عن الثقافة والأخلاق

 د. أحمد راسم النفيس   

قبل شهرين تقريبا اتصل بي أحد العاملين في قناة يقال أنها ثقافية للمشاركة في ندوة تتعلق بالاتهامات الموجهة لرسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكونه أميا لا يقرأ ولا يكتب.

في منتصف الطريق إلى القاهرة اتصل بي السيد المعد ليبلغني بإلغاء البرنامج وكان هذا الاتصال هو اللمسة الأخلاقية الوحيدة في الأمر برمته.

في تلك الأثناء قامت قيامة القوم بسبب الإهانات التي وجهتها إحدى الصحف الدانماركية لشخص رسولنا عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم وتبارى القوم في إظهار النخوة والغيرة على الدين وعقدت الندوات هنا وهناك وتوالى إصدار بيانات الشجب والاستنكار والتنديد الشديد.

أن تتطاول صحيفة دانماركية على مقام رسولنا الكريم فليس هذا بالأمر المستغرب لأن هؤلاء ليسوا على ديننا ولا يؤمنون بما نؤمن به... أما أن نصر نحن على الإساءة إلى مقام النبوة وأن نجعل هذا جزءا لا يتجزأ من مناهجنا الدراسية التي نحشو بها عقول الناشئة فهذه هي الكارثة الكبرى.

عندما قمنا بنفي أمية الرسول الأكرم قمنا أيضا بنفي الدليل العمدة الذي يستدل به القوم على هذه الأمية وهو حديث البخاري (اقرأ .. قال ما أنا بقارئ!!) مما أدى إلى غضب البعض وربما كان هذا هو السر وراء هذا المقلب التأديبي الذي قامت به في حقنا تلك القناة الثقافية!!!.

وبينما كنت أقلب في ذلك الكتاب الرائع (حياة محمد) للدكتور محمد حسين هيكل وجدته ينقل تلك الرواية كما نقلناها نحن (اقرأ.. قال ما أقرأ؟؟ قال اقرأ باسم ربك الذي خلق...).

الرواية التي استند إليها الدكتور هيكل هي نفسها الرواية التي نقلها أبو الفداء في تاريخه نقلا عن دلائل النبوة للبيهقي ونصها كما يلي:

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله تعالى إِلى الأسود والأحمر رسولاً ناسخاً بشريعته الشرائع الماضية فكان أول ما ابتدئ به من النبوة الرؤيا الصادقة وحبب الله تعالى إليه الخلوة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في جبل حراء من كل سنة شهراً فلما كانت سنة مبعثه خرج إِلى حراء في رمضان للمجاورة فيه ومعه أهله‏.‏

حتى إِذا كانت الليلة التي أكرمه الله سبحانه وتعالى فيها جاءه جبريل عليه السلام فقال له‏:‏ اقرأ‏.‏ قال له فما أقرأ؟؟ قال‏: (اقرأ باسم ربك الذي خَلق خلق الإنسان من علق...).‏

ثم إِن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إِلى وسط الجبل فسمع صوتاً من جهة السماء‏:‏ يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرائيل فبقي واقفاً في موضعه يشاهد جبرائيل حتى انصرف جبرائيل ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وأتى خديجة فحكى لها ما رأى فقالت‏:‏ أبشر فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ثم انطلقت خديجة إِلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان ورقة قد نظر في الكتب وقرأها وسمع من أهل التوراة والإنجيل فأخبرته ما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ورقة‏:‏ قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران وإنه نبي هذه الأمة فرجعت خديجة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة‏.‏

ولما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف طاف بالبيت أسبوعاً ثم انصرف إِلى منزله ثم تواتر الوحي إِليه أولاً فأولاً وكان أول الناس إِسلاماً خديجة لم يتقدمها أحد وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏ (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إِلا أربع‏:‏ آسية زوجة فرعون ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد )‏.‏

لقد خلت هذه الرواية من تلك (الألحان) التي أدرجها البخاري نقلا عن عروة في روايته (فاجأه الوحي... ما أنا بقارئ... أخذته خديجة إلى ورقة بن نوفل... محاولته صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات إلقاء نفسه من شواهق الجبال) كما أنها لا تشير حتى إلى كون ورقة كان راهبا نصرانيا بل كان رجلا عالما ومتبحرا في علوم الأمم السابقة والأهم من هذا أنها تنفي مفاجأة الوحي للرسول الأكرم ص وإذا أضفنا إليها تلك الرواية التي ذكرها مسلم في (صحيحه) عن رسول الله ص: (إني لأعرف حجرا ‏بمكة ‏كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن), تبين لنا حجم الخطأ الذي نصر على ارتكابه عندما نقدم لأبنائنا ما ذكره البخاري على أنه حقيقة مسلمة وخبر يقين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وإذا كنا نصر على تعليم أبنائنا تلك القصة المليئة بالألحان فما هي جريمة الدانماركيين عندما يأخذهم الجهل والشطط إلى ما هو أسوأ؟؟.

وإذا كنا نريد من العالم أن يعاملنا بأدب واحترام فمن المحتم أن نؤسس نحن لهذا الاحترام ذاتيا فنكون أول من يحترم حق الباحثين وحريتهم في البحث العلمي والتفتيش عن الحقيقة من مصادرها ولا نكتفي بمصدر واحد إن نجا نجونا معه وإن هلك هلكنا معه.

إنها إحدى آفاتنا الثقافية والأخلاقية, تلك الثقافة التي تسعى دوما للتنكيل بكل من تمرد على ثقافة القطيع أو دعا لإعادة النظر والتأمل في مسلماتها غير الصحيحة!!.

تلك الثقافة التي لا تجيد إلا العويل والبكاء والصراخ في مواجهة الخطر الآتي من واشنطن أو الدانمارك وتتغافل عن الجهل والتخلف الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا الثقافية والأخلاقية والتعليمية وأخيرا الإعلامية.

أما قناتنا الثقافية فنقترح عليها أن تتبنى رواية البخاري شعارا لها مع بعض التعديلات التي تلائم أداءها الثقافي والأخلاقي..

(اقرأ ما أنا بقارئ!! افهم ما أنا بفاهم!! اصدق ما أنا بصادق!!).

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -الاحد 29  /كانون الثاني/2006 - 28/ذي الحجة/1426