تاريخ العنف الإخباري

 

 خالد خبريش    

تستحوذ وسائل الإعلام في وقتنا الحاضر على اهتمام وانتباه متتبيعيها، وتكاد تحاصرهم في كل مكان  وفي جميع الأوقات، إذ أصبح المتلقي عرضة لمضامين ما يشاهده أو يسمعه أو يقرأه يوميا في هذه الوسائل. ومن هنا فإنه تحتم على الباحثين دراسة هذه المضامين لمعرفة آثارها ونتائجها على المتلقي منذ الحرب العالمية الأولى حيث زادت نسبة الجرائم والعنف والمشكلات الاجتماعية بشكل ملحوظ بعد هذه الفترة(1).

ويمكن القول إن العنف ليس بجديد على البشرية، فهو قديم قدم الإنسان، ولعل أوضح مثال على هذا قصة قابيل الذي قتلَ أخاه هابيل والحوار الذي دار بينهما في دليل على وجود نزعتي الخير والشر في الإنسان والصراع الدائر بينهما والذي يولد في أغلب الأحيان العنف: ﴿لئن بَسَطتَ إليَّ يدكَ لِتقتُلني ما أنا بباسطٍ يَديَ إليكَ لأقتُلَكَ إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمينَ﴾(2). فظاهرة العنف قديمة جداً، وربما تكون قد لُوحظت ودُونت لأهوالها ومخاطرها وتداعياتها في القدم ولعل الرسومات القديمة- كما يبدو- أول من نقل ودوَّن صور العنف باشكالها الواضحة في الجداريات الفرعونية والسومرية والبابلية، والتي تجسد جانبا من انتصارات الملوك على أعدائهم ومشاهد من أهوال المعارك والجثث المقطعة وقوافل الأسرى واصناف التعذيب والتمكيل.(3)

تاريخيا من الواضح أن هناك علاقة بين العنف والإعلام وجدت قبل أن يوجد الإعلام بشكله الحديث. فالشعر على سبيل المثال نشأ نتاجا لعدة عوامل،  لعل أهمها مديح الشعراء لقبائلهم بغية نصرتها في حروبها على الأعداء، وكان من بين أهم وظائف القصيدة الأساسية التغزل بقوة وانتصارات الجماعة التي ينتمي إليها الشاعر.

ودائما تبدو كلمة الشاعر وأغنية المغني قاصرة أمام فعل المحارب.  فالمنشد الذي يتغنى بصولات المحاربين "الإسبارطيين" في إلياذة هوميروس مقعد وأعمى للتدليل على عجز المغني أمام جبروت المحارب. وفي الأدب العربي قالها شاعر نخبوي هو أبو تمام:

           السيف أصدقُ أنباءٍ من الكتب    في حَدَّه الحَدُّ بين الجد واللعب

ويقول أبو فراس الحمداني عن الحرب:

فلا تصٍفَنَّ الحـرب عندي  فإنَّهَا           طعامي مذُْ بٍعْتُ الصِّبا وشرابي

وقد عَرَفَتْ وقعَ المسامير مهجتي          وشقِّقَ عن زُرقِ النصول إهابي

ولَجَّجْتُ في حُلْوِ الزَّمَـانِ وَمُرِّهِ            وأَنفَقْتُ من عمري بغير حسابِ4 

ولا يقتصر الأمر على الثقافة العربية، فعلى مستوى التاريخ العالمي تبدو ثقافة التسامح طفلة أمام التاريخ العملاق لثقافة العنف حيث كان السلام مجرد هدنة بين حربين. وفي هذه المرحلة – مرحلة ما بعد الحرب الباردة - هناك حاليا أكثر من 140 حرب إقليمية وداخلية، اكثر من ثلثها يجري في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وقد كان لمطقة الشام والعراق الحصة الكبرى منها، والمثال الأوضح هو الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، وكلفت أكثر من مليون قتيل، وذكرت بحرب الخنادق في الحرب العالمية الأولى، وغزو الكويت وما ترتب عليها من تداعيات لاحقة كان أخرها احتلال العراق وما صاحبها من عنف ودمار بما في ذلك استخدام الأسلحة المحرمة دوليا.5 وفي هذا الصدد أجرى الأستاذ علي إبراهيم6 مقارنة بين اخبار العنف والقتل اليومية في المنطقة الان، ومثل هذه الاخبار في عقود سابقة، وجد أن هناك تصاعدا كبيرا غير مسبوق للعنف سواء من حيث العدد أو من حيث الرقعة الجغرافية، رغم أن العقود السابقة شهدت هي الأخرى أحداثا دموية وحروبا أهلية حصدت الكثيرين، لكن العنف الذي صاحبها لم يكن بهذه العشوائية التي نراها اليوم، أو الأساليب العنيفة التي نشاهدها حاليا والتي تتجاوز بكثير حدود الانسانية-7.

