لندن وغزة... الارهاب لا دين له

نهاد عبد الاله خنفر

قد يكون بمقدورنا أن نعيد الذاكرة سنة واحدة وعدداً من الايام الى الوراء، الى حيث لندن، ومنها الى حيث مواقع التفجيرات الارهابية التي زرتها بنفسي وشاهدت اماكنها الحزينة بام عيني، هناك، حيث ازهق الارهاب الارواح البريئة واجبر الجسد على نزف الدماء الانسانية مجبرا اصحابها على الرحيل غيلة وغدرا، لا تغير من هذا الوصف كل الاعذار وكل الاسرار، كانت اللحظات التي مررت بها في مواقع التفجيرات مليئة بالعاطفة الخفية التي اثارت كل مكوناتي الانسانية الداخلية دون وعي مني، حيث تملكتني القشعريرة دونما قدرة لي في السيطرة عليها وعلى تفاعلاتها، وها هي الذكرى السنوية الاولى تفعل فعلها فيما تبقى من المساحات العاطفية الداخلية التي تثور تضامنا مع الضحايا وعائلاتهم في ظل تساؤلات متكررة عن الدوافع التي تقف خلف هذه التفجيرات التي لم اجد لها من المبررات او الذرائع او الاسباب ما يحمل الفاعلين على تفجير انفسهم للانتقام من الارواح الانسانية التي تشكل نسيجا اجتماعيا اعترف بكل صراحة انه شكل لي مفاجأة كبيرة بعد تجربتي العملية والواقعية معه والتي اثبتت بانه بيئة انسانية متسامحة الى اقصى الحدود واكثرها استيعابا لتعدد الثقافات وتعزيز العوامل القائمة على الاعتراف بانسانية الانسان وقدرته الفائقة على التعايش المتميز بين مختلف الاعراق والاديان والاصول والالوان، لا يعتريه اي شائبة الا من حاجة انسانية عارضة واستثنائية من هنا او هناك، ولا عجب في ذلك فقد كان وصولي الى لندن قبل حوالي العام تقريبا، وبُعَيْدَ وقوع التفجيرات وصولا حذرا ومتسائلا، فقد وصلت الى مطار هيثرو معتقدا بانني ساواجه بعضا من المضايقات الامنية المبررة في اعقاب التفجيرات التي كانت لا تزال تخيم في شبحها الثقيل على عموم البريطانيين، وعلى الرغم من ذلك فقد كانت هناك المفاجاة الاولى، حيث استقبلت استقبالا انسانيا عاديا لطيفا، مع ارشاد لكيفية الوصول الى المكان الذي يفترض ان انزل فيه، مع بعض الملاحظات المفيدة، وفي حقيقة الامر فقد كان هاجسي الاول هو ان اظهر كغريب بين امواج البريطانيين والاوروربيين لكوني احمل شكلا عربيا مسلما بامتياز ( مع لحية سوداء )، يترافق ذلك الهاجس مع حقيبتيْ الامتعة اللتين كانتا بحوزتي واللتان كنت اظن انهما سيكونان محط الانظار المتشككة بوجودي في لندن، وعلى الرغم من مروري مشيا على الاقدام في كثير من المحطات التي احتاج الامر فيها الى ان اسال واستفسر من بعض رجال الشرطة البريطانيين عن المكان الذي اقصده، الا انني حينها لم اجد الا كل مساعدة وكل نصيحة، وهو ما تكرر من خلال اسئلتي العديدة لعدد كبير من الناس، على اختلاف اعمارهم واجناسهم بين ذكر وانثى، والذين لم اجد فيهم شخصا واحدا يرفض مساعدتي او يعتكف عنها، بل على العكس من ذلك، فقد كان اسلوبهم مبعثا على الاعجاب الشديد من قبلي ومثارا لاسئلة داخلية كثيرة بددت كل الهواجس المقلقة في داخلي والتي كنت قد حملتها سلفا، وقد تمثلت الغرابة الكبرى لدي بالتعامل الجذاب الذي ابداه البريطانيون الذين طلبت مساعدتهم في محطات القطار الارضية التي حدثت بها التفجيرات، وهم الذين قاموا ( ابتداءً من الشرطي ) بقطع التذاكر المخصصة للسفر وارشادي الى القطار الاسرع والاقرب وصولا الى مقصدي، ومن ثم المساعدة في حمل الحقائب دون ادنى ريبة او شك، بعث كل ذلك الامل مجددا في نفسي، ودفعني مرارا في كل محطة قطارات احط بها ان ازداد انكارا للهجمات الارهابية التي شُنَّت هناك، فهكذا مجتمع ينغمس في التسامح والتعاون لا يستحق ان يقع له ما وقع، وخصوصا انه لم يكن في ساحة حرب او في معركة عنصرية ضارية ضد هذه الفئة او تلك.

