أيها العراقيون: لماذا؟!

د.إبراهيم العاتي

لا يكاد يبزغ فجر يوم في العراق إلا وتطالعك مشاهد مرعبة لدماء مسفوكة، وجثث مقطعة الأوصال، تشوهها آثار التعذيب. ولا يكاد يمر يوم من دون أن تسمع عن عشرات من الموظفين أو العمال أو أصحاب المحال التجارية وأفران الخبز وغيرهم من المواطنين الأبرياء قد اختطفوا، وفي وضح النهار، لتجد جثثهم بعد أيام طافية في نهر دجلة أو مرمية في شوارع بغداد وغيرها من المدن العراقية، حتى صارت «دجلة الخير» التي خاطبها الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري يوماً فقال:

"حييتُ سفحك عن بُعدٍ فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتينِ"

أحرى أن تسمى «دجلة الموت» لكثرة ما اكتشف فيها من جثث الضحايا، أما البساتين فلا تسل عنها لأنها أضحت مأوى للقتلة وعصابات الإجرام!

وتطالعك الأخبار أيضاً عن تصفية جسدية لخيرة الكفاءات العراقية من أساتذة جامعيين وأطباء مرموقين ومهندسين ومحامين وإعلاميين، مما اضطر غالبيتهم إلى الهجرة خارج الوطن وبخاصة الأطباء المتخصصين الذين هُدد بعضهم بالقتل إذا بقوا داخل العراق، وكأن الهدف هو إفراغ البلد من خيرة كوادره العلمية والمهنية ليصاب القطاع الصحي والتعليمي ومرافق البلاد الحيوية الأخرى بالشلل.

وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فقد بدأت حالة من الاحتقان الطائفي لم يعرف لها العراق مثيلاً من قبل. فالعراق الذي عاشت مكوناته الدينية والمذهبية والعرقية في وئام منذ قرون، ولم يدخل في حالة اقتتال طائفي ـ على الأقل في العصر الحديث ـ رغم مساعي بعض الأطراف الدولية التي تطبق سياسة «فرق تسد»، يقف اليوم على أعتاب حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. وقد بدأت نذر تلك الحرب بالقتل والتهجير المتبادل، إذ المعروف عن العاصمة العراقية بغداد مثلاً أنها لم تعرف التوزيع الطائفي الحاد، نتيجة للعيش المشترك الذي درج عليه العراقيون، لكن ما يحدث الآن هو محاولة الأطراف المتخندقة تكوين مناطق معزولة ومقفلة على طائفة بعينها، كما هو حاصل في بعض مناطق بغداد الرئيسة.

وبسبب هذه الأوضاع المأساوية اضطر كثير من العراقيين للهجرة إلى خارج العراق، وقد وصلت نسبهم في دول الجوار ودول عربية أخرى إلى أرقام قد تقدر بالملايين منذ الاحتلال الأميركي للعراق، ناهيك من الذين يهاجرون إلى دول العالم المختلفة. فماذا تنتظر القوى السياسية العراقية؟ هل تنتظر ليصبح العراق أرضاً بلا شعب، أم يستحيل إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف وعندها نقرأ السلام على العراق وأهله؟!

لقد أدرك المتابعون للشأن العراقي والذين يحاولون النفوذ إلى ما وراء ظواهره السطحية أن خطة جهنمية قد رسمت قبل الاحتلال لجعل العراق ساحة لتصفية الحساب مع الإرهاب، وكي يكون مثالا تطبيقيا لسياسة الفوضى الخلاقة) التي بشر بها مسؤولون كبار في الإدارة الأميركية وعلى رأسهم وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس.

