النقد بين  موت المؤلف وخلود الاثر

ابراهيم سبتي

 منذ ان ظهرت البنيوية كمنهج فكري يقوم على البحث عن العلاقات داخل النص، كانت احدى اهم ثمار نظرية سوسير اللغوية التي تؤكد على اللغة والكلام والصوت والمعنى واعتبار اللغة جزء من الكلام، وعرف اللغة بأنها نظام من الرموز المختلفة تشير الى افكار مختلفة..

واحدثت البنيوية ثورة هائلة في النقد الادبي حينما نظرت الى النص بأنه كيان لغوي قائم  بذاته معزولا عن المؤلف والظروف التي ادت الى ظهوره، مخالفة مفاهيم المناهج النقدية التي سبقتها في الظهور مثل المنهج التاريخي والتأثري والنفسي والاجتماعي التي اكدت بمجملها على المؤلف كمبدع للنص وارتباطه بظروف عصره التي ساعدت على ابداعه..

فرفض البنيويون مؤلف النص واشتغلوا على تحليل النص لغويا وفك شفراته والعلائق المتكونة منه وارتكزوا في ذلك على علوم اللغة التي احدثها فرديناد دي سوسير العالم اللغوي السويسري (1857ـ 1913) واورد فيها جملة من المفاهيم الجديدة اهمها التفريق بين اللغة والكلام واعتبار الجملة الادبية نظاما من العلامات الذي يستند الى اللغة وعد الادب تابعا للغة وتنبأ بالسيميولوجية واعتبرها علم العلامات وعلم اللغة جزء منها..

فكانت علوم اللغة اساسا قامت عليه البنيوية وربطت بين النقد واللغة بوجود مستويات داخل النص مرتبطة توافقيا تحدد طبيعته و تحلله و تكشف بنيته كالمستوى الصوتي ـ مخارج الحروف وانساقها ورمزيتها ـ والمستوى الصرفي للكلمة والنحوي والدلالي ومستوى تداخل اللغة.. يقول الناقد كمال ابو ديب في كتابه جدلية الخفاء والتجلي 1979:

(ليست البنيوية فلسفة، لكنها طريقة في الرؤية ومنهج في معاينة الوجود ولأ نها كذلك فهي تثوير جذري للفكر وعلاقته بالعالم وموقعه منه وبأزائه).

وهرع البنيويون الى اقناع المعارضين بالحجج والتنظيرات التي حددت مفهوم المنهج ويكتب رولان بارت (1915 ـ 1980)  بأن اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف، فتم عزل المؤلف تماما واقصائه عن النص وعدم تقبلهم فكرة وجود الموضوعة قبل الكتابة واعتبار ان لحظة الشروع بالعمل ستتولد فكرة الموضوع  وتركز جهد الشكليين الروس بهذا الاتجاه وكان تيارهم رافدا مهما من روافد البنيوية وبحثوا عن القوانين غير المرئية التي تؤثر على العمل الادبي ووضعوا قواعد التحليل البنيوي حسب قوانين اللغة وبذلك نصل الى حقيقة نقدية مفادها ان الشكليين والسيميائيين والبنيويين اهتموا بالنص واهملوا كاتبه وقد جهرت جوليا كريستيفيا ـ من دعاة السيميولوجية ـ  معلنة بان النص جهاز لساني يعيد توزيع نظام اللغة.. وحسب القراءة السيميولوجية التي تقوم على اطلاق الاشارات كدوال حرة لا تقيدها حدود المعاني المعجمية ويصير للنص فعالية قرائية ابداعية ويصير القارئ المدرب هو صانع النص حسب قول بارت على انه ـ القارئ ـ يجب ان يكون واعيا لمفاهيم النص ومحدداته وعناصره وملما بقواعد اللغة.. مع ان بعض الدراسات البنيوية اقصت القارئ تماما من حساباتها..

 ولم تكتف التفكيكية التي هي احدى نظريات مابعد البنيوية بما آلت اليه سابقتها، بل امعنت تمزيقا بالنص وفككته كاملا وحللت اشاراته وقامت بتوليفه ثانية لتقدمه بصياغة جديدة واعتبر جاك دريدا النص بانه آلة تعمل بمفردها، فتفكيك بناء النص الواحد يؤدي الى تدمير البنى الارتكازية له..

