وقفة استقصائية لخبر قرار وزارة التربية الجزائرية: المطلوب رفع الضبابية المفاهيمية حول التشيع

بقلم: الدكتور محمد جواد حيدر(*)

طالعتنا صحيفة يومية جزائرية (الشروق)  بخبر رئيسي  يتوسط واجهة العدد 1866(وزارة التربية توقف 11 ''شيعيا'' عن التدريس بالجزائر) والعنوان بحد ذاته يستدعي تأمل عميق في الصيغة التي جاء بها، ناهيك عن محتوى التقرير الذي حاول تحليل الخبر بشكل يستبطن أسلوب يمزج بين منهج الطبري و ابن خلدون في قراءة الآخر اللامفكر فيه أو الممنوع التفكير فيه.

لعلنا أمام تركيز للقابلية الاجتماعية للاستحمار وهي استعارة من المرحوم مالك بن نبي الذي طرح فكرة «القابلية للاستعمار» كأداة لتفسير تغلغل الاستعمار في البلدان الإسلامية. وكما هو معلوم كل نظام اجتماعي تقليدي «ما هو سوى منظومات قيم موروثة، وتوازنات هشيشة، ونمط إنتاج مفلس» يسمح بأفكار و طروحات محددة ويمنع أخرى؟ !

وهذا ما يعرف بالمفاضلة الثقافية مع إرهاصاتها الاجتماعية ،و هي محصلة موضوعية للتفاعل السلبي  بين مجموع العناصر الإجتماعية التي تشارك في تكوين الحياة الاجتماعية إضافة إلى تأثير الثقافة التاريخية والعوامل الخارجية. والقابلية للاستحمار ضمن هذا المنظور ،نمط ثقافي-اجتماعي يتمتع باستمرارية وعلاقة تفاعلية مع مجموع العناصر المكونة لظروف المعيشة في مجتمع محدد.

وعليه ليس هذا المستجد تحت رعاية وزارة التربية بغريب ،فالدال هنا يستفاد من المدلول و العكس صحيح، فإذا عرفت السبب بطل العجب كما يقال، و المجهول عند عامة  سقاءي الثقافة في الجزائر أن التشيع ليس أشخاص يقولون عن أنفسهم بأنهم شيعة، فالإطلاع البسيط على تراث أئمة الهدى عليهم السلام في تأصيلهم لمفهوم التشيع يغني الباحث بان التشيع هو حقا صميم الإسلام لكن الإسلام الأصيل الذي حفظ الحقيقة الإسلامية و عنى بالقراءة الموضوعية السليمة (من التحوير و التزوير و الايدولوجيا) للتراث الإسلامي، ثم إن التشيع كمفهوم ضمن الأبستمولوجيا الإسلامية ليس له وطن ، كما السنة ليست مذهب بل هي مصداق ثقل ، لكن المؤرخين الذين غالبيتهم من الإسلام الرسمي لا المعارض لعبوا اللعبة القذرة  في استحمار الأجيال الإسلامية ، كما لا ننكر أن بعض المعجبين بتشيعهم أو الواهمين أنهم شيعة أهل البيت عليهم السلام ، وهم قابعين في زنزانات الذات أو أولئك الباحثين عن الإختلاف المصلحي للبروز اجتماعيا أو للوجاهة  الدينية أو التطلعات الدنيوية الرخيسة...

و اللازم توضيحه لمن ألقى السمع و هو شهيد عادل بالجزائر أم النبلاء ، ليس هناك ناطق رسمي بإسم التشيع في الجزائر، و يبقى التشيع ذو تاريخ عريق في المغرب العربي ككل من أدناه مرورا  بأوسطه إلى أقصاه، فالعقلاء لا يحكمهم التاريخ فيستغرقوا فيه بل الحقيقة هي الحاكمة، تلك التي تستدعي البرهان  الصادق و العقل الإيماني...

