الخوف يصنع التاريخ 

عقيل يوسف عيدان

قال الأديب الفرنسي (موريس باريس) إن الضابط البطل (بيريكار) اعترف له يوماً بأنه لم يرسل صيحته الشهيرة " وقوفاً أيها الأموات " عن شجاعة واستهزاء بالموت ، بل عن خوف ورعب.

وكان البروفيسور (فريرو) يرد إلى الخوف الفردي أو الجماعي مجموعة من الثورات والانقلابات التي يتكوّن منها تاريخ الأمم والشعوب ، البائدة منها والحية ، المتأخرة والمتحضرة ، الفتيّة المتحفزة والهرمة التي بدأ ذوبانها في بحر الماضي.

فيوليوس قيصر لم يقطع النهر المحرّم جرأة وإقداماً بل خوفاً على شعبيته ، ومن ثم على حياته ، وأن بروتوس لم يقدم على قتله إلاّ خوفاً على جمهورية كان يرى فيها صورة لإرادة الآلهة وحصناً للفضيلة والوطنية. وأن أباطرة الرومان الذين جاءوا بعدهما كانوا يقتلون فيخافون ويخافون فيقتلون.

وهكذا نجد الخوف والإجرام يتعاقبان في تاريخ تلك الدولة التي بلغت من الصولة والسؤدد والمجد ما لم يحرزه غيرها من قبل ومن بعد. وكان من نتائج هذه المناوبة بين الخوف والقتل أن 34 فقط من المائة والتسعة القياصرة والأباطرة ماتوا حتف أنوفهم.

والثورة الفرنسية انبثقت من خوف الملكية من الإفلاس وخوف الشعب من المجاعة. ورجالها ، بعد أن عالجوا أسباب مخاوفهم الأولى بالوسائل القهرية وأعمال العنف ، خافوا من نتائج سياستهم ، فانتقلوا تحت تأثير الخوف ، من الشذوذ والاستبداد إلى الإرهاب والطغيان. ثم دبّ في نفس كل منهم الخوف من الآخر ، فراحوا يقتل بعضهم بعضاً ، واستحوذ على الناس الخوف من شهوة التقتيل هذه ، فنأى منهم من استطاع وانصرف الباقون ، كل يدسّ على جاره قبل أن يُوقِع به جاره. ويحبّذ القتل مخافة أن يُقتل. واستمرت الأمة غارقة في الدم إلى أن تم لأكثر نواب المجلس الوطني هلعاً تكتيل الجازعين والمتشائمين.

وبدت آية هذا التكتل في جلسة 27 يوليو الشهيرة ، فسقط روبسبير ، وفي اليوم التالي قطع رأسه ، فانتصر خوف على خوف. على أن موت الطاغية " النقي اليد " لم يزحزح الكابوس الخارجي الذي كان جاثماً على القلوب والضمائر ، فظلت فرنسا الثائرة جازعة من أوروبا الملكية ، وبقي الملوك خائفين من ثورة قطعت رأس لويس السادس عشر. واستمرت حالة الذعر العام حتى قضى عليها مؤتمر فيينا.

والحقيقة أن لا شيء أفعل من الخوف في النفس ، ولا أثبت منه في القلب. فهو يرافق الناس من الساعة التي تتفتّح فيها عقولهم لمعاني الحياة إلى اللحظة التي تلقي فيها يد الله غشاوة الموت على أبصارهم.

فهم دائماً يخافون من أمر ، أو يخافون على أمر ، هذا على ثروته ومكانته وصحته ، وذاك من فقره وذلّه ومرضه. وقد يكون أكثرهم خوفاً أشدهم تبجحاً بشجاعته. وأية ناحية من نواحي الحياة ، أو أية ساعة من ساعات العمر ، لا يجد فيها الباحث أثراً للخوف.

وإذا أنت سألت البخيل عن أسباب تقتيره أجابك ، على فرض اعترافه ببخله ، أنه يخاف على نفسه وعياله من تقلبات الدهر ومفاجآت الفقر ، وإذا لمت المسرف على تبديده قال لك إنه يخشى أن يدركه الموت قبل أن يتم له الاستمتاع بملذات الحياة.

واتفاق رجلين على أمر ما لا يتم إلاّ لدرء خوف يشعر به كلاهما ممن هو أطول منهما باعاً وأمضى عزيمة وأوفر استعداداً. ومن أهم أسباب تحقيقه زوال خوف كل منهما من الآخر.

والخوف مبعث العواطف التي لا تشرّف الإنسان. فالحقد والحسد رافدان من روافده ، والطمع والقسوة والأنانية والبغض بعض فروعه. أما الحب الذي يقال إنه يسمو بالنفس إلى أرفع مستوى ويسدّد الخطى إلى أعظم الأعمال ، فكم في التاريخ من شواهد على أنه أقل ثباتاً من الريح وأن هجمة من هجمات الخوف تطفئ ناره وتذهب آثاره.

وكان الكاتب الروسي مكسيم غوركي قد أجمل الآراء التي تتجلى فيها خفايا النفس وتنعكس عليها حقائق الحياة ، نقية من الرياء بريئة من الكبرياء ، في نصيحة أسداها لشباب بلاده قال فيها ؛ إذا أردتم أن تعيشوا أحراراً ، فليكن خوفكم من الاستبداد أشد من حبكم للحرية.

* باحث وكاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس 24/اب /2006 -29/رجب/1427