كيف تُحكى حكاية.. مثل شجرة تنمو معْوجّة…

اسم الكتاب: ورشة سيناريو غابرييل غارسيا ماركيز/كيف تُحكى حكاية.

    المؤلف: غابريل غارسيا ماركيز.... ترجمة: صالح علماني

    الناشر : سلسلة الفن السابع 23 منشورات وزارة الثقافة.

المؤسسة العامة للسينما/دمشق/1998      

  الأوليات:  عدد الصفحات 278

    عرض: علاوي كاظم كشيش

 

        قارئ هذا الكتاب يدخل منذ السطر الأول في عملية مونتاج يقودها ماركيز بمساعدة تسعة من أعضاء ورشته وفي آخر صفحة يسمح للقارئ أن يجري بنفسه عملية مونتاج لقراءته إذ أن هذا الكتاب يشكل في انسيابيته تنقلاً سريعاً ومتنوعاً ومشوقاً بين مئات التفاصيل التي تنوعت ما بين أدبية وسينمائية وحرفية في الأدب والسينما ومنها ما هو يشكل تجارب ماركيز الواقعية والأدبية .ولم يتح لقارئنا سابقاً أن يطلع على طريقة تدوين المشاريع السينمائية والتلفزيونية وهي تستمد نسغها من التجارب الأدبية -الروائية خصوصاً-ولذلك أجد أن ضرورة قراءة مثل هذا الكتاب تشمل الجميع من الذين اشتغلوا بتحويل الواقع الى واقع أكثر جمالية وإبداعاًمن كتاب وروائيين وشعراء وكتاب سيناريو وسيرون ما مدى فداحة الأسئلة التي تثار في أذهانهم وهم يراجعون تجاربهم وحرارتها في ضوء قراءة مثل هذا الكتاب الذي يتسلسل أمامهم مثل شجرة تنمو معوجة حسب تعبير ماركيز.وليست هذه المرة الأولى التي يكشف فيها ماركيز عن اسرار الحكاية كما اعتاد أن يسمي القصة التي هي نتاج فكرة ورصد ومتابعة.ففي هذا الكتاب مال ماركيز الى تسجيل وقائع وحوارات اعضاء ورشته وهم يشرّحون القصة ويفككون اجزاءها عملياً لإنتاجها سينمائياً أو تلفزيونياً على شكل فلم يبلغ طوله نصف ساعة.والكتاب في عمومه عبارة عن محاورات مطولة ولكن ليست على النمط الإفلاطوني بل تخللتها ملاحظات ماركيز المهمة فيما يخص تجاربه في الكتابة روائياً وسينمائياً أو سيرته الذاتية وفق ما يتطلبه الموقف في المحاورة أو ملاحظاته العامة حول الكتابة للرواية وللسينما وهي في حالها الأخير تشكل مجموعة من أسرار المهنة التي جعلت هذه الورشة بأعضائها المتنوعين معمل انتاج قصص وحكايات سينمائية في نصف ساعة.

      ((أكثر ما يهمني في هذا العالم هو عملية الإبداع.أي سر هو هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص  تتحول الى هوى يمكن لكائن بشري أن يموت من أجله، أن يموت جوعاً، أوبرداً، أو من أي شئ آخر لمجرد عمل هذا الشئ الذي لا يمكن رؤيته أو لمسه، وهو شئ في نهاية المطاف،اذا ما أمعنا النظر،لا ينفع في أي شئ. لقد اعتقدت يوماً أو توهمت بأني اعتقدت-بأنني سأكتشف فجأة سر الإبداع. . اللحظة الحاسمة التي تنبثق فيها الفكرة. ولكن حدوث ذلك راح يبدو لي أصعب فأصعب.فمنذ أن بدأت بإدارة هذه الورش استمعت الى ما لا حصر له من التسجيلات،وقرأت ما لا يحصى من النتائج محاولاً أن أرى اذا ما كان بمقدوري اكتشاف اللحظة الحاسمة التي تنبثق فيها الفكرة. ولكن لا شئ،  لم أتوصل الى تحديد ذلك.ولكنني بالمقابل صرت مؤيداً للعمل في ورشة.وقد تحول ابتداع قصص جماعية الى نوع من الإدمان…(ص9).

