صبــــــاح  جـــــــديد

بقلم شهد أحمد الرفاعى

فى صباح جديد.. وقفت فى شرفتى أرقب  منظر المارة  وتصرفاتهم وتعاملهم اليومى فى الصباح.. يستهوينى هذا المنظر اليومى حتى أننى أصبحت أعرف وجوها يومية أتتبعها  كل صباح وأنا  أودع أولادى فى خروجهم صباحاً ببصرى  إلى آخر نقطة ممكنة..

 الرجال تجرى فى عصبية غريبة..وكأنهم فى معركة أو لتوهم قد خرجوا من نزال وقد منيت النفس بالهزيمة..تراها هى هزيمة النفس..أم اللامبالاة بما حولهم..أم أنها نظرة وإحساس الحنق على كل ما يدور حولهم من أشياء يريدون تغييرها ولا يقربونها لتغييرها..(عدم إستطاعة أو خوف).

أطفال  تحمل هموم مستقبلها على ظهرها فى حقائب مكدسة بكتب  تنتظر آخر العام ليكون مصيرها أرصفة الشوارع أو مسح الزجاج  أو تكييس البضائع  فى محلات البقالة  البسيطة..أو الرمى  فى صناديق القمامة  وقد خلا الرأس مما سطر بها من معلومات..(تلقين، حفظ، تفريغ)،ويصبح التعليم أرقام وأصفار..ومكتب تنسيق عاجز أمام الأرقام والأصفار.  

هرولة النساء  كى يلحقن بعملهن..وهنا تستطيع كتابة مجلدات  فى سلوكهن وترسم لوحات  تبرز جمال وتناقض  الملبس والمسلك.

ولكن يشدنى من كل ذلك منظر شبه يومى..هيكل  إمرأة تتحرك  أحس أنها تدور حول نفسها  وهى أمامى تخطو خطواتها فى كل صباح جديد.. كمن فقد بوصلته..حاملة على كتفها طفل  رضيع  تزج به فى أقرب حضانة وبالآخرى تجرجر طفل لم يتعدى الثالثة كى تضعه أيضاً إما عند قريبة  أو جارة أو جدة أو ما شابه ذلك.. ويعدو أمامها  طفل  واضح من الحقيبة المهولة المكتظة بالكتب المحمولة على ظهره  الضعيف أنه قد إلتحق بالمدرسة..

منظر هذه السيدة أصبح  ملازم لى  مع كل صباح جديد حتى إنها  إن إختفت  فى صباح ما..أكون قلقة عليها وعلى أولادها حتى آراها فى اليوم التالى..

ينتابنى سؤال وأنا أشاهدها..أين زوجها ؟ آيكون مسافراً؟؟

  وإن لم يكن كذلك.. فأين هو منها الآن ؟؟؟ ولماذا لا يشاركها هذا العبء؟؟؟

إستحالة أن يكون فى البيت  نائماً ينعم بالراحة والدفء..بينما هى مثل العنزة وصغارها ترعى فى الشارع..

صممت على الإقتراب من هذه السيدة..فضولى دفعنى لذلك..نزلت ذات صباح متعللة بشراء بعض الأشياء من السوبر ماركت المجاور..

وعند إقترابها..إقتربت منها  فى  خطوة مرتبة منى.. وأمسكت بالطفل حامل الحقيبة..قلت له  لا تخف فقط  دعنى أصحح لك وضع الحقيبة فهى ستتعب ظهرك هكذا..

وما إن قلت ذلك.. وكأننى قد ضغطت  على الزر السحرى لهذه المرأة  فإنسابت الجمل من شفتيها كالشلال فى عشوائية جميلة الإيقاع..

 ((منهم لله بتوع التعليم..ضهر الواد إنحنى.. طيب لما يكبر حيصرف على علاج ضهره ولا على نفسه ولا على جوازه ده لو كان فيه جواز من أصله..ولا على ولاده.. ومنين كل ده من الشغل اللى مقطع بعضه ولا الوظايف اللى مستنية صحابها ومش لاقية حد يشغلها..

آهو إحنا.. بنعلم.. وبنحشى.. ونحنى الضهر و الراس وخلاص.. وهو يبقى يعالج اللى يفضل منه ومنا..

كل يوم الغلب ده والله يا حبيبتى..ياريت يفتكروا بهدلتى دى لما يكبروا.. ولا آلاقى نفسى مرمية على سرير.. فى بيت واحد منهم..

 ولا فى دار مسنين..طيب دول يبقوا كرمونى  لو حطونى فى دار مسنين..