فعمل دريدا جاهدا لاقناع الاخرين بضرورة تقبل فكرته التفكيكية ودعا الى عدم اطلاق الاحكام الجاهزة بل التأني في تحليلها لفهم عناصرها..

وتعد التفكيكية من من اهم الحركات بعد البنيوية في النقد الادبي واثارت جدلا عنيفا في الاوساط الادبية والفلسفبة عند ظهورها على يد جاك دريدا ( 1930 ـ 2004 )  الذي ظل يصر على اعادة اكتشاف اللغة التي يكتب بها الكاتب واعتبارها جوهر طيفي يمكن لها ان تتجدد وتنمو وبرزت افكاره خاصة بعد صدور كتابه ( في النحوية ) ودعا فيه الى تطبيقها ورفض السيميولوجية التي لم يؤيدها وظلت بنظره علما لم يظهر جليا بعد، واكدت التفكيكية على قيمة النص واطلق عبارته المشهورة ( لا وجود لشيء خارج النص)  ويقول ليتش بهذا الصدد بان ( التفكيكية تعمل من داخل النص لتبحث عن الاثر )..

ومفهوم الاثر مفهوم جمالي يظهر من خلال بنية النص والرموز والاشارات التي يتضمنها..

وظهرت دعوات  دريدا واضحة في بعض مؤلفاته كهوامش الفلسفة والكتابة والاختلاف والحقيقة في الرسم والانتشار واذن الاخر وفي كتابه ثقافة الكتابة يتحدث باسهاب عن اصول اللغات وفضل اللغة على الادب  في حين ظهرت تفكيكيته واضحة في اعمال  جيمس جويس ومالارميه وانطوان ارتو وابدع في تحليله نص موريس بلانشو ( لحظة موتي ) تحليلا دقيقا مستخدما مهارته في فلسفة التفكيك وبدا تأثره الواضح بالنص وجعل الموت لحظة يترقبها حيث الخلود والابدية ونهاية صراع الانسان مع قدره..

وكذلك افرد حيزا واسعا في دراساته لنص كافكا الشهير ( المحاكمة ) مستخدما في تحليله ثلاث زوايا : العنوان وتاثيراته على النص واخذه بمفرده ودراسته ككيان له تعبيراته  واسلوب النص من تراتبية في الجمل واختيار اللغة واستشعار كوامنها والحوار ورسم الشخوص او كما يقول بارت أن الاسلوب لغة مكتفية بذاتها تغوص في الميثولوجيات الشخصية والسرية للكاتب.. والزاوية الثالثة بنية النص وعلاقاته وشكله والصورة الجديدة التي سيظهر عليها النص بعد تفكيكه..ويمكن عد النظرية التفكيكية نظرية تناصية لتاويلها النص حسب قراءة اللغة والاشارات واستبطان خفايا النص. فيقوم التناص على تفكيك النص وعد كل جزء منه نصوصا متداخلة فيه.

ويؤكد دعاة النظرية جواز تذويب أي نص او نصوص سابقة في نص جديد والتعامل معه بعيدا عن التأثيرات والاقتباسات مع ان البنيوية والسيميائية تحتفل بالنص كاملا من حيث الرؤية والبنية والتأويل.. ولو اعدنا قراءة عبارة بارت : كل نص هو تناص مصنوع من نصوص اخرى موجودة فيه.. فأنه يلغي تماما ابداع المنشئ كونه صانع النص وعد النص يشتغل على نصوص مرئية اخرى ـ موت المؤلف ـ مما يبيح للنص الاستعانة بشفرات اللغة الموجودة في نصوص اخرى فيكون النص مقطع الاوصال ومبعثرا وغير مرتبط مع بعضه فيؤدي به الى ازاحة المعنى الاصلي له وافتراض معان وتأويلات معقدة لاطائل من ورائها غير الايغال في الايحاءات والرموز والغموض.. واجاز بارت النص الجديد المتكون من نصوص اخرى وبعبارة اقرب يقوم النص الجديد على تهشيم بنى نصوص سابقة حسب افتراضه، مع ان بنية النص الجديد تختلف تماما عن البنية السالفة ولو كانت لغته وعلاقاته ظاهرة ويكتب بارت في كتابه ( الكتابة في درجة الصفر 1953) عن اللغة:

  (هيكل من الفروض والعادات مشترك بين كتاب عصر معين ).

