تراجيديا فلسطينية ... وعالم يتقن المشاهدة

نهاد عبد الاله خنفر

قبل اسر الجندي الاسرائيلي كانت الامور تعبرعن الادمان الفلسطيني اليومي لصورة ضعف الاهتمام الدولي بما يتعرض له الشعب الفلسطيني، الى درجة عدم الاكتراث، هذا ان سلم الفلسطينيون من ضغوطات تنهمر عليهم من كل الاتجاهات، الى الدرجة التي بت اظن فيها ( ان البعض الظن اثم )، بان الفلسطينيين فعلا هم المجرمون الذين يسلبون ارض الغير ولهذا فهم يستحقون ما يجري لهم، في صورة تبعث على اليأس والاحباط الشديدين، اذ لم يكن قد ورد حتى في مخيلة مخيلتي ان يموت الضمير العالمي امام المجازر التي اشبعت الارض الفلسطينية دماءً صرت اخشى ان تنفجر على شكل ينابيع من النفط الدموي مع تقادم الزمن. في كثير من الاحيان افقد القدرة التعبيرية التي تدفع قلمي الى حسن الصياغة اللغوية التي تقف بدورها عاجزة لولا سرعة القلب في التقاط القلم بدلا من الاصابع المفترض منها ان تباشر الكتابة بعد ان تغوص في اعماق الجراح الملتهبة، وكثيرة هي المرات التي تموت فيها الكلمات في رحم تكوينها اللغوي حتى قبل ان تولد وترى النور، ولعل الشعب الفلسطيني قد اثبت انه اكثر صمودا من الكلمات التي تقال فيه، او حتى تلك التي تتهيأ للبوح بما يعتمل في قلبه من اصرار على التحدي والتشبث بالامل المعقود بنواصي الصبر والتحمل على الرغم من عِظَمْ المشقة. تسطر القصة اليومية في فلسطين سيناريوهات تراجيدية سينمائية تتحدث عن نفسها دون تدخل من كاتب سيناريو او حتى دون حاجة الا الى عين الكاميرا التسجيلية التي لا تحتاج الى كثير عناء لتعلن انها امام فيلم تسجيلي فلسطيني طويل عمره حتى الان حوالي الخمسين عاما. ان الكتابة عن الوضع الفلسطيني عادة ما تصطدم بغزارة الاحداث وكثافة النصوص الواقعية المستنسخة عن الفعل الاحتلالي اليومي الذي يجاوز كل ما يمكن ان يرصده اي كاتب مبدع حتى في خيالاته المتخمة بالتوقعات والتصورات الخيالية والحسية الملامسة للواقع على حد سواء. كل ذلك يجري وكل  العالم يتفرج، وان خرج عن لعب هذا الدور فليس له الا ان يتقدم بنقد سينمائي هنا او نقد سينمائي هناك دون التدخل لتعديل النصوص او الاحداث مهما كان وقعها قاسيا على الضحية التي سرعان ما يفتضح الظلم الواقع عليها حتى من خلف الكواليس، بمعنى اخر فان العالم يراقب كل ما يجري في فلسطين وكانه نوع من العرض التسجيلي الجامد الذي لا يشكل وجها للحقيقة.

القسوة الحقيقية التي تدفع المرء الى التقيؤ حزنا وقرفا وكمدا هي تلك الثورة الدولية التي طالبت الفلسطينيين بتقديم كل شيء، كل شيء، حتى تقديم المزيد من الدماء لاشباع شهوة المحتل ورغبته بالقتل وبتحقيق الانتصار على ضحيته التي تغرق في دمائها أصلا. ان الالتفاف الدولي والوقوف العالمي خلف اسرائيل في مطالبتها بالافراج عن الجندي الاسرائيلي اخرج كبت المكبوت في قلوب كل الفلسطينيين ومناصريهم امام تجاهل العالم لالاف الاسرى الذين يموتون في اليوم الف مرة، امام صمت العالم عن معاناة ذويهم من امهات واباء وزوجات وفلذات اكباد، انهم يحكمون عليهم بالموت المؤبد في حياة مديدة تحت قيعان الظلام المتاكسدة مع هواء فاسد لا يزيده فسادا الا الذين اتقنوا المشاهدة الحصرية للتراجيديا الفلسطينية وكأنهم ينتظرون نضوجها على نار هادئة، يريدون ان يكرروا تراجيديا الهنود الحمر في الاختفاء عن خريطة الوجود، حتى الوجداني منه. نعم كل العالم تحول الى مشفق على جندي اسير بادعاء انه اختطف من داخل اراضي الدولة الاسرائيلية بما يخالف القانون الدولي، وان صدقنا بذلك، الا يتذكر هذا العالم الافا من عمليات القرصنة والاختطاف ارضا وجوا وبحرا؟؟، تلك العمليات التي تخترق ابسط ابجديات القانون الدولي والتي لا زالت اسرائيل تفاخر بها حتى الان. لا باس في ان يطالب العالم بالحفاظ على حياة الجندي المختطف، ولا باس في ان يطالب باطلاق سراحه، فانا مع ذلك كله، ومع العمل على ذلك فورا وبلا تاخير، ولكنني اطلب من المطالبين والوسطاء بان يكونوا ايضا مع قلوب امهات الاسرى التي تحترق في اليوم مرات ومرات، وتضيع نظراتها حسرات وحسرات، انا اشفق على ذوي الجندي الاسير، ولكن اموت في اليوم مئات المرات اشفاقا على الامهات اللواتي وورين الثرى قبل ان يمسحن بايديهن جباه ابنائهن الاسرى.

