من وحي التفكر: نحوعودة النخبة المثقفة إلى المجتمع الإسلامي

بقلم: المهندس غريبي مراد عبد الملك(*)

مدخل:

ينظر علماء التنمية الثقافية بالغرب إلى النخبة المثقفة الحرة باعتبارها المسهل  المركزي والأساسي لأي مشروع  تغييري والحلقة الوسطى بين السلطة والمجتمع، لأنها من ناحية تمتلك التفكير الناقد، ومن ناحية أخرى المؤثر المحوري في العقل الجمعي للمجتمعات.

 ولعل هذه الفرضية الغربية تكون فضاءا استراتيجيا نشطا، حيث للنخبة المثقفة دور حساس ومؤثر في الانسجام الاجتماعي والفعالية الثقافية، فهي بطبيعتها تمثل التفكير المنطقي والواقعي في حل المشكلات الإنسانية، لكن يبقى السقف المفاهيمي لكل نخبة وقفا على مدى الوعي لعاملين مهمين(بالإضافة لغيرها من العوامل المساعدة) في نهضة كل مجتمع إنساني حضاريا:

الأول: الهوية الثقافية كمفهوم يستجمع مفاعلات ثقافية وحضارية خامدة تنتظر الحضور الإبداعي للطاقة الإنسانية نذكر من بينها: العقيدة الدينية،اللغة،التراكم المعرفي،التراث،الفنون، القيم،التقاليد والعادات والأخلاق والتاريخ والوجدان، ومعايير العقل والسلوك، وغيرها من المقوّمات التي تتمايز في ظلها الأمم والمجتمعات "وليست هذه العناصر ثابتة، بل متحرّكة ومتطورة باعتبارها مشروعا آنيا ومستقبليا يواكب مستجدّات العصر؛ وهي قابلة للتأثير والتأثر، وكما يوجد قدْرٌ كبيرٌ من الثقافة إنساني مشترك نتيجة التواصل والتفاعل بين ثقافات الأمم المختلفة، يوجد قدْرٌ خاصٌّ يحفظ هوية مجتمع من المجتمعات"(1)

الثاني: التثاقف الإنساني ووعي الإختلاف(2)، حيث يقول جيرار لكلرك في مؤلفه الأنثروبولوجيا والاستعمار قائلا: "مفهوم التثاقف هو عملية ثقافية تواصلية  ذات أنماط يقدر الإنسان بموجبها قبول مظهر ثقافي معين في ثقافة أخرى بحيث يتلاءم ويتكيف معها مما يفترض مساواة ثقافية، بين الثقافة التي تعطي وتلك التي تتقبل، والتكيف هو السيرورة التي تتحول بموجبها عناصر الثقافة المستعمرة والمسيطر عليها نحو حالة تتلاءم مع شكل الثقافة المسيطرة".(3)    

أما عن الإختلاف ووعي ثقافته وفلسفته فهو الحاصل للإجابة النهائية الحاسمة على  التساؤلات المطروحة في المجتمع ومحاولة صياغتها وترتيبها حسب عمقها وإرهاصاتها المقلقة والقيام من خلال هذه الإجابة بتشخيص الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مستنطقين الخلفيات الفلسفية ومكنوناتها الفكرية والاجتماعية حيث يقول د.حسين درويش العادلي في مقالة له في مجلة النبأ العدد71:" يقف الصراع كمفهوم وممارسة بين مستويين، الأول : الإختلاف الطبيعي منه أو المصطنع، والناجم عن التباين في العقائد أو الرؤى أو المصالح بين الجماعات الإنسانية، وهنا فإنَّ الفشل في إيجاد مساحات من الفهم والقبول والتناغم المشترك يُحوّل الإختلاف إلى صراع بين تلك الجماعات للدفاع عن ذات ومصالح كل طرف.والمستوى الثاني: الأزَمة، وهي مرحلة متقدمة ومعقدة من الصراع بين المجموعات المختلفة يصل بها إلى حد الاقتتال أو الانهيار العام للنظام الاجتماعي".

