مع القاص سعد محمد رحيم

حوار أجراه / ضياء الخالدي

 س: يواجه المثقف العراقي اليوم حملة تهميش، ربما غير مقصودة،بسبب المتغيرات السياسية.. ماذا تقول؟.

ـ كتبت مجموعة مقالات بهذا الصدد، أهمها " إخفاق المثقفين" و "اغتراب المثقفين" نشرتها في أكثر من صحيفة ودورية وموقع على الإنترنت. وأرى أن المثقف لم يعد له ذلك التأثير في الشأن السياسي والاجتماعي مثلما كان منتظراً منه، ولا يعود السبب في ذلك، دوماً، إلى تهميش السياسي للثقافي بقدر ما يعود إلى فشل المثقف نفسه في أن يكون فاعلاً، ولا سيما بعد أن خسر هذا المثقف سنده الاجتماعي المتمثل في الطبقة الوسطى المدينية التي انكفأت وتدهور شأنها، وتراجعت قيمها وثقافتها لتسود القيم الريفية والعشائرية والطائفية، فخرج السياسي من معطف هذه القيم الأخيرة في أغلب الأحوال، ولذا رأينا شبه غياب للسياسيين الليبراليين والعلمانيين واليساريين الديمقراطيين، وإن وجدوا فتأثيرهم كان ضعيفاً ومحدوداً. فالواقع فاجأ المثقف بتحولات ومعطيات لم تكن في باله، وهذا يعني أنه كان يقرأ الواقع بطريقة قاصرة إن لم نقل خاطئة.. ما يحصل هو ضد منطق التاريخ والعصر، وهناك ما هو مخاتل وزائف في الصورة ولا سيما مع مظاهر العنف، وما يخلفه الاحتلال من التباس فيها، أي في تلك الصورة، واعتقد أن ما هو حاصل الآن هو مؤقت وطارئ بفعل عوامل صادمة وطارئة، وإن المستقبل هو للطبقة الوسطى وللقيم والثقافة المدينية، وللحداثة. فقط على المثقف أن يبحث عن أدوار وفرص جديدة، لا أن يقعد ليبكي على أطلال جمهوريته الموهومة.

 

س: هل ثمة تحول في رؤيتك كقاص وروائي، أو في الاستفادة من حجم الحرية المتاحة الآن؟.

ـ ليس هناك تحوّل حاسم، هناك تطور، نعم، وهذا بحكم منطق التعاقب الزمني، ومتغيرات الواقع.. أفكاري وقيمي ورؤيتي إلى الأشياء والعالم هي نفسها، ولكن ما يضاف هو نتيجة لقراءة متجددة لواقع لا يكف عن التغير وطرح المفاجآت. ولا أنكر أن الحرية المتاحة تحدث بالضرورة اندفاعة باتجاه المغامرة الإبداعية. هل هناك حرية متاحة حقاً. نعم بشكل نسبي، ولكن ثمة اليوم تابوات جديدة، أشد شراسة من ذي قبل تلبس لبوساً مختلفاً عمّا كان في العهد السابق. وأخشى من أن تتفرغ بعض القوى المتزمتة  التي تتقاتل اليوم على السلطة في المستقبل القريب بعد أن يخلو لها الجو، أقول تتفرغ لتقييد الأدب والفن بقيود خانقة وقاتلة لا قبل لنا بها. ما حصل الآن ليس غياب الرقيب الخارجي وإنما موت الرقيب الداخلي، وانكسار الحاجز النفسي الذي كان يعيق الإبداع. ولا شك أن هذا يعد مكسباً أساسياً للمبدع. أكتب الآن بانشراح فكري أفضل، لأنني لم أعد أهتم بأي رقيب، على الأقل بيني وبين نفسي.

 

س: أتعتقد أن الأدب العراقي عموماً سيشهد نقلة نوعية على حساب الكم، وخاصة في مجال الرواية؟.

ـ سيكون هناك كم وكيف في الوقت نفسه، وحتى الكم يعد دليل عافية في بعض الأحيان.. ما يقلقني هو عدم ظهور عدد كبير من كتاب القصة والرواية خلال العشر سنوات الأخيرة، مثلما كان يحصل في السابق. وأخشى أن تكون نبوءة موت القصة القصيرة والرواية صحيحة، مع عدم إيماني بهذه الفكرة. أعتقد أن هاجس الحداثة الذي يسكن عقول ونفوس معظم الكتّاب العراقيين، وأحياناً حد التطرف والمرض، سيساعد في ابتكار أشكال روائية جديدة.. نحن لم نكتب الرواية العراقية الجديرة بتاريخنا الثقافي بعد.

 

س : أترى أن الحداثة فتحت المجال لكتابات جديدة مغايرة؟.

ـ الحداثة وما تستتبعها من مصطلحات مثل ( التجاوز والمغايرة والإزاحة وكسر النمط وتفجير اللغة والزمن .. الخ ) صارت مظلة فضفاضة يصطف تحتها كثر من أنصاف الموهوبين وعديمي الموهبة، أولئك الذين لا يستطيعون كتابة جملة عربية صحيحة، وأولئك الذين يفتقرون إلى وضوح الرؤية، وأولئك الذين لا يملكون شيئاً في جعبتهم يمكن أن يقولوه، والعلة ليست في الحداثة ومصطلحاتها الحافة، بل في التصورات الخاطئة عنها، والتي كرستها تنظيرات نقدية لبعض النقاد من الذين يعانون من ارتباك الرؤية واضطراب المنهج وضبابية المفاهيم، والذين بدل أن يوجهوا القارئ إلى جماليات النص وأنساقه وقيمه ودلالاته فإنهم يلقون به في دوامة عمياء تجعل القارئ يشكك أحياناً في قدرته على الفهم والإدراك .