     يقول ماركيز أو غابو كما يرد اسمه في حوارات الكتاب ((إن كل قصة تحمل معها تقنيتها الخاصة، والمهم بالنسبة  الى كاتب السيناريو هو اكتشاف تلك التقنية)) وفي هذه الورشة جلس عشرة من كتاب السيناريو من أمريكا اللاتينية واسبانيا،  وكأنهم بنّائون يخططون لبناء بيت موجز ويفي بالأغراض كافة فيضطرون الى مناقشة أدق التفاصيل ويبحثون عن الفكرة ثم يأخذونها لتصبح قصة ثم سيناريو((هذا هو جوهر لعبتنا.فالورشة هي لعبة ندرس فيها ديناميكية الفريق مطبقة على الإنتاج الفني.إنها عمليةBrain-stroming مطبقة على قصة،على فكرة ،على صورة،على أي شئ يمكن له أن يتحول الى فيلم. لقد تعارفنا هنا بصورة متبادلة،وصرنا نعرف كيف يفكر كل واحد منا،وعلى أي وتر يرن كل واحد منا، وفي أي مظهر تتبدى أفضل موهبة،وشرارة،وثقافة،وخبرة،ومهارة كل واحد منا، وهكذا نرى من خلال المناقشة كيف أن جميع هذه العناصر تتجمع وتتكامل فيما بينها مثل لعبة قطع تركيبية.هذا هو ما يسمّى العمل في فريق.والحقيقة أن هذا أمر لا يمكن للروائي أن يفعله،لأن العمل الروائي هو عمل فردي بصورة مطلقة.هل سيخرج المخرج السينمائي يوماً الى الشارع حاملاً الكاميرا،لكي –يحرر- فيلمه هناك بالذات،وأمامه يمضي الممثلون؟.سيكون ذلك اليوم يوماً عظيماً بالنسبة الى السينما.ولكن طالما يتوجب كتابة سيناريو من أجل التمكن من تصوير فيلم،فإن السينما-السينما الروائية على الأقل-ستبقى خاضعة للأدب. فمن دون هذه الركيزة الأدبية،مهما كانت مقتضبة،لن تكون هناك أفلام. يشعر أحدنا بإغراء يقول إنه دون السيناريو لا توجد سينما-وأكرر سبنما روائية- ولكن ربما بدا هذا اطراءاً زائداً لعمل كاتب السيناريو وهو عمل تقني الى حد بعيد.ونقيصة السينما الكبرى على المستوى العالمي اليوم لا تكمن في التقنية-ولا حتى في تقنية السيناريو التي هي تقنية إبداعية-وإنما في نقص الأفكار الأصيلة.فالفكرة تموت لدى ولادتها إذا ما قال المرء لنفسه: إنها فكرة عظيمة،لن أعرضها على أحد، ولن أناقشها مع أحد))والورشات التي هي مثل هذه الورشة تقام لمن لا يفكرون بهذه الصورة)).(ص134)

