هيثم بهنام بردى وفن القصة القصيرة جداً

  أنور عبدالعزيز

يقول القاص هيثم بهنام بردى أنه يميل إلى التخصص في كتابة (القصة القصيرة جداً) وأنا أرى إن القاص رغم إصداره لرواية (الغرفة 213) سنة 1987 فإن ملامح التخصص والمتكيف والمتحيز لهذا اللون من القص قد ظهرت عنده منذ البداية وفي غالبية نشرياته المنفردة في الصحف والمجلات أو المضمومة ضمن مجموعات قصصية فهذا القاص بدأ معجباً بهذا الفن مقتنعاً بأهميته وضرورته في التعبير المضيء والمفاجئ السريع والمتفجر، وهو يريد بإحساس بالمسؤولية الأدبية والأخلاقية، نقل تأثير موقف حياتي وإنساني أو لا إنساني إنفعل به إلى نفوس قارئيه وضمائرهم وهو عندما قرر أن يحصر ذاته وكيانه وطروحاته في التعامل الصادق مع هذه التجربة كان يتحسس إن إمكاناته وقدراته تستجيب ـ بعفوية طائعةـ لنبض الحياة ودفق الكلمات وخلق الرؤى مع هذا اللون من التعبير فالقاص لم يأت وكما حصل مع الآخرين هرباً من مأزق القصة الإعتيادية وصعوبتها وإشكالات تقنياتها المتنوعة وهو لم يلجأ للقصيرة جداً استسهالاً وابتعاداً عن الصعب كما قال بذلك كثير من النقاد والكتاب في مقالاتهم وأحاديثهم عن القصة القصيرة جداً وعن الذين تحولوا إليها بعد معاناتهم مع القصة القصيرة وحتى الأقصوصة، هيثم بهنام يواجه عنوان القصة القصيرة جداً وكأنه فن قديم راسخ كما الرواية أو القصة أو القصيدة العمودية أو الحرة، فهي عنده نمط مألوف غير مغترب، وهي خير ما يتمكن أن يتنفس من خلاله وأن يعكس صدى ضجيج الحياة من حوله ليوصله بالمسار الإنساني لحياة الآخرين...

أصدر القاص (حب مع وقف التنفيذ) سنة 1989 وهي في مجموعها (قصص قصيرة جداً) ألم أقل إن روح التخصص بدأت عنده مبكرة، و(حب مع وقف التنفيذ) جاءت دليلاً يؤكد هذه الرغبة وهذا التوجه عنده، والمجموعة جاءت أيضاً لتقطع الشك بوجود إي تردد من أنماط الألوان الأدبية لدى القاص، وإن الثقة الكبيرة بالنفس وبقدرة التوصيل لتبدو واضحة في قصصها الثماني والعشرين ـ قصة بعد قصة ـ لا نستثني منها واحدة... بعدها وفي سنة 1996 أصدر (الليلة الثانية بعد الألف) وإحتوت أربعاً وعشرين قصة، وبعدها (عزلة أنكيدو) سنة 2000 وإحتوت إحدى وخمسين قصة.... وهو يقول إن أول قصة مولودة له في هذا الفن هي (صدى) التي كتبها سنة 1977 والمنشورة في مجموعة (حب مع وقف التنفيذ)..... ذكر القاص ذلك في (ص5 من مجموعته الليلة الثانية بعد الألف) إذن فقد مر على رحلة القاص مع (عشقه) أكثر من عشرين سنة، وهو يعدنا بمجموعة قصصية جديدة (مخطوطة الان)، نحن إذن مع كاتب ثر العطاء زاخر منهمر كشلال، فقصصه في مجموعاته الثلاث فقط بلغت مائة وثلاث قصص...

القاص يذكر باحترام ومحبة ـ المبدع زكريا تامر ـ وهذا خُلق الأدباء الواثقين من أنفسهم، الذين لا يتنكرون لجهود المبدعين ممن سبقوهم من الرواد، وهو لحبه الكبير للقصة القصيرة جداً يبحث ويستقصي فيؤرخ لأول كاتب لها (نوئيل رسام) الذي كتب (موت فقير) سنة 1930 وأعقبها بقصة عنوانها (قصة قصيرة جداً) فسبق بذلك (ناتالي ساروت) بسنتين أو ثلاث سنوات مع اعتراف القاص هيثم بهنام بالتفاوت الفني بين رسام وساروت (الليلة الثانية بعد الألف ص 1).

