الخطوط الحمر

منتصر العوادي / بابل*

في صغري كنت أخشى من تحذيرات والديِّّّ ومن هم اكبر مني سنا عندما أحاول لمس شيء ما أو أقدم على فعل مؤذ لي أو لغيري ولا زالت عباراتهم الزاجرة المصحوبة بتجهم وجوههم ونظراتهم الثاقبة مرسومة في ذهني إلى حد هذه اللحظة .!

والسبب باعتقادي يعود لأنها كانت صادقة وحقيقية في وقتها، واليوم عندما بلغت سن الوعي والكبر، وجدت ان هذه التحذيرات تأخذ حيزا أوسع من ذي قبل وبين شخوص مختلفة مكانا وتوجها وتظهر بشكل عالمي من خلال وسائل الإعلام الحديثة كالفضائيات والانترنت وغيرها ..  لكن المفارقة في الأمر ان الطرف المزجور لم يأخذ بتحذيرات الإنسان الزاجر لا بسبب ضعف شخصية الزاجر أو ضعف صوت الزجر وإنما بسبب جرأة ووقاحة المزجور الذي مكنته حيلته ومكره من الاهتداء إلى طريقة جس النبض، بدأها أولا بالكلام ثم شيئا فشيئا وصلت إلى حد الفعل بعدما تبين له ان تحذيرات الزجر لا تنطوي على خطر كبير ولا صغير وليس لها تبعات ارتدادية مؤثرة، رغم انه كان يخشى في بداية المواجهة ـ ان صح التعبير ـ من التلفظ باسم الأشياء التي أقدم على ارتكابها الآن لعلمه المسبق بأنها محرمة عليه قولا وفعلا ولان الطرف الآخر صاحب الشأن وضع عليها خطا احمر حتى عرف القاصي والداني بان هذه الأشياء هي خطوط حمر لا يجوز الاقتراب منها لأي سبب كان وتحت أي ظرف .

وهذه الخطوط الحمر شملت في البداية أماكن العبادة المقدسة الخاصة بالمسلمين والتي تعالت الصيحات المنددة بحرمتها منذ ان وطأ المحتل حرمة الأرض العراقية إبان غزوه لها عام 2003 ثم لما تم الاعتداء عليها وساخت الأرض بدماء الأبرياء اعتبرت دماء الأبرياء خطا احمر آخرا وأيضا لم يمتثل المنزجر لصيحات الزجر بل راح يوغل في إجرامه بصورة مضاعفة كأنه امن العاقبة حتى وصل الأمر إلى تهجير عشرات العوائل الشيعية البريئة عن أماكن سكناهم وسط أجواء عاشوها ممزوجة بين الخوف والغضب والاستسلام أو بعبارة أدق الانكسار النفسي والإحباط الداخلي لما آلت إليه الأمور من تحكم فئة قليلة بأمة كاملة لها قيادتها وجيشها ووسائلها الأخرى التي تقوم عليها كدولة بين الدول . وأمام من ؟ أمام أنظار العالم بأسره بدءا بنقطة الحدث ( الحي أو القرية أو المدينة ) مرورا بالحدود الجغرافية للدولة التي وقع الحدث فيها وانتهاء بالدول الأخرى التي سمعت أو شاهدت أو نقلت الحدث بنفسها بكل ما تحمله هذه المكونات ( صغيرة وكبيرة ) من طابور سمين باسمه هزيل بصوته والذي يشمل اللجان الشعبية والمنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني والهيئات الحقوقية .... إلى هيئة الأمم المتحدة المشرع لقوانين حقوق الإنسان والمدافع الأكبر عنها !! وهذه أيضا كانت قد وضعت بدورها خطوطا حمر على كل عمل أو قول ما من شأنه ان يمس إنسانية الإنسان وكرامته وقيمه الدينية والثقافية التي يعتز بها .

والمحصلة النهائية تتعلق بالسؤال الكبير والمشروع والذي لا زال يتردد بين جنبات النفس وفي عيون ضحايا الأحداث الأخيرة وهو:

ما هو رد هذه الكتلة الضخمة الطويلة على اختلاف مذاهبها الفكرية ومواقعها الجغرافية وتأثيراتها السياسية إزاء ما حدث وما يحدث الآن في العراق من قتل المدنيين الأبرياء وتهجيرهم عن مواطن سكناهم نساء وأطفالا شيوخا وشبابا وعلى يد نفر ضال مشوه المعالم ممسوخ الشخصية اخذ ينخر كالعثة في جسد هذا الشعب المسكين الذي جل همه في الحياة هو العيش بسلام فيها بعد ان شحبت عيناه وغارت من التطلع إلى أحلام الفردوس المغيبة التي وعد برؤيتها .

أقول ما هي محصلة ردود الفعل تجاه الذين تجاوزوا الخطوط الحمر والصفر، هل هي لافتات الاستنكار أو القيام بمظاهرات سلمية تطوف شوارع المدينة الخاوية أو عقد اللقاءات الجوفاء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ؟ ثم أين صارت الوعود بضرب يد الإرهاب والإرهابيين بأيد من حديد واستئصال شأفتهم أينما حلوا !! وهذه ليست دعوة مني لإغراق الأرض بالدماء بقدر ما هي دعوة للمسؤولين المعنيين ان لا يصرحوا أمام شاشات التلفزة العالمية بتصريحات اكبر من إمكانياتهم لكي لا تتشوه وتبتذل صورة المفردات التي يدلون بها أولا وأيضا لكي لا تتشوه صورتهم بالنتيجة أمام شعبهم الذي منحهم ثقته الكاملة عبر الانتخابات الأخيرة فتتكرر في اذهانهم الصور الهزلية لوزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحاف .

* أكاديمي من جامعة بابل / كلية التربية الأساسية / قسم اللغة العربية

شبكة النبأ المعلوماتية-الجمعة 17/اذار/2006 -16/صفر/1427