العنف كمادة إعلامية

أصبح من الواضح أن الحروب ومناطق الاضطرابات تشكل مادة ممتازة ومؤثرة للإعلام الحديث، كما هي في السابق موضوع مثير للرسام والشاعر. فالحياة العادية السوية لا تشكل مادة للإعلامي الباحث عن الخبر الجديد الخارج عن المألوف. ذهاب الطلاب اليومي إلى المدرسة وخروج الناس إلى العمل أو إلى السوق والحياة العائلية في البيت، أي كل مظاهر الحياة المسالمة اليومية لا تشكل مادة مغرية للإعلامي الباحث عن الخبر المثير، إنما عمليات القتال بما فيها من هجوم ودفاع ودوي مدافع وحرائق بيوت وقوافل مهاجرين وصور الدمار والقتل والأسر.  وفي هذا الصدد يرى الأستاذ زهيرالجزائري8 بأن أخبار العنف تجد لها صدى داخل المتلقي، فالحرب والعنف – كما يقول - يغذيان تلك الثنائيات الغريزية (القوي والضعيف، الشجاع والجبان، الموت والحياة).  وقد شكل العنف اليومي في الوطن مادة أساسية للإعلام العربي والدولي، وغالبا ما يكون هذا العنف مادة الصفحة الأولى في الصحف، والخبر الأول أو الثاني في أخبار الفضائيات. ويستدل بملاحظته خلال عمله في الصحافة العراقية " أن مبيعات الصحف تزداد كلما تصدرها واحد من خبرين، الأول خبر يهم مجموعات كبيرة من الناس مثل صرف أو زيادة في رواتب المتقاعدين.  إعادة مفصولين.  تحسن في التيار الكهربائي، الخ. والثاني أخبار العنف مثل السيارات المفخخة، القتال في الفلوجة أو النجف، أخبار الإغتيلات والإعتداء على المقدسات الدينية وصور المعتقلين وغيرها.. ويزداد اهتمام الناس بأخبار العنف كلما كان الوصف أو الصورة تفصيليا.  ولذلك تتفوق الفضائيات التي تنقل الخبر بالصورة ويضمحل تأثير التحليل أمام الخبر9.

ويرى فئة من المهتمين والمختصين بهذا الجانب منهم الأستاذ علي أبراهيم10 أن المتابع لأخبار منطقة الشرق الاوسط في وسائل الاعلام العربية والعالمية خلال العامين الاخيرين لا بد ان يصيبه قدر من الملل واليأس من هذه المنطقة التي لا تنتج سوى اخبار قتل وذبح وتفجيرات بدون أي افق لشيء مختلف يدعو الى التفاؤل، ويقول  في مقال له بصحيفة الشرق الأوسط (... فحتى الدخول الاعلامي العربي تلفزيونيا الى الساحة العالمية جاء - بلا فخر- من خلال بيانات وشرائط تهديدات بتفجيرات، او بأشرطة اختطاف واعدام رهائن، وهي بدون شك تدخل في اطار السبق الصحافي لكنها ايضا تدعو الى الغثيان.... اما شريط الاخبار او العناوين فهي عادة ما تكون بعنوان مقتل كذا او انفجار يحصد كذا قتيل وجريح، واصبحت كلمة مقتل تتكرر يوميا بشكل ملح، مع اختلاف العدد في كل مرة وليصبح العنف خبزا يوميا في ما يصل الى المتلقي العربي، او ما يصل المتلقي خارج المنطقة عن المنطقة...)، ويرى أن مشكلة هذا العنف ليست سياسية او اقتصادية فقط، ولكن في اثرها النفسي والاجتماعي على المتلقي، فأخطر ما يمكن ان يحدث هو الاعتياد على العنف، ليصبح طريقة حياة، أو أمرا يمر الناس امامه مرورا عابرا، والاعتياد يمكن ان يأتي من خلال الضخ اليومي لمادة العنف في اذهان الناس وخاصة الاجيال الناشئة التي لا يزال يتشكل وعيها، فالاعتياد على الدم قد يخلق وحوشا يصبح من الصعب السيطرة عليها، وغالبا ما ينقلبون على مجتمعهم ويحولونه الى ساحة للصراع والدم11. من جانبه يقول الدكتزر لطفي الشربيني استشاري الطب النفسي : (....حين يشاهد أحدنا فيلماً مصوراً عن نمر يطارد غزالة رقيقة ثم يقوم بافتراسها وينهش لحمها، أو آخر يصور نسراً كاسراً ينقض على حمامة وديعة فإن ذلك يثير مشاعر الأسى والتعاطف مع المخلوقات الضعيفة..ولكن أصبحنا نشاهد في نشرات الأخبار على القنوات الفضائية المتعددة مشاهد تفوق أقصى ما وصل إليه الخيال في أفلام العنف التي كان يتسلى بمشاهدتها الشباب.. وأصبحت مشاهد القتل وجثث الضحايا والقذائف التي تفتك بالبشر وتسبب الدمار للمباني والممتلكات معتادة ومتكررة لدرجة لم تعد تحرك الكثير من مشاعر الناس في أنحاء الأرض.. )12

