وأد فتنة القناصل في سامراء

      حسن عبيد عيسى

   ما أحوجنا اليوم إلى التمعن في دروس التاريخ واستنباط العبر من تلك الدروس لكي نخرج من دائرة الاتهام الثقافي التي خطها حولنا المقبور(موشي ديان) عندما قال(العرب لايقرأون، وان قرأوا فإنهم لا يفهمون).. ودرسنا الذي نريد استحضاره هنا هو الفتنة الطارئة التي وقعت في(سامراء) سنة 1311هجرية والتي كان القناصل الأجانب العاملون في (بغداد) يحلمون ويعملون بجد ونشاط من أجل تسعير أوارها لولا الحكمة والتعقل الذي طبع تصرف حكماء الأمة فتمكنوا من إفساد المخطط الأجنبي.

        ولا مندوحة من التعريج على خلفية تكوين تلك القنصليات في ضوء المتيسر من الوثائق، لكي نفهم ماهية أهدافها وطبيعة أدائها الرامي إلى تحقيق تلك الأهداف.فالقنصلية الأجنبية الأولى التي فتحت في(بغداد)هي القنصلية الفرنسية والتي كان أساس افتتاحها العمل التبشيري السري بين أبناء الرافدين.. ففي عام 1628 وبفضل التسهيلات الرسمية العثمانية الانتهازية فتح الآباء الكبوشيون أول مؤسسة تبشيرية لهم في (بغداد)، وكان عمل تلك المؤسسة محاطا بالسرية والكتمان كما يقول(أميل أوبليه) في تقرير نشر في(باريس)عام 1917،  وعندما عين الأب(عمانؤيل) أسقفا للرهبان الكرملين في (بغداد) سنة 1730 فان (لويس الرابع عشر) استقبله واستمع إليه بكثير من الاهتمام وأصدر أوامره باعتماده قنصلا عاما لفرنسا في(بغداد).

        أعقب ذلك إنشاء وافتتاح قنصليات لكل من (بريطانيا) و(روسيا) وغيرهما، وكانت القنصلية البريطانية تعمل تحت اسم (دار المقيم البريطاني في بغداد) وكان منصب المقيم حكراً على ضباط الاستخبارات البريطانيين اللامعين ممن كان يتوسم بهم تهيئة الظروف لاحتلال البلاد. لذا فان القنصلين البريطاني والروسي كان يعملان سوية أو على انفراد من أجل زعزعة الأوضاع في البلاد وخاصة عن طريق إحداث أو التمهيد لإحداث أعمال الفتنة الطائفية، خصوصا وان هذين البلدين إضافة إلى(فرنسا)الأكثر إطلاعا على أمورنا بسبب تعمق مستشرقيهم في دراسة أحوالنا والوقوف على ما يعدونه نقاط ضعف في بنائنا الاجتماعي.

        ولعل أفض دليل على ذلك العمل التخريبي التفتيتي هو قيام هذين القنصلين بزيارة(سامراء)عقب مشكلة طارئة حصلت في المدينة كان أساسها شجار بين رجلين من أبنائها أحدهما شيعي والآخر سني، مما دفع جهلاء الطرفين تدفعهم حمى العصبية التي نهى عنها الإسلام إلى التراشق بالحجارة، وكان هدف القنصلين تأجيج نار الفتنة وتوسيع آفاقها بصب الزيت على تلك النار أملا في خلق فرصة لنشوب قتال بين الأخوة من أبناء المدينة وبالتالي توسيع دائرة ذلك القتال ونقله إلى مدن أخرى ما يخلق فتنة طائفية قد تقود إلى حرب أهلية (لاسمح الله ولا قدر)، فحاولا مقابلة (السيد محمد حسن الشيرازي) بصفته كبير رجال الشيعة هناك، وان داره تعرضت للرشق بالحجارة، محاولين التظاهر بانهما يقفان إلى جانب(الأقلية الشيعية) في المدينة ويدعمانهم..ولكنه رفض استقبالهما.

        فالسيد الشيرازي كان واعيا لغاية الرجلين وما يحركهما من دوافع فاسدة هدامة، لذا رفض لقائهما والاجتماع بهما، وأبلغهما بواسطة أحد رجاله إن ما حصل (بين أبنائنا) هو شئ عادي ونحن قادرون على إحتوائه وتجاوزه بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة ولا نرغب في تدخلكما في شأننا الداخلي..أما بخصوص القنصل البريطاني فان السيد الشيرازي خصه برسالة قال فيها(لا حاجة لدس بريطانيا أنفها في هذا الأمر الذي لا يعنيها، لأننا والحكومة العثمانية على دين واحد وقبلة واحدة وقرآن واحد).. وفي تقديرنا أن تلك الرسالة الخاصة هي دليل على كثرة المحاولات البريطانية الرامية إلى شق وحدة أبناء البلد وإشاعة الروح الطائفية فيه.

        وعندما وجد بعض ضعفاء النفوس من أبناء العشائر الراغبين في سيادة الفوضى وإشاعة الاضطراب إن بالامكان تحقيق ذلك من أجل خلق جو يساعد على النهب والسلب، فإنهم أقبلوا على زيارة السيد الشيرازي في أعقاب محاولة القنصلين المذكورين مقابلته (ولا نستبعد أن يكون ذلك بإيحاء منهما)، فعرضوا عليه(النصرة) وان قواتهم التي يناهز عديدها الثمانين ألف مسلح جاهزة لدخول المدينة، ولكنه رحمه الله وعى ما يراد لهذا الشعب من احتراب وخراب، فرفض العرض العشائري لذات السبب الذي رفض من أجله مقابلة القنصلين.

لقد كان ذلك الموقف المسؤول سببا في تمتين وحدة الصف الإسلامي في بلدنا، مما أشعر السلطان العثماني بأن من الضروري المساهمة في ذلك الجهد الخير وإسناد هذا الموقف الحكيم، فكلف والي (بغداد) المدعو (حسن باشا) بزيارة (السيد محمد حسن الشيرازي) وتسليمه كتاب شكر من لدن السلطان تقديرا لموقفه الإسلامي المسؤول في درء الفتنة التي أرادها الأجانب وسيلة لفرقة المسلمين عن طريق إذكاء روح التنافر والاحتراب البيني.. وتمت زيارة الوالي الذي يشك في انه مساهم في زرع بذور تلك الفتنة ربما بتأثير القناصل الذين كانوا دائما ما يقدمون المشورة المسمومة لولاة (بغداد).

ونحن اليوم إذ نعيش حقبة محتقنة بمواقف مشابهة وحبلى بما تمنى الأعداء تحقيقه منذ مئات السنين، ما أحرانا وأجدرنا بتدبر ذلك الدرس وغيره، فتاريخنا مزدحم بالدروس العميقة والتي صنعتها التجارب، أملا في تخفيف حدة الاحتقان وإجهاض جنين النشاز الذي نجح الاعداء في تخليقه في رحم هذه الحقبة، سواء في غفلة من عقلائنا أو استثمارا لظرف مفروض..

لنضع اسس حل وطني دائم يركن إلى العقل ويحتكم إلى الدين الحنيف من أجل الحفاظ على سلامة البلاد وأمن العباد وبالتالي نصرة الدين الذي يهم الجميع، فهل إن العراقيين قبل قرن ونيف كانوا أكثر وعياً منا بمخططات(القناصل)الأجانب؟.  

*باحث ومؤرخ عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 5/تموز /2006 -/جمادي الاخرى/1427