العنف الاخباري(1)

خالد خبريش

 برزت في حياة الإنسان وسائل أطلق عليها مصطلح وسائل الاتصال الجماهيري  لما تتمتع به من قدرة على الوصول إلى الجماهير أينما كانوا وحيثما حلوا، لا تعترف بالحدود ولا الأقاليم، وتتمثل في جميع الوسائل التي تعتمد على مخاطبة حاستي السمع والبصر أو الاثنتين معاً بطرق تجمع المعلومات بشكل دقيق وكبير وتوزعها على نطاق أوسع لتشمل جماهير غفيرة، وهى متعددة كالصحف والمجلات والإذاعتين المرئية والمسموعة وغيرها.

 وتتميز هذه الوسائل بتعدد أشكالها وتباين مضامينها واختلاف أنواعها، بما يتيح الفرصة للمتلقي بأن يختار نوعا محددا من الوسيلة الاتصالية الواحدة، كأن يختار مجلة اقتصادية من بين عدد من المجلات، أو يحتار برنامجاً محدداً من بين برامج الإذاعة المسموعة أو المرئية الأرضية أو الفضائية، بما يتماشى واهتمامات وظروف وميول كل فرد أو جماعة، والعملية الاتصالية التي نمارسها الآن هي نفسها التي تمارس قبل عدة قرون؛ مع تعديل في الوسائل المستخدمة، وبظهور واستخدام أو تطوير استخدام وسيلة جديدة، تتزايد أعداد الجمهور المستهدف وتتباين التأثيرات. وكثرة استخدام وتعدد الوسائل الاتصالية بدوره ساهم في إشباع رغبات المتلقي الاتصالية بالطريقة التي تناسب رغباته وتطلعاته.

فالإنسان سعى منذ القدم لتطوير وسائل اتصاله بالآخرين، في البداية فكر الإنسان في نفسه، كان ذلك أول اتصـال ذاتي، ثم استعمل الإشارة ليخاطب أخاه الإنسان في شكل اتصال شخصي (1)، ثم طور الإشارة كوسيلة من وسائل التخاطب، ثم استعمل الرمز الصوتي للتعبير عن أفكاره ومشاعره كالخوف أو الفرح أو الحزن، فجاءت بذلك الكلمة(2)، ثم رسمها في شكل صور ورموز، ثم على هيئة جمل، ومن ثم كتبها على هيئة كلمات، إلى أن توصل إلى أبجديات متكاملة ودقيقة في شكل ألفاظ محددة، تشكل حروفاً وكلمات وجملاً(3) ، وكنتيجة لتطور الإنسانية، تحتم على الإنسان أن يرسل أفكاره وآراءه إلى غيره من البشر، فتوصل إلى إرسالها - بعد أن صاغها في كلمات وجُمل- عبر الرسل، ثم عن طريق الحمام الزاجل، ثم من خلال وسائل النقل، فكان بذلك البريد(4). وتجدر الإشارة هنا أن الخبر في أيام الفتوحات الإسلامية كان يصل من شبه الجزيرة العربية إلى جبل طارق في ليلة واحدة !! ،  ذلك من خلال إشارات ضوئية ترسل من مكان إلى آخر، حيث يقوم المرسل من النقطة الأولى بإرسال إشارة إلى النقطة الثانية، ومن النقطة الثانية إلى الثالثة وهكذا، وبذلك استفاد الإنسان من سرعة الضوء ووضوح إشاراته ليلاً، لينقل إشارة تعني رمزاً من مكان إلى آخر، هذه الرموز قد تدل على إعلان حرب أو الاستعداد لطارئ. وعلى صعيد الطباعة، فكر الإنسان في طريقة تجنبه عناء النسخ، وتوفر عليه الوقت، فبعد أن تعب من النسخ باليد سنين طويلة اهتدى إلي الطباعة، فوفر بذلك الوقت والجهد وتحصل على نُسَخ عدة أجود وأفضل وفي زمن أقل-5، وصارت الطباعة من أهم مقومات الصحافة لتكون من أنجح وسائل نقل الخبر بشكل أعم في ذاك الحين، وبذا صارت الصحافة ذات مقدرة كبيرة وعالية على نقل الأخبار، كانت البداية في القرن الخامس عشر وتحديداً في سنة 1435  عندما ابتكر الألماني (يوحنا غومتمبرق ) طرية تسهل عملية الطباعة عندما ابتكر الحروف المعدنية المنفصلة، وتمكن من طباعة " الانجيل"  باللغة اللاتينية سنة 1455 بنفس الطريقة-6احتوى هذا الكتاب على ألف ومائتي صفحة ، غير أن هذا الأمر قوبل باستنكار واسع وشديد في الأوساط الأوربية ، وخاصةً في فرنسا، التي سُجن فيها أحد معاوني غوتمبرق بسب بيعه لنسخ من هذا الكتاب-7 واستمر العمل بهذه الطريقة حتى اخترع أمريكي من أصل ألماني يدعى ( أوتومار مغتلور ) في سنة 1884 آلة اسماها  ( لينوتايب _Linotype   ) حددت هذه الآلة معالم الحرف وشكله، وصارت الطباعة علماً وفناً-8، ومع نهاية القرن التاسع عشر تم ابتكار الآلة الدوارة التي تقوم بوظيفة الطبع والطي في آن واحد وبسرعة كبيرة ودقة متناهية، فصار بإمكان الإنسان _ شرط أن يعرف القراءة _ أن يحصل على مطبوعة  وبايسر الطرق9-9.