تعريف العنف

يكاد يكون من الصعب تقديم تعريف موحد للعنف وذلك لإختلاف اهتمامات وتخصصات الباحثين في هذا الصدد. فعلماء السياسة يعرفونه بطريقة مختلفة من علماء الاجتماع، وهؤلاء بدورهم يختلفون في تعريفهم له عن علماء النفس، أو علماء الجريمة والقانون. كما أنه يعرف أحيانا بطرق تختلف باختلاف الأغراض التي يكون مرغوبا الوصول إليها، وباختلاف الظروف المحيطة أيضا.

كلمة عنف Violence مشتقة من الكلمة اللاتينية  Violare تعني ينتهك أو يؤذي أو يغتصب، وهو استخدام الضغط أو القوة ً استخداما غير مشروع أو غير مطابق للقانون من شأنه التأثير على إرادة فرد ما13.

ويشير مفهوم العنف إلى عدة معان منها استخدام القوة أو الإكراه غير المشروع ولتحديد العنف إجرائيا يتطلب الأمر التفرقة بين العنف الشرعي والعنف غير الشرعي،فعندما تقوم الدولة باستخدام القوة لحماية القانون والنظام فقد يبدو هذا النمط من السلوك على أنه عنف شرعي، أما العنف غير الشرعي فقد يظهر عندما يقوم أحد الأفراد بإلحاق الضرر الجسدي أو النفسي بفرد آخر14 ويعرف أيضا بانه استخدام القوة الجسدية للإيذاء والضرر15،ويعرف العنف على أنه أحد الأنماط السلوكية الفردية أو الجماعية التي تعبر عن رفض الآخر نتيجة الشعور والوعي بالإحباط في إشباع الحاجات الإنسانية16،وهو أي عمل يرتكب ضد الإنسان ويحطم من كرمته وهو يتراوح بين الإهانة بالكلمة واستخدام الضرب17 وأيضاً يُعرف على أنه سلوك أو فعل يتسم بالعدوانية يصدر عن طرف قد يكون فردا أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دولة بهدف استغلال واخضاع طرف آخر في إطار علاقة قوة غير متكافئة اقتصاديا وسياسيا مما يتسبب في إحداث أضرار مادية أو معنوية أو نفسية لفرد أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دولة أخرى 18، وهناك تعريف آخر ينتقد التعريفات السائدة التي تنص على أن العنف هو الإستخدام غير المشروع- أو على الأقل غير الشرعي للقوة- فلا يرى صاحب هذا التعريف19 جواز القانون أو مبررات المشروعية كافيةً لإستخدام القوة، بل لضرورات أخرى منها  إستخدام القوة جائز للدفاع فقط. بلْ لابد أن يكون الإستخدام دفاعياً محدوداً وإضطرارياً20

إن ظاهرة العنف في المجتمعات الإنسانية تعددت ضروبها وأنواعها، حتى تفنن رجال السياسة والمجتمع فأطلقوا على العنف أسماءً ونعوتاً مختلفة كالعنف المشروع واللامشروع، والعنف الثوري والعنف الموجه والعنف العشوائي وغيرها من المعاني الاصطلاحية… ومهما تعددت أنواع العنف فإن معناه العام لا يتعدى كونه الخرق المتعمد للمبادئ والنظم الإنسانية وتجنب الرفق فيها، واستخدام الشدة والبطش في معالجة المعضلات… 21

و يمكن تعريف العنف بأنه السلوك الذي يؤدي إلى إلحاق الأذى الشخصي بالآخرين وله أشكال متعددة منها الإيذاء الجسدي، والإيذاء اللفظي بالتجريح والشتم السباب والإيذاء النفسي.