ويضيف قائلا:" إنَّ المُستغرب ليس هو الإختلاف والتباين وما قد يُنتجه من مستويات الصراع العقلائي والمتأطر بالضوابط القيمية والقانونية العامة، فهو في حقيقته جوهر يُنتج الحركية والإبداع في ساحة الحياة، فالمماثلة في الصورة والمضمون يقضي على إمكانية نشوء الحياة بالتبع،.. ولكن المُستغرب هوالفشل في تفهم قواعد هذا التباين ومزاياه وأهدافه، والفشل في تقنينه وضبطه ضمن مسارات ومرتسمات صالحة وأخلاقية وذات نفعٍ عام ومشترك لا تمييز أو ظلم أو إقصاء فيه." وهنا تتحدد القيمة الرمزية الفلسفية والمنهجية المتداخلة في التفكير التحليلي اللازم بالنسبة لهذا العامل بدرجة اكبر من سابقه. وفي نفس السياق نشير لحقيقة جوهرية لابد من توفرها في المثقف حتى يصبح ناطقا رسميا بإسم الإصلاح والتغيير: أن يبلغ محل الاقتداء في مجتمعه...

على الصعيد الأخلاقي الفردي والاجتماعي،أي عارفا وعاملا بمعايير الأخلاق العامة والذوق العام، والأخلاقيات في الأوساط الثقافية ,

ومراقبا ناصحا لعملية التثاقف وكشف جوهر السلوكيات الحضارية من مبادئ وقيم قد تكون غائبة أوخافية في تراث مجتمعه ومؤمن بأسلوب النقاش والحوار  العلمي كسلاح سلمي لفض النزاعات وتقبل النقد والاعتراض، وعدم فرض الرأي بشكل تعسفي، ومجسدا لقيمة التعايش بأجمل صورها، كما يكتسب لغة التعددية والتعايش والتسامح ويمارس الحرية والعدالة، ويرفع اللثام عن المثقف السفيه(السلطة) والمثقف المقهور الخامل، ويثير دفائن عقول مجتمعه باللغة البسيطة التي لا يكتنفها الغموض،والتي قد تنتج الجبن الثقافي...

في ضوء هذين العاملين والتحديدات المتعلقة بهما، هل يمكن للمثقفين المسلمين التصرف في التنمية الثقافية لمجتمعاتهم ومصيرهم والتحرك نحو الممكن الحضاري التاريخي في الثقافة الإسلامية؟

خلاصة الموضوع، البداية الحضارية هي التنمية الثقافية الواسعة والحرة والمعتمدة على آليات التواصل المعرفي والوعظي، بين المثقفين الأكاديميين والتقليديين من جهة وبين النخبة المثقفة ككل مع المجتمع المقهور المتطلع للنهوض من كبوة الإيديولوجيات الغريبة والطائفيات والصراعات والإستحمار السياسي والسلفيات التاريخية التي وجدت الساحة الاجتماعية مفتوحة وفارغة من النخبة الواجب حضورها كحارس أصيل للمصير الاجتماعي الإسلامي (4).  


الهوامش:

(1)    تركي الحمد (2001): الثقافة العربية في عصر العولمة. بيروت. دار الساقي.

(2)    نقصد الإختلاف في مصاديقه الإنسانية لأنه أساسا الإختلاف سنة وقانون وجودي يتطلب استيعابه في إطار فلسفة ماهية الوجود ككل. 

(3)    جيرار لكلرك، الأنثروبولوجيا والاستعمار،ترجمة: جورج كتورة،ط 1،

الناشر: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع

(4) هذا ما أشار إليه الشيخ محمد عبده، عندما انفجر صارخا بوجه ثقافة الهدم المتمثلة في خضوع المسلمين لحراس القبور، الذين سجنوا المسلمين في التاريخ والأسلاف.

(*) كاتب وباحث إسلامي جزائري

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- 10 الجمعه /تشرين الثاني  /2006 -18 /شوال /1427