      وقد تفيض المناقشات والإقتراحات حول القصة فيضطر غابو الى القول: ((إن القصة تطول كثيراً ونحن لدينا  نصف ساعة فقط)).(ص206) أو ((نحن لسنا منتجين،إننا مبدعون.ولا بد لنا من إعطاء القصة كل الوقت الذي تتطلبه.(ص96).ويقترح غابو العملية كلها بأن تكون بدايتها بسيطة ثم نبدأ بتعقيد الأمور ولكن ليس على حساب البناء والذوق والإثارة والجدية في الإنتاج: ((إننا لا نملك أكثر من ثلاثين دقيقة،وقد استنفدنا عشر دقائق منها.  يجب علينا أن نبدأ بخط تطوير بسيط جداً ثم نمضي في تعقيد الأمور شيئاً فشيئاً.مثل شجرة تنمو معوجة…))(ص100) وبمثل شجرة تنمو معوجة يفاجأ القارئ بهذا الكتاب، فهو يمتلك مذاقاً خاصاً واختلط الطابع العملي بالسخرية بالتدوين التقريري وبالتفاصيل المذهلة التي لا تغيب عن ذهن ماركيز حتى يفاجأه أحد أعضاء الورشة بقوله لماركيز لايغيب عنك تفصيل أبداً،وتتجلى براعة ماركيز وأعضاء ورشته وهم يحولون القصة الى كائن من دم ولحم ويعيدونه الى الواقع الذي اجتزؤه منه مضافاً عليه خلطة من الفن والسحر والإبداع والمفاجآت،وكأنهم في عملية إعادة الحيوية الى الواقع واقتراح واقع بديل يمتلك سحراً وشفافية.وربما يكشف هذا الكتاب بما حواه من تصريحات ماركيز وملاحظاته عن ميله الى الواقعية السحرية والتي صححها الروائي العراقي طه حامد الشبيب وأطلق عليها  السحرية الواقعية باعتبار أن الواقع يملك سحراً عالياً ومنه الأدب الذي يشكل أعلى درجات السحر في الواقع وإن ماركيز كان يكتب سحر الواقع لا واقع السحر.ومثل شيطان يعلن ماركيز في نهاية انجازه لأحدد القصص      مع أعضاء ورشته أننا : (( تمكنا من ان نضغط في نصف ساعة فاخرة مجلداً ثخيناً يحتاج لأربع ساعات وبكل مواصفات الميلودراما القديمة)).(ص265) ويرينا ماركيز تبصره ودقة رصده للواقع وجرأته على اللعب به وتكوين واقعاً بديلاً الى حد التطابق والإستباق للوقائع أحياناً كما في حادثة اغتيال البطريريك في خريفه : ((لقد لعب معي الواقع من قبل لعبة خبيثة ،حين كنت أكتب خريف البطريرك.فقد تصورت محاولة اغتيال لا تشبه عمليات الإغتيال المعهودة.إذ يضعون للدكتاتور عبوة من الديناميت في صندوق السيارة. ولكن زوجة الدكتاتور هي التي تركب السيارة وتذهب للتسوق، وفي الطريق تنفجر السيارة وتطير عالياً لتحط على سطح السوق. لقد أحسست بالإطمئنان لصورة السيارة وهي تطير في الفضاء، لأنها وبكل صراحة بدت لي أصيلة جداً.بعد ثلاثة أو أربعة شهور من ذلك، جرى اغتيال كاريروبلانكو(رئيس وزراء اسبانيا) في مدريد بالطريقة نفسها بالضبط.أحسست بالغضب. فالجميع كانوا يعرفون أنني كنت أكتب الرواية في برشلونة في تلك الفترة بالذات،ولن يصدق أحد بأن ذلك قد خطر لي قبل وقت طويل.وهكذا كان علي أن أخترع طريقة في الإغتيال مختلفة تماماً:يحملون الى السوق مجموعة من الكلاب الشرسة، والمدربة تدريباً خاصاً،وعندما تصل زوجة الدكتاتور تندفع الكلاب نحوها وتمزقها. وقد أسعدني بعد ذلك خسارة الإغتيال في السيارة.وما زلت سعيداً بذلك حتى الآن. فالإغتيال بالكلاب هو أكثر أصالة وأكثر  اندماجاً بروح الرواية.يجب على أحدنا أن لا يقلق كثيراً لهذا الأمر،فإذا كان هناك مشهد لا ينفع أو يسقط،فماذا يمكننا أن نفعل؟.يجب علينا البحث عن مشهد آخر. والمثير للفضول أن المرء يجد على الدوام تقريباً مشهداً آخر أفضل. ولو أن أحدنا أبدى رضاه عن المشهد الأفضل،لخرج خاسراً.والمشكلة الجدية تظهر عندما يجد أحدنا المشهد الأفضل منذ البداية. وعندئذ لا يكون هناك ما يمكن عمله.