أنواع العنف

صُنف العنف لعدة اصناف نظراً لاتساع جوانبه وأسبابه وأبعاده حيث أخذ العلماء والبحاث والمختصين في تقسيم الموضوع وتصنيفه بأساليب متعددة فقد صنف على أساس : العنف المدرسي والعنف العائلي والعنف الإعلامي والعنف الحكومي..... الخ، وتم تصنيفه على أساس آخر إلى ثلاثة أنواع هي : العنف النفسي والعنف اللفظي و العنف الجسمي 22.

وهناك العديد من التقسيمات التي تصنف العنف لعدة أنواع وهناك أيضا العديد من الآراء حولها، ويكتفى الباحث بالإشارة إليها وهي كالتالي23:

·                    العنف السياسي: الذي يستخدم القوة للإستيلاء على السلطة، أو الإنعطاف بها. 

·                    العنف الفردي والعنف الجماعي كعنف الدولة أو المعارضة أو الحزب. 

·                    العنف الفكري، والعنف العملي. 

·                    العنف الإقتصادي. 

·                    العنف الإجتماعي. 

·                    العنف العسكري. 

·                    العنف الإعلامي. 

·                    العنف النفساني: الذي يرتبط بذات الإنسان المادية، وغير المادية، كالتفكير، والجسد.

·                    العنف الأسري.

العنف في وسائل الإعلام

بدأ الاهتمام بدراسة العنف وآثاره على الفرد والمجتمع بعد الحرب العالمية الأولى حيث زادت نسبة الجرائم والعنف والمشكلات الاجتماعية بشكل ملحوظ بعد هذه الفترة مما دفع بالباحثين التي تقصي الأسباب ودوافع ذلك حيث حاولوا معرفة الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في التسبب بهذه المشكلات الاجتماعية من جهة، وتحديد الدور الذي تلعبه في التصدي لهذه المشكلات من جهة أخرى. وقد تمخضت دراساتهم عن نتائج كثيرة لخصت مسألة طبيعة تأثير وسائل الإعلام في العديد من النظريات يمكن إيجازها في الآتي:

- نظرية التأثير القوي أو المطلق (نظرية الرصاصة الإعلامية): يرى أصحاب هذه النظرية أن وسائل الإعلام لها تأثير قوي ومباشر على الفرد والمجتمع يكاد يبلغ حد السطوة والهيمنة وهذا التأثير قوي وفاعل مثل الرصاصة، ولايفلت منه أحد(1).

- نظرية التأثير المحدود لوسائل الإعلام:

اهتزت نظرية الرصاصة الاعلامية أمام نتائج الدراسات الميدانية التي قام بها باحثون في ميدان علم النفس الاجتماعي حيث تبين لهم تأثير وسائل الاعلام محدود جدا اذا ما قورن بالتأثير الذي تحدثه عوامل أخرى أطلقوا عليها العوامل الوسيطة كالأسرة، واتجاهات الفرد، وقادة الرأي، والاحزاب، وعوامل أخرى كثيرة، تحول هذه العوامل دون التأثير المطلق أو القوي لوسائل الاعلام على الفرد.(2)

- نظرية التأثير المعتدل لوسائل الاعلام:

برز هذا الاتجاه في أواخر الستينات والسبعينات، ويعتقد أصحابه أن تأثير الوسائل الاعلامية على الفرد يتأثر بعوامل نفسية كثيرة ومتغيرات نفسية كثيرة، وكان التركيز القوي لهم على البعد النفسي. أي اسلوب الافراد أمام وسائل الاعلام أكثر قوة من عوامل ومتغيرات مما يجعل التأثير معتدلا نوعا ما.

- نظرية التأثير القوي:

يعترف أصحاب هذه النظرية بـتأثير وسائل الاعلام على الفرد والمجتمع. ولكنهم لا يقللوا من شأن هذه التأثير ولا يبالغوا فيه كثيرا. ولكنهم يقبولون بقوته وفاعليته اذا ما روعيت عوامل معينة، واذا ما اتبعنا أساليب معينة، في مواقف معينة مثل تكرار الرسالة الاعلامية، ثم شموليتها ثم انسجامها وتوافقها. ان هذه الظروف والعوامل اذا ما روعيت فأنها تجعل من التأثير قويا.

