الجنس والشذوذ جبهة حرب مفتوحة بين التقليد العربي والحداثة الغربية

على رغم مرور ما يزيد على قرن ونصف القرن على رحلة رفاعة الطهطاوي الشهيرة الى فرنسا في اول "مشاهدة" مباشرة مدونة للغرب في عقر داره بعينين شرقيتين.. ومع تغير الاحوال والناس في شقي العالم هذين.. فهناك امور بقيت من الثوابت نوعا ما في الحديث عن الفرق بين الشرق والغرب.

ولا شك في أن مسألة الجنس هي من اهم هذه الامور اذا لم نقل اهمها من حيث كونها لاتزال تعتبر من ابرز سمات الخلاف بل اساسا "معياريا" في الحديث عن الخلاف.

ويمكن تسجيل خط ثابت في كثير مما يمكن ان يوصف باسم ادب الرحلات وكذلك الاعمال القصصية البارزة المختلفة منذ ذلك الوقت مرورا بنتاج شهير للطيب صالح هو "موسم الهجرة الى الشمال" وصولا الى أعمال حديثة شتى عند مهاجرين ومهجرين عرب الى اوروبا.. وهو موضوع المرأة وموضوع العلاقات الجنسية.

من الاعمال الاخيرة التي تناولت الغرب والشرق في مجال الجنس والحريات الفردية عمل الروائي اللبناني رشيد الضعيف الذي صدر اخيرا تحت عنوان "عودة الالماني الى رشده".

وكان الطهطاوي قد سجل قديما عن الغرب عبر الفرنسيين ما لاحظه من حرية النساء الفرنسيات و"تفلّت" قسم منهن موردا ذلك باستهجان غير خفي. وبارك رفض الفرنسيين فكرة ما كان يسمى العلاقات الجنسية "الشاذة" التي عبر عنها بميل البعض الى "الاحداث" مضيفا ان موقف الفرنسيين هذا يشبه موقف بني قومه الشرقيين.

الا ان تناول الاستاذ الجامعي الدكتور الضعيف لموضوع الجنس في روايته هذه سجل تغيرا في اكثر من مجال. لقد تناول موضوع العلاقات التي صارت تدعى الان "مثلية" في ابتعاد عن تعبير "الشاذة" المهين.. فروى علاقة بين رجلين بدت قصة حب حقيقية وعلاقة "زوجية" متينة كما تكون العلاقة الناجحة بين رجل وامرأة. ولا يقتصر التغير الذي جرى على مزاج الاوروبيين او "معظمهم" وهم هنا ممثلون بالالمان.. واعتبارهم الان المثلية امرا "عاديا" يدخل في باب الحرية الفردية ولا يثير استغرابا.. بل يعكس لنا ايضا قدرا من التغير المماثل الذي طرأ على عقلية قسم من الشرقيين خاصة المثقفين ممثلين هنا بالكاتب اللبناني الذي يصف الامور دون إدانة ودون اي موقف خلقي سواء اكان سلبا ام ايجابا. هو لا يرجم ولا يصفق بل يعرض الامور كما هي او كما بدت له بقدرة سردية جذابة.

وقد يقول قائل اننا لا نستطيع التعميم وان الناس ليسوا جميعا اصحاب عقلية منفتحة كعقلية مثقف متحرر كالضعيف وامثاله. لكننا نستنتج ايضا تغيرا في عقلية الناس عبر تقبل جمهور القراء لاعمال كهذه. فرشيد الضعيف هو في طليعة الروائيين اللبنانيين من حيث اقبال القراء على نتاجه. هناك اذن مناخ اجتماعي وفكري متغير جليّ في الغرب.. وفي الشرق الى حد ما.

صدرت رواية الضعيف في 92 صفحة من القطع المتوسط عن دار رياض الريس للكتب والنشر.

والضعيف في روايته هذه وهي سيرة او "قسم من سيرة" كما قال لرويترز.. يكتب بهدوء عرف عنه وبسهولة متخمرة جاءت عميقة وشفافة ودون تسطيح ويطل على تلك السيرة من زوايا اجتماعية ونفسية فردية ومجتمعية في الغرب.. وعند افراد ومجموعات من الناس شرقا. وقد قال لرويترز ان كل ما جاء في الرواية حقيقي لكن دون ان يكون الامر تسجيلا اليا او فوتوجرافيا "فهناك اختيار وتركيب".

يورد في المقدمة وقائع الامر على الشكل التالي "التقيت بالكاتب الالماني يواخيم هلفر في اطار برنامج "ديوان شرق-غرب" الذي مولته الحكومة الالمانية ونظمه معهد جوته ومؤسسات المانية اخرى. وكان هذا البرنامج يقضي بان يزور كاتب ما من بلد عربي او اسلامي برلين لمدة ستة اسابيع يجري خلالها نشاطات مع كاتب الماني ثم يزور الكاتب الالماني بلد الكاتب هذا لمدة ثلاثة اسابيع ويجري معه نشاطات مشابهة وتكون هذه مناسبة ليعرف الواحد منهما الاخر عن قرب" بهدف اقامة حوار ثقافي بين الكتّاب.