لا نطالب بذلك على اساس الانتقام من الجيش  "الذي لا يقهر!!"، ولكننا نطالب بذلك رحمة بشعب مقهور، رأفة بالعجائز اللائي قاربت دموعهن على الجفاف، أخَلَى الضمير الانساني من هذا التقدير؟؟؟، أماتت عناوين الانسانية في قبور متحجرة نسيت ان في الامر قلوبا تائهة عاجزة محبطة؟؟؟، الا يتقن المتفرجون مشاهدة المأساة بكافة اطيافها؟؟؟، انا احث العالم جميعه على ان يتضامن مع الاسير الاسرائيلي الذي لم يمض على اسره الا اياما معدودات، ولكنني احث كل العالم ايضا ان يتفطن الى التضامن مع الالاف من الاسرى الذين مضى على زجهم في افران السجون سنوات طويلة، سنوات تفوق عمر الجندي الاسير نفسه. ما يخرج عن استيعابي هو ان المتفرجين قد تجاوزوا حدود اللياقة الادبية والقانونية في التعاطف مع الجلاد على حساب الضحية، علما ان الجلاد يستحق كل العقوبة، ولا تستحق الضحية الا كل التعاطف، لقد وضعوا الامور في اطار مفاهيمي مقلوب يستعصي على الفهم ويستعصي على الاستيعاب، وها انا اكررها مرة اخرى بانني مع ان يتم اخلاء سبيل الجندي فورا، ولكن ماذا يقول الآسرون للقلوب التي تخفق لهم الان تشويقا لانتظار الاحبة؟، بماذا سيجيبون الامهات اللواتي لا يغادرن شاشات التلفزة ولا محطات الاذاعة املا بخبر يطفيء نيران انتظار الابناء؟. ها نحن حريصون على أن لا تهزم ارادة جيش الدولة العبرية!، ولكن لم لا يكونوا حريصين على عدم هزيمة القلوب المنهكة والتي لم تعد تنبض الا شوقا لغائب خلف القضبان؟، انا اقول ان جيشا كهذا الجيش لن يضيره ان يعترف بالهزيمة مرة، ولكن القلوب المتلهفة على الاسرى سيضيرها ان تبقى خائبة محبطة يائسة في كل مرة.   

من الحكمة الان ان يتيقن الاسرائيليون بانهم سيحققون شيئا من الانفراج الاخلاقي في سياستهم المبنية على العنف اللامحدود في قهر شعب محتل ليس له ذنب سوى انه الان يطالب بتحرير بضع مئات من اسراه الذين قاربت شموعهم على الانطفاء من طول السنين، ومن الحكمة ايضا ان يظهر الاسرائيليون وجها جديدا وبديلا لذلك الوجه الذي عرف به الاحتلال، وقد تكون هي المرة الوحيدة التي يفعلون بها ذلك ان فعلوا!!، ولكنهم على ما يبدو يصرون على تجيير التاريخ ليرصد بؤس القمع الاسرائيلي المتزايد ضد الفلسطينيين، ليس لشيء الا لانهم يرفضون الاحتلال، وكان رفض الاحتلال قد امسى جريمة حرب لا يمكن السكوت عنها، وبالتالي فعلى من يقوم بذلك ان يتحمل نتيجة انشقاقه عن المفاهيم الانسانية القويمة التي لا ينبغي لاحد الحكم عليها الا الاسرائيليين ومن خلال جيشهم وطائراتهم وبوارجهم وقذائفهم التي اعمت ابصارهم عن حقيقة باتت الان اكثر تاكيدا، وهي ان الشعب الفلسطيني لن يكون عرضة لرفع الراية البيضاء، وذلك لانه ببساطة غاية في الوضوح والرتابة وهي انه شعب يبحث عن حقوقه حتى لو وقف كل الناس متعاكسين من خلالها مع حقائق التاريخ.