العنف الإعلامي

مناقشة موضوع العنف (في شكله الترفيهي) عبر وسائل الإعلام بدأت في أوائل الخمسينات من القرن المنصرم بجلسات عقدها الكونجرس الأمريكي لمحاولة معرفة مدى  تأثير العنف (في شكله الترفيهي)  المعروض عبر (التلفزيون) على المتلقين. ففي الستّينات من القرن المنصرم لجنة إيزنهاور وتحت قيادة رئيس جامعة ولاية كانساس السابق ( ميلتن إيزنهاور)، فَحصت العنف الإعلامي كعامل مُسَاهم يساعد على نمو ثقافة العنف، وفي سنة 1972 صدر تقرير عن وزير الصحة الأمريكي يُظهرُ قلقاً حول تأثير عنف التلفزيون على الأطفال. وفي الثمانينات المعهد الوطني الأمريكي أصدر تقريره الذي بُنى على تقرير وزير الصحة الصادر في 1972، التقارير اللاحقة في التسعينيات الصادرة عن الجمعية النفسية الأمريكية والجمعية الطبية الأمريكية والأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال تناولت نفس التقارير السابقة، وخلال هذه الفترة الزمنية التي تقارب النصف قرن والتي دُرست فيها ظاهرة العنف الإعلامي في أمريكا وحدها يمكن تلخيص ثلاثة تأثيراتَ رئيسية كنتيجة للعنف الإعلامي: العدوان وعدم الإحساس والخوف24.

أول اهتمام بجانب العنف في نشرات الأخبار كان في كتاب25 تضمن تقريرا جرى اعداده بطلب من وزير الثقافة الفرنسي "جان جاك اياغون" وساهم فيه عدد مهم من الاختصاصيين في ميدان الاعلام المرئي ومن المعنيين، من اداريين ومحاميين وغيرهم في هذا الميدان. وكانت الملاحظة الاولى التي تم التأكيد عليها والانطلاق منها في البحث تتمثل في الاعتراف بتعاظم ظاهرة العنف في مختلف قطاعات المجتمع الفرنسي.. وفي مواجهة مثل هذا الواقع كان وزير الثقافة الفرنسي قد اكد في رسالته للجنة المكلفة باعداد هذا التقرير الذي يتمحور حول العنف في "التلفزيون" على القول "إن النضال ضد جميع اشكال العنف، ورفض كل اشكال التمييز والبغض امور في صلب ميثاقنا الاجتماعي. لذلك ينبغي علينا جماعياً، وفي ظل ثقافة تهيمن عليها الصورة، اعادة النظر فيما يتم تقديمه بصورة شبه متواصلة من مشاهد عنيفة او عدوانية لها تأثيرها على عقل الاكثر شباباً "

واضعوا هذا الكتاب والتقرير بدأوا بطرح بعض التساؤلات الجوهرية حول "الآثار الاجتماعية" و" النفسية" و" السياسية" لتعاظم جرعة العنف في البرامج المرئية بما في ذلك في "نشرات الاخبار".

وموضوع العنف في وسائل الإعلام سيطر على العديد من الندوات والنشاطات في القمة العالمية لمجتمع المعلومات التي بدأت أعمالها في جنيف بتاريخ 11 الكانون – ديسمبر – 2003 ف، لعل أبرزها ندوة ( العنف في العالم والعنف في الإعلام ) التي نظمها المنتدى العالمي لوسائل الإعلام الالكترونية وشارك فيها صحفيون وخبراء ومسئولون عن وسائل إعلام في بعض المؤسسات الإعلامية العالمية؛ وقد تناولت الندوة التصنيفات المختلفة للعنف في المجال الإعلامي بالإضافة إلى الآثار الممكنة لمشاهد العنف وخاصة على الأطفال والشباب..النتيجة الأبرز للنقاش كانت أهمية التمييز بين مصطلحين هما: ( العنف الترفيهي والعنف الإخباري). بعض المشاركين في هذه الندوة أكدوا على أن مفهوم العنف الإخباري لم يخضع للدراسة بشكل علمي. و العرب ليسوا الوحيدين الذين يتعرضون لهذا النوع من العنف، بل ربما هم الأكثر عرضةً له بشكل مباشر، ففي الغالب ما تنقله الفضائيات العربية هو صور هذا العنف من إحدى الدول العربية، وهذه الصور ذات صلة بالقضايا العربية. ونأخذ في الاعتبار أن ".. ما يعرفه الشباب... عن السياسة يصل أغلبه إليهم عن طريق وسائل الإعلام الجماهيرية. ففي استطاعة الإعلام إن يوصل المعرفة والمثل العليا والقيم الخاصة بتشكيل الإرادة إلى الشباب، ويسهل عليهم بذلك المشاركة في العملية السياسية والتأثير على اتجاهها. والمشكلة هنا ليست المدخل إلى المعرفة وإنما تصنيف وتفسير الكم الهائل من المعلومات الموجودة وتحويلها إلى منظومة من الأفكار الواقعية ذات معنى..."25

آثار نشر العنف من خلال وسائل الإعلام :

هناك إشارات عدة إلى أن عرض صور العنف في نشرات الأخبار قد يكون له مردوده السلبي على نفسية المتلقي وقد يؤثر في مواقف واتجاهات المتلقي، من بين هذه الإشارات نوجز ما يلي:

