من وحي التفكر: نحومنهج نقدي إستراتيجي للظاهرة الثقافية الإسلامية

بقلم: المهندس غريبي مراد عبد الملك(*)

المدخل:

لعل  المشكلة الكبرى التي يعاني منها الواقع الإسلامي هي مدى تحرره في فهمه للحياة ووعيه لحقيقة ما يجري من حوله من تغيرات وتحديات، مما عمق مشاكله السيكولوجية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية والحضارية ككل.

وهنا تحديدا يطفو على السطح التحليلي عنصر المثقف الديني كأحد عناصر الواقع الإسلامي الحساسة والهامة.

 حيث أن القراءة الواعية والعميقة  للظاهرة الثقافية الدينية في الواقع الإسلامي عبر الزمن الإسلامي ككل، وفهمها وتمحيصها لاستخلاص حقيقتها وتحديد أبعادها الرئيسية، والتي يختصرها الفرد المثقف الديني المسلم ذاته...

 ترتبط أساسا بمراجعة القيمة المفاهيمية والعملية للعقيدة الإسلامية، التي تعتبر المنطلق الرئيسي والعميق في  تفاصيل الظاهرة ككل، لدى جميع المذاهب والمشارب الإسلامية، فعقيدة الإنسان المسلم على الرغم من وحدتها الأصولية إلا أن  تفاصيلها الفقهية والفلسفية وإرهاصاتها الأخلاقية عبر التاريخ الإسلامي وحركته ومواقف الجماعات الإسلامية ومشاريعها التغييرية، كانت مبعث إنفصامات ثقافية وإختلالات إصلاحية في الأعم الأغلب على المستوى الثانوي لا الأصولي للتجارب النهضوية الحضارية والمطارحات التنموية الثقافية وأحيانا عديدة أدت إلى صدامات تعسفية وهمجية تتناقض والروح الإسلامية الأصيلة.

كما ترتبط بما يعرف بالوعي التاريخي وأثره البالغ في اليقظة الرسالية والنهوض الحضاري ونمط البناء الثقافي الحياتي والتنموي هذا جهة.

أما من جهة أخرى،فالداعي الرئيسي  لإعادة قراءة الظاهرة  الثقافية الدينية وتفرعاتها في الساحة الإسلامية بمنهج نقدي موضوعي إبداعي (إبتكاري) إستراتيجي هو وعي التحدي الثقافي الإستكباري(1) الموجه نحو التحوير المفاهيمي للعقيدة الإسلامية كنواة مفاهيمية في الظاهرة ككل، أي وعي المرحلة الإسلامية الراهنة والأمور التي تشكلها وفهم مضمون  حركية واقع الإنسان المسلم التي نمى وترعرع عليها ونوع الميكانيزمات الثقافية المحركة له راهنا ومنشؤها.

ونعني بالمنهج هو المنطق الإسلامي الذي ُتفهم به الأشياء والأحداث والظواهر وكيفية التعامل معها.

 ومن أهم محددات هذا المنهج العلم والمعرفة والغاية منهما التي تتجلى في الدين الإسلامي بأسمى صورها. وهذا المنهج هو من أهم عناصر الفعالية الثقافية لدى المثقف الديني  في انطلاقه التغييري أو الإصلاحي. حيث يقول الشهيد الصدر في  مقدمة كتابه إقتصادنا الطبعة الثانية:"...فحين نريد أن نختار منهجا، أو إطارا عاما للتنمية الإقتصادية داخل العالم الإسلامي، يجب أن نأخذ هذه الحقيقة أساسا، ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحريك الأمة وتعبئة كل قواها وطاقتها للمعركة ضد التخلف، ولابد أن ندخل في هذا الحساب مشاعر الأمة ونفسيتها وتاريخها وتعقيداتها المختلفة...فإن شعور الأمة بأن الإسلام هو تعبيرها الذاتي، وعنوان شخصيتها التاريخية، ومفتاح أمجادها السابقة، يعتبر عاملا ضخما جدا لإنجاح المعركة ضد التخلف وفي سبيل التنمية،إذا استمد لها المنهج من الإسلام، واتخذ من النظام الإسلامي إطارا للانطلاق".   

وبمعرفة المنهج الإسلامي الأصيل الذي وضعه الله عز وجل للوصول للسعادة في الدارين وتأصيله وتمكينه من الولوج في عالم الواقعية  ضمن أطر تنظيمية اجتماعية، يمكن تدارك الأزمة الثقافية الدينية في الساحة الإسلامية ككل (الفرد،الأسرة، المجتمع، المساجد، الحسينيات، الجامعات والمعاهد الإسلامية، الأحزاب الإسلامية، الأنظمة السياسية والاقتصادية الإسلامية).