ومع احتكاكي بعدد لا باس به من البريطانيين الذين اذهلتني حتى الان طريقتهم في احترام الاخر واستيعابه دون شروط مسبقة، معتقدا بهم ميلا فطريا في بناء وتعزيز القواعد التي تحترم الانسان كانسان، ودون ادنى درجة من تمييز. فقد كنت قد نشرت مقالا بعد مرور خمسة ايام على التفجيرات الارهابية في لندن، ( جريدة القدس، ص19 ) قلت بها ان التفجيرات هي عبارة عن تفجيرات ارهابية بامتياز، وها انا وبعد مرور عام وبعد ان تعاطيت مع المجتمع البريطاني وخصوصا اللندني وجها لوجه، اجدني اكرر نفس القناعة القائلة بانها تفجيرات ارهابية بامتياز، ولعلني اعيد بعضا مما قلته في ذلك المقال من حيث الدوافع والاسباب الكامنة خلف هذه التفجيرات والتي كانت تتمحور حول المشاركة البريطانية في الحرب على العراق، ( مع تذكيري باستنكاري ومعارضتي كما هم عشرات الاف البريطانيين ) للنهج البريطاني المشارك في هذه الحرب، حيث انني قد افترضت سلفا ولا زلت بان يكون الضحايا الذين سقطوا في هذه الهجمات هم من المواطنين الابرياء الذين يعارضون هذه الحرب والمشاركة البريطانية فيها، واقول هذا ليس لتاييد الهجمات ضد من لم يعارضوا، وانما اقول بان ساحة المعارك التي يكون القتال فيها مسنودا بالقانون الدولي هي تلك الساحة التي تدور الحرب في رحاها، حيث يمارس الاحتلال الارهاب، وحيث يستحق كل العقوبة على ارهابه وعدوانه، بما ان العدوان هو اعلى درجات الارهاب بحكم القانون الدولي، مع تاكيدي على دعم الشعوب الاوروبية بما فيها الشعب البريطاني لذلك، وحيث لم اسمع بشعب يستنكر مقتل جنود جيشه في ارض محتلة بقوة عسكرية باطشة، عدا عن ما يمكن ان تواجهه الحكومات من ضغوطات لانهاء الحرب والانسحاب منها كما يحصل حتى الان مع البريطانيين. وحيث كنت ولا زلت اعتقد بان لندن جعلت من نفسها حضنا واسعا ودافئا لكل المناهضين والمعارضين والناشطين ضد الحرب الاحتلالية على العراق، ولا ادل على ذلك من الراي العام البريطاني على المستويين الشعبي والبرلماني الممانع لهذه الحرب من خلال ما نتابعه من استطلاعات الراي التي هوت ببلير وبحزبه الى ادنى درجات التاييد الانتخابية في تاريخ السياسة البريطانية تقريبا. وهذا ما يعيدني الى اسقاط الحجة والمبرر الذي يتخذ من الحرب على العراق مبررا مقبولا او نافعا في تفنيد الدوافع الداعية الى مثل هكذا تفجيرات. اذ يطرح السؤال نفسه بقوة كبيرة عبر القول: ما هو الداعي الذي يدفع الى مهاجمة شعب تعارض غالبيته هذه الحرب؟ بالتاكيد ليس هناك اي داع لذلك، وليس هناك ميل من شخص عاقل ان يقبل بذلك على الاطلاق.