في الفصل الاول جاء ان توماس هارتمان مدير البرنامج اتصل بالضعيف واخبره عن زميله هلفر ابن الاعوام التسعة والثلاثين "ولكن اللافت انه اصر على إعلامي بانه مثليّ فقلت له ان هذا شيء يخصه ولا دخل لي فيه. فقال اوكي ولكن رأيت ان من واجبي اخبارك... كان في صوته وهو يكلمني.. شيء من الحرج."

وفي حديث الضعيف الى رويترز قال "كان لدي فضول للاطلاع على حياته. احسست ان الامر ليس عاديا ان نرى شخصا حرا بسلوكه.. فشعرت بان من الممكن ان "اشتغل" قصته ادبيا... لقد قدمت نفسها لي كعمل ادبي." اضاف انه هنا كتب "سيرة روائية. الموقف هو عرض الاشياء. هناك مزج الى حد ما بين شعوري الخاص الذي هو الغالية وبين شعور ما عام. هناك شعور في بيروت مثلا هو شعور متسامح. لقد حاولت ان اشير الى مشاعر اخرى ليست هي المشاعر الغالية بالضرورة.. والى المشاعر الغالبة." اضاف عن الرواية "هذا شعوري الخاص. رؤيتي للشخص المثلي وردود فعل وسطنا عليه."

يقول الكاتب في الرواية انه وان قال لهارتمان ان امر مثلية هلفر امر يخص صاحبه ولا دخل فيه فهو قد فكر في الامر مليا وان كانت المسألة المثلية شأنا يتابع اخباره عن بعد لانه من "بيئة تحتفل بالذكورة... ثم استدركت وقلت ولم لا.. فليكن مثليا فقد تكون تجربة مفيدة جدا خاصة وانني اهتم كثيرا بامور الاخلاق والاخلاق الجنسية بالتحديد واكتب عن ذلك." وقال انه كثيرا ما ردد ان "الفراش هو المكان الذي يجري عليه الصراع الفعلي بين الشرق والغرب" وهو "جبهة من الجبهات المفتوحة بين "التقليد" العربي والحداثة الغربية" وان كان في هذا القول "شيء من التقريب الذي لا يتصف بالدقة."

تحدث عن نشأة يواخيم وعن تجاربه مع المرأة وقوله انه يظن احيانا ان له ولدين من علاقتين قصيرتي المدى مع امراتين قبل ان يتعرف وهو في التاسعة عشرة من عمره الى صديقه "نون" الذي يكبره بثمانية وثلاثين عاما "ولم يفترقا بعد ذلك التاريخ اي منذ عشرين عاما وهما يسكنان في بيت واحد وينامان في فراش واحد ويشتركان في كل شيء كرجل وامرأة زوجين ولم يؤد خلاف بينهما يوما الى الطلاق لانهما في رباط حر."

وعلى عكس ما توقع وجد ان بيتهما كان مفاجئا له "من حيث الذوق والنظافة والثقافة." الا ان من الامور التي كانت تؤرق يواخيم توقه الى ان يتعرف الى شاب صغير يمضي معه سنواته التالية لكنه يخاف "ان يترك نون وهو في سنه المتقدمة هذه لشيخوخته ووحدته او ربما انه لا يخاف بل يأبى."

وعندما زار الالماني لبنان جال به الكاتب في مناطق مختلفة وقصدا مع رفاق وزملاء مطاعم ومنتجعات وتلقيا دعوات في منازل اصدقاء. وكان الضعيف يخشى ان يواجه زميله اذا تكشف امره متاعب او ردود فعل قاسية مع ان هناك مثليين في بيروت وقد عرفه الى بعضهم دون افصاح عن الامر لكن يواخيم كان يميزهم دون حاجة الى كلام زميله. وتعرف يواخيم الى صحافية المانية تعمل في بيروت وبدا ان نوعا من الجاذبية نشأ بينهما.

ويصف الضعيف هذه السيدة بقوله "كانت مستقيمة الجسم كجنرال انتصر في معارك تاريخية حاسمة. كانت تقف فخورة (بماذا.. لم استطع ادراك دوافع فخرها هذا) وبشيء من الزهو وربما التحدي ايضا. كانت ترجع راسها الى الوراء كمن يحاول ان يرى راس انفه. كان حضورها مؤثرا. كان حضورها قويا." وبعد مدة قال الالماني لزميله وسط استغراب الاخير وسروره.. انه يتوقع ان يصبح ابا. وقد دعاه الضعيف مع صديقته الى بلدته اهدن المنتجع الجبلي الشهير في شمال لبنان واقام له "عرسا" تخلله عزف على العود ورقص وغناء عربي. وعلم الضعيف بعد سفر زميله الى المانيا ان الجنين لم يصمد فحزن. وعلم لاحقا انهما رزقا بطفلة وان يواخيم يوزع اوقاته بين ام طفلته وبين نون.

وقال الضعيف لرويتر ان كتابه هذا ترجم الى الالمانية قبل نشره بالعربية وان الكاتب الالماني قرأه وكتب نصا هو نوع من التعليق عليه وان دار النشر الالمانية الشهيرة "سوهر كمب" قررت نشر نص الضعيف وتعلق الكاتب الالماني عليه وسيصدران في كتاب اخر الصيف القادم كما سيصدر نص الكاتب الالماني مترجما الى العربية في طبعة اخرى.

شبكة النبأ المعلوماتية -الثلاثاء 24  /كانون الثاني/2006 - 23/ذي الحجة/1426