هل نريد للجزائر قلعة الإسلام في المغرب العربي و بوابة إفريقيا، أن تلج في مشروع الفتنة الإستراتيجية المعمول بها في أجندة الاستكبار العالمي ؟

علينا أن نفكر بشمولية لكن أيضا بعمق، لأن حاضر العراق و لبنان و سوريا و مصر ليس منا ببعيد...فأي مهاترات رسمية أو غير رسمية من شأنها جر الساحة المغاربية ككل إلى ما لا يحمد عقباه، إن الديموقراطية كفكرة خالية من براثين الإستحمار و الاستبداد و التهميش المقنن، لهي كفيلة بدفع عجلة التعايش و التسامح و التثاقف الإسلامي السليم...

ثم دعنا نتساءل: هؤولاء الناقمين من التشيع، غير السلفية المتخلفة -الحاقدة على كل مختلف عنها و عن الرافضة كما يسمونهم أشد و أطغى-ماذا يعرف هؤولاء المتنطعين في سوق النخاسة التعصبية و رواق العطايا السياسية و المذهبية عن هوية التشيع، هل قرأوا فقه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، هل ناقشوا تواريخ الرجال من الطبري مرورا بابن حزم ووصولا إلى العلامة ابن خلدون وزير السلطان أبي عباس بمصر، أين الأدب بكل مصاديقه و أين العدالة في أدنى صورها فقط لا أرقاها؟؟

طبيعي جدا أن يلقى خبر كهذا صدى واسعا لدى القارئ الجزائري العامي المحكوم بثقافة الجريدة و المقهور ثقافيا ككل، لان فاقد الحق لا يعطيه، فحتى الشيخ محمد الغزالي الذي أبلى البلاء الأحسن في التقريب بين المذاهب الإسلامية ، و الذي عاش بين أظهرنا سنين و لم يستوعب أهل البيت الجزائري فكره جيدا و هو ابن الإسلام المعتدل ،للأسف لم يقرأوا كتبه ولو قرأوها أنكروا ما فيها من حقائق تشير على صدق الرجل... هذا نموذج علمائي لم يستفاد من فكره الاستفادة السليمة و هو من أواخر المعاصرين (بعد الشيخ شلتوت و عبد الحليم محمود و غيرهم) الذين دعوا لدمج الفقه الجعفري في كليات الفقه بالأزهر لأنه يعتبر أغنى فقه إسلامي...

يكفي كلاما غير مسؤول و لا علمي و إنساني، إننا عانينا الويلات في التسعينات و لازال جمر تلك النار إلى الآن يكوينا ، ليحاول هؤولاء النبهاء أن يفرقوا بين ثقافة التشيع و ثقافة الشيعة، إن التشيع كثقافة فرض نفسه عبر التاريخ و هو طيف رسالي حقيقي من عمق الرسالة الإسلامية الرافضة للظلم و الاستبداد و الزيع و النفاق وكل ما يقتل التقوى في النفس المسلمة، فكرا و عملا ، و الحمد لله التشيع كان دوما شعاره اللاعنف المستوحى من الثقلين ...

قد أكون بالغت في الاستقصاء، لكن العقل و الدين يأمران بالتصدي لكل ما من شأنه إشعال نار الفتنة و المساس بالحريات العامة و الاستقرار الاجتماعي و الوعي السياسي، خاصة إذا أراد تجار الفتن في العالم الإسلامي استغلال بعض المفارقات و التجاوزات الفردية والقرارات الرسمية القانونية في استنهاض العقل الجمعي الديني في مجتمعنا لمآربها السياسية و المذهبية.