    لم يكتف الإنسان كعادته بذلك، بل طور كل اكتشاف أو ابتكار توصل إليه، مستعيناً بالعلم والمعرفة، مستفيداً بعصر النهضة الصناعية في ابتكار وسائل توفر الجهد والوقت، وتجعل كل مايدور في العالم أمام بصره وبين يديه، فكانت البداية باكتشاف الموجات اللاسلكية، (الموجات الكهرومغناطيسية)، عن طريق العالم الإنجـليزي (ولير ستروجون ) سنة 1837-10،  وما أحدثته من ثورة في  الاتصالات، من خلال استخدام هذا الاكتشاف في مختلف وسائل الاتصال، بداية من نقل أول صوت أدمي عبر الهاتف عن طريق (الاسكندر جرهام بل ) سنة 1876، إلى استخدام اللاسلكي في نفس الغرض عن طريق العالم الإيطالي الأصل (جوجليوماركوني Marconi) في سنة 1896، ومن خلال هذه الموجات، تم ارسال أول برنامج إذاعي مسموع في فرنسا على يد (دي فون Defonst )، حيث استـمع الناس إلى أول برنامج عنـائي في العالم وعلى الهواء مباشرة للمطرب (كاروزوCarso  ) سنة 1910-11، وبعد ذلك تم استخدام هذه الموجات في الإرسـال المسموع من خلال بث أمريـكا وكندا برامج مسموعة سنتي 1919 .1920 ، وبهذا انتقلت هذه التقنية إلى أمريكا وكندا  لتطورانها، بينما انشغلت أوربا في الحرب العالمية الأولى-12،  وبدأ العمل والتطوير في هذا الميدان يشهد وثبات عالية وطويلة، مروراً بالإرسال المرئي ( التلفزيوني ) الأبيض والأسود عن طريق  المحطة البريطانية (.B..B.C    ) سنة 1936  -13 حتى انتشر في أغلب دول العالم ، وفي سنة 1958 بدأت أمريكا تجرى التجارب على الإرسال الملون ونجحت في ذلك ومن تم بدأ البث المرئي الملون ينتشر في  أغلب أنحاء العالم بحلول سنة 1968 -14 .