- يقول الأستاذ علي راضي حسانين26 في هذا الجانب:(.. يرجع الخوف من نشر العنف والجريمة من خلال وسائل الإعلام إلى أن المشاهدين.... يقبلون عليها بشكل أكثر من غيرها. وأكدت بعض البحوث وجود علاقة وثيقة بين السلوك العدواني والتعرض لهذه المضامين.)27 وأوجز أهم الآثار التي تتركها مشاهدة العنف على النحو التالي:

1. رفع حدة الآثار النفسية والعاطفية عند الفرد مما قد يقود إلى ارتكاب سلوك عنيف تجاه الآخرين. ويتوقف سلوك الفرد العنيف (أي استجابته للمشاهدة) على مدى إحساسه وشعوره بالإحباط والضيق والتوتر.

2. تعزيز السلوك القائم بالفعل داخل الفرد. حيث تعمل المشاهدة للعنف أو قراءتها على تعزيز وتدعيم السلوك الموجود أصلا عند المشاهد وذلك لأن الشخص العنيف يسبب دوافع العنف داخله – يرى السلوك العنيف المتلفز على أنه تجربة حقيقية.

3. التعلم والتقاليد: من المعروف أن إحدى طرق تعلم الإنسان هي التقليد والمحاكاة، من هنا تأتي خطورة عرض أفلام العنف لأن البعض قد يقلدها على غرارها.

- يقول الأستاذ عبيد السهيمي28 في مقال له نشر على شبكة المعلومات الدولية29: (.. اصبحت الاخبار العربية فيلم «هوليودي» لا نهاية له، يحتوي على مشاهد دمار حقيقية ومناظر دماء تخثرت عند قاعدة الكاميرا التلفزيونية، التي ادمنت نقل مشاهد الدماء والقتلى كوجبة إخبارية تقدمها تلك القنوات لمشاهديها، من خلال النشرات الإخبارية من دون ان تكلف نفسها عناء التحذير من بشاعة هذه المشاهد، والتي بدون شك تترك اثراً بشكل او بآخر في نفسية المشاهد، سواء كان طفلاً او راشداً رجلاً او امراة، هذا الاثر قد يكون نشاطاً عنيفاً يتضرر منه المجتمع مستقبلاً...) واستشهد بقول اخصائي الامراض النفسية الدكتور "فهد اليحيا" في هذا الصدد حيث قال: (..ثمة إجماع عام بين الباحثين ان لهذه المشاهد - اي مشاهد العنف التلفزيونية- اثرا سلبيا على نفسية المشاهد وكذالك على شخصيته خصوصاً الاطفال لانهم في طور تشكل الشخصية..).

ويضيف السهيمي(.. اصبح لدى المشاهد ما يسمى بالتشبع من هذا العنف الذي مل من سماعه طوال فترات اليوم واصبح لديه لا مبالاة بما يسمع او يشاهد. فعندما يتصدر الاخبار خـبر يتضـمن قتـلا ودمـارا ومشـاهد دمـاء فانـه لا يقف عند هذا الخبر طويلاً وقد لا يكــون لديـه الاستـعداد لسـماعه، وحسـب تفسـير الدكـتور اليحـيا فـإن ذلك نـاتج من التعود على مشاهدة العنف، ويضيف: (..مشاهد العنف الإخبارية تبعث القلق والاكتئاب لدى المشاهد بصورة مؤقتة..)30.

 فالمتلقي وبعد عقود من التعرض للعنف بشكله الترفيهي  في وسائل الإعلام " خيالة ومرئية" وما وصل إله ذهمنه من تشبع بصور ومشاهد العنف، تقبل مشاهد الشكل الأخر من العنف" العنف الإخباري" وخاصة بعد ظهور وانتشار الفضائيات على نطاق واسع مع نهاية العقد الأخير من الألفية الماضية، حيث تسابقت الفضائيات الإخبارية ولاسيما العربية منها على نقل أخبار كل ما يدور في الدول العربية بشكل خاص وفي بقية العالم بشكل عام، هذه الأخبار تنقل صور ممارسات لعنف واقعي وبهذا تكون نشر الأخبار قد اكتست طابعا من الاثارة والتشويق دفع بالمشاهد العربي إلى متابعة – وبشكل متعمد – نشرة الأخبار التي تحوي العديد من صور العنف الواقعي الذي يمثل معاناة الشعب العربي في العديد من الأقطار،  تتدفق هذه الصور بسلاسة وبطابع من التشويق إلى المتلقي العربي والذي – كما أشرنا – تشبع بشكل أو بأخر بالعنف الترفيهي، هذا التدفق يرسم علامة استفهام كبيرة حول تأثيرته المحتملة والتي أبرزها تنمية الشعور الجمعي بالامبلاة تجاه ما يدور من أحداث حوله، ولعل ابرز دليل على أن صور ومشاهد العنف تؤدي إلى نوع من اللامبالاة لدى المتلقين إذا ما شاهدوا عرض حدث دام يقع امامهم مياشرة، ما حدث عند تعرضت امرأة للقتل امام مرآى 37 شخصاً دون ان يحركوا ساكناً او يقدموا شيئاً لمساعدتها وكأن ما يحدث امامهم دراما "تلفزيونية" 31، هذه الحادثة قد تنطبق على عدم الشعور بالمسؤولية حيال  مايدور في فلسطين والعراق والصومال والسودان وافغانستان وغيرها، فهذه القضايا انتجت عنفا دمويا تناقلته وتتناقله الفضائيات العربية والأجنبية في شكل عنف إخباري "واقعي". 