ولكن،كيف نعرف ذلك؟. مثلما نعرف متى يكون الحساء جاهزاً.فليس هناك من يستطيع معرفة ذلك ما لم يتذوقه)). (ص17) ومن نصائحه العظيمة التي تذكرنا بنصحية السياب عندما قال: ((الشاعر فيما يشطب لا فيما يكتب)) يحاول ماركيز أن يعلم أعضاء ورشته الإستبعاد وعدم الرضوخ الى الحد الذي تمارس عليه المشاهد المشكوك في عافيتها التسلط  والفرادة بحيث يتصور أنها هي الأحسن والأجدر فيوصي :(( يجب أن نتعلم الإستبعاد.فالكاتب الجيد لا يُعرف بما ينشره بقدر ما يُعرف بما يلقيه في سلة المهملات.الآخرون لا يعرفون ذلك،ولكن أحدنا يعرف ما يلقيه الى القمامة،وما يستبعده وما سيستفيد منه. وإذا كان يستبعد فإن هذا يعني أنه يمضي في الطريق السليم، ويجب على أحدنا حين يكتب أن يكون مقتنعاً بأنه أفضل من ثيربانتس، أما عكس ذلك،فإن المرء سينتهي لأن يكون أسوأ مما هو في الواقع. يجب التطلع عالياً ومحاولة الوصول بعيداً.ويجب امتلاك وجهة نظر،وكذلك شجاعة بالطبع لشطب ما يتوجب شطبه ولسماع الآراء والتفكير فيها بجدية.خطوة أخرى وسنكون في ظروف تمكننا من الشك حتى بتلك الأشياء التي تبدو لنا جيدة واخضاعها للإختبار)).(ص17)((ولكن حذار حذار من الإعتياد على الإحتفاظ بالأشياء بدل تمزبقها،لأنه في حال بقاء المادة المستبعدة في متناول اليد يكون هناك خطر أن يعمد أحدنا الى اخراجها ليرى اذا ما كانت (مناسبة) في لحظة أخرى)).(ص18) ((لقد كان هيمنغواي يقول إن كل كتاب ناجز هو أسد ميت)). (ص72) ((وأكرر: من أجل صنع سيناريو جيد لا بد من الشطب ومن القاء الكثير من الأوراق الى سلة المهملات.وهذا هو ما يسمى حس نقدي ذاتي، الـshitdetector الذي يتحدث عنه هيمنغواي)). (ص20) . إن انجاز قصة في نظر ماركيز لا يختلف عن أي عمل أخلاقي أو عقد اتفاق مع القارئ مسبقاً والإستناد على اخلاقيات اللعبة واحترام قواعدها حتى وإن طرأت عليها المفاجآت وهو يفصل الأمر على طريقته بقوله : ((الأمر مثل لعب الشطرنج.فأحدنا يحدد مع المشاهد-أو مع القارئ- قواعد اللعبة: الفيل يجب أن يتحرك هكذا،والقلعة هكذا، والبيادق هكذا…ومنذ اللحظة التي يتم فيها تقبل هذه القواعد،تصبح ملزمة ولا يمكن خرقها،فإذا حاول المرء تبديلها في الطريق،لن يتقبل الآخر ذلك.والسر في اللعبة الكبيرة، القصة نفسها.فإذا ما صدقوها،تكون قد نجوت، ويمكنك مواصلة اللعب دون قلق)).(ص30).((إن كتابي الجنرال في متاهته مستمد بكامله من جملة واحدة :(( بعد رحلة طويلة ومضنية عبر نهر مجدلينا، مات في سانتا مارتا مخذولاً من أصدقائه)). كتبت مئتين وثمانين صفحة حول هذه الجملة. ما أردته هو استكمال حدث لم يتناوله المؤرخون الكولومبيون على الإطلاق، وهم لم يفعلوا ذلك لسبب بسيط، فهناك يكمن السر في كل الكارثة التي تعيشها البلاد الآن)). (ص37)((عندما تكبر ستنتبه الى أن الناس لا يفهمون دائماً فحوى الأعمال. ولهذا من الأفضل روايتها لهم مباشرة. أنا على الأقل ممتن لهذا الإختلاف. فأنا أنام دائماً اثناء مشاهدة الأفلام. لقد عودوني منذ الصغر على الربط  ما بين الظلام والنوم.فعندما تطفأ الأنوار يجب النوم)). (ص45). وتعليقاً على المبالغات التي يجب صنعها واستثمارها يروي ماركيز لأعضاء ورشته عمليات المسح التي يجريها للواقع من مشاهدات ورحلات لتكون رافداً من روافد بناء عمله الروائي فيقول: ((عندما كنت أكتب خريف البطريرك جبت جزر الأنتيل الصغرى: المارتينيك، غوادالوبي، انتيغوا، باربادوس،ترينيداد،توباغو… مضيت من جزيرة الى جزيرة واكتشفت أن الجزر هي عالم وأن فنادق الجزر هي عالم آخر مختلف كثيراً.