ومن المعروف أن ناتالي ساروت هي أول من كتب القصة القصيرة جداً في مجموعتها (إنفعالات)، ولا ينسى القاص أن يذكر (O. Henry، أو . هنري) رغم عدم إتفاق النقاد بأنه أول من كتب القصة القصيرة جداً فهنري لم يحدد أسماً لفنه، وظلت تسميته لقصصه (قصص قصيرة) ولكنه وكما يذكر هيثم بهنام: (أول من فتح الأفق الرحب للاحقيه لكي يدخلوا مملكة القصة القصيرة جداً وبدون عناء... عزلة أنكيدو ص1). القاص هيثم بهنام مقتصد جداً في استخدام الكلمات (هذا اول سبب لنجاح قصصه، فهو مبدع حقاً في مسألة التكثيف وثمة مسألة أخرى: قليلاً ما تجد تكرار لفظة في قصصه، ثم هذا الحرص والحذر من الا تجد لفظته أو كلماته موقعها الطبيعي ضمن السياق فتضيع منها قوة الإيحاء وهو يدرك ـ عبر كل قصصه ـ مسألة الشعرية وغير الشعرية في الكلمات، فلا ينخدع برنين الكلمة عندما يجدها غير مواتية وغير منسجمة مع موسيقية الجملة عموماً، وهو لا يقرّ بشعرية أو لا شعرية الكلمات، فالكلمة تجيء شعرية بصانعها ومبدعها والذي يعرف اين يضعها ضاجة بالحركة والحياة، موحية ومعبرة عن وجودها وتأثيرها ولم نجد عند القاص هوىً في اختراع أو تكلف (المفارقات) و (النهايات) غير الحقيقية التي لا تأتلف مع الحياة ومنطق الاشياء والعلاقات البشرية، وهو غير مولع بخلق (الإثارات) الباهتة الشاحبة والهزيلة التي قد تترك أثراً أنياً سريعاً في نفس القاريء، لكنها سرعان ما تفقد (إثارتها) وتبهت وتضمحل (حيويتها) الخادعة عند قراءة مكررة أو عندما تكشفها وتفضحها عينا ناقد أو قاريء واع، ثم هو فنان مدرك لجمالية اللغة العربية وسحرها وقدرتها في الخلق والتعبير فلا يحاول ـ تحت ذرائع ومسميات العاجزين ـ الإخلال بقواعد هذه اللغة وقوانينها ومنطقها وروحيتها، فهو يتعامل مع أداته ووسيلته للتعبير ـ اللغة العربيةـ بما تستحقه هذه اللغة من حب وتآلف ووضوح مع مبدعي أدبها، والقاص هيثم بهنام واحد منهم. صحيح إن القصة القصيرة جداً وكما يقول أغلب النقاد ـ هي كلمات قليلة مختصرة ومركزة ومكثفة، وصحيح إنها لغة (الاختزال), وإنها فن (الضربة) الذكية الماهرة المدروسة والمهندَسة (بفتح الدال)، وإنها فن (النبض) الدقيق المنتظم وليس الخفقان السريع المميت، وإنها (الحدث) الدافىء الساخن المعبَّر عنه بلغة بعيدة عن (الثرثرة)، وصحيح أيضاً أنها (خَلقٌ أصيل) ـ بفتح الخاء ـ ليست فناً تائهاً ضائعاً حائراً لا هوية له بين فنون القص... ولكن كل ذلك لن ينتج قصة قصيرة جداً ناجحة ومقروءة تبهر العيون والضمائر والقلوب، وتثير الدهشة، إذا لم يتهيأ لها مبدع يحترم هذا الفن ويستوعب معطياته ويتناغم بروح من المطاولة والصبر مع أسراره وخفاياه، وأكثر من هذا أن يعرف إنه يتعامل مع فن صعب، فلا يغامر في تجربة ما يراه أو يتصوره سهلاً بسيطاً، فهذا السهل (قد يمتنع على الآخرين) ولا يستجيب لقدراتهم الخاملة المنطفئة المحدودة... وأشهد أن القاص هيثم بهنام في كل قصصه المنثورة المتلالئة في الصحف والمجلات، وفي كتبه الثلاثة، قد أثبت لنا بجدارة وإخلاص مدى حبه لهذا الفن الأبداعي، وإنه استطاع أن يحقق لأدبه ولفن القصة القصيرة جداً الشيء الكثير ومما سيجعل منه مع القلة القليلة ـ ولا أقول النادرة ـ نجمة متألقة من نجوم هذا الفن الجميل.

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد    11/حزيران /2006 -13 /جمادي الاول/1427