وفي هذا الصدد أيضا يقول سماحة السيد محمود الموسوي البحراني في كتابه منهج الثقافة الإسلامية الفصل الأول: "هل من المهم أن يتخطى الإنسان المشكلات التي يواجهها؟، أو يجيب على الأسئلة التي تطرح عليه؟ فهل  المهم أن المشاريع تسير رغم كل التحديات ؟ وأن تسير حياتنا إلى الأمام وحسب؟ حتى لو كانت الطريق هوة سحيقة؟ أو بطرق غير مشروعة، كأن تكون على حساب الآخرين...طبعا لا..."

ويضيف في نفس السياق مركزا المطلب المنهجي ثم الحاجة الملحة لتنمية ثقافية شاملة ومعمقة لا عميقة فقط : "  عندما نمتلك الرصيد الثقافي الذي يؤهلنا إلى أن نفرق بين الشيء وجوهره،وبين وسيلة الشيء وغايته،عندها نعرف أننا نسير في الطريق الصحيح والمشروع... فالحاجة للثقافة ليست حاجة على فئة دون أخرى، لأن جميع المجتمع معرضون لمواجهة مشاكل الحياة، وفوق كل ذلك تأتي مسؤولية البناء...من البناء الذاتي والبناء المجتمعي إلى البناء الحضاري. والتوجه نحو المعرفة والثقافة ونحو القراءة،والسمع، والتفكير، هو الحل لمعرفة مشاكل الحياة كلها سواء أكانت نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو معرفية أو مدنية، ولكن الحال عكس ذلك والثقافة أصبحت حكرا على فئة دون أخرى وذلك بسبب معرفي أحيانا وبسبب سلطوي وقهري أحيانا أخرى". (2)    

وذات محددات هذا المنهج بحاجة لآليات إدارية تضمن نجاح التجسيد الفعلي للعمل الإسلامي وفق هذا المنهج، أبرزها  الحوار العلمي البناء كمصداق منهجي للاتصال بين مكونات الفضاء الثقافي  وكبعد تربوي حضاري  يخلق توازن بين الجانب المادي والجانب المعنوي للإنسان المسلم وينتج واقعا ثقافيا دينيا رساليا حاضرا بمشاريع إستراتيجية عظيمة تواجه المشكلات البنيوية الخطيرة التي أتت على الأخضر واليابس في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، ويمكننا تلخيصها من الفصل السابع من كتاب محنة المثقف الديني مع العصر لسماحة الأستاذ الشيخ زكي الميلاد  الذي يعرض فيه أهم مهام وأدوار المثقف الديني وهي كالتالي:

1-إنتاج المعرفة وتنمية الثقافة، وهذا مشروع يتعلق أساسا بالوعي لعنصرالثقافة في التغيير والتجديد والإصلاح وتركيزه إعلاميا وأخلاقيا (أقصد سلوكيا)...

2-مواجهة الاختراق الثقافي، أوما يعرف بالمناعة الثقافية والذي يتعلق بالتأصيل النظري الذاتي لمفهوم التثاقف، كأساس منهجي لصيانة الهوية الثقافية الإسلامية من الضمور أمام الوافد الثقافي.

3-توجيه الاهتمام بالمشكلات الكبرى في الأمة: ولعل هذا المشروع يتعلق أساسا بتفعيل ما يعرف بفقه الأولويات ضمن الإستراتيجية الثقافية الإسلامية العامة والأوضاع الإسلامية السلبية الضاغطة على عجلة التقدم والنهوض الحضاري الإسلامي مثلا كالوحدة  والاستقلال والسلم والتسامح وغيرها من المفاهيم والقضايا الإسلامية الرئيسية في المسار التجديدي والإصلاحي الإسلامي العام.

4- تطوير وعي الأمة بقضايا العصر: وهذا المشروع هو مرحلة تالية لسابقتها في التفعيل من حيث الإجراء الميداني للتنمية الثقافية بعد التأصيل النظري للإستراتيجية التنموية المنشودة والتأسيس التنظيمي للأطر الاجتماعية والمقررات التنموية المستهدفة والحدود المرحلية التفصيلية، وهذا المشروع  يتعلق بمسألة نظرية التثاقف العام بالنسبة للمجتمع الإسلامي ككل وليس الفرد فقط لهذا تستدعي مقدمات أساسية تراعي الذات الاجتماعية الإسلامية وخصوصياتها وإمكانياتها حتى لا تضمحل في ظل الواقع الثقافي العالمي  الإرادات وتتغرب المناهج والنظم والطروحات.