فهم في الفنادق يأخذون جزءاً من الواقع الخارجي ويحولونه.فإذذا كانوا خارج الفندق يشوون اللحم على الجمر مثلاً.فإن الشواء في الفندق يقدمه لك بعض الزنوج الذين يرتدون ملابس قراصنة،فيأتون بمقلاة ضخمة ويضرمون النار فجأة-فوااا!- ينبعث لهيب هائل، بينما الغرينغيون هناك وليس بينهم من هو دون الخمسين من عمره يبتهجون حتى الجنون لأنهم تعرفوا على شئ تقليدي جداً. حسن هذا الإستنساخ التجاري للواقع الخارجي يحتمل كل أنواع المبالغات، وهذا أمر يناسبنا الآن،لأن السينما أيضاً تحب المبالغة ولكن ليس بمقدار ما في الواقع من مبالغة بالطبع.(ص100). إن هذه الورشات والتي نفتقدها تماماً تعطي لمنتجي الأعمال الأدبية حاسة أعلى في غهم مجريات عملية الإبداع ومحاولة السيطرة على ما ضل غامضاً منها وأعني  خصوصاً رمي المجريات العشوائية التي سيطرت على أدبنا وخصوصاً على الرواية العربية والعراقية جرى رميها على عاتق الإلهام أو التخطيط القسري لكل مجريات العمل الإبداعي سواء قبل أم بعد انجازه ،بينما تدفع هذه الورشة الى التلقائية المنظمة والتي تحسب جدوى التأسيس للعمل وحتى ارتجالاته ومناطق العبث واللهو فيه من أجل أن يخرج عملاً معافى كأنه قطعة حياة تضج بجميع المتناقضات أو ببعض منها.وبعبارة اخرى تعلم هذه الورشة التعامل مع سيدة خطيرة جداً يقول عنها ماركيز متسائلاً : ((من هو الذي أطلق على المخيلة تسمية –مجنونة البيت-؟ . ليكن من يكون فقد كان يعرف جيداً ما الذي يقوله. ولقد تعلمنا هنا التعامل مع هذه السيدة)). (ص269) وصياغة العمل الفني وانجازه يأتيان نتيجة خبرة عالية في ضبط النفس وانتخاب مهاراتها واستبعاد أمراضها العملية وهي بذاتها عملية ابداعية تؤدي الى انجازات أكثر ابداعاً. ((لا بد من تعلم التحكم بالنفس. فأنا أستيقظ. ويكون أول ما أفعله هو بذل جهد لمعرفة من أنا. أنتهي من ذلك. وعندئذ أعي بأنني إنسان فان. وهذا يكفي لكي أستيقظ تماماً. وعلى الفور أبدأ في التفكير بأين وصلن في العمل أمس:آه،أجل،وصلت الى كذا… أستحم،أتناول الفطور، أذذذهب الى غرفة مكتبي وأجلس لأعمل،  دون انقطاع، حتى الثانية والنصف أو الثالثة بعد الظهر.  ولكنني منذ اللحظة التي أطفئ فيها الحاسوب وأنهض، لا أعود الى التفكير في العمل حتى اليوم التالي. فإذا لم بفعل أحدنا ذلك،وإذا ما واصل تقليب الأمر في ذهنه،فإنه سيكون متعباً في اليوم التالي، وسيضجر، وسيشعر بأن القصة قد تعرقلت ولا يعود يعرف كيف يواصل. هل هذا الشئ مناسب هنا؟.لا، من الأفضل أن أضع هذا الشئ الآخر هنا….قد يكون هناك من يعمل طوال النهار ولا يتعب، ولكنني أتيسائل: وهل يستحق الأمر كل هذا العناء؟. هل تبرر الحصيلة قضاء أحدنا كل الوقت في هذا العمل؟.)) (ص137) يمرر هذا الكتاب وصايا ماركيز الى اعضاء ورشته بحيث ينثرها هنا وهناك كدروس عملية لا بد أن ينتبه لها من يريد أن يصبح له عمل ابداعي مسؤول وممتع . إنها عملية لا تخلو من ألم ومتعة هو أن تلعب وأن تكون جزءاً من اللعبة حتى وإن قنّعت وأخفيت ملامحك في العمل . ((فكل شخصية رئيسية،ومهما حاول أحدنا تقنيعها، ستبقى هي شخصيته نفسها بهذا القدر أو ذاك.))(ص139)أو ((ليس من المناسب على الإطلاق تقريباً أن يوضع العنوان مسبقاً لأن العنوان الجيد تقدمه القصة نفسها، فمع تصاعد اتلقصة،تتنامى إمكانية العثور على عناوين أفضل)).(ص139).