ان نظرية التناص اجازت ذوبان جهود الاخرين في نص جديد دون الاشارة والتلميح والتنويه رغم ان التفكيكيين يقدمون عدة تفسيرات منها ان النص المتكون يظهر النصوص القديمة باشكال اخرى كانت غير مرئية ولولا التناص لما ظهرت بصورتها الجديدة مع انهم يدعون بأن منشئ النص قد اغترف من لاشعوره دون قصد وهذا اعتراف مبطن بالمؤلف الذي يصرون على اقصائه..

ومهما تكن من تفسيرات ابتداء من بارت ومرورا بجوليا كريستيفيا وجيرار جينيت وجاك دريدا والشكلانيين شلوفسكي وباختين، فان التناصية بمفهومها وآلياتها قد اهملت المؤلف كلية ووقفت مساندة للنص بكل مستوياته.. وطبقا لقول دريدا الشهير : لاشيء خارج النص. فأنه يعتبر النص بناء لغويا له نظام ترتيبي خاص يصعب على المتلقي الغور في تفاصيله ان لم يكن ملما بمستوياته واشاراته..

ان جاك دريدا حاول بجهود خارقة اقناع الاخرين بصحة فرضياته حول النص المفكك وبدراساته الغزيرة وابحاثه وكتبه، الا ان ما بعد الحداثة يبقى بعيدا عن الفهم وجميع النظريات التي حاولت تيسيرالرموز والعقد، لم تستطع ازالة الغموض عن ماهية تلك النظريات والغرض منها اذا ما عرفنا انها لا تعترف بالمؤلف وابداعه وتعتبر ان الابداع  بحد ذاته اندحارا للنص..

وليس من المعقول الوقوف الى جانب تلك النظريات والمناهج ونلغي اسماء كبيرة كهوميروس والمعري والمتنبي ورامبو وبودلير وشكسبير ودانتي وملفيل وجوزيف كونراد ودوستوفسكي وتولستوي والسياب وعشرات الاسماء الخالدة بمجرد اننا ساندنا البنيوية والتفكيكية والسيميولوجية وغيرها من المناهج والنظريات التي ابتدعها الغرب وصفقنا لها بحرارة في الوقت الذي نستطيع تصور الدراسة النقدية بعيدة عن كل تلك الطروحات التي من الصعب هضمها وتطبيقها ونختصر القراءة النقدية  البنيوية والتفكيكية بخطواتها المتكونة من الادراك والتفكيك والتحليل والتركيب والفهم والتفسير، الى خطوات مختزلة كالتحليل والتفسير والتقويم مع  ان تودروف جعل قراءة النص ثلاثة مراحل  : شارحة واسقاطية وتحليلية.

لكننا سنصدم بحقيقة النظريات التي لا تعير اية اهمية الى تقويم النص وتكتفي بتحليله فقط، وهذا ماجعل اكثر الدارسين والمهتمين بشؤون الادب والنقاد الى العزوف عن الايغال في استخدام المشرط وتمزيق النص وفق ما تتطلبه البنيوية والتفكيكية وغيرها من المناهج التي اهملت صراحة المؤلف وابعدته عن دائرة اهتماماتها وصار التعامل مع النص اليتيم الذي لا ابوة له، تعاملا متكاملا وكأنه وجد على قارعة الطريق لا احد له.. يكتب محمد علي الكردي في دراسته النقد البنيوي بين االايدلوجيا والنظرية ( مجلة فصول ـ القاهرة العدد الاول 1983 ) :

ان تجاهل عالم القيم المتعمد يقضي على النقد البنيوي باستبعاد كل المضامين الاخلاقية والجمالية التي لا يمكن ان يخلو منها أي عمل فني من المستوى الرفيع.. ويقصد الكاتب بعالم القيم الذي ينشأ فيه المؤلف ويتأثر به اضافة الى  رؤيته للعالم والهموم والمسرات التي واجهته اثناء كتابة نصه.. من هنا كان لابد من تكوين موقف نقدي واضح يتصدى للمناهج التي بقدر ما افادت النص فهي امعنت فيه خرابا وتمزيقا ولا نغالي ان قلنا بأن ما من ناقد عربي تصدى بصرامة الى النظريات الغربية التي صارت محط اعجاب القاصي والداني دون التركيز على مافعلته صراحة في اقصائها للمؤلف المبدع الذي لولاه لما ظهرت الاعمال الكبيرة الخالدة للوجود..