5- الفكر الإسلامي وشروط المعاصرة: هنا نواة مشروع التنمية الثقافية والمبدأ العملي لاستكشاف النظرية الحضارية الإسلامية، حيث من خلال هذا المشروع تتبلور الظاهرة الثقافية الإسلامية الحقيقية التي تتميز بقدرتها على استيعاب وتوجيه وتأصيل وترشيد الحس الإبداعي والروح العصرية للإنسان في المجتمعات الإسلامية...

6- الاندماج والمشاركة الإنمائية في المجتمع: هذا يعتبر المدخل العملي للفضاء التنموي الثقافي وبداية الدورة الحضارية والذي يلي الفصول التمهيدية السابقة التي تعنى بالجانب النظري للمسألة الثقافية.

7- ما بين الأمم والحضارات، دور المثقف الإنساني: وهذا هو المحطة الإسلامية الواسعة للرؤية القرآنية الرحيبة والحضارة الإسلامية الإنسانية، والتي يمكن تسميتها ما بعد العالمية الإسلامية، وتوضيح هذه الفكرة لتقريبها للوجدان الإنساني لابد من حضور إنساني وفق مناهج المدرسة القرآنية والإمامية الرحبة التي تتميز بالمبادرة  الثقافية والإصلاحية...

هذه بعض ملامح المشاريع الإستراتيجية الأصولية-إن صح التعبير- التي تنتظر النباهة الإسلامية والعقل الإيماني لتخطو خطوات أساسية على طريق بناء المعهد الإسلامي وفق المنطق الإسلامي وبعدها التركيز في تأسيس ركائز التطلع الحضاري الإسلامي ذو الحكمة الإلهية التي تغني العالم بالعدل والقسط...

ويبقى الحوار كمبدأ إسلامي إنساني حكيم يعني  شمولا احترام الرؤية الأخرى مع منحها الفرصة الثقافية اللائقة للتعبير عن ذاتها ومناقشتها بآداب وأخلاق تغني الوجدان الإنساني بخلق ثقافة حية لدى صاحبه لا هدم السقف الحقوقي للبيت الإنساني، بالإضافة لتحصيل الرأي الأمثل وهو ما أكد عليه المنهج القرآني وأكدت عليه الروايات الشريفة عن أهل البيت(عليهم السلام. فهنالك اهتمام شديد وواضح بهذه المسألة؛ لأنّها  المسهل أو المفاعل الثقافي للتنمية بكل أبعادها  في المشروع الإصلاحي الحضاري  الإسلامي، حيث تراعي التوازن  كعنصر مركزي وواقعي في جغرافية التغيير والتجديد اجتنابا  للفتنة والعنف وثقافة الدمار والإستحمار التي ذاق سمومها المجتمع المسلم عبر تاريخه القديم والحديث، مما أورثه الفتن والجبن والتخلف عن الثقافة الإسلامية المتكاملة.

 لكن تبقى مسألة جوهرية في هذه الآلية، حيث لابد من تحديد المفاهيم والمصطلحات قبل إثارة الحوار ناهيك عن مواضيع البحث التنموي الثقافي التي يثيرها الحوار للمناقشة والتشاور والتأصيل المعرفي والإداري في ظل الحركة الأزماتية الثقافية.

ونختم بكلمة للعلامة الدكتور الشيخ حسن بن موسى الصفار حفظه الله ورعاه: "إننا بحاجة إلى التأمل والتدبر أكثر في مفاهيم ديننا وتعاليمه،ولكي نعرفه على حقيقته كما أنزله الله تعالى، وليس كما ورثناه، أوتعودنا على ممارسته،، أو ما كيفناه حسب أمزجتنا وأنانيتنا الضيقة"(3).

الهوامش والمراجع:

(1)    الاستكبار نقصد به الآخر المستبد سواء الجواني أو الخارجي الذي يستفرد بالساحة والرأي والقيادة وما هنالك من مواقع التأثير....

(2)    منهج الثقافة الإسلامية، السيد محمود الموسوي،شركة المصطفى للتوزيع والخدمات الثقافية،  البحرين، الفصل الأول: الثقافة والوعي الثقافي الصفحة 24،25،26

(3)    الحوار والانفتاح على الآخر، الشيخ حسن الصفار، دار الهادي

(قضايا إسلامية معاصرة) الطبعة الأولى 2005، الصفحة 59.

بالإضافة إلى كتاب إقتصادنا والمدرسة القرآنية للشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر وكتاب محنة المثقف الديني مع العصر للعلامة الأستاذ الشيخ زكي الميلاد رئيس تحرير مجلة الكلمة.

(*) كاتب وباحث إسلامي جزائري

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء   15  /تشرين الثاني  /2006 -23 /شوال /1427