 ولم يقف الإنسان كعادته عند هذا الحد، فانتهز فرصة إطلاق الأقمار الاصطناعية في الفضاء، واستخدمها في نقل المعلومات والأخبار صوتاً وصورة، وسجل التاريخ بذلك للإنسانية نقلة هائلة في عالم الاتصال، تحققت من خلالها أحلام الكثيرين أمثال العالم البريطاني (آرثر كلارك)، الذي تكهن بأن فكرة الأقمار لاصطناعية ستمثل الجهاز العصبي للإنسان، كان ذلك في سنة 1945، وما إن جاء العام 1962 حتى بدأت تلك الأحلام تتحقق بإرسال مرئي عبر الأطلنطي عن طريق أول قمر اصطناعي أمريكي أطلق عليه اسم (تلستار.1)، ومن ثم بدأت الاتفاقيات تبرم بين الدول لإقامة الشبكات بينها فكانت منظمة (أنترسبوتنيك) بين الدول الاشتراكية، وشبكة ( أوروفيجن ) الأوربية، والمنظمة العلمية (أنتلسات) التي أقيمت تحت إشراف مؤسسة أمريكية-15، وبذلك بدأت الثورة الحقيقية في عالم الاتصال الحديث، باستخدام الأقمار الاصطناعية في الاتصالات الهاتفية و البث المسموع والمرئي و التبادل الإخباري و نقل المعلومات بشكل فوري وبكم هائل، حيث تم استخدمها الاستخدام الأمثل، من خلال شبكة المعلومات الدولية، والطباعة وإجراء العمليات الجراحية عن بعد، وزاد من قدرة الأقمار الاصطناعية على نقل المعلومات، استخدام الحاسب الآلي في تخزين وعرض واسترجاع ونقل خلاصة ما أنتجه الفكر البشري طوال قرون عدة، في أقل حيز متاح، وبأسرع وقت ممكن فصار بإمكان الإنسان من خلال ذلك الحصول على المعلومات في أسرع وقت وأقل تكلفة وبشكل غزير-16 مما جعل العالم قرية صغيرة وصغيرة جداً.

  وأصبح من أبرز سمات القرن العشرين انتشار وسائل الإعلام وتنوعها وقدرتها الهائلة على نقل المعلومات بشكل فوري وسريع، وتأثيراتها الكبيرة على المتلقين، وعدم اعترافها بالحدود ولا الأقاليم.

وسائل الاتصال الجماهيري

منذ قرون عديدة والإنسان يعيش  في مجتمعات صغيرة ، في قرى أو مدن محدودة الكثافة السكانية، ومحدودة الاتصال بالمناطق الأخرى، وكانت المدن الكبيرة محدودة العدد، فروما مثلاً حينما كانت في أوج عظمتها، كان عدد ساكنيها لا يزيد عن مليون مواطن، أي أن غالبية الناس عاشوا في دوائر صغيرة، محورها صلة القربى والصداقة والمصلحة المشتركة، كانت علاقاتهم مقصورة على نطاق المجتمع الصغير والمغلق نسبياً، وبالتالي كانت وسائل اتصالهم محدودة داخل نطاق المجتمع الصغير، غير أن الحروب والغزوات والهجرات جعلت الناس أكثر اتصالاً ببعضهم البعض واختلطوا بالأغراب،واستمعوا إلى آرائهم وتأثروا بعاداتهم ، وبالرغم من ذلك بقيت دائرة الإنسان الشخصية صغيرة.

  إلا أنه في القرن العشرين تغير الأمر تماماً، يرجع ذلك لسببين رئيسيين، الأول نشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية وما أحدثتاه من تحركات بشرية ضخمة، والسبب الثاني انتشار وسائل الاتصال الجماهيري مثل الإذاعتين المسموعة والمرئية  والصحف والمجلات، وما أحدثته من تغيرات جذرية على تصورات المواطنين في جميع أنحاء العالم، واتسعت مدارك الأفراد وإطارهم الدلالي بشكل لم يسبق له مثيل، بحيث لم يعد في الإمكان عزل الناس عقلياً أو سيكولوجياً عن بعضهم بعضاً، لأن ما يحدث في مكان من العالم وفي أي بقعة منه، يترك آثاره على الأجزاء الأخرى ، فالعالم اليوم هو قرية الأمس .17-17

