
في وضوح أشبه بما يمكن أن يتسم به تعداد للسكان ترسم نتائج
الانتخابات العراقية المعلنة بعد التصديق عليها صورة لامة مقسمة بشدة
بين ثلاث طوائف تختلف في أهدافها ومبادئها ومعتقداتها.
وتظهر النتائج المصادق عليها التي أعلنت يوم الجمعة بعد أسابيع من
الانتظار أن الناخبين الذين توجهوا لمراكز الاقتراع يوم 15 ديسمبر
كانون الاول أدلوا بأصواتهم على أسس دينية وعرقية الى حد بعيد.
ورغم أن الجميع عراقي بالمواطنة فانهم لحظة الادلاء بأصواتهم كانوا
في المقام الاول شيعة وعربا سنة وأكرادا وتركمانا ومسيحيين.
في الاقاليم الكردية الثلاثة في الشمال على سبيل المثال أعطى 90 في
المئة من الناخبين أصواتهم للتحالف الكردي الذي تعهد بالدفع نحو مزيد
من الحكم الذاتي للاكراد الذين يريد الكثير منهم الاستقلال التام عن
العراق.
وعلى النقيض من ذلك مني الاتحاد الاسلامي الكردستاني الذي كانت
حملته الانتخابية أقل تأييدا لمسألة الفيدرالية بهزيمة ساحقة. وهاجم
أكراد قوميون مكاتبه قبل الانتخابات وحصل على خمسة في المئة فقط من
الاصوات خلالها.
وفي الجنوب لم يكن نجاح الائتلاف العراقي الموحد أكبر التحالفات
الشيعية أقل قوة.
ففي محافظات ميسان والمثنى وذي قار حصل الائتلاف على 85 في المئة من
الاصوات أي أكثر بنحو 20 مرة مما فاز به أقرب منافسيه.
وأثبت العرب السنة مدى نفوذهم في محافظة الانبار الغربية معقل
المسلحين وذلك بعد أن قاطعوا الى حد بعيد الانتخابات التي أجريت في
يناير كانون الثاني 2005.
وحصلت جبهة التوافق العراقية أكبر التحالفات السنية على 74 في المئة
من الاصوات بينما حصلت القائمة العراقية الوطنية وهي ائتلاف علماني
فضفاض على ثلاثة في المئة فقط. وتلقت القائمة التي يقودها اياد علاوي
رئيس الوزراء السابق ضربة بحصولها على 25 مقعدا فقط في البرلمان الجديد
المؤلف من 275 مقعدا.
وكانت المنافسة حامية الوطيس بين الاحزاب في خمس محافظات فقط من أصل
18 محافظة وهي بغداد والموصل وديالى وصلاح الدين وكركوك. أما في باقي
المحافظات وعددها 13 فكانت الانتصارات الساحقة هي القاعدة.
وبشكل ما فان النتائج لا تشكل مفاجأة. فالعراق بلد يعاني الانقسام
منذ قيامه عام 1920 من بين أنقاض الامبراطورية العثمانية.
ولم يبد الاحتلال البريطاني والفرنسي اللذان شكلا خريطة الشرق
الاوسط بعد الحرب العالمية الثانية اهتماما يذكر بالحدود الطبيعية أو
التخوم القبلية والعرقية. والعراق في الاساس هو مزيج من ثلاث ولايات
عثمانية هي الموصل وبغداد والبصرة.
لكن نتائج الانتخابات تظهر مدى ابتعاد العراقيين الذين أتيحت لهم
حرية التصويت للمرة الاولى عن فكرة الحكومة المركزية التي فرضت عليهم
قبل عقود من قبل الاحتلال البريطاني والملكية ثم نظام صدام حسين.
واذا اعتبر أن النتائج تمثل صورة للبلاد فانها تؤكد نتائج احصاء
أجرته الامم المتحدة في عام 2003.
واستنادا الى معلومات من بطاقات توزيع المواد الغذائية التي استخدمت
خلال العقوبات التي فرضتها الامم المتحدة على العراق في التسعينيات فان
الاحصاء يبين مدى حدة انقسام البلد بين الشيعة والسنة.
ففي محافظات النجف والقادسية وميسان الجنوبية على سبيل المثال يمثل
الشيعة بين 98 و 99 في المئة من السكان. وعلى النقيض من ذلك يشكل السنة
99 في المئة من سكان محافظتي الانبار وصلاح الدين.
ولا يعطي أي من هذا مؤشرات طيبة فيما يتعلق بمراجعة الدستور العراقي
التي من المقرر أن تبدأ بعد تشكيل الحكومة والجمعية الوطنية الجديدتين.
ويصر الشيعة الذين يتمتعون بالاغلبية في الجمعية الوطنية على أنه لا
يمكن اجراء تغييرات كبيرة في الدستور الذي تمت الموافقة عليه في أكتوبر
تشرين الاول الماضي والذي يضع تصورا لعراق اتحادي مع قدر كبير من الحكم
الذاتي للاقاليم.
أما السنة العرب الذين يخشون أن يتيح هذا للاكراد والشيعة استغلال
احتياطي النفط المتركز في الشمال والجنوب فيريدون اجراء تعديلات كبرى.
ويبدو أن المحادثات ستكون صعبة بسبب تمسك المعسكرات الطائفية
والعرقية بمواقفها.
لكن اجراء المفاوضات بشأن الدستور يبدو احتمالا بعيدا. فالائتلاف
العراقي الموحد لم يوافق الا اليوم الاحد على ترشيح رئيس الوزراء
المنتهية ولايته ابراهيم الجعفري لتولي المنصب مرة أخرى بعد أسابيع من
الانقسامات الحادة.