عطلتك عن مصلحتك..وانا كمان إتأخرت على شغلى.. ألحق الأتوبيس.. أشوف لى مكان لرجلى فيه.. والله زى عدمه الشغل ده.. نروح نترمى عشرة على المكتب زى الفراخ.. اللى نايم.. واللى يشرب شاى.. واللى فاتح الجورنال..وغيره  وبعد ساعتين  الكل يزوغ ومصالح الناس تتختم بفوت علينا بكره..

 لكن اعمل إيه يا ختى..آهى نواية تسند الزير اللى نايم فى البيت لا شغلة ولا مشغلة غير الدش ونسوان الدش يصلى ويتفرج  ويتفرج ويصلى..

 ويقولى دى نقرة.. يا صابرة..ودى نقرة..وساعة لربك..وساعة الحظ حلوة برضه يا صابرة..

صحيح والنبى يا حبيبتى.. ممكن يكون كده صح يصلى ويقرا القرآن ويربى دقنه ويتفرج على النسوان فى الدش..

يلا..أفوتك بخير..إنتى من السكان هنا..؟؟

أجبتها  فى ذهول..نعم..أسكن فى الجوار..ربنا معاكِ..آتحتاجين مساعدة؟؟

..ردت وهى تبتعد عنى... ربنا يخليكى.. إن شاء الله أشوفك تانى قلبى إرتاح لك والله.

.رددت أكيد بنتقابل تانى  وخلى بالك من ولادك..

إبتسمت ولا يهمك نجيب غيرهم  ما فيش أسهل من  كده..وضحكت بخبث النساء..بادلتها  الإبتسام وأنا أسيرة  الذهول.

أخرستنى هذه الكلمات..والتى خرجت منها فى لحظات  وإنتهت بسرعة عجيبة..وكأنما كانت تنتظر من يفرغ هذه الشحنة  الموجودة داخلها..كنت أود الدخول لعالمها..عالم الست صابرة..

فإذا بها تضعنى أمام مشاكل قومية ومحلية وحكومية فى جملة واحدة..

نكتب مقالات نحلل فيها ونتبنى فلسفة ونعارض آخرى ونتبارى فى وضع الجمل وتركيباتها..حتى نخرج للقارىء بموضوع متخم بعبارات دسمة  يترك القارىء أغلبها لعدم فهمه..موضوع يقول له أو يوصل له وجهة نظرنا وأحيانا ً نتركه حائراً تاركين له البحث عن الحل للمشكلة وكأنما  مشاكله كلها قد حلت ولم يتبقى أمامه إلا ما نطرحه عليه من مشاكل  ونريد منه الحل.

.ببساطة شديدة لخصت هذه المرأة الكادحة  حياتنا كلها بل وفى طيات كلامها أعطت الحلول والأسباب وإنتقدت أيضاً وبعفوية تحسد عليها  ما نعانيه من أوضاع فى مجتمعاتنا..

فى لحظة  خرجت مشاعر وإنفعالات هذه المرأة من القبو السجينة داخله..وبإنقضاء اللحظة ستعود مرة آخرى للقبو..

حالها فى ذلك حال  الملايين من فئات الشعب المصرى بل والعربى أيضاً...

هو ميكانيزم التعامل بعشوائية مع حياتنا..تعاملنا بمنطق إستدرار عطف الغير والإعتماد عليه..تظل مشاعرنا  وأحلامنا أسيرة مرهونة داخلنا.. وحتى آلامنا نخجل من الإفصاح عنها.. وترحيلنا لرغباتنا إلى عالم اللا وعى وقدرتنا الفائقة على ضبط النفس والسيطرة عليها..

الشكوى والألم و المعاناة تسكن القلوب..دون تحرك  للدفع بالحلول..لصنع صباح جديد سعيد لنا ولمستقبل أجيالنا.

قد يكون هذا ممكن فى عالم يحمل جينات  الماضى من الزمان..ولكن مع عالم متغير.. ومتنامى بكل لحظة.. مثل عالمنا اليوم.. أعتقد قد لا يكون من المحبذ..أن نتعامل بهذه السلبية  واللامبالاة مع مجريات الأمور والحياة من حولنا..

القدرة على التحكم فى الرغبات..والتسليم بالحاضر..والتواكل على الله سلاح ذو حدين..قد يدفعنا للأمام وقد يجرنا  للخلف.. ووقتها سنحاول اللحاق بقطار الحياة السريع الإيقاع دونما فائدة.. وربما  كان المصير والنصيب..  عجلات القطار.

وتحيتى.......وصباح جديد سعيد.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء   14  /تشرين الثاني  /2006 -22 /شوال /1427