و الواجب بخصوص هذا القرار هو معرفة حيثياته ، لإدراك المبررات قبل إصدار الأحكام المسبقة من لدن عباقرة الخبث السياسي و المكر التعصبي، و من الأسئلة التي أطرحها على الأخ الفاضل جمال لعلامي من جريدة الشروق:

هل هؤولاء الموقوفين من قبل الوزارة جزائريين؟ و إن كان كذلك فالأصل هو المواطنة و ما المذهب سوى مستجد في شخصياتهم، و ماهي المواد التي يدرسونها؟ فإن كانت العلوم الشرعية فلا مبرر للوقف لان البرنامج فيه العديد من المحاور التي تتعلق قسرا و موضوعيا في تفاصيلها المنهجية بالتشيع كعنوان إسلامي أصيل ظهر قبل عنوان أهل السنة و الجماعة و للجميع أن يتأكد من لدن أهل الاختصاص، أقصد فلسفة التاريخ في معاهد العلوم الإسلامية، وآخرها إدراجك لبعض مقتطفات الحوار مع صاحب موقع شيعة الجزائر، و كأنه الناطق الرسمي باسم أتباع أهل البيت عليهم السلام بالجزائر، فالرسميات في هذا الخصوص لن توجد لأنها تبقى بحاجة لواقعية و انفتاح ثقافي و سياسي يحافظ على الوفاق الاجتماعي بالجزائر وهذا للأسف لا يزال محل احتقان في أروقة الحركة الإسلامية ككل، بينما التشيع لابد أن يسترجع واقعيته و صلاحيته كعنوان طبيعي داخل الحقوق العامة والحريات الإنسانية التي تراعي الاستقرار الاجتماعي و السياسي في خضم إنسياباتها الاجتماعية و العكس بخصوصها أيضا مطلوب.

أما إذا كان الموقوفين من ذوي اختصاص غير العلوم الشرعية، فهذا جنحة قانونية كعدة جنح أخرى و ليست جريمة طعنت ظهر قانون التدريس في النظام التعليمي، الذي يركز على الموضوعية في العمل و الأخلاقية و الاستقلالية من كل النزعات الطائفية و القومية والمذهبية و السياسية كذلك. و من دون أن نفلسف كثيراً ونتعمق كثيراً، بإمكاننا أن نضع المقياس للتقدم والتأخر على أي مستوى و بخاصة التربية و التعليم و الإعلام، وأن نلخّص المقياس بكلمةٍ واحدة هي «الإنسانية».  كما لا ننسى أنه قد يكون هؤولاء الموقوفين قد ساحوا في غمار الفكر الإصلاحي و النظرية الإسلامية حتى بلغوا وعيا نظريا كبيرا بعلاقة التقدم العلمي بالدين و تحديدا إيمانهم العميق بشرعية التشيع ضمن الإطار الديني الإسلامي أكثر من غيره، لكنهم اصطدموا مع إستطريوغرافيا مذهبية جزائرية فاقدة للثقافة التواصلية مع التراث اللامفكر فيه و غفلوا عن حرب الأفكار المروجة في العالم كله. و يندرج هذا ضمن تداعيات الجبن الثقافي الذي يتفجر في سلوكيات فردية بارا سيكولوجية وغير عقلائية... 

ختاما، كان من المفترض أن يأتي الخبر بعد التبين و التقصي عن تفاصيل القرار و حيثياته، لألا يكون على العقل الجمعي الديني الجزائري  أي حرج ، و يبقى أملنا في أن يرقى بلد الثوار الأحرار درجة و يتقدم خطوة في طريق وعي ثقافة الإختلاف و في طريق الانفتاح على التراث الآخر، وكل هذا في سبيل بناء مجتمع نبيه ومتكافل رغم تنوعاتها العرقية و المذهبية و السياسية، و من أجل مشروع مواطنة متكامل، و تطلعا لجزائر أم نبلاء متقين ومخلصين للإنسانية و للإسلام كمصاديق للحق و العدل...

(*) باحث إجتماعي جزائري إسلامي، مقيم بألمانيا

[email protected] 

شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس 14 /كانون الأول  /2006 -22 /ذي القعدة /1427