إن أهم ما يمز الإنسان عن الكائنات الأخرى ، تلك الطاقة العظيمة، المتمثلة في قدرته على التفكير ومن تم الاتصال، فالإنسان دائماً في حاجة إلى وسيلة تراقب له الظروف، وتحيطه علماً بالأخطار المحدقة به، أو الفرص المتاحة له ووسيلة تقوم بنشر الآراء والأفكار والحقائق وتساعد الجماعة على اتخاذ القرارات، ووسيلة تقوم بنشر القرارات التي تتخذها الجماعة على نطاق أوسع، وسيلة تقوم بنقل حكمة الأجيال السابقة والثقافات السائدة في وقتها إلى الأجيال اللاحقة ووسيلة ترفه عن الناس وتنسيهم المعاناة والصعوبات التي يواجهونها في حياتهم اليومية .-18

ومن هنا برزت في حياة الإنسان وسائل أطلق عليها مصطلح  وسائل الاتصال الجماهيري لما تتمتع به من قدرة على الوصول إلى الجماهير أينما كانوا وحيثما حلوا ، لا تعترف بالحدود ولا الأقاليم ، وتتمثل هذه الوسائل في جميع الوسائل التي تعتمد على مخاطبة حاستي السمع والبصر أو الاثنين معاً بطرق تجمع المعلومات بشكل كبير وتوزعها على نطاق أوسع لتشمل جماهير غفيرة، وهى متعددة كالصحف والمجلات والإذاعتين المرئية والمسموعة.

وتتميز هذه الوسائل بتعدد أشكالها ومضامينها وأنواعها بما يتيح الفرصة للمتلقي بأن يختار نوعا محددا من الوسيلة كأن ينتقي مجلة اقتصادية من بين عدد من المجلات، أو يختار برنامجاً محدداً من بين برامج الإذاعة المسموعة، بما يتماشى واهتمامات وظروف وميول كل فرد أو جماعة.-19

 


 

(1)  صالح خليل أبو إصبع. الاتصال الجماهيري. (دار الشرق للنشور والتوزيع. .الأردن.1999) ص.13.

(2)  سامي عبد الحميد وبدري تحسين فريد. فن الإلقاء. الجزء الثالث. (منشورات جامعة بغداد.بغداد.1984) ص.7.

(3) عبد العزيز سعيد الصويعي. الحرف العربي تحفة التاريخ وعقدة التقنية. (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان.مصراتة.1989  ص .ص . 31.30.29

(4) محمد حمد بن عروس. الأسس الفنية للإذاعتين المسموعة والمرئية، (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، مصراتة   ليبيا، 1987 ) ص.11 ..  

-5 عبد العزيز سعيد الصويعي. فن صناعة الصحافة . (المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان. 1984). ص31 .

-6 حسن عماد مكاوي ، تكنولوجيا الاتصال الحديثة في عصر المعلومات. (الدار المصرية اللبنانية 1993) ص 24

-7 عبد العزيز سعيد الصويعي.فن صناعة الصحافة. مرجع سبق ذكره. ص32

-8 عبد العزيز سعيد الصويعي، المطابع والمطبوعات الليبية قبل الاحتلال الإيطالي ، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان ،طرابلس ،1985 ص 18

 -9عبد العزيز سعيد الصويعي.فن صناعة الصحافة مرجع سبق ذكره ، ص34

-10 حسن عماد مكاوي .تكنولوجيا الاتصال الحديثة في عصر المعلومات. مرجع سبق ذكره. 1993 .ص24 

-11 محمد حمد بن عروس، الأسس الفنية للإذاعتين المسموعة والمرئية. مرجع سابق .ص  ص11. 12

-12 حسن عماد مكاوي. مرجع سبق ذكره .ص44

-13 محمد حمد بن عروس،. مرجع سبق ذكره. ص. 62

-14  نفس المرجع السابق. ص94

-15 عبد العزيز سعيد الصويعي.فن صناعة الصحافة .مرجع سبق ذكره ص ص 136.135

-16 حسن عماد مكاوي . مرجع سبق ذكره . ص.ص .45.44

-17 جيهان احمد رشتي . الأسس العلمية لنظريات الإعلام . (دار الفكر العربي  القاهرة . بدون تاريخ) ، ص  355

-18 المرجع السابق.ص. 365

-19 محمد سيد فهمي وهناء حافظ بدوي ، تكنولوجيا الاتصال والخدمة الاجتماعية،  بدون تاريخ.ص 179

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد  24/ايلول /2006 -22/شعبان30/1427