فمنذ احتلال بغداد وسقوط النظام السابق وهروب قياداته حصلت عدة مؤشرات على تلك الحقيقة منها: عدم حماية المنشآت والمؤسسات الحكومية باستثناء وزارة النفط، وترك بقية المؤسسات الرسمية كالوزارات والبنوك والجامعات والمحاكم ودور الثقافة والمكتبات وغيرها لتنهب أو تحرق. والأدهى والأمر من ذلك أن معسكرات الجيش قد تركت أيضاً عرضة للنهب، وكان فيها الملايين من قطع السلاح الثقيل والمتوسط والخفيف، فأين ذهبت تلك الأسلحة؟ لقد ذهبت إلى كل من يريد أن يعيث فسادا في العراق من عصابات الجريمة المنظمة إلى دعاة الفتنة الطائفية والحرب الأهلية. وتجدر الإشارة إلى أن نظام صدام قد أطلق قبل الحرب سراح الألوف من المجرمين المحكومين بالإعدام والمحبوسين في قضايا جنائية، وقد استغل هؤلاء حالة الفوضى فنهبوا ملايين الدولارات من المصارف، كما حصلوا على السلاح، فصاروا من أهم الأثرياء في العراق الجديد، ولكن على غرار أثرياء المافيا بل أشد فتكاً!

أما المؤشر الثاني فتمثل في حل الجيش والشرطة وإلغاء حرس الحدود، لتصبح أرض العراق، كما يقول المثل المصري «وكالة من غير بواب»، يدخلها من هب ودب من الجناة والإرهابيين وتجار السلاح ومهربي المخدرات والتحف الأثرية وغيرهم. لكن أخطر العناصر التي تسللت إلى العراق هي تلك التي تنتمي إلى تنظيم القاعدة. ففي غياب أية رقابة حدودية وجد أعضاء هذا التنظيم الفرصة سانحة للتسلل إلى الأرض العراقية، وإقامة قواعد ثابتة ومتحركة لهم فيها.

إن هذا التنظيم الذي تكون بشكل أساسي من بقايا من سمي بـ«العرب الأفغان»، قد أفرزته صراعات الفصائل الأفغانية المتقاتلة، ودخل في لعبة الصراع الداخلي، فناصر حركة طالبان المدعومة من المخابرات الباكستانية، والتي لم يكن لها دور معروف إبان الجهاد ضد الاحتلال الروسي، ضد بقية الحركات المسلحة التي كان لها دور بارز في الجهاد والتي استقرت قيادتها لأحمد شاه مسعود الذي اغتيل في حادث مريب قبل الغزو الأميركي لأفغانستان بيومين!

لقد وجد تنظيم القاعدة في العراق مرتعاً خصباً. فهناك السلاح الوفير، والملاذ المناسب، والدولة الغائبة، والحدود الرخوة، والتناقضات السياسية والطائفية والقومية التي تعمقت بعد الاحتلال، ثم وجود الجيش الأميركي والقوات الغربية المتحالفة معه، الأمر الذي وفر الفرصة لتصفية الحسابات بين الطرفين في إطار ما سمي بالحرب على الإرهاب في مناطق بعيدة عن أميركا وأوروبا.

وتنظيم القاعدة الذي تمرس في زج نفسه في الصراعات الداخلية للشعب الأفغاني، كرر الأفعال نفسها في الساحة العراقية، فكفر أطرافاً وخوّن آخرين، وراح يطلق النار في كل الاتجاهات، ويفجر المفخخات وأحزمة الانتحاريين الناسفة دونما تمييز بين القيادات التي يصنفها في خانة الأعداء، وبين عامة الناس الذين يسقطون يومياً بالعشرات في الأسواق المزدحمة والمساجد والدوائر الحكومية والشوارع العامة وكل نقطة يتجمع فيها مدنيون عراقيون، في ظل خطاب طائفي يبث الفتنة وينشر الكراهية في أوساط المجتمع العراقي الذي لم يدرسوا تاريخه أو يعرفوه حق المعرفة، بل قاسوه على التجمعات القبلية الموجودة على الحدود الباكستانية الأفغانية والتي ورثوا منها قسوتها وضيق أفقها وانفصالها عن الحضارة، بينما الفرق شاسع بينها وبين المجتمع العراقي الذي ورث حضارة ما بين النهرين منذ آلاف السنين، ثم الحضارة العربية الإسلامية في أزهى عصورها من القرن الثاني وحتى القرن السادس الهجري، وحتى العصر الحديث الذي بدأت بواكير النهضة فيه منذ القرن التاسع عشر، حيث برز فيه قادة مجددون ومصلحون آمنوا بالفكر الدستوري والحرية السياسية، ودعوا إلى نشر التعليم للرجل والمرأة، والقضاء على الفقر والجهل، والانفتاح على العصر وعلومه ومنجزاته التكنولوجية.