يجب علينا أن نطبق منهجاً آخر في العمل. هذه القصة لا تحتاج الى سياق.ما تحتاجه هو التحليل . واليوم تغيب بعض أعضاء الورشة، ولهذا سيكون علينا نحن الحاضرين أن نبذل جهداً إضافياً . (ص143). الىهنا يثبت لنا ماركيز أن صناعة الحكاية سينمائياً وتلفزيونياً هي عمل مشترك لا يخلو من ملامح اجتماعية ومعاشرة فريق تتباين مهارات اعضائه ودرجات خبرتهم لكي يستفيدوا من كل ما يطرح من تفاصيل واعتراضات وبغياب احد اعضاء الورشة يكون على الآخرين سد الفراغ العملي الحاصل بينهم ومواصلة ابداع حكاية تنمو مثل شجرة معوجة.

      في نهاية قراءة هذا الكتاب والخروج من ورشة ماركيز الذي ظل جالساً يتحاور ويشتغل مع أعضاء ورشته تحمل معك سؤالاً الى خارج الورشة مقتضاه:  كم من كتابنا بأنواع ما ابتدعوا أو عملوا عملاً أنجز ورشياً اذا جاز التعبير ؟. وهل يمتلك أيٌّ من روائيينا تلك الجرأة على القبض على الواقع وإعادة صياغته وكهربته وضخ الإثارة فيه؟. ربما يكون هذا قد حصل ولكن على مستوى بناء لغوي وخيالي يتنامى ويتفرع على سطح اللغة فقط بينما في قصص ماركيز والقصص التي تناقش في الورشة تبدو اللغة وكأنها لا يعول عليها أو كأنها رقائق النيجاتيف التي سيطبع       عليها الفلم،بينما في الواقع فقد أخذت اللغة ومبانيها والسياقات والسرد مخيلة روائيينا وراحوا يطفئون حرارة التجربة والواقع بإرضاء التظيرات النقدية ولذلك زاد انفصالهم عن الواقع وتحولت روايتنا العربية والعراقية خصوصاً الى رواية نخبة لا يقرأها إلاّ الأدباء والنقاد. ربما سيكون هذا الكلام خارج مهمة عرض الكتاب ولكن سيبدو مبرراً اذا ما عرفنا هوية أعضاء الورشة وانجازاتهم.فهم بدءاً المخرج غابرييل غارسيا ماركيز والمشاركون     (1)ماركوس .ر.لويث(الأرجنتين) كتب سيناريوهات لبرامج تلفزيونية.مؤلف الفلم الوثائقي الحائز على جائزة ((جغرافية مسلية)). (2)دينيس بينهو فرانشا دي ألميدا(البرازيل)، عملت ممثلة في عدة أفلام وبرامج تلفزيونية وأخرجت أفلاماً وثائقية. (3)إيليد بيندا ارثاتي (المكسيك) كتبت قصصاً للسينما وأخرجت عدة أفلام قصيرة. (4)سيسيليا بيريث غروفاس (المكسيك) عملت في جامعة المكسيك الوطنية (أوتونوما)بكتابة برامج تلفزيونية. (5) فيكتوريا إيفا سولاناس (الأرجنتين)، عملت في فرق إخراج أفلام تانغوس،تفي غارديل، (6) غلوريا سالو بينيتو(إسبانيا) درست    علوم الصوت والصورة في كلية العلوم الإعلامية في مدريد.وهي مخرجة تلفزيونية. (7) ماريا دل سوكورو غةنثالث أوكامبو(كولومبيا) درست في قسم السيناريو السينمائي في مركز التأهيل السينمائي  في مكسيكو.كاتبة سيناريو مستقلة. (8) رينالدو مونتيرو راميريث(كوبا) عضو فرقو مسرح استوديو.كتب سيناريوهات أفلام روائية وأعمالاً مسرحية ونصوصاً شعرية وقصصية. (9) روبيرتو جيرفيتز(البرازيل)،  كاتب سيناريو،فني صوت ومدير دوبلاج، أخرج عدة أفلام منها سنة سعيدة فيلهو.

