاحقهم !!. وهكذا تتعطل عجلة التقدم في البلد وتتوقف عن الحركة، لا بل وقد ترجع الى الوراء أن أعتمدنا عناوين غير عناوين مصلحة الوطن وأعتبارات غير أعتبارات الكفاءة والخبرة ومبدأ غير مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب.    

أن دفاعي عن القادة الفنيين ليس تمجيدا لهم أو تزلفا اليهم ولا إستجداءا لكراسي السلطة والحكم لهم. أن سعادة الأكاديمي في كل بقاع العالم، تتركز في كتبه وأبحاثه وجامعته وطلابه. فهو لا يبحث ولا يلهث ولا يركض وراء السلطة أو المادة أوالمركز بشكل عام. أن هذه السيرة ليست سيرته وهذا اللباس ليس لباسه. وأن أسندت اليه أدارة مركز أو تسنم مسؤولية إدارية، فإنه سيتفاعل معها من منطلق الواجب المفروض والمصلحة العامة وليس من منطلق الرغبة الشخصية أو الطموح الذاتي. وسيكون ذلك تكليفا له وليس تفضلا عليه وأخذا منه وليس عطاءا له !.                

عسى أن يكون ندائي هذا مسموعا من قبل ذوي الشأن ومالكي القرار، خصوصا وهم في الطريق لتشكيل حكومة جديدة وفعّالة.... !، وما على الرسول الاّ البلاغ والله من وراء القصد ومن الله التوفيق.     

*بروكسل

[email protected] 

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 27/كانون الأول  /2006 - 5 /ذي الحجة /1427