 

س : إذن ، كيف تنظر أنت إلى الحداثة؟.

ـ أنا مع الحداثة رؤية وتقنيات وتعاملاً فنياً، وضد النمطية. أي ضد أن نرى العالم كما لو كان أبناء القرون الخوالي يرونه، وضد أن نكتب مثلما كانوا يكتبون. غير أن على الكاتب أن لا يفكر بالحداثة أو بغيرها عندما يكتب ليتجنب الافتعال وتصنّع اللغة والحذلقات الشكلية، فالحداثة ليست خياراً مجرداً بل ينبغي أن تدخل في نسيج الشخصية الإبداعية.. في فكرها ومنظورها الفني، وأن تكون جزءاً من الدينامية الواعية واللاواعية لهذه الشخصية، ولمعطيات الواقع وتحولاته.. أما إذا فهمنا الحداثة بمعنى قطع الصلة مع الواقع والتاريخ فإننا نكون قد حكمنا على كتاباتنا بالتمحل والنضوب .

 

س : كيف تكتب قصصك ؟ وماذا يهمك في القصة ؟ وكيف تختار أسماء أبطالها وعنواناتها ؟ كيف تختمر الفكرة في رأسك ، وكيف تفرض الثيمة نفسها ؟ .

ـ غالباً ما تبدأ كتابة القصة أو الرواية بصورة ما، تستحوذ على مخيلتي .. بمشهد.. بحوار قصير، أو حتى بعبارة موحية .. ثم تنمو .. كيف؟. لا أدري على وجه الدقة.. وباستثناء القصص القصيرة جداً فإنني لا انتظر حتى تكتمل القصة في ذهني تماماً، ومن ثم أصبها على الورق، بل أكتب، مع علمي أن هناك ثغرات وأشياء ناقصة، أعالجها في ما بعد بالكتابة .

في معظم الأحيان لا أمتلك فكرة واضحة عن النهاية وعن المسارات التي تتخذها القصة ( أو الرواية ) .. أحياناً تدخل شخصية جديدة، أو يحدث طارئ، ويتغير كل شيء .

تلعب المصادفة دورها في اختيار أسماء شخصيات قصصي ورواياتي، وأحياناً أعمد إلى اختيار أسماء بعينها. أجدها ملائمة أكثر من غيرها. أما العنوانات فألاقي صعوبة في وضعها، وقد انتظر أياماً وأسابيع قبل أن أستقر على عنوان يرضيني.. أحذر القوالب والأفكار والموضوعات الجاهزة والمسبقة وابتعد عنها.. هناك من يختار فكرة ما، أو قالب ما، ومن ثم يلفق أحداثاً يعتقد أنها تلائم فكرته، أو تتلبس قالبه.. مثل هذه الأعمال تخرج ميتة وباردة.

  من الخطأ أن تجلس إلى منضدة الكتابة قائلاً لنفسك؛ سأكتب قصة عن القضية الفلانية.. في هذه الحالة عليك أن تكتب مقالاً لا نصاً أدبياً.

أما ماذا يهمني في القصة؛ أرى أنها أولاً يجب أن تكون مقنعة فنياً، وثانياً أن تنطوي على معنى، وثالثاً أن تتميز بلغتها وأسلوبها، ورابعاً أن تمتّع قارئها، وتترك فيه أثراً، وتجعله يفكر بها وبالعالم، بعد الانتهاء من القراءة ..

 

    س: إلى أين تريد أن تصل بكتابة القصة والرواية؟.

 ـ ما أريده هو أن أتمثل تجربتي بالحياة من خلال الوعي، وأن أمثل عناصر ومكونات ومحتوى هذا الوعي من خلال الكتابة ولا سيما القصصية والروائية. لكن يبقى هناك هاجس التفرد.. ما أريده هو أن أكتب عملاً إبداعياً مختلفاً يحمل بصمتي الخاصة، أي أن يكون لي أسلوبي.. هل لي أسلوبي الخاص المتميز؟.. هذا ما أعتقده، لكن البت فيه يقع على عاتق النقاد.

 

   س : وأخيراً كيف تنظر إلى العالم / الآن؟.

   ـ لم يعد العالم مكاناً طيباً وأليفاً للعيش، فالأشرار يمسكون اليوم بتلابيبه، فمن العنف المنفلت إلى التلوث إلى تدمير البيئة إلى الحروب إلى انتهاك حقوق البشر إلى المجاعات إلى الاقتلاع والتهميش وموت الأطفال بنسب مخيفة وتفشي الأمراض الفتاكة كالأيدز والسارس وانفلونزا الطيوروغيرها، ناهيك عن الكوارث الطبيعية،  بات الأمر مقلقاً جداً، إن لم يكن مرعباً.. إن الرأسمالية بعد انتصارها التاريخي راحت تعيث فساداً.. إن الأغنياء يزيدون من ثرواتهم وأرباحهم، والفقراء يعيشون أسوأ يوماً بعد آخر تحت يافطة العولمة أو الدكتاتوريات، والفوضى التي تعم العالم ناهيك عن الإرهاب والقتل المجاني.. إن دخل بضعة مئات من البشر في العالم الأول يفوق دخل ثلاثة مليارات من مواطني العالم الثالث.. فأي كارثة؟!.

  في السبعينيات قرأت عبارة في كتاب ما لأحد البراغماتيين الأميركان يقول فيها ( الحرب، الحرب إلى أن يتحول العالم إلى شركة واحدة كبرى ). يومها استهزأت من هذه العبارة اللامعقولة، أما اليوم فيبدو أن المسألة باتت جديّة، وعلينا أن نبحث عن وسائل للخلاص، وأن نؤمن أولاً بأن هذه الوسائل متاحة.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 3/ايار/2006 -4/ربيع الثاني/1427