ومما لا شك فيه أن وسائل الإعلام تلعب دورا ً مهما في عملية التنشئة الاجتماعية جنبا إلى جنب مع الأسرة والمدرسة والمجتمع ككل، والأصل أن تكون العلاقة قوية بين هذه المؤسسات مع بعضها البعض من أجل بناء الإنسان الصالح، فالإذاعة المسموعة تعتبر من أكثر وسائل التثقيف والتربية انتشارا، وترجع أهميتها إلى أن الكلمة المنطوقة ذات أثر كبير؛ لأنها لا تحتاج إلى معرفة بالقراءة والكتابة  في حين أن المرئية ولا سيما الفضائيات تمتاز عن المسموعة في أنها أشد ً تأثيرا وأكثر قدرة على جذب الانتباه ومنع التشتت من خلال اعتمادها على الصورة.

إن توجيه هذه الوسائل لمنفعة المواطنين أمر بديهي، ولكن قد يحدث  أحيانا بطريقة أو بأخرى ما يؤدي بدوره إلى سلوك سلبي لدى أفراد المجتمع فعلى سبيل المثال ما تعرضه شاشات الفضائيات من أفلام عنف برامج إخبارية وغيريها، قد يبدو لأول وهلة أنها برامج تثقيف وإخبار لا تؤثر  سلبا على أفراد المجتمع.ولكن  كثيرا من الدراسات والأبحاث أثبتت أن المشاهدين يتفاعلون بصورة انفعالية مع ما يعرض لهم، بل يحاولون تقليد حركات وتصرفات ما يشاهدونه، وأثبتت دراسات أخرى أن هناكً تأثيرا ً سلبيا "للتلفزيون" من خلال أفلام العنف ففي ولاية كاليفورنيا الأمريكية وصلت نسبة المراهقين بين مرتكبي جرائم القتل والعنف %10،وفي عام  1999 ارتفعت هذه النسبة إلى  %19 بفضل ما يعرضه التلفاز الأمريكي من مشاهد للعنف والعدوان والقتال سواء أكان عنفاً ترفيهياً أو إخبارياً32.


(1) علي راضي حسانين. وسائل الإعلام والعنف الأسري. موقع مركز الدراسات- أمان – على شبكة المعلومات الدوليةhttp://www.amanjordan.org/aman_studies : صفحة أوراق عمل:http://www.amanjordan.org/aman_studies/wmprint.php?ArtID=49 تاريخ الزيارة 19/9/2005

(2)  

(3) زهير الجزائري، الإعلام وثقافة العنف في العراق، http://www.ifjiraq.net/misc_cultureviolence.htm 

 

4 للمزيد مما قيل في الحروب و القتل والكر والفر، أنظر/ خليفة التليسي، مختارات من روائع الشعر العربي "الثلاثيات" الدار العربية للكتاب. طرابلي- تونس- 1991. ص. ص.30..65.130. 142.211. 328. 340.

5  زهير الجزائري، الإعلام وثقافة العنف في العراق، مرجع سبق ذكره

6 كاتب وصحفي في جريدة الشرق الأوسط

-7 علي ابراهيم، الملل من اخبار العنف، جريدة الشرق الأوسط،الثلاثـاء 23 جمـادى الثانى 1425 هـ 10 اغسطس 2004 العدد  9387/ http://www.asharqalawsat.com/leader.asp?section=3&article=249384&issue=9387 تاريخ الزيارة. 2-1. 2006

 

8 رئيس تحرير صحيفة المدى العراقية، أستاذ وكاتب وباحث في الشؤون الإعلامية.