وبعد اسابيع من الخلاف الذي كشف عن انقسامات في اكبر كتلة في
البرلمان لجأ الائتلاف العراقي الموحد لاختيار المرشح عن طريق الاقتراع
الذي تفوق فيه الجعفري على الاقتصادي عادل عبد المهدي بفارق صوت واحد
فقط.
وبصفته الائتلاف الذي يضم اكبر كتلة في البرلمان بعد حصوله على 128
مقعدا من مقاعد البرلمان وعددها 275 فان الرئيس المقبل سيطلب منه
اختيار رئيس للوزراء توافق عليه اغلبية برلمانية بسيطة وفقا للدستور
العراقي.
ولذلك فان الجعفري وهو زعيم حزب الدعوة متأكد تقريبا من البقاء في
منصبه لقيادة أول حكومة بولاية كاملة مدتها اربع سنوات منذ سقوط صدام
حسين في عام 2003.
ومازالت التحديات كما هي متمثلة في استمرار تمرد بأنحاء العراق
وتوترات طائفية دموية واقتصاد مدمر لا يقبل عليه الكثير من المستثمرين
الاجانب رغم ثروته النفطية الهائلة.
ومن بين اكثر القضايا الحساسة التي لا توجد مؤشرات على زوالها
اتهامات العرب السنة بان ميليشيات شيعية على صلة بالحكومة تدير فرق
اعدام ضد السنة. وتنفي حكومة الجعفري تلك الاتهامات.
ويمكن أن تمهد انتهاء مفاوضات الائتلاف الطريق أمام بدء محادثات
بشأن تشكيل الحكومة بعد نحو شهرين من الانتخابات البرلمانية التي جرت
في 15 ديسمبر كانون الاول.
وفي مؤتمر صحفي بعد فوزه في التصويت أعلن الجعفري خططا طموحة ولكنه
لم يقدم تفاصيل محددة وهو نفس النهج الذي اكسبه شهرة كصانع قرار يتميز
بالبطء.
وقال الجعفري ان اولويات الائتلاف الشيعي والركائز السياسية المهمة
التي سترتكز عليها مسالة تشكيل الحكومة المقبلة هي "الامن... حيث سيشكل
الامن كما كان سابقا مرتبة متقدمة وسيولي الائتلاف ومن خلال خططه
الاقتصاد والخدمات واعادة الاعمار رعاية خاصة... اضافة الى مسالة
الدستور ومراعاة كل ماورد في الدستور بعد ان اقره الشعب وتبناه."
وتأمل واشنطن التي شجعها تصويت السنة في الانتخابات الاخيرة بعد
مقاطعة الانتخابات التي جرت في يناير كانون الثاني من العام الماضي في
تشكيل حكومة متوازنة يمكن أن تساعد في اخماد التمرد السني.
وجاء رد فعل حسين الفلوجي المسؤول في جبهة التوافق العراقية السنية
حذرا على ترشيح الجعفري.
وقال الفلوجي ان الامر لا يتعلق بما اذا كان السنة سعداء أم لا تجاه
ترشيح الجعفري فهذه هي السياسة. وأضاف ان السنة يحترمون ترشيح الجعفري
ويثقون في امكانية احداث تغيير بالعراق عن طريق السياسة. وتابع ان أهم
أولويات السنة هي العمل مع الجعفري لانهاء الاحتلال الامريكي.
وبصرف النظر عن ابراز الانقسامات بين قادة الاغلبية الشيعية التي
تمثل 60 في المئة من شعب العراق فان التصويت يشير الى تحول رجل الدين
الشيعي مقتدى الصدر من زعيم متمرد الى صانع شخصيات سياسية.
ورجح انصار الصدر الذي قاد انتفاضتين ضد القوات الامريكية والعراقية
الاصوات الحاسمة على ما يبدو لصالح الجعفري الذي يفضله على بقية
منافسيه من المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق.
وتسببت الخلافات التي شهدتها مفاوضات الائتلاف لترشيح رئيس للوزراء
في ارجاء المحادثات الخاصة بتشكيل ما يأمل مسؤولون عراقيون ان تكون اول
حكومة موحدة.
وقال زعماء الشيعة ان الوقت قد حان للتطلع الى ما يحتمل ان تكون
مفاوضات اكثر صعوبة بشان تشكيل حكومة جديدة ستواجه الكثير من الصعوبات
الطائفية.
وقال عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس الاعلى للثورة الاسلامية
بالعراق "على الائتلاف واعتبارا من اليوم ان يتحرك بشكل اسرع من اجل
تشكيل الحكومة فهو يتحمل المسؤولية الكبرى باعتباره اكبر القوائم في
البرلمان."
وتوقع عبد المهدي في المؤتمر الصحفي ان يتم الانتهاء من تشكيل
الحكومة المقبلة بحلول منتصف الشهر المقبل.
وقال "اذا سارت الامور على هذا المنوال ...واذا ابدت كل الاطراف
المرونة والتفهم الكافي قد نصل الى تشكيل الحكومة مع نهاية هذا الشهر
(شباط) او في اواسط شهر (مارس) اذار القادم."
وفر الجعفري الذي ولد عام 1947 الى ايران في الثمانينات أثناء
الحملة التي شنها صدام على حزب الدعوة والتي بلغت ذروتها باعدام مؤسس
الحزب.
واكتسب الجعفري الذي عارض صدام في المنفى من ايران في بادئ الامر ثم
من بريطانيا بعد ذلك شهرة كمفكر ومفاوض بارع.
وأصبح الجعفري رئيسا للوزراء للمرة الاولى قبل عشرة أشهر. |