          أما مونتاج الجلسات فقد أجراه تحريرياً أمبروسيو فورنيت( كوبا) خبير مونتاج وناقد.وقد أدار ورشات سيناريو في عدة بلدان وأشرف على تنسيق قسم هذا الإختصاص في مدرسة سان انطونيو دي لوس بانيوس الدولية للسينما والتلفزيون.

      وقد  ضم الكتاب في ثناياه المدخل الذي سرد فيه ماركيز تجربته مع اقتناص اللحظة القصصية كما في قصة لغز المظلة .وقصة لص السبت التي هي سيناريو لكونسويلو غاريدو. وضم أيضاً القسم الأول وهو على أربع جلسات  مناقشة أربع قصص. والقسم الثاني الذي يتكون من جلسة واحدة مطولة هي الجلسة الخامسة في سيناريو الكتاب وقد نوقشت فيها أربع قصص هي نداء الغابة يوم غزا الأرجنتينييون العالم والتانغو الأخير في الكاريبي والجحيم المرهوب أما القسم الثالث والأخير فقد شمل الجلسة السادسة والسابعة، وقد نوقشت في الجلسة السادسة قصة الكمان الأول يصل متأخراً على الدوام وقصة انتقام وفي الجلسة السابعة قصة غراميات خاطئة وسيداليا وبليندا. ثم خاتمة بعنوان امتداح للإتزان وببلوغرافيا بأعضاء الورشة.

     وبخصوص الخاتمة: امتداح للإتزان فلولا الإطالة لإقتبسته كاملاً إلا أنني أورد مقتبسات مهمة وأترك للقارئ تقديرها:  ((غابو:- ليس هناك إبداع حقيقي دون مجازفة وبالتالي دون مقدار من الإرتياب.فأنا لا أعود مطلقاً الى قراءة كتبي بعد طباعتها،خوفاً من أجد فيها عيوباً تكون قد مرت علي سهواً. وعندما أرى كمية النسخ التي تباع والأشياء الجميلة التي يقولها النقاد،أخاف أن أكتشف أن الجميع مخطئون- النقاد والقراء- وأن الكتاب في الواقع ليس إلاّ برازاً.بل أكثر من ذلك-وأقول هذا دون أي تواضع زائف- فعندما علمت بأنهم قرروا منحي جائزة نوبل، كان رد فعلي الأول هو التفكير: (( يا للعنة، لقد صدقوها!لقد ابتعلوا الأكذوبة!)). هذه الجرعة من عدم اليقين رهيبة جداً ولكنها ضرورية في الوقت نفسه لعمل شئ جدير بالعناء. أما المتعجرفون الذين يعرفون كل شئ والذين لا تراودهم الشكوك مطلقاً،فيتلقون صدمات مروعة، ويموتون بفعلها)). (ص276).

شبكة النبأ المعلوماتية -الجمعة 6/كانون الثاني/2006 -  5/ذي الحجة/1426