9 يذكر أن هناك دائما فكرتين متعارضتين حول نقل صور العنف من خلال الإعلام: الفكرة الأولى تقول إن العنف كطاقة موجود داخل نفس البشرية، وإن مشاهدته على الشاشة أو قراءته في الصحيفة تفرغ هذا العنف، لأن القارئ أو المشاهد يتماهى مع ما يراه وربما يكوّن موقفا منه. الفكرة الثانية تقول بان كثرة مشاهدة العنف تسبب الاعتياد والإدمان على العنف بحيث يصبح زادا يوميا غير مستنكرا وربما تستثير الرغبة في ممارسته أو الرضوخ لمنطقه.

10 كاتب وصحفي بجريدة الشرق الأوسط

11 علي ابراهيم، الملل من اخبار العنف، جريدة الشرق الأوسط،الثلاثـاء 23 جمـادى الثانى 1425 هـ 10 اغسطس 2004 العدد 9387 http://www.asharqalawsat.com/leader.asp?section=3&article=249384&issue=9387 تاريخ الزيارة. 2-1. 2006

 

12  لطفي الشربيني   عصر من القلق.. والعالم إلى أين. موقع الحياة النفسية http://www.hayatnafs.com/ra2y/anxietytimes.htm 22-2-2006

13 أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية.  بيروت،مكتبة لبنان1978، ص.441

14 إبراهيم زكي، رؤية ديمقراطية لظاهرة العنف لدى طلاب المرحلة الثانوية بمنطقة عشوائية. المؤتمر الدولي للعلوم الاجتماعية ودورها في مكافحة جرائم العنف، والتطرف في المجتمعات الإسلامية. جامعة القاهرة، مركز صالح كامل 1998) ص.106

15 ) أحمد مصطفى العتيق، وعبدالمنعم حاتم، البيئة والعنف: دراسة الدلالات البيئة لاحتمال السلوك العنيف لدى عينة من الشباب المصري،( دارالمعرفة الجامعية، القاهرة 1994ص.100

16 شادية على قناوي، نحو تفسير آليات العنف في المجتمع المصري: رؤية سوسيولوجية حولية. كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، جامعة قطر،1996،عدد. 19. ص.315

17 فايقة المبحوح، العنف ضد الأطفال في مخيم جباليا  معهد كنعان للدراسات، غزة، 2000، ص.12

 

18 علي راضي حسانين. وسائل الإعلام والعنف الأسري. مرجع سبق ذكره.

19 تعريف أورده  السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه السِّلم والسلام الصادرعن دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع اللبنانية سنة 2005

20 (1) للمزيد أنظر موقع دار العلوم http://www.daraloloum.com/update2005-4/139.htm تاريخ الزيارة 11-2-2006

 

22  لونة عبد الله دنان العنف اللفظي " الإساءة اللفظية " تجاه الأطفال من قبل الوالد وعلاقته ببعض المتغيرات المتعلقة بالأسرة، دراسة وصفية ) / جامعة دمشق <http://us.f508.mail.yahoo.com/ym/[email protected]>

 

23  راجع موقع دار العلوم http://www.daraloloum.com/update2005-4/139.htm تاريخ الزيارة 11-2-2006

25 بلاندين كريجل وآخرون. العنف في التلفزيون: التحول من الافتراض الى الواقع.المطبوعات الجامعية الفرنسية ـ باريس 2003 شبكة النبأ المعلوماتية - الثلاثاء 6/5/2003 - 4/ ربيع الأول/1424http://www.annabaa.org/nbanews/21/132.htm

25 راينر شلاغيتر. مؤتمر"الشباب ووسائل الإعلام والمشاركة السياسية" مصدر سبق ذكره.

26 عضو في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب المصري وكاتب وباحث في مجال وسائل الإعلام والمجتمع

27 علي راضي حسانين.مرجع سبق ذكره.

28  خبير إعلامي من المملكة العربية السعودية وكاتب وصحفي.

29 موقع " أسرتي الألكتروني " وصلة حوارات، العنف في الأخبار03http://osrty.com/hwarat/archive/index.php/t-65037.html -05-2004, 11:13 AM

30 عبيدالسهيمي،العنف في الأخبار. موقع " أسرتي الألكـــــــــــــتروني " وصـــــــــــــــلة حوارات، 03http://osrty.com/hwarat/archive/index.php/t-65037.html -05-2004, 11:13 AM

 

31  المصدر السابق.

32  Somgo Sauzouk:, a study Ifunolence amorg in Junior hfht School,1983.p.10.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد  26  /تشرين الثاني  /2006 - 4 /ذي القعدة /1427