ان قضية موت المؤلف تحتاج الى كثير من التأمل والتفكير وضرورة اعادة النظر بتقييم نتائج المناهج السالفة، فالنص والمؤلف كلا لايتجزأ ولا يمكن الفصل بينهما تحت أية ذرائع وان كانت قوية ومقنعة.. فالتحليل للنص وانساقه ودلالاته ولغته بمستوياتها المختلفة من صرف ونحو وصوت ودلالة، لا يمكن ان يكتمل دون التطرق الى الكاتب الذي سبحت كلماته بين يدي الناقد الحصيف.. وان كانت كل المناهج قد احتفت بالنص وبوأته مكانا رفيعا احيانا، الا ان تطور الدراسات اللغوية بعد سوسير، صاحبها تطورا في الثقافة والادب والفكر والنقد الذي كان تأثره كبيرا بعلوم اللغة وصار المتلقي اكثر رصانة في تقبل مايكتب وبنظرة لا تخلو من وعي وقدرة على تفهم دلالات النص وتأويلاته، فكان لا بد من اعطاء المؤلف حيزا مهما في الدراسات النقدية والتحليلية رغم ان المناهج التي بدأت بالبنيوية كانت تحليلية وابتعدت عن التقويم الذي قد يطال  الكاتب حتما..

واسدل الستار عن المناهج القديمة والتي ظل المؤلف فيها فارس النص بلا منازع..وحتى النص لم يكتفوا بتحليله وتفكيكه بل راحوا ينظرون الى معناه الذي لم يسلم هو الاخر من مشرطهم وقالوا بانه لايوجد معنى ثابتا للنص.. فالمعاني هي تدرجات تختلف الوانها حسب سياق السرد ومن ثم حسب بنيةالنص نفسه.. ويعتقد البنيويون ان كتابات النقد على طريقة تفكيك البنى تشيع في نفوسهم مقاربات مع الذات كما يقول وليم راي : ان كتابات بول دي مان وكتابات بارت تستجوب الذات.. وبارت ينطلق من انفعاله هذا نتيجة تحوله من رائد للبنيوية السيميولوجية الى البنيوية التشريحية التي تغور في داخل النص لتبحث عن الاثر واستخدمها بارت في دراسات كثيرة..

ان وقفة تأمل الى المناهج النقدية التي ظهرت بعد سوسير نجدها قد اتخذت من اللغة مادتها الرئيسية وصارت بمثاية انطلاق لها رغم تنوع انماط مستوياتها وتعدد مساربها، الا ان الاجتهادات التي رافقتها والمتمثلة في بعض رموزها  لم تخدمها نقديا وظلت محصورة في حصن منيع لا يجرؤ احد على اقتحامها خشية احتجاجات المصفقين لها..

وان اعتبرنا ان لها فضل على الادب حين سلطت الضوء على اعمال كبيرة خالدة وان كانت

معدودة..

وليس كل نص مليء بالفجوات وفق ما تؤشره مناهجهم المعروفة  كي يبحثوا عنها انما كل نص لا يخلو من ابداع كاتبه وحضوره مهما بلغ حجم التهميش والاقصاء.. وهكذا اهتمت المناهج النقدية الغربية بالنص واهملت جوانب خطيرة تتمثل بالقيم الفكرية والانسانية التي يقف في مقدمتها المؤلف منشيء النص وربما سنشهد ظهور مناهج وافكار جديدة تدعو الى الغاء النص والاشتغال على العنوان بمفرده وقد نرى الاحتفاء بالمؤلف والنص معا وفق معايير جديدة تختلف عن المناهج التي سادت الادب قبل ظهور البنيوية.. ربما.. 

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين  26/حزيران /2006 -28  /جمادي الاول/1427