الحقيقة التي تسبغ العلقم على المرارة المستشرية في الروح الفلسطينية هي ان فلسطين وشعبها يذبحون الان من الوريد الى الوريد، وجرائم الحرب ترتكب بحقهم صباح مساء وليس هناك من مجيب، وهذا ما يعمق في قلوبهم الماساة التي ستدفعهم الى دفع المزيد من الارواح والعيش في مزيد من المعاناة وتحسس الالام في محاولة مستمرة لتامين ما هو افضل لاجيالهم القادمة واطفالهم المظلومين، فقد اصبح من الواضح بان الفلسطينيين يقومون بدفع كل شيء حفاظا على امال مستقبلهم، وحفاظا على امالهم في ان يرى اطفالهم النور من بعدهم، وكاني بهم الان يقولون ( أيَهُمُّ الشاة سلخها بعد ذبحها )، فلم يتبق لديهم الشيء الكثير ليخسروه وخصوصا في ظل حركة دولية تنشق عن مسارات التاريخ المنطقية التي اصبح فيها دعم الاحتلال مسلمة من مسلمات الاستقواء على الضعفاء من الشعوب المحتلة، واصبح فيها تحطيم امال الضعفاء غاية تحالفية دولية علنية لم يعد هناك حاجة الى اخفائها او العمل على انكارها. نعم اصبحت التراجيديا الفلسطينية وسيلة امتاعية ذات نوع خاص، وذات نكهة خاصة، يستلذ الكثيرون بالنظر اليها بلا اي تعقيب، الا من نقد هنا او نقد من هناك، وذلك لتصحيح الاحداث الضاغطة التي ترفع من وتيرة الاحداث التراجيدية التي لن يفلح مخرجها في ابراز عنصر التشويق الماساوي الا اذا خلدت الضحية في زاوية الظلم الابدي، وخلد الجلاد في زاوية امعانه بايقاع الظلم الابدي عليها، ولا شك هنا بان اكتمال التراجيديا الفلسطينية لن يكون الا من خلال المشاهدين الذين يتفاعلون مع الاحداث الماساوية من خلال المشاهدة فقط، اي من خلال الاتقان الكامل لاصول المشاهدة الحرفية التي لا يتدخل المشاهدين فيها الا بعد انتهاء الماساة ايا كانت نتائجها من خلال التعليق على الاحداث التراجيدية في اعقاب انتهاء المسلسل او الفيلم، الذي يتحول بعد انتهاء كل حلقة من حلقاته او جزء من اجزائه الى مجرد موضوع نقاشي يتبارى فيه المشاهدون على اثبات قدرتهم المهنية المشوقة في متابعة الاحداث التراجيدية التي ابرزتها المادة الفيلمية او التلفزيونية المعروضة امامهم. طبعا كل هذا اذا استمر المشاهدون في المشاهدة، لانهم قد يلتزمون بذلك اذا ما توفر لهم وقت من الفراغ والا فلا، فبمقدورهم ان يستمعوا الى التعليقات من الاخرين.

بامكان العالم الان ان يتدخل في صياغة سيناريو جديد يستطيع من خلاله ادخال بعض عناصر التشويق الانسانية في نصرة المظلوم والمقهور، وليس من خلال الكثير من الجهود المادية والمعنوية في محاولة منه لاخراج التراجيديا الفلسطينية من حالتها التي اشبعتنا مللا من كثرة الاحداث اللصيقة بالمعاني والمشاهد الماساوية الكارثية، كما فعلت المانيا في وساطتها الناجحة بين حزب الله واسرائيل، وكما يستطيع ان يفعل البريطانيين والفرنسيين والالمان مرة اخرى بالنسبة لقضية الجندي الاسرائيلي الاسير ومبادلته بالاسرى الفلسطينيين الذين ينتظرون بكل شوق لان يكونوا خروجا عن نص التراجيديا الفلسطينية من خلال بسمة قد ترسم على وجوه الامهات.

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 4/تموز /2006 -/جمادي الاخرى/1427