ولم تكن الإدارة الأميركية غافلة عن كل ذلك، فالدولة العظمى التي صارت تهيمن على مصائر الشعوب، وتتفرد بالقرارات الدولية، لا يصدق أحد أنها لا تعرف ما الذي تؤدي إليه حالة الفوضى التي أعقبت الاحتلال وترك مخازن السلاح والذخيرة نهباً لمن أراد، أو تجهل معنى ترك الحدود سائبة، ولكن الهدف كان يتمثل في جعل العراق ساحة للفوضى الشاملة والحرب الأهلية التي قد تؤدي إلى التقسيم، ومن ثم نقل هذه التجربة إلى بلدان عربية وإسلامية أخرى، لكي يبقى كيان متماسك واحد في المنطقة وهو الكيان الصهيوني!

لكن المسؤولية لا يتحملها الأميركان وحدهم، بل تتحملها القوى السياسية العراقية، سواء منها التي قبلت المشاركة في العملية السياسية في ظل الاحتلال أو تلك رفضت المشاركة قبل خروج المحتل. فالأولى صدقت وعود الأميركان بتأسيس حياة ديمقراطية حقيقية في العراق، وغفلوا عن خططهم الجهنمية التي نفذوها على الأرض العراقية والكفيلة بإجهاض أي مشروع ديمقراطي أو حياة سياسية نقية في الحاضر وفي المستقبل المنظور. كذلك فإن هذه القوى انشغلت بمصالحها الذاتية، من حزبية وشخصية وطائفية وعرقية وغيرها، عن المصلحة الوطنية العليا، ولذلك انفصلت عن الشعب وفشلت في تحقيق أدنى طلباته الضرورية حتى صار العراقي لا يحلم إلا بالأمن والكهرباء والبنزين، رغم أنه يعيش في بلاد هي من أغنى بلدان العالم بالنفط، ويقال أن آخر برميل منه – حينما ينتهي الاحتياطي العالمي ـ سيبقى فيها!

أما القوى التي رفضت المشاركة في العملية السياسية إلا بعد خروج المحتل وهي بشقيها السياسي والمسلح لم تستطع الوصول إلى خطاب وطني جامع كذاك الذي توصل إليه العراقيون في ثورتهم الكبرى ضد الاحتلال البريطاني عام 1920، ولم تستطع أن تنأى بنفسها عن الجماعات الإرهابية التي تمارس القتل الوحشي ضد أبناء الشعب العراقي، وهي لا تقتصر على تنظيم القاعدة وحسب، بل تضم أشتاتا من رجال المخابرات وزبانية التعذيب السابقين وفدائيي صدام وغيرهم ممن أذاقوا شعب العراق الأمرّين، ولذا بقيت الجماهير العريضة تنظر لتلك القوى بعين الريبة والشك، وحصرتها في دائرة جغرافية وسياسية محددة.

وإزاء عجز الفرقاء العراقيين، ووقوف العرب من المحنة العراقية موقف المتفرج أو العاجز عن فعل شيء، هل من حل يوقف شلال الدم النازف في العراق؟ نعم... يمكن تلمس ملامح حل يقوم على إيجاد القواسم الوطنية المشتركة المتمثلة في الإيمان بوحدة العراق ورفض كل محاولة لتقسيمه، وتحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأميركية وغيرها، وتجريم كل من يحاول إثارة الفتنة الطائفية والعرقية بين أبناء الشعب الواحد، وتغليب لغة الحوار الهادف بين العراقيين على لغة الرصاص والدم، وبناء الدولة العراقية العادلة على أساس الكفاءة وليس على أساس المحاصصة الطائفية والقومية، وتواصل العراق مع محيطه العربي والإسلامي.

ولعل في هذه المبادئ حزمة ضوء تخرج العراق من ليله المظلم.

 

* باحث عراقي وعميد الدراسات العليا في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن

شبكة النبأ المعلوماتية- 12 الاحد /تشرين الثاني  /2006 -20 /شوال /1427