 هنا اجد نفسي وبتلقائية فطرية تتدافع سراعا الى حيث الارهاب الاخر في ارض اخرى لم يتوقف من تاريخ وقوع الهجمات الارهابية ضد اللنديين  وما قبلها بكثير، الى حيث غزة ( لانها الاكثر تعرضا لضربات الاحتلال )، التي تقع على فوهة بركان ثائر من النار المنلفتة العقال، فما ان تخرج من حصار حتى يصار الى حصارها باسلوب اخر وبطريقة اكثر شدة ووقعا وعنفا، فكما قلنا ان لا ذنب للنديين بارهاب يضرب فيهم اركان تسامحهم، فلا شك باننا نقول ونتساءل ما هو ذنب الفلسطييين في ان يضرب ارهاب الاحتلال اركان حريتهم وامنهم واستقرارهم، وفي وقت نفند فيه كل الذرائع والاسباب الضعيفة والواهية لتفجيرات الارهاب التي اطاحت بالابرياء في حافلات لندن وقطاراتها، فاننا نجد ان ذرائع الاحتلال ايضا هي ذرائع واهية وضعيفة وغير مقبولة، بل وانها ظالمة وكاذبة ومزورة، وتبحث عن ما يمكن ان يبرر الاحتلال وممارساته التي لا يمكن لاي شخص عاقل في هذا العالم الا ان يجرمه، ويجرم كل الافعال المشينة التي لا يمكن فصلها عن ارهاب الدولة المدان في القانون الدولي. التشابه اذا بين اللنديين والفلسطينيين هو انهم ذاقوا ويذوقون عنجهية الارهاب الذي لا يحتاج الى مبررات، ولا يسمح لاحد ان يخطئه على الرغم من انحرافاته التي يعرفها ويتحسسها كل المخلصين للقضية الانسانية اينما كانوا.

لا زال الفلسطينيين يعيشون تحت وطأة الارهاب المتمثل بالاحتلال، ولن يكون مقبولا من احد على وجه الارض ان يقف مؤيدا للارهاب كائنا من كان، فالاحتلال هو الارهاب وان حاول البعض ان يصفه بغير ذلك، لكونه يقتل الابرياء ويسقط بفعل ممارساته شعب محب للسلام وعاشق للحرية كشعب فلسطين، وباعتقادي فانه ذات الارهاب الذي اراق دماء اللنديين وازهق ارواحهم العاشقة للحرية الانسانية بكافة الوانها وانواعها، ولهذا فان الارهاب فكر اعتقادي خاص يبتعد كثيرا عن العقائد الدينية والايمانية وان حاول البعض صبغها باللون الديني، ولهذا فاننا نجد الارهاب الذي ضرب الابرياء في لندن لا يختلف عن الارهاب الذي يضرب الان في غزة مع اختلاف الوسائل والمبررات التي تترنح بفعل جراء الدماء البريئة التي سفكت وتسفك، فالدماء التي نزفت وسالت في لندن، وتلك الدماء التي لا زالت تنزف وتسيل في غزة هي دماء بريئة سلَّط سيف الارهاب نفسه عليها دون البحث عن الوقع الانساني الذي يغلف الضحايا ويحيطهم من كل جانب. فالى جانب موقفنا الرافض لكل ارهاب يمس المدنيين في الدول الاوروبية وكل دول العالم ايا كانت الاسباب والمبررات، فعلى العالم اجمع ان يوظف كل طاقاته وقوته ونفوذه وسلطانه في رفض الارهاب الذي  يمارسه الاحتلال الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، حتى لو برره الاسرائيليون بالدفاع عن النفس كما احبوا دائما ان يروجوه، لانه احتلال دموي مدان، ولا يمكن ان يكون هناك وجه مشرق للاحتلال مهما حاول ان يجمِّل ويحسن من وجهه القبيح، اقول هذا وانا متاكد من أن كل العالم المتحضر والمتمدين يدين الاحتلال ويرفضه، وان كان على استحياء. وبالمجمل وبعد مرور عام على الهجمات الارهابية التي طالت اللنديين والقت بظلالها الاستنكارية على الاوفياء لروح الحرية الانسانية، فان الشعب الفلسطيني ومنذ ذلك التاريخ وماقبلها بنصف قرن تقريبا وهويته الانسانية تداس تحت اقدام الاحتلال دون تمييز بين الفلسطينيين على اختلاف دياناتهم، في اعلان واضح بان الارهاب سواء كان في لندن او في غزة او في اي مكان من هذا العالم هو ارهاب لا دين له. فكما ضرب اللنديين الابرياء فانه لا زال يضرب الفلسطينيين الابرياء حتى هذه الساعة وهذه اللحظة أيضا.            

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد   16/تموز /2